عمارة «مبنى وزارة الخارجية» في الرياض… أفكار وخواطر المعماري
عندما نظمت مسابقة معمارية دولية عام 1980م لتصميم «مبنى وزارة الخارجية» في الرياض، المملكة العربية السعودية، نال المرتبة الأولى فيها حينذاك مكتب المعماري الدانماركي «هينينغ لارسِن» (1925- 2013م). بعد ذلك أنجزت مخططات المشروع المطلوبة، ونُفّذت أعمال المبنى ما بين 1982- 1984م، وفقًا لتلك المخططات. ومن المعلوم أن المعماري «هينينغ لارسِن» عُدّ من أهم المعماريين الدانماركيين والأشهر ضمن المعماريين الإسكندينافيين، لكن المبنى السعودي، هو الذي منحه «الشهرة» الدولية ورسّخ حضوره في المشهد المعماري العالمي؛ لضخامة المشروع وسعته، والأهم لناحية عمارته المتفردة ومقاربته التي تسعى وراء احترام «الآخر» المختلف، ومحاولة التأويل التي استطاع المعماري الدانماركي أن ينجزها بقراءة مبدعة لمنتج العمارة الإسلامية، وتفسيرها ضمن رؤاه وثقافته المحلية المتميزة.
مرجعيات التصميم
عن مبنى وزارة الخارجية وعمارته اللافتة، كتبت يومًا في كتابي «تناص معماري» الصادر عام 2007م الذي نشرته (دار المدى)، ما يلي: «يتوق التصميم المقترح للوزارة أن تكون مرجعياته المعمارية مستقاة من مفاهيم العمارة العربية الإسلامية وخصوصياتها. بيد أن المعماري يحرص على أن يكون حضور تلك المرجعيات في تصاميمه لا تتم من خلال استخدام أسلوب الخليط «الباستيشي» Pastiche. بمعنى آخر هو لا يرغب أن يحاكي بمشروعه أشكال المباني التاريخية التي تزخر بها المنطقة، فهو مسكون بنشاط تأويلي للمخزون التصميمي الذي تمتلكه العمارة الإسلامية، والتي وفقًا –
لاعتراف المصمم- كانت على الدوام مدار اهتمام وعناية وتحليل فريقه التصميمي. من هنا، يمكن للمرء أن يستشف نزوع المصمم نحو استنطاق تلك الخصائص المميزة للعمارة الإسلامية في احتدامها الإشكالي بين الداخل والخارج». (خالد السلطاني، «تناص معماري»، بيروت، 2007م، ص. 206 -207).
كما عُدتُ إلى عمارة المبنى ذاته في كتابي «العمارة بصفتها قبولًا للآخر» والصادر باللغة الإنجليزية في كوبنهاغن، سنة 2012م، عن مدرسة العمارة/ الأكاديمية الملكية الدانماركية للفنون، عندما كنت «باحثًا زائرًا» فيها. وقد أشرت في الكتاب إلى عمارة مبنى وزارة الخارجية في الرياض، قائلًا: «تظل إشكالية الخارج والداخل تمثل لدى معمار مبنى الوزارة هاجسًا تصميميًّا قويًّا؛ ذلك لأن المعالجة التكوينية المنتخبة تجعل من تماهي «الداخل» التصميمي، جدًّا بحيث يبدو أن غياب «الخارج» الواجهاتي موجه أساسًا لجهة حضور «الداخل» الحيّزي. فالمعماري هنا ضنين في اختيار معالجاته التصميمية للواجهة التي ظلت «مسطحة» إلى حد كبير، تتناثر فيها حفر «الشبابيك» و«الأشرطة» الضوئية. ويعجب المرء من شدّة مثابرة المعماري وتمسكه بأطروحته في وجوب التغاضي عن عامل «الضوء والظلال» المؤثر والسائد والمسيطر في عمارة المنطقة، وعدم الاكتراث تصميميًّا به توطئة لمفاجآت الداخل؛ ذلك «الداخل» المكتنز بالفضاءات الرحيبة والضياءات المروضة والمسطحات المائية المحددة الأنيقة. ولعل هذا التفسير الشخصي لمعضلة الداخل والخارج، كما اقترحها «هينينغ لارسِن» في مبنى الوزارة، هو الذي أكسب التصميم تميزًا وشهرة. فالمبنى، في هذه الحالة، لا يعكس نفسه من الخارج. إن قوة ضربته التكوينية تكمن في الداخل، بعيدًا جدًّا من المؤثرات السلبية للبيئة الخارجية. وقليلة جدًّا تلك المباني في التاريخ المعماري الإنساني التي تستحضر هَيْئاتها من الداخل. ومبنى وزارة الخارجية في الرياض واحد منها». (K. al-Sultany: Architecture as Acceptance of the Other, Copenhagen, 2012, p.180).
لكن موضوعنا لهذا المقال، ليس عمارة مبنى وزارة الخارجية فحسب -مع أهمية هذا الحدث في المشهد المعماري المحلي والإقليمي حتى العالمي- وإنما ذلك الموضوع الخاص بمسعى التعرف إلى الأفكار والخواطر لصاحب التصميم وهو يشتغل على منجزه المعماري. نحن، إذًا، بصدد متابعة تلك الأفكار والخواطر من خلال الاطلاع والمشاهدة «للرسوم الأولية» العائدة إلى عمارة مبنى الوزارة، التي رافقت المعماري في أثناء عمله الإبداعي لجهة اجتراح واصطفاء معالجاته التصميمية لواحد من أجمل المباني التي أبدعها المكتب الدانماركي الذي تحدثنا توًّا وباختصار عن نوعية عمارته وأسلوب مقاربته التصميمية. وهذه الإمكانية يتيحها الكتاب الصادر باللغة الدانماركية مؤخرًا في كوبنهاغن عن «تخطيطات هينينغ لارسِن الأولية» Henning Larsen Skitser (2022م). وهو كتاب معني بتقديم وعرض مختارات من تلك الرسوم السريعة التي عملها المعماري الدانماركي المعروف لمجمل الأبنية التي صممها مكتبه الاستشاري، وبالطبع أفردت مؤلفة الكتاب «ميريتا إنفيل- موليغوب» حيزًا مهمًّا في كتابها لتخطيطات مبنى وزارة الخارجية.
لغة الرسومات الأولية
لقد مرت أربعة عقود تقريبًا على تصميم وتنفيذ هذا المبنى اللافت للنظر، وعمارته ما برحت تثير قدرًا كبيرًا من الاهتمام لجهة الأفكار المهمة والطليعية التي رافقت مقاربته التصميمية. ولذلك فإن إدراك قيمة ما أنتج معماريًّا، وكذلك التعرف إلى الجهد المبذول في اصطفاء الحلول التصميمية المثلى للمبنى، إضافة إلى متعة «مرافقة» المعماري المصمم وهو يفاضل بين «لقى» أفكاره الإبداعية.. كل هذا يجعل من مشاهدات وتأمل تلك التخطيطات المرسومة، المجترحة بحذق الدفقة الأولى، والمعززة بمهارة الصنعة، من قبل المعماريين العرب أو من القراء الآخرين، بمنزلة وسيلة مُواتية، كما نراها، لفهم أكثر وإدراك عميق لطبيعة العمارة المنجزة.
تكتب مؤلفة الكتاب عن خصائص تلك الرسوم السريعة، وتقول: «طوال حياته كان المعماري هينينغ لارسِن منشغلًا بالرسم كأداة لتصميم مشاريعه وتطويرها سواء كانت تصاميم لمنازل صغيرة أم تصاميم لمبانٍ ضخمة مثل الجامعات وتخطيط المدن. وكان لارسِن يرسم دائمًا، حتى إن لديه دفتر مذكرات بجنب لوح القيادة في سيارته. وقد راوحَتْ أهمية تلك الرسوم السريعة من الملاحظات المرئية الصغيرة إلى التجارب التصميمية التي ألهم وجودها التقصي عن أشكال جديدة في منتجه المعماري. كما استخدمت تلك الرسوم أداة لعرض مشاهد البيئة المحيطة وخصائصها… لم يتحدث «هينينغ لارسِن» كثيرًا. وكان ينقل أفكاره غالبًا إلى مساعديه وأرباب العمل من خلال تلك التخطيطات، هي التي منحت نظرة عميقة وواسعة لعمله الإبداعي». (Merete Ahnfeld-Mollerup, Henning Larsen Akitser, Copenhagen, 2022. P. 162)
كما تشير في مكان آخر من الكتاب إلى أن الرسوم المنشورة ما هي إلا «مجموعة صغيرة من آلاف عدة من الرسومات اليدوية التي تركها هينينغ لارسِن وراءه. لقد رسم طوال حياته واعتبر الرسم الاحترافي أهم أداة للمهندس المعماري. هناك العديد من الأنواع المختلفة من الرسومات في المجموعة الكبيرة، والتي تعكس المهام المختلفة للمهندس المعماري». (المصدر السابق، ص.7). ومع الاستخدامات الواسعة لتوظيف التقنيات الحديثة في إعداد المخططات المعمارية في الوقت الحاضر، التي تعمل عليها المكاتب المعمارية في جميع أنحاء العالم، فإن أسلوب الرسوم السريعة المشغولة من قبل المصممين المعماريين أنفسهم، الذي كان سائدًا من قبل، ما انفك يثير اهتمام كثر من المصممين كمصدر وكأداة لإنتاج أفكار معمارية طازجة وعميقة.
بلاغة تشكيلية لثقافات متنوعة
المتابع للرسوم السريعة المنشورة في الكتاب، ولا سيما تلك التي تعود إلى مبنى وزارة الخارجية بالرياض، يدرك نوعية الآفاق المعرفية الواسعة التي يتجول بها المعماري، «المشغول» بثيمته التصميمية، والتائق إلى فهم أعمق لقيم تلك الآفاق المعرفية الخاصة، ومحاولته الجادة والمستمرة لإيجاد تفسيرات ذاتية لتلك القيم؛ لتمنحه القدرة على استيلاد أفكار تصميمية تثري ذخيرة قراراته التكوينية. علمًا أن مواقع «ثيمات» تلك الرسوم لا تنحصر في منطقة جغرافية معينة، وإنما تتداخل وتتشابك معرفيًّا في بلاغة تشكيلية لافتة، مع ثيمات معرفية تعود إلى ثقافات متنوعة. ومن هنا قيمة العمارة المنتجة من خلال هذا التوليف الإبداعي الساعي في محاولته لتأويل منتج الآخرين.
في إحدى الرسوم المنشورة، ثمة «رسمة» تشير إلى تفصيل سيوظفه المعماري لاحقًا في مبناه السعودي. بيد أن موقع ذلك التفصيل لم يكن من ضمن تلك المواقع التقليدية الإسلامية الملهمة؛ وإنما كان خارجها أو بالأحرى بعيدًا منها. فعندما زار هينينغ لارسِن «بينالي البندقية» في إيطاليا، مطلع الثمانينيات- وكان وقتها مشغولًا في إعداد تصاميم الوزارة بالرياض- لفت نظره تفصيل محدد في «قصر الدوجي» The Doge’s Palace (القرن الرابع عشر- القرن الخامس عشر) الفينيسي، يتعاطى مع مفهوم «فضاء مزدوج الارتفاع» وحتى متعدد الأدوار. وفي أثناء رجوعه إلى الفندق، كما تخبرنا مؤلفة الكتاب، شرع المعماري بالرسم والتخطيط لتأويل ذلك التفصيل حتى يتساوق مع أفكاره الخاصة بمبنى الوزارة في الرياض، عارفًا بأن كثيرًا من تفاصيل ذلك المبنى الشهير قد استلهمها معماري «القصر الفينيسي» الإيطالي من منجز العمارة الإسلامية. وبهذا، كما تقول المؤلفة، فإن هينينغ لارسِن: «عمل دائرة كاملة من الإلهام عبر الأزمنة وعبر الحدود». (ص. 119).
وفي الختام، إن أهمية الرسوم السريعة التي عملها «هينينغ لارسِن» في أثناء عمله الدؤوب في إنجاز تصاميم مبنى وزارة الخارجية بالرياض، والمنشورة في ذلك الكتاب، تتمثل في قيمتها المزدوجة، مرة؛ لأنها تعدّ أحد أجناس إبداعات المعماري الدانماركي التشكيلي/ التصميمي، ومرة أخرى، بكونها «أفكار وخواطر المعماري» التي تمنح المتتبع والقارئ لعمارته (وخصوصًا لمبناه السعودي المميز)، مادة ثرية في كيفية اتخاذ القرارات التصميمية الخاصة بواحد من أجمل المباني التي أنتجها مكتبه الهندسي. المبنى الذي لطالما عُدّت عمارته، وفق كثير من النقاد المهنيين، حدثًا تصميميًّا لافتًا في المشهد المعماري العالمي وخطابه. فعمارته الاستثنائية، تعيد تأثيث ذلك المشهد بنموذج تصميمي فريد، عُدَّ، أيضًا درسًا مؤثرًا في تقبل ثقافة «الآخر» المختلف، وما يمكن أن يمنح ذلك الدرس الإبداعي من إمكانات مضافة لبلوغ قرارات تصميمية حكيمة ومجتهدة، وذات قوة حضورية بالغة، أتت مفعمة بأحاسيس جمالية عالية، ومنطوية على ريادة مهنية واضحة.