«جرما الترجمان» لمحمد حسن علوان… صراع السلطة وتشابك المصاير
امتزج التاريخي بالمتخيل في رواية «جرما الترجمان» للروائي السعودي محمد حسن علوان، في مغامرة إبداعية شائكة؛ فالرواية المتخيلة، هي ملك للكاتب يتحكم بمصاير شخوصها وسير أحداثها. أما الرواية المستندة إلى التاريخ فهي تقيد الكاتب، وتجبره أن يسير بحذر، فلا يشوه الأحداث، ولا يقفز عن الحقائق بذريعة التخييل، كما أن الكاتب ملزم أدبيًّا أن يقرأ كثيرًا، وينوع مصادره، ويرجح ويختار ما يطمئن إليه ويعزز فكرته.
ليس من السهل كتابة رواية تستلهم التاريخ، فهذه تتطلب مهارة في قنص الموضوع التاريخي، وإبداع في معالجته، مع التأكيد أن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكنه يضع بين أيدينا العبر والدروس، ويدفع المتبصر أن يستقرئ الأحداث التاريخية، ويستنتج منها ما يجنبه الزلل، ويمنحه مفاتيح للمستقبل، وربما تطلعه على أسرار خطيرة، تكون في يده سلاحًا قويًّا لتجنب العاديات، وولوج الظلمات بنور المعرفة.
اتكأت الرواية على أحداث تاريخية وأشخاص حقيقيين كان لهم دورهم وتأثيرهم الكبير، وتناولت حقبة شبه مجهولة للقارئ العربي، وهي حقبة قلقة في الربع الأخير من القرن الخامس عشر الميلادي؛ فكان الصراع على عرش السلطنة العثمانية، والصراع بين العثمانيين والمماليك، وبين العثمانيين ودول أوربا، وصراع السيطرة على البحر الأبيض، والصراع بين الجمهوريات الأوربية فيما بينها، وسقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وسطوة محاكم التفتيش في إسبانيا ومناطق نفوذها. كل ذلك وغيره منح الرواية دفعة قوية من الإثارة والترقب والدهشة، وأكسبها قيمة معرفية كبيرة.
الصراع على السلطة
أدى الصراع بين الأخوين على العرش العثماني للكشف عن كثير من الأمور، فبايزيد الثاني هو الأحق بالعرش من أخيه جم؛ بحكم أنه الأكبر والأكثر حنكة، ولكن تدخل الصدر الأعظم لصالح جم خلق الصراع، وأفسد الأمور، وأدخل الدولة العثمانية في أتون صراعات متعددة الجبهات.
لا تقاس الحسابات السياسية بموازين ثابتة، ولا قواعد صلبة تحكمها، ولذا كان استقرار الدولة ووحدتها هو ما حسم أمر بايزيد، فقاتل أخاه، وطارده، ورفض أي مساومات للتقسيم. وقد استغل فرسان الهيكل الفرصة فعرضوا استضافة السلطان جم ونصرته، وهم الذين كانت جزيرتهم رودس تحت حصار ومدافع السلطان محمد الفاتح، وكان هدفهم إضعاف السلطنة، واستغلال ورقة جم في تحقيق مكاسب لم يحققوها بالحرب. وقد وعدهم بذلك، قال يخاطب قائدهم دوبسون: «إن السلطنة التي سأستعيدها لن تأتي إلى هذه الجزيرة إلا بالتجارة النافعة. ولن تخرج منها إلا بالبضائع التي يجلبها التجار إلينا ولا نجبي منهم أي ضريبة». (138)
ومن جانبه عرض بايزيد على فرسان الهيكل أن يبقى جم في ضيافتهم، وتقييد حركته واتصالاته، مقابل التكفل بنفقاته، وعدم التعرض لهم في أثناء مدة حكمه، والسماح لهم بالتجارة في المتوسط، وكان هذا أكبر مما يطمحون إليه. وهكذا أدى الصراع على العرش إلى لجوء جم إلى أعداء الأمس، وهو يعلم أنه سيكون أسيرًا عندهم، ولن يتحقق ما يحلم به، ولكنه الأمل الكاذب، فإن نسي هو فإن فرسان الهيكل لا ينسون.
ومن جانب آخر، لم يكن دعم السلطان المملوكي قايتباي مجانًا للسلطان جم، الذي وعد بأنه لا يفكر في التوسع على حساب دولتهم في الشام، وكان هدف قايتباي إنهاك الدولة العثمانية، ووقف أطماعها بالتوسع على حساب دولته في الشام ومصر. كما أن هذا الصراع أرغم السلطان بايزيد أن يتنازل عن خطط الدولة في التوسع وبسط نفوذها على المتوسط، والانشغال بتدعيم حدوده مع الدول الأوربية تجنبًا لحملة معاكسة تهدد سلامة أراضي الدولة، وبخاصة تلك التي انتزعها أسلافه من الأوربيين.
أدى الصراع على العرش إلى خسائر مادية وبشرية كبيرة، وتنازلات جمة، وخلط الأمور، وتجميد المد العثماني، وتوسيع الشرخ مع دولة المماليك التي ناصرت ودعمت جم، وأمدته بالجند. كما أن الصراع أدى إلى زيادة أطماع الدول الأوروبية في الانقضاض على الدولة العثمانية ووقف توسعها أوربيًّا، فقد كانت الدولة في عهد السلطان محمد الفاتح تشكل رعبًا لهم، وبخاصة بعد فتح القسطنطينية، ومن آثار الصراع أيضًا استفراد الملكة إيزابيلا والملك فرديناند بمسلمي الأندلس والقضاء على دولتهم، وتشريدهم وسوقهم إلى محاكم التفتيش الوحشية.
تشير الرواية إلى أن الصراع على السلطة خسران مبين للفريقين، والأولى أن يُحسَم بالتفاهم لا بالمواجهات العسكرية، وأن تغليب المصلحة العامة وسلامة الدولة ووحدة الشعب، وتحييد المصالح الشخصية والأنا، هي التي يجب أن تكون في حسابات المتصارعين على السلطة، فالدولة هي الأهم، والتنازل من أجل سلامتها واستقرارها أولى بأولي النهى، والأحق بالسلطة هو الأحرص على الدولة واستقرارها ووحدتها، المتبصر بالعواقب والنتائج الخطيرة لما يترتب على الصراع.
تشابك المصاير
كان لافتًا في الرواية تشابك أو تلازم المصاير بين كثير من أحداثها وشخوصها، فمصير سلطة بايزيد مرتبط بموت أخيه جم، ومصير دولة المماليك معلق بالدولة العثمانية التي كانت تتمدد آنذاك، ومصير قبرص محل صراع بين جنوة والبندقية ومصر، ومصير المسلمين واليهود في إسبانيا وتوابعها معلق بمحاكم التفتيش، وكثير من الدول الأوربية تتطلع للاستحواذ على جم كورقة رابحة في وجه بايزيد. إنها رواية مصاير متداخلة ومترابطة ومعقدة في الوقت نفسه، وقد أبدعت الرواية في وضع القارئ في هذا الجو المشحون بالتوتر والقلق والترقب.
أثارت رواية «جرما الترجمان» -دار تشكيل للنشر والتوزيع، 2021م، 359 صفحة- كثيرًا من الأسئلة، ونجحت في إشعال فضول القارئ؛ ليس لقراءة تاريخ الحقبة الزمنية التي تناولتها الرواية والمناطق التي أشارت إليها فقط، بل لنبش تاريخ تلك المناطق قبل وبعد، ومعرفة ما آلت إليه الأمور في النهاية على أكثر من صعيد. وهذا أحد أدوار الرواية التي تستلهم التاريخ، وتتخذ منه حكاية تعيد نسجها بحرفية وإتقان، كما أن الرواية تستدعي التأمل والتدبر وعقد المقارنات بين الأمس واليوم، والبحث عن التشابهات والاختلافات، وانعكاسات ما حدث بالأمس على واقعنا اليوم.