«حجرة» لأمل الفاران… شخصيات سارحة في بساطة الحياة وألمها
رواية «حجرة» للروائية (دار أثر) أمل الفاران، هي حكاية المكان القلق وحكاية شخصيات سارحة في عفوية وبساطة وألم الحياة، لأبطالها الثلاثة: البنت الصغيرة وشقيقها اللذان يعتنيان بخالتهما المريضة بعد وفاة والدتها، التي هي جدتهما. البطل الأول هو المكان ومشاهده في بيت ريفي بسيط وحجرة تحتضن أحلامًا مظلمة.
لم تبحث هذه الكتابة الأدبية الرفيعة عن موضوع جديد ومثير لكي تدهش القارئ. لم تبحث عن لعبة روائية جديدة تمتعها وتمتع القارئ، لكنها فضلت أن تقترب من داخلنا، من جوهر حياتنا؛ لتكشف لنا تفاصيل لا نهتم بها؛ لأنها صارت بحكم العادة جزءًا من يومياتنا العابرة. مشاهد موجودة أمامنا لكننا لا نقترب منها؛ إما لأننا نجد صعوبة في تناولها لفرط بساطتها وعاديتها، أو لأننا نستهين بها ونشعر أنها حالة عادية وموجودة ومتكررة ولا تستحق الكتابة. بينما نحن في الغالب نبحث لرواياتنا عن الموضوع الكبير غير العادي لكي نعطي كتابتنا إثارة وقيمة إضافية ينكشف تكلفها في الغالب. ربما هذا سر إبداع وتفرد هذه الرواية: البساطة والعمق، اللذان كتبا هذه الحالة العادية والبسيطة وكشفا بدقة مشاعرها الإنسانية الداخلية، وحولتها إلى حالة مشاهد غير عادية وغير بسيطة لكنها كبيرة القيمة والمعنى.
مشاهد وحوارات صامتة
كتبت أمل روايتها بأسلوب حديث، استطاعت به رصد أدق وأعمق المشاعر الإنسانية. شخوص الرواية الموجزة والحالمة وحالاتها الاجتماعية والإنسانية والأدبية المكثفة، تبدأ من اللغة الهادئة والممتعة بلا تكلف. جاء هذا النص الروائي مكثفًا وصافيًا ومقطرًا وخاليًا من كل الأحمال الإنشائية الزائدة التي نجدها في أغلب محاولاتنا وتجاربنا الروائية. وهذا على نحو عام قد يكشف الوعي النقدي الذي يطور وينوع في مسيرة الكاتبة الأدبية. «ماتت والدة البنت الملتبسة ذهنيًّا مريم. مريم فقدت والدتها حصة التي ترعى البيت وترعاها في قرية صغيرة ونائية. ربما تعاني مريم من مس أو من وسواس يجعلها خائفة ومرتابة وتشك في كل من حولها. بعد عزاء الجارات لها وجدت مريم أمامها شابًّا وفتاة صغيرين يتشابهان جدًّا. قالت لها البنت وهي تقبل يدها: خالة، عرفتينا؟ عيال أختك موضي. هما أولاد شقيقتها موضي المتوفية أيضًا. ولد وبنت في عمر العشرين تقريبًا جاءا من المدينة لرعاية خالتهما مريم حين علما بوفاة جدتهما حصة».
الولد والبنت صدما بهذه الحالة المؤلمة لخالتهما، وبدآ يشعران بالإحباط ويدركان صعوبة المهمة. من هذه اللحظة تبدأ المهمة الإنسانية المؤلمة والصعبة للولد والبنت في رعاية خالتهما. البنت في رعاية ونظافة البيت ورعاية الخالة المتمنعة، والولد في مساعدة شقيقته وإحضار طلبات هذا البيت الجديد عليهما. من هنا تبدأ مشاهد الرواية وأحداثها وحواراتها الصامتة والمتقطعة دائمًا، ليس بسبب التباس الحالة الذهنية للخالة، ولكن أيضًا بسبب رفض الخالة بناء جسر مع أحد. هذا الظرف الإنساني الذي جمع مريم الملتبسة والمرتبكة في حياة مترددة وربما مريضة مع ابن وبنت أختها موضي. جاءا لرعايتها بعد وفاة والدتها لكنها دائمة الشك في وجودهما معها في البيت. هذا الظرف حوَّل بيت حصة، أم مريم، التي توفيت على فراشها، إلى مسرح رواية عالية القيمة والمعنى والجمال والمتعة.
«تتفرس مريم في وجهيهما، لا يشبهان الصغيرين اللذين رأتهما مرات قليلة قبل سنوات. يوشوشها: كذابان وسيقتلانك. تنقل بصرها بين وجهين متطابقين يطلان فيها. يهمس صوت أنثوي في أذنها: أما قلت لك إن الله سيعاقبك! تنكمش وتحاول أن تغطي وجهها. تبكي البنت ويصد الولد».
جو من الغموض والشك
كتابة روائية على مستوى من الوعي بأسرار كتابة الرواية الحديثة، وأقصد بالكتابة الحديثة تلك اللغة السلسة بلا تكلف. على الرغم من ملاحظة توالي الأفعال المضارعة في صفحتين من صفحات الرواية، لكني شعرت بها مسايرة لجو التوتر في تلك اللحظات من النص. الجو العام المليء بالأسئلة الغامضة والشك، التنقل الرشيق بين المقاطع داخل النص في الصفحة الواحدة وبين الفصول، الشخوص المرتابة وغير الواثقة من كل شيء حولها، بمعنى أن الشخوص والراوي لا يدّعون فهم ومعرفة كل شيء، في الغالب هم جميعًا في منطقة عدم الفهم لما يجري حولهم. حتى مريم الملتبسة ذهنيًّا، ربما بالوسواس القهري، تكرر عبارات الشك كثيرًا، والراوي يكرر محاولة عدم الفهم، بينما نجد أن الولد والبنت، في كثير من المشاهد والحوارات، يعانيان بصمت مؤلم وهادئ بلا ضجيج.
هذه البساطة وهذا الهدوء أضافا عمقًا وجمالًا لمشاهد الرواية، وربما تلك الحالات والأجواء النفسية العميقة في الرواية، هي التي استدعت هذه الحالات النفسية العميقة في كثير من لحظات النص، وهذا يتوافق مع أجواء الرواية النفسية، ومع حالة القلق والالتباس الذهني والاغتراب والوحدة، التي تعيشها مريم وبنسبة أقل البنت وشقيقها، ويتوافق فنيًّا مع اتجاه الرواية نحو الاقتصاد في اللغة والتكثيف للحالة. هذا ما رفع مستوى الرواية فنيًّا وموضوعيًّا وأشعرتني في الغالب بأجواء بعض الروايات النفسية العظيمة المعروفة مثل بيدرو بارامو لخوان رولفو. هذه الرواية قدمت لي بصفتي قارئًا تجربة مغايرة عن المكان والتكثيف والإيجاز والعمق.
«الفتاة تشير للباحة. الخالة تغمض، تخشى أن تبذل أي مجهود فيقف قلبها. حين يهدأ قليلًا تكون البنت قد أخرجت نفسها من الحجرة. تسمع مريم أصواتهما مجددًا. تأمل أن يختفيا، تضع ساعدها على عينيها. يمضغها الإعياء. تنقلب على جنبها الآخر مولية وجهها للجدار».
نص بمعايير عالمية
هذه أول رواية عربية أو سعودية حديثة وجديدة، أشعر بعد الانتهاء من قراءتها أنها عمل أدبي مكتوب بمستوى رواية عالمية رفيعة الأدب في لغتها الرفيعة وتكثيفها وعمقها وقدرتها على رصد أدق الهواجس والمشاعر الإنسانية. وهي رواية عالمية في الحالة الإنسانية العميقة، وبهذا الهدوء والألم الصامت والحلم الإنساني والمشاعر الإنسانية الداخلية العميقة، وبمشاهد تتجلى فيها خصوصية الحالة والمكان والزمان مثل بصمة لا تتكرر. شخوص هذه الرواية الموجزة والحالمة وحالاتها الاجتماعية والإنسانية والأدبية المكثفة والمقطرة والصافية، بدأت من هذه اللغة الهادئة والممتعة، في قدرتها على تحويل النص إلى شيء يشبه مشاهد سينمائية حديثة ومتقطعة ومتوترة وحالمة.
في البداية عرفنا الكاتبة أمل من قصة «يوميات تلميذة» التي نشرت في جريدة الجزيرة السعودية، ثم صدر كتابها القصصي «وحدي في البيت» وهو الكتاب الأول للكاتبة. وتضمن قصتها الأولى «يوميات تلميذة». وأتذكر أني كتبت عن هذه التجربة اللافتة حال صدورها. قصص في غاية العذوبة والجمال والعفوية، كشفت لنا مولد كاتبة متميزة. ثم واصلت خط الفن الجاد والأدب الرفيع برواية «روحها الموشومة به»، ثم روايتها «كائنات من طرب»، ثم رواية «غواصو الأحقاف»، وكتاب «الفتاة التي لم تعد تكبر في ألبوم الصور». وأمل الفاران من الكاتبات الجادات والفنانات المهمومات صاحبات القضية في هذا الفن، ومنذ كتابها الأول نلحظ في أعمالها إحكامًا في البناء وفي الشخصيات مع لغة هادئة وفنانة وهموم إنسانية واجتماعية صريحة وجادة. وروايتها الأخيرة «حجرة» قدمت لنا أدبًا إنسانيًّا رفيعًا رصدت فيه المشاعر العميقة لشخوص النص بلغة أدبية رفيعة ومبدعة. وهي بهذه الرواية السعودية المتقدمة والمتجاوزة فنيًّا وموضوعيًّا تؤكد اسمها كاتبة وأديبة عربية سعودية لها بصمتها الأدبية الخاصة.