«آخر حقول التبغ» لطاهر الزهراني… براعة في الحكي وحرية في الانتماء
في رواية «آخر حقول التبغ» (دار التنوير)، ستقرأ سردًا منسابًا، يشبه «مزاج العصر» كما عبّر ستيفان زفايغ في كتابه عن سيرة: «ماري أنطوانيت» عندما قال: إن لكل عصر قدرًا مشتركًا بين أهله في الذوق وفي الفن والعمارة، وأضيف: وفي الكتابة أيضًا.
يكتب طاهر الزهراني «آخر حقول التبغ» بلغة ذات مفردات سهلة. تقرأ له كأنك تستمع إلى صديق بارع في الحكي، أو تشاهد فِلْمًا يشعرك أنك قريب وأنك تنتمي بشكل ما إلى الحياة التي تنتمي إليها شخصيات الفِلْم. كتابة طاهر الزهراني في هذه الرواية لا تشبه الكتابة التي فيها عبق التراث، كما في روايته «أطفال السبيل»، ولا تشبه الكتابة الرصينة التقليدية التي تنتمي إلى أسلوب تسعينيات القرن الماضي كما في روايته «الفيومي». هذه الكتابة التي تشبه «مزاج العصر»، تجدها في الجزء الذي يتناول حياة بطل الرواية خضران (الحفيد). لكن أسلوب الكتابة يميل إلى الرصانة التي تشبه أسلوبه في «الفيومي» حين يتناول قصة خضران الجد في زمن أقدم، لعله ستينيات القرن الماضي.
بين عالمين
يأخذنا طاهر الزهراني في روايته إلى عالمين تسكن في كل منهما حكايات الجد خضران مع عائلته. وينجح المؤلف في أن ينتقل القارئ بين عالم خضران الحفيد وعالم خضران الجد بلا تعثر. وكعادته في تضمين رواياته حدثًا تاريخيًّا مفصليًّا وخلق سياقات بارعة له؛ فقد اختار طاهر الزهراني في هذه الرواية أن يؤرخ لآخر حقول التبغ في قريته في تهامة عبر ذكريات الجد خضران. يفترض القارئ أن أحداث حكاية خضران الحفيد تجري في عام 2019م وهو العام الذي كتبت فيه الرواية. وتبدأ الرواية بعالم خضران الحفيد الذي كانت سلطة الجد سببًا في تغيير مسار حياته العاطفية مرّات، آخرها عندما أهداه الحصن العتيق في القرية؛ ليكون سببًا في لحظة تنوير تجعله يقرر أن يتحرر من قيود علاقته التعيسة بزوجته ريم في جدة.
نعيش تفاصيل التغيير الذي يتسلل إلى روح خضران الحفيد وهو يجهز الحصن، وينتقل بنا المؤلف -عبر حديث الذكريات بين الجد وحفيده- إلى التغيير الذي عاشه خضران الجد (لعله في الستينيات الميلادية من القرن الماضي) عندما قرر أن يزرع التبغ في قريته على الرغم من المنع القانوني، وكيف نجح في إنقاذ عائلته من المجاعة إلى الرفاه، ومناوراته لتجاوز رقابة السلطات.
حكاية خضران الحفيد وخضران الجد تلتقيان في فكرة أن الإنسان إذا ضاقت عليه الأرض بما رحبت بسبب مراعاته القيود التي تحيط به؛ فإنه حينئذ سيمتلك القدرة على التغيير -أو مقاربته- الذي طالما اختار أن يؤجله أملًا أو خوفًا، ولكأن حال الضرورة النفسية التي آل إليها ستبصّره بالمعاني التي تشبهه وينتمي إليها؛ وحينها سيتحرر من أغلاله الداخلية.
علاقة معقدة
نحن أمام علاقة معقدة بين خضران -الحفيد- وزوجته ريم. يخضع الحفيد لزوجته إلى درجة تتحكم في وقته وصداقاته. وفي التفاصيل حشد المؤلف إشارات إلى نرجسية الزوجة التي أسرت زوجها في بداية علاقتهما باهتمامها البالغ ليكون هذا الاهتمام قيدًا على روحه يمنعه من مقاومة تسلطها عليه، لقد تسللت الزوجة إلى النقطة العمياء في نفسية خضران الحفيد وهي رغبته في السلام مع الآخرين ولو كان ذلك على حساب استقراره النفسي وحقوقه الأساسية. ولعل أثر سلطة الجد وقسوته في طفولة خضران وشبابه هي التي شكّلت نفسية الحفيد التي تهرب من المواجهة.
مجتمعنا العربي هو مجتمع قائم على رعاية حق الجماعة، وهذا يمنح الجماعة سلطة رمزية على الأفراد لها تجلياتها التي تجمع الشمل، وتحفظ التكافل، كما أن لها تغوّلاتها التي تحرم الأفراد من حقوقهم الأساسية ومنها حق اختيار شريك الحياة.
لا يغيب عن روايات طاهر الزهراني أثر الجماعة في اغتيال حق الأفراد في «الحب». نقرأ ذلك في «الفيّومي» في أحلك صوره، وفي «أطفال السبيل» أيضًا، ونجده في «آخر حقول التبغ» أيضًا عندما يقرر الجد خضران -الذي سمي الحفيد باسمه- أن يحرم حفيده خضران من الزواج بفاطمة قريبته.
يحب خضران جده على الرغم من قسوته عليه، ولا يتأخر عن مرافقته إلى المستشفى عندما يحتاج إليه. تحضر فاطمة لزيارة جدها في المستشفى. يقول خضران: «بعد أن ذهبَت -فاطمة- رأى جدّي تحديقي الناقم في وجهه…، رأى الدمعة التي بدأت تنز، فطلب مني ماء… أدرت ظهري وتركته». يتجدد حزن خضران الحفيد، (وينتفض حقده من بين الأجداث)، ويرفض أن يعطي جدّه شربة الماء التي طلبها منه، ويغادر ليعود إلى جده بعد أيام عندما يخبره والده بأنه لا بد له من العودة، وتدور بينهما مكاشفة عنيفة تأجلت طويلًا لكنها طهرت علاقتهما.
حدّثنا طاهر الزهراني عن قدرة خضران الحفيد على مسامحة جده. لقد كان خضران الحفيد قادرًا على رؤية الإنسان في جده، الإنسان الذي يستبد وينكسر، والذي يريد الخير لأهله فيظلمهم. استوقفني في حكاية خضران مع جده هذا المستوى من الغفران القادر على الموازنة، والقادر على التجاوز، والقادر على الحب الكبير.
الصداقة والعافية
كل محطة أمان في حياة خضران -الحفيد- كان الصديق الجيد يرافقه فيها، ويعينه عليها. ولئن كانت قسوة خضران الجد قد شكلت طبيعة خضران المتطرفة أحيانًا في طلب السلام؛ فإن رعاية الجد قد وهبت الحفيد روحًا قادرة على التواصل المرن، والتآلف، وتكوين صداقات ناجحة شاركته السراء والضراء، وألهمته أحيانًا طريق النجاة.
الرواية حافلة بالأحداث المؤلمة، ولكنه الاحتشاد الذي لا مرارة فيه. وهذا مستوى ناضج جدًّا في الكتابة؛ أن يستطيع الكاتب أن يجسد الألم باقتدار يرتقي بالروح دون أن يثقلها. هذا النضج هو سمة العمل كله على مستوى التمكن من الكتابة السلسة المشرقة التي تلمع صدقًا، وعلى مستوى الحفر في تعقيدات العلاقات الأسرية والعائلية، وتقديمها بلغة لا تشدّق فيها.