بواسطة هيثم حسين - روائي وناقد سوري يقيم في لندن | يوليو 1, 2024 | قراءات
يعد التخييل العلمي ميدانًا ثرًّا وغامضًا في عالم الرواية عمومًا، والرواية العربية خصوصًا، حيث يجمع بين الخيال والعلم، يستشرف المستقبل ويستكشف أفكارًا ومفاهيم علمية وتقنية تخيلية. ومن ميزات روايات الخيال العلمي أنها تخرج عن المألوف وتسعى لاستكشاف أبعاد مبتكرة، سواء كان ذلك في عوالم فضائية بعيدة أو في المستقبل البعيد.
في الأدب العربي، لا يزال التخييل العلمي تيارًا حديثًا نسبيًّا، ويمكن القول: إن الخيال العلمي باللغة العربية لا يزال يختط لنفسه مساره الأدبي الشائك، الذي قد يبدو للقارئ وكأنه يعيد إنتاج روايات أو أفلام غربية سباقة في هذا المجال. ومن اللافت أن مواضيع الخيال العلمي باللغة العربية متنوعة بين التطور التقني، والرحلات الفضائية، والاستكشافات العلمية، حتى التأملات في مستقبل المجتمعات البشرية، وتعتبر الرواية وسيلة فعالة لاستكشاف القضايا الاجتماعية والسياسية والبيئية بطريقة مبتكرة، كما تشكل منصة للتفكير في المستقبل وحَفْز الخيال والإبداع لدى القراء والكتاب على حد سواء.
بين حقائق العلم والتخييل الأدبي
يعد الروائي اليمني المقيم في فرنسا حبيب عبد الرب سروري واحدًا من أبرز الروائيين العرب الذين يوظفون التخييل العلمي في رواياتهم، بحيث ينسج عوالم روائية إبداعية بناءً على أحدث ما توصلت إليه التقنية الحديثة، وذلك بطريقته الخاصة التي تجمع بين المعرفة العلمية واللمسة الأدبية.
في روايته الأحدث «نزوح» (دار الساقي، بيروت، ٢٠٢٤م) تنطلق الشخصيات (سباسكي، فيشر، خولة، جلال، مانيارا… في رحلاتها الفضائية المفعمة بالعشق والتطلعات، حيث يتحول الشغف إلى وقود يدفعها نحو استكشاف عوالم مجهولة، يتلاقى فيها العقل والقلب والروح في تناغم وانسجام يساهم في تعزيز روح الابتكار.
تركز «نزوح» على جانب التخييل العلمي في الرواية العربية، حيث تعتبر التقنية والعلم مجالات غير مألوفة لكثيرين، وبعيدة من أجواء الرواية والأدب، والكاتب يوظف خبرته العلمية الطويلة كعالم في علوم الكمبيوتر، في روايته التي تأخذ من العلم حقائقه ومن الأدب تخييله وجمالياته.
عبر ثمانية وعشرين فصلًا تمزج رواية «نزوح» بين عالم الخيال والواقع في عالمنا الحديث، فتنطلق رحلات استكشافية نحو الفضاء والمستقبل، في حين يرزح كثيرون في قيود الماضي، وقيود التقاليد والعادات التي تقصيهم عن التفكير العلمي وتبقيم أسرى أوهام ماضوية.
تدور أحداث «نزوح» داخل مركبتين فضائيتين مغلقتين، وفي أمكنة وجغرافيات متخيلة، كذاك المكان الذي يسميه أرخبيل سقطرى «الجديدة»، حيث يضع مجموعة شخصيات في المركبتين ويصور أحلامها وأوهامها وخيالاتها وذكرياتها الماضية منها، وتلك التي ترنو إليها في مستقبلها. ينسج حبيب عبد الرب سروري علاقات متشابكة بين شخصيات فريقي المركبتين، حيث يوجد خمس شخصيات في كل مركبة، ويقتفي أثرها في حاضرها وماضيها ويمضي بها ومعها في رحلاتها في الفضاء، فيصور المستقبل المأمول وكأنه ماضٍ منشود.
تصور «نزوح» تفاصيل الرحلة الفضائية ويوميات رواد الفضاء، وتأخذ القارئ في رحلةٍ مثيرةٍ عبر الفضاء، حيث يتعرف إلى كيفية تفاعل رواد الفضاء مع عواطفهم ومشاعرهم وتجاربهم الجديدة، وتعرض تجارب الشخصيات في المحطة الفضائية، وكيف تتأقلم مع الحياة في بيئةٍ غير مألوفة، فلا جاذبية ولا هواء ولا حياة تقليدية. وفي وسط هذه الرحلة، تتعرض الشخصيات لمواقف تحدٍّ ومواجهات مع أنفسهم وواقعهم الجديد الغريب. تتضح مشاعرها المتضاربة وهي تحاول التكيف مع هذا العالم الجديد الذي يفرض عليها قوانين جديدة.
نزوح إلى العقل والسلام
يختار الكاتب لروايته إطارًا زمنيًّا مستقبليًّا، ما يضعها في روايات الخيال العلمي، ولكنها في الوقت نفسه تتسم بأدبيتها العالية، حيث الخيال مدماكها الرئيس الذي يجسد هيكل الرواية، وتأتي التفاصيل الأخرى لتؤثث فضاءها بما يتناسب ورحلات التخييل والاستشراف المستقبلية، بالاعتماد على معطيات واقعية وسابقة، ناهيك عن الاتكاء على الجديد والمكتشف في مجال علم الفضاء، بالموازاة مع التغلغل في نفوس الشخصيات.
على الرغم من الانطلاق من الواقع وما يسم الرواية من واقعية، وبخاصة في الفصول المتعلقة بحيوات الشخصيات على الأرض، فإن التأمل يحضر في الرواية كعنصر رئيس، حيث كل شخصية تتأمل في ذاتها ومحيطها، في ماضيها ومستقبلها، والرواة بدورهم ينتقلون من ذواتهم لذوات الآخرين في رحلة بحث واستنطاق وتأمل، وكأن فلسفة الحياة والأشياء جزء من صياغة الرحلة المستقبلية أو عنصر من عناصر استمرارها.
يشدد الروائي في روايته على أن الحب وحده هو الذي يمكن أن يتكفل بإنقاذ البشرية، وذلك من خلال علاقات الحب التي قد تبدو في بعض الأحيان متمردة وغرائبية على المركبتين، إلا أنها تصور غرائبيات النفوس وتحولاتها النفسية والتغيرات التي تقودها في مساراتها ومستقبلها.
يلفت حبيب عبد الرب سروري في روايته إلى أن الحضارة البشرية أصبحت خطرة على نفسها وعلى البشر، وأن الحروب والكوارث التي تسود قد تسرع في الخراب وتجلب المزيد منه، وأن ذلك ينذر بعواقب وخيمة يصعب احتواؤها مستقبلًا. ويشير الروائي إلى أن روايته «نزوح» لا تبحث عن رسم سيناريوهات مفترضة لهندسة حياة ومجتمع في المستقبل القريب، وأنها توجب البحث عن سبل لتجميل الحياة على كوكب الأرض، بالحديث عن سيناريوهات مغادرته، ما يفرض على القارئ التدبر في جدوى النزوح نفسه، وكيف أنه يفترض أن يكون نزوحًا إلى السلام والبناء ونزوعًا إلى العقل والمنطق في مواجهة قوى التدمير والظلام.
تبرز التساؤلات الفلسفية حول معنى الوجود والمكانة البشرية في الكون، وكيف يمكن للإنسان أن يستمر في العيش والتطور في بيئة غير الأرضية. بهذه الطريقة، تقدم رواية «نزوح» لقارئها تجربةً مميزةً ومثيرةً، تفاصيلها تلامس أعماق الإنسان وتثير الفضول والتأمل في مستقبل البشرية وعلاقتها بالفضاء والعوالم الأخرى.
نجح الروائي حبيب عبد الرب سروري في مسعاه لإطلاق صفارات الإنذار والتحذير من أجل استنفار القوى لحماية الحياة على الأرض والاعتناء بمستقبل الكوكب وسكانه، بحيث يكون النزوح إلى العقل والبناء قبل التمادي في سبل التخريب والدمار.
بواسطة هيثم حسين - روائي وناقد سوري يقيم في لندن | سبتمبر 1, 2023 | كتب
يمهد الروائي الكردي السوري جان دوست لروايته «مجنون سلمى» بتوطئة يشرح فيها ظروف وملابسات كتابته لروايته وكيف أن هناك ظروفًا تسببت في ضياع جزء منها، بحيث تتصدر حكاية كتابة الرواية من دون أن تحاول أخذ حيز كبير، لكنها إشارة إلى استمرارية ظروف الاقتتال والتعارك التي تتخلل الرواية وترسم خلفياتها التاريخية في جغرافية لم تستدل إلى درب للتهدئة منذ قرون. يفتتح جان دوست روايته (دار رف، الرياض، ٢٠٢٣م) بتحديد المكان، في المنطقة الكردية على الحدود بين تركيا وإيران. أمير كردي؛ بدر بك، بلغ قرنًا من الزمان، يحتضر ويكون مرضه دلالة على مرض إمارته، وكيف أنه يخلف أوضاعًا بائسة وأسرة متناحرة يسعى عدد من أمرائها للظفر بكرسي الإمارة، ولو كان على حساب إراقة دماء إخوته أو أبناء عمومته.
يخوض جان دوست رحلة تخييل مبنية على علامات تاريخية في روايته ليرصد التناحرات والخلافات والمشكلات التي كانت تصم الإمارات الكردية في ظل السلطنة العثمانية، ويجري نوعًا من الإسقاط على الواقع، وكيف كان الأمراء الكرد حينها يتنازعون نزاعًا دمويًّا على السلطة ويستعينون بالآخرين لتعزيز مكتسباتهم على حساب إخوتهم وأهلهم، والاستقواء بالآخرين في محاربة الخصوم من الإخوة المتقاتلين فيما بينهم.
ولادة شاعر وموت أمير
ينسج جان دوست سيرة متخيلة عن شاعر حقيقي متصوف عاش بين ١٥٧٠- ١٦٤٠م، من خلال حكاية عشق غريبة متخيلة، تكتسب ديمومتها من خلال بقاء جذوتها متقدة في أشعار الشاعر التي تناقلتها الأجيال، والتي تتبدى وكأنها سجل حافل بمشاعر ملايي جزيري، الشاعر المتصوف العاشق الذي دمج في قصائده بين عشقه الإنسي والقدسي.
جان دوست
بمشهد احتضار الأمير بدر بك وولادة الشاعر أحمد يدخل جان دوست قارئه إلى عالم روايته، بعد أن يصف المكان والزمان بسرد تاريخي يستعين فيه بكتب تؤرخ لأحداث تاريخية، وكأنه يرمز إلى أن ولادة شاعر في تلك البقاع ستملأ الشغور الذي يمكن أن يتركه موت أمير؛ ذلك أن الشاعر يتحول إلى مركز للحدث، ويتراجع الأمير وذريته إلى الخلفية، وتبدأ الأحداث بالدوران في عالم الشاعر الوجداني. ينتقل صاحب «الشاعر والأمير» من مدة زمنية لأخرى، من دون أن يكترث للفجوات التي يمكن أن تخلفها الانتقالات الزمانية، بحيث تكون التحولات التي تطرأ على شخصية الشاعر من صباه إلى شيخوخته مركزًا للأحداث ومحورًا لها، في حين تكتمل المحاور الأخرى بالتقاطع معه أو التطور بما يخدم سلطة حضوره الطاغية.
يستعين الروائي بتقنيات وأساليب استخدمها في روايات سابقة له، وبخاصة روايات تاريخية برع في نسجها، كرواية «عشيق المترجم» حيث عشيق يحدث تلميذه أو صاحبه برحلته الحياتية التاريخية، وهنا كذلك في «مجنون سلمى» يلجأ الكاتب إلى التقنية نفسها، فيكون الشاعر أحمد راويًا لتلميذه قصصه وغصصه، حكايات قصائده وسرديات منطقته التي كان شاهدًا عليها.
يتكئ الكاتب على ما وصلنا من حكايات متداولة عن سيرة شاعر يحظى بمكانة خاصة عند الكرد في تاريخهم، وهو الشاعر المعروف بملايي جزيري، وتروى عنه أساطير شفاهية، بحيث تؤول قصائده وكأنها وثائق تؤرخ لوقائع وحكايات تجد لها مستقرات في الذاكرة الجمعية، بإضافات وتحديثات تناسب كل منطقة وكل مدة زمنية.
الشاعر والأميرة
يقع الشاب أحمد؛ طالب العلم في المدرسة الفقهية الشرعية في الإمارة الكردية، في حب الأميرة سلمى أخت الأمير، وعلى الرغم من أنه يدري بأن حبه محكوم بالفشل، فإنه يرضخ لسلطانه ويمضي وراءه باحثًا عن سُبُل للوصال مع أميرة قلبه، ولا يعدم أساليب الوصول إليها عبر مراسيل ينقلون رسائل عشقه التي تكون قصائده يفرغ فيها مكنونات قلبه.
يبتدع الشاعر أسلوبًا للوصال والتراسل، حيث يضع قصائده في أعواد قصب، ويلقي بها في النهر لتتلقفها أميرته سلمى، لكن ذلك لم يستمر طويلًا؛ لأن الأميرة تعود للواقع ولا تنساق وراء جموح حبها، تكتم حبها وتلقي به في قعر قلبها وكأنها تختم بدفنه هناك؛ لأنها تدرك استحالة أن تتزوج من رجل من عامة الناس، وهي الأميرة ذات الحسب والنسب.
تبث الأميرة سلمى لواعجها لمرآتها، تبوح لها بما لا يمكنها البوح به لأحد، تناجيها في وحدتها ووحشتها، تسرّ لها بأسرارها، تكشف لها عن محنتها في عشق الشاعر العالم، وكيف أنها ستبقى بعيدة منه كنجمة لا يمكن أن يطاولها عاشقها المتيم بها، وهي الساكنة بدورها في قصرها المنيف.
تكمل الأميرة حياتها كما يفترض بأميرة، تقترن بأحد الأمراء وتسكن معه في منطقة قريبة، وهناك تعيش حياتها الزوجية بهدوء وسلاسة من دون مشقات تذكر، تنجب أبناء وبنات وتسير في رحلتها الحياتية بعيدًا من الشاعر الذي يبقى وفيًّا لعشقه لها، ويرفض الاقتران بغيرها، وكأن قلبه لم يعد يتسع لأخرى، أو كأنه لا طعم للحياة إلا معها. يخوض الشاعر العاشق مغامراته الشعرية والحياتية بدوره، حيث هناك دومًا مَن يحاول تنغيص عزلته عليه، والتسبب له في المتاعب، كأحد الحاسدين من رفاقه الذي كان ينتحل شعره وينسبه لنفسه، ويتغنى به في مجالسه ويكتسب المديح والثناء بناءً عليه، والذي يلجأ لأساليب دنيئة في النيل منه بالوشاية به للأمير وتأليبه عليه، وهو ما يضطره للابتعاد من مكانه والانتقال بين أمكنة عدة، منها إمارة الأميرة نفسها؛ «حصن كيف»؛ ليقضي هناك سنوات قريبًا منها لكنها غير دارية به وبقربه.
لا يختلق الروائي مصاير غرائبية لشخصياته، بل يسير بها في مراحلها العمرية لتكون شاهدة على خيباتها وخيبات عصرها، وتكون معابر لفهم تلك العصور وما ضجت به من وقائع وأحداث، وما شهدته من فجائع ومآسٍ. فالموت الذي ينتظر كل كائن حي ظل متربصًا بأبطاله وحصدهم تباعًا، في حين ظلت الجروح التي خلفتها الأحداث نازفة في قصائد بطله الشاعر أحمد ومحبوبته التي لم يستطع الزمن تهدئة فؤادها ولا محو صورة عاشقها من خيالها.
يحاول جان دوست في روايته «مجنون سلمى» كتابة ملحمة شعرية تضع بطل روايته الشاعر أحمد جزيري في مصافّ المشاهير من الشعراء الذين وقعوا ضحايا للجنون في دروب عشقهم، وأسطروا عشقهم في قصائدهم، كحالة مجنون ليلى وغيره من الشعراء الذين اقترنت أسماؤهم بأسماء حبيباتهن اللائي نسبن لهم أو نسبوا لهن، بحيث أصبح اقتران الاسمين بديلًا أو تعويضًا عن الخيبة أو الفشل في اقتران الحبيبين.
يلفت جان دوست في عمله إلى أن قصص الحب العظيمة التي يخلدها التاريخ هي تلك التي تكون بين طرفين يستحيل تحقيق الوصال بينهما، أي أن الحب المستحيل يبقى حبًّا أبديًّا، وكأنه محكوم عليه بألا يتوج بالزواج كي لا يدخل في شرك الاعتياد ويفقد سحره وغرابته ودهشته وجنونه.