بواسطة محمد برادة - ناقد مغربي | مارس 1, 2023 | فضاءات
اعتدتُ خلال قراءتي للكتب والمجلات أن أسجـل عبارات أو فقـرات أثارت اهتمامي وتحتاج إلى معاودة التفكير والتأمل وإدراجها ضـمن ما اختـزنـته الذاكرة. وكثيـرًا ما تـتـيح لي هذه الـعملية فــرصة للـمقارنة وتـرتيـب الأفكار بطـريقة جدلية، تـسعـف على اسـتـخراج عـناصر تـضيء أسـئلة تـشـغـلني… وقد عـثرتُ في الأسبوع الماضي على رأيـيـن سـجـلـتهما في مذكــرتي؛ أحـدهما لـفـيلسوف بارز هو هـيـغل (1770- 1831م)، والـثاني لأديب وشاعر هو بـول فـالـيـري (1871- 1945م). يقول هيغل: «إذا تــمّ تــثــويــرُ الأفــكار، فـإنّ الـواقـع لا يُـمكن أن يـبقـى على مـا هـو عـليـه». ويـقـول فاليري: «إن الـمـجــهول في نـفسي هــو مـا يُـكـوّنُ ذاتي».
ما لفــت نـظري، في أول وهــلة هو أن الــرأيـين يـتـناولان مـسـألــة تـغـيـيـر الـواقع الاجتـماعي أو الـواقع الـنـفسي (المجـهول في ذات الـفـرد)، لكـنهـما يـخـتلفـان في وسيـلة الـتغـيـيـر، إذ إن هيغل يـربطـها بالأفــكار، ويـتـوسـل فاليري بتحليل النفس وتــدارك ما تـجـهله لاسـتكمال مـقــومات الـذات وجـعـلهــا قادرة على مسايـرة التحولات التي تـستـوجـبها الحيـاة.
يـتمثل الإشكال إذن في تحديد الوسيلة الأكـثـر نجاعة في تحــــقـيــق التـغـيـيـر، سـواءٌ في الـبنيات المادية والاجتماعية أو الـنفسية والفـكرية المُـسعـفـة على ذلك. وبـطـبيعة الحال، يُحيلنا ذلك إلى المجالات الثلاثة التي اهـتـمت بـهذا الإشكــال في مطلـع الأزمنة الـحديثـة؛ أي الفلسـفة وعلم النفس والمذاهب الاقــتصادية. وهذا ما يعطي الفيلسوفَ هيـغل مكانةً عـليا ضـمن الـنظـريات والـمنظومات الفكرية التي أثـرت عميقًـا في توجــيـه دفّـة الأزمنة الحديثة. وقـد أكد باحثون أهميةَ هذا الفيلسوفِ، وما نشـره فـرانك فيشباش فـي كتاب أصـدره أخيرًا بـعنوان «الهيغليون الشباب» (غاليمار، 2022م)، حيث قـدّم تـرجمة لـنصوص ونظريات كـتـبها فلاسفـة ومُــفـكـرون جاؤوا بعد هيغل، وانتقـدوا نـظريـتـه عن « تـوحيد معـنى التاريخ العالمي»، والقائمة على الأفكار والفرضيات التجـريـديـــة. وفي طليعة هؤلاء الشباب المـنتقدين، كارل ماركس (1818- 1883) الذي قال بأن الجدلية التي بـنَى عليها هيغل فلسفـته هي جـدلية تـمشي على رأسها، ويجب على جـيْـله أن يـجـعلها تـمشي على قـدمـيْنِ؛ وبذلك حـرص جيل الشباب الهيغلـيـيـن على إعادة صيـاغة المسـألة الـمجتـمعية من منـظور يُـعطي الأسبقية لقضايا الناس الملموسة، مثل: مكانة الشـغل، ودور الأســــرة، ومهمة الدولة والـدين والحزب السياسي في تـنظيم مؤسـسات المجتمع، والعلائـق بين المواطنين…
جورج هيغل
لكن هذه الانتـقادات لم تُـلغِ أهمية المنهج الجدلي الذي بادر إليه هيغل لتشـيـيـد تصوره للعصر الحديث الذي قام في أوربا على أنقاض القرون الوسطى مسـتـفيدًا من منجزات حضارية عربية ويونانية، ومن تطويـر البنيات الاجتماعية والعلمية في أوربا منذ القرن الرابع عشر. ولا أزال أتـذكـر العناصر التي قـدمها هيغل في تـنظـيـره للفنون وأشكالها، وللرواية ونـشأتها منذ القرن الثامن عشر، حيث ربط تـبـلوُرَ الرواية -كشـكـل متـميز عن النصوص السـردية القديمة- بالتحولات الاجتماعية العميقة التي صاحبـَتْ ظــهـــــور الطبقة الـبورجوازية في القرن التاسع عشر.
وقد وجدتُ في كتاب هيغل «الإستــتـيـقا» تحـليلًا ثاقـبًا لنـشوء شَـكْـل الروايــة الحديثة واضـطلاعها بـمهمة تعـبيـرية مـتمـيّزة، وهو ما جعلني أستـشهد به في المقدمة الضافية التي كتـبـتُها لترجمتي لـ«الخطاب الروائي» لميـخائيل باخــتـيـن (1987م): «ولا شك أن هيغل في كتابه «الإستـتـيـقـا» هو الذي دشّــن تـنظيـرًا للرواية، يـربـــط شكلها ومـضمونها بالتحولات الـبنـيـوية التي عـرفـها المجتمع الأوربي خلال صـعود البورجوازية وقـيام الدولة الحديــثــة في القرن التاسـع عـشـر…». ولا شك أن ملحوظات هيغل المتصلة بالفنون والحركة الـرومانسية تظل مـضيـئة للباحـثـيـن.
على هذا النحو، تتضح أهـمية الـربط بين الآراء والأفكار ومحاولة استحضار الاتجاهات الفكرية والتحليلية التي يصدر عـنها الفلاسفة والأدباء في كتاباتهم وأقوالهم، ثم إن المقارنة واستـحضار الاختلافات في الـرأي والمنهج من شأنهما أن يـحــقــقــــا نوعًا من الإيضاح واعتـماد الـنسـبـية عند إصـدار الأحكام. وفي هذا السياق، عندما نستحضر رأي فاليري الذي أثار انتـباهي في وقت مـتقارب مع قـراءتي لـرأي هيغل؛ نجد أنه يـنـقل مـسألة «التغـيـيـر» إلى مـجال مخـتـلف، هـــو أعــــمـاق الـنـفـس البشرية التي تـظل قــارّة مجهولة على الرغم من الجهود الكثيرة التي بذلها علماء مـثـل فـرويد لاستـكشاف مخبوءاتها. لكـن ذلــك لا يـحول دون العثور على نُقَط التـقاء بين الـرأيـين؛ لأن النـفس والذات هما جـزء من «الواقـع» الـذي يــتـحــــدث هيغل عــــن تغييـره: إذ إن تـغـيـيـر الواقـع يقتضي أيضًا استـبـطانه انطلاقًا من رؤيـة ذاتـية تـتـمـوضع ضمن واقــع شاسع، مـاديًّا ونفسيًّا، تـتفاعــل داخله الـتأثـيرات. ومن ثم، فـإن الـخـلـل الـنفسي يحـول دون فـهـم الـواقع والانـدمـــاج في ســـيـرورتــــه.
على هذا النحو، تـغدو الـقراءة «الـمتحركة»، المتفاعلة مع مـخـزون الذاكرة ومع أسـئلة يـطـرحها الواقع والتـجربة، عمـلـيـة تـوظف الذكاء والشعور، وتـخلق المـتعة المتـجددة. ومن ثم، لا تـغدو أهمية القراءة متـمثلة في عــدد الصفــحات، وإنـمـا في الطـريقة التي تـتـيح لـلقارئ أن يـسـتـثـمر ثقافته وعقله وحواسه ليـوسع أفـقه، ويُـمـرّن إمكانـاته على محاورة العالم والنـفـاذ إلى أسـراره المتجددة باسـتمرار. وهـذه الـمـمـارسة للـقراءة الـشـغـوف بالمقارنة والـتولـيـد، هي التي تـؤكّـد العلاقة الوطيدة بـين الـواقع الملموس والمجـهول الـساكـن في الـنـفــوس.
عـندما تـنوب كــرة الــقـدم عـن السـياسة
لـم تكن مباريات كأس العالم لكرة القدم في قـطر، في نهاية السنة الماضية، مـجـرد حـدث رياضي محـض يـمـيّز بـين مسـتويات الفـرق والـمنـتخبات، ويجعل الجمهور يـستمتع بما تحقـقه المواهب الكروية من إنجازات غير مسبوقة، بل اقـترن كأس العالم هذه الـمرة بأحـداث وتـظاهـرات عـبّـرتْ عن مـواقف وردود أفعال، تـتـعـدّى نـطاق الرياضة إلى مجال السياسـة وعواطف التـضامـن؛ ذلك أن المـتـداوَل في تعريف الـرياضة هـو أنها مجال للـتـنافس والابتـعاد من رتابة الأنـشطـــة التي يـزاولها الإنسان، ليـمارس تـنافسًا لـعـبيًّـا يُـحـتَــكَـمُ فـيه إلى الـقدرة على الـتـفـوق والقـبول بالـنـتـائج التي يـحـقـقــها مجهود الـفـرد أو الفـريق، وأيضـًا الـحـظ والـمصادفة. وهذه الشـروط التي تـحدّد اللـعـب هي ما يُـضفي عليه طابع المـتعة الـمتـمثلة في تـكـسيـر رتابة الحياة، وتجـريب الكفاءات الـفردية والجماعيـة…
ولا شك أن كأس العالم لكرة القدم في قـطـر قد حقق تلك المـتعة ووفّـر الشـروط المادية والتـنـظيمية لإنجاح هذه التظاهرة الرياضية العالمية التي يـحتضنها بـلـد عربي لأول مــرة؛ إلا أن الرأي العام السياسي العالمي أعـرب عن انتـقادات لدولة قـطـر، تـتعـلق بـالشـروط المادية والـحقوقـية للـعـمال الــذيـن اضـطـلـعوا بـبـناء الملاعب وإنجاز كل ما يتعلق باسـتقبال المتفـرجين الـوافدين من كل أنحاء العالم. وإذا كان هـــذا الجانب السياسي قـد سـبـق أن عـبّـر عن نفسه في مناسبات مـماثلة سابـقة، فـإن كأس العالم هـذه الـمـرة كشـف جانـبًا سـياسيًّا آخـــر لم يـسبق أن بـرز من قبل في مثل هذه المباريات العالمية. يـتـعلق الأمر باخـتـراق مـنتخب المغـرب الـمراحل التي كانــــت تـحول دون وصول شعب عـربي إلى مرحلة التصفية الأخيرة، منتـصرًا على فـرق مُـكـرّسة كانت تـحتـكر منطقة الــفـــــوز الـنهائي. والـواقع أن وراء هذا الـبـروز الـمتـميـز للـمنتخب المغربي عـوامل متـشابكة، تسـتـدعي أن نستـحضرها لـتـوضيح الأبعـاد السياسية والرياضية التي سـمحت بـهذا الاخـتـراق، وفتحت الطريق أمام الرياضـيـيـن في العالم الثالث لكي يُنافسـوا أقــرانهم في العالم «الـمتقدم» من دون تـبخـيـس لـكفاءتهم.
وأنا لا أتـردد في أن أضـع على رأس أسباب انتـصار المنـتخـب المغربي، اسـتفادته من عـنـصـر «الـمُـثـاقـفَـة» التي تسمح بفـهم الظـواهر الفكرية والاجتماعية والسلوكية والـفنية، وتـتـيـح لثـقافـتـين مخـتلفـتين أن تـتـبادلا التأثيـر عـن وعي وإدراك، لا من خلال التقليد الأعمى. بـطبيعة الحال، أبـيـح لـنـفـسي أن أسـتعمل هنا مصطلحًا يـعـود إلى مجال علم الاجتماع ودراسة الحقل الأدبي، ولكـنـني أجد أنه يـمكن أن يُـضيء ما حــــدث في عالم الرياضة العالمية. وأنا أستـعمل هنا مفهوم المثاقفة في دلالتـه الإيجابية، أي الـتـفاعل مع نظرية أو سلوك أو مذهب بعد فـهـم أســسه، واستـيـعاب شـروط تـطبيـقه وفـق السـياق الجديد الذي نـريد أن نطـبقه فيه. وعلى هذا الأساس، أجـد أن رياضة كـرة الـقدم التي ظـهرت ونـمـت في إنجـلـترا في القرن التاسع عشر، مـرت بمراحل وتطورات سـمحــت لــها أن تـغـزو العالم وأن تـجتـذب قلوب اللاعـبين والمـتفرجين؛ وفي انتقالها إلى أقطار أخرى، لم تكشف كل أسـرارها للـمـمارسين الـجدد، وكان لا بـد من أن يـهاجر لاعبون من العالم الثالث إلى أوربا؛ لكي يكـتشـفوا أسرار اللعبة الساحرة، وينـقلوا بعضها إلى بلادهم. أما الـمنـتخب المغربي، فنجد أن مـعظم عـناصره وُلـدوا في بلد أوربي أو وقّعوا اتفاقًا مع أحد فــرقــه، وهو ما جـعلهم يحقـقــون «مـثاقـفة» دقيقة، مسـتوعبة لأسـرار اللعبة والتـخطيط لإحـراز الـتـفـوق.
بول فاليري
وهذا يتجـلى في استـبدال المـغرب بمـدرب أجنـبي للمنتخب مدربًا مـغـربيًّا سـبـق أن عاش ولـعـبَ ضمْن فـرق أوربية، هو الـمدرب الرجــراجي الــــــذي يمـتـلك، إلى جانب الخبرة والتـجربة، تـفـكيرًا عـقلانيًّا وعاطـفة وطنـية أتاحا لـه أن يُـنـمّي الحماسة والـتـفاني بـيـن أعــضـاء المـنتخَـب وأن يخوض مـعركة الكـأس العالمي مُـستـندًا إلى الثـقة في النفس وفي اللاعـبيـن والـمُـناصـريـن. من هذا الجانب يمكن القول: إن قـائد الـفريـق المغربي كان في مـستـوى الـوعـي الـراهـن الذي بـدأ يـتـبـلـور لـدى بعض المفكرين والمثقفين في إفـريقيا وآسـيا والعالم الثالث، والذي يُـعـيد التـفـكير والتـحليل في العلاقة مع أوربا والـدول التي مارست الاســتــعـمـار واحـتكـرت التـفـوق والـتـعــالـي على بـقية الشـعوب. هـكـذا، اكـتسـبت مباريات كأس العالم لكرة الـقدم طـابـعها الــرمـزي، وبخاصة عـندما بـدأ المـنـتـخـب المـغربي يُـتـرجم تـلك الـرمـزية إلى انـتصارات ملـموسة على مــنتـخبات أوربـية عــتـيـدة طالـما احـتكـرت الـتـفـوق. ولا شك أن بـروز القـضية الفـلسـطينـية بـقـوة في أسابيــع الكـأس الـعالـمي، هـو عـــنـصــر يـنـطــوي على دلالات عـميقة لـها جـذور في الفضاء الـعربي- الإسـلامي، وأيضًا في المجال الـعالمي الإنـساني الذي لم يعد يـقـبـل باسـتـمرار الاحتلال والاستـعـمار وتـقــتيـل الأطفال والنـساء.
وهـو بـروز يعـلن ويـؤكد أن لاعـبي الكرة وجمهورها في الفضاء الـعربي والعالم الثالث لـم يَـعُـدْ غـافـلًا عـما يحدث في الـعالم من تـدابــيـر وإجـراءات ومـواقف تـمتد عواقبها إلى مـجموع سكان الـكرة الأرضية؛ ومن ثـم ضـرورة الدفاع عن الـقـيم المسايـرة لاحـتـرام الإنسان وحقوقه لتـكـتـمل شــــروط مـمارسة الـرياضة في تـنـاغـم واتساق مع مـبادئ الـمساواة واحـتـرام الآخــر. وعـندما نـدقـق الـنظر في وضعية اللاعبين المـغاربـيـيـن الذين وُلـدوا في فـرنسا، مثلًا، نـجـد أنهم عاشوا في طفولتهم ومُـراهـقـتهم ظـروفًا صـعبة؛ بسـبب الـتـهـميش والـعداء الأعـمى لـلإسلام، وبـسـبـب مـناخ الـعـنف الذي يُـغـذيـه أقـصـى الـيـمـين تـجاهـهـم. لذلك فـإن فئات اللاعـبين من بـلدان المغـرب وإفـريقيا الذين نجـحوا في فـرض كـفاءاتهم الـكـروية داخـل الـفرق الـفرنـسية، لم يـتـنـكـروا لأوطان آبائــهم، وعـبّـروا باستـمرار داخل فـرنسا عـن مواقــفـهم السياسية الواضحة. وهذا هـو ما يُـفـسّـر احـتضان المـنتخب المغربي للعَلَم الـفـلسـطيـني في الصورة التي انـتـشـرت بـعـد فـوزهم الأول على المـنتخب الإسـباني.
عودة القضية الفلسطينية إلى البروز
وكان من نتـيجة ذلك، عودة القضـيـة الـفـلسطينـية الـمُـغـيّـبـة إلى الـبروز بـقـوة، وانـتشـار الأغاني والشـعارات المناصرة لحرية هذا الشعب، الرافضة لاحـتلاله. انـطلاقًا من هذا الموقف، فـرضت السياسة وجـودها ورمـزيـتـها على كأس الـعالم في قـطـر، واسـتقطب المـنتخبُ المـغربي مناصـرة مُعـظـم الجمهور الحاضر في ملاعـب قـطَـر؛ وبذلك أصبح الطابَعُ السياسي حاضرًا إلى جانب التـنافس الرياضي. من هذه الزاوية، أجد أن ربـط هذا الاخـتراق الذي حقـقـه المنتخب المغربي بـسيـرورة «مـثاقـفة» ناجحة لـه ما يـؤكده، على غــرار ما يـمكن أن نـجده في مجال الـنقـد العربي الحديث الذي بـدأ مستـوردًا للمناهج النقدية الـغربية ومـطـبّقًا لها بـطريقة «بــرانيـة» لا تراعي خصوصية النصوص الأدبية الـعربية، ولا السياق المـتصل بإبداعها، وكان لا بد من مرور مدة زمنية؛ لكي تـنـضج فـئة من النقاد العرب الذين درسوا في جامعات أوربية، واستـوعبوا أسـس الحداثة والخلفية الفكرية للمناهج، وهو ما أتــاح لهم تـوظيف حصيـلتـهم من المثاقفة تـوظيفًا ذكـيًّا، يضيء النصوص العربية، قـديمَها وحديثَها، ويُـضفي عـليها حـياة تـربطها بأســئلة وهموم الحاضـر… بعبارة ثانية، المثاقفة الفاعلة هي التي تـتـوخى فـهـمَ وتـمـثّــل ثقافة الآخر من مـنـظـور عالمي مشتـرك، يُـغْنِي التـجربةَ الإنسانية، ويجعلها مجالًا للـتنـافس الـنـزيـه والحوار الـمُـثـمـر. ولا شك أن ما عاشـه العـالـمُ في كأس العالم لكرة القدم في قـطـر، هـو مشهد مُعـبّـر عن طموح أبـناء العالم الثالث إلى تـكسـير احتكار التفوق الكروي من لـدُن الدول الكبرى، وجـعل هذه الرياضة الشـعبية الفاتـنة مجالًا مـفتوحًا أمام كل الـفـرق التي تـتـوافــر لها الكـفـــاءة والموهبة والتـدريب الـذكي.
ما يجب استـحضاره أيضًـا، ونحن نـنـسج هذه التأويلات، هو أن هذا الـمُـنجـز الكـروي الذي حـقـقـه المـنـتـحب المغربي، يـعـتمد على عـناصـر مـلموسة تـتـعلق بالتـحضـير والـتدريب، واستـجماع الكفاءات داخـل البلاد وخارجها؛ ذلك أن المغرب أنـشأ سنة 2012م «الأكاديمية المـلكية لكرة القدم» التي تـسـتقبل الذكور والإناث من المغاربة ذوي الطمـوح الـكروي؛ لتعلمهم الأسس الأولى لـمـمارسة هذه الرياضة الشـعبية. وفي الآن نفـسـه، هناك حـرصٌ على ربـط الصـلة بـلاعـبيـن من أصــول مـغـربية يـعيشون في أوربا ويتـمتعون بـكفاءة كـروية معـترف بـها. وبـكـل ذلك، تـوافرت الشـروط المطلوبة لـخــــوض معركة كأس العالم لعام 2022م، والتـطـلع إلى مـنافسة الـمـنـتخبات العـملاقة. يُـضاف إلى هذه الجهود والعناصر الملموسة أن وضـعـية الـعالم المـتشابكة، المـلتـبسة، فتـحت الطريق أمام بُـروز وعــي سـياسي ورياضي حـريص على الـدفــاع عـن قــيَـم إنسـانية تُـعيدُ الاعتـبار لـمن هـم ضحايا الاستـعمار والتـهمـيش والـعـنـصـرية. مـن هذه الـزاوية، يمكن الـقـول: إن كــرة الـقدم اسـتـطاعت، بـشكـل حيوي ومـباشـر، أن تـنـوب عـن السياسة وطـقـوسها الدبلوماسية، في التـذكـيـر بـضرورة احــتــرام قـيـم لا تـسـتـقيم مـمارسة الـرياضة في غـيابــها.
بواسطة محمد برادة - ناقد مغربي | يوليو 1, 2019 | قضايا
يعود الحديث عن أزمة الديمقراطية في أوربـا والفضاء اللـيبـرالي إلى احتلال واجهات الصحافة ووسائط الإعلام، وبخـاصة مع صعود أحزاب اليمـين الـمُتـطـرّف في بـورصة الانتـخابات، واحتلال بعضها مناصب أساسية في تـسـيـيـر دفـة الحكـم. (يتبع هذا المقال حـوار مترجم مع الـبروفيسور بـيـيـر روزانفالــون الذي يفسـر بعض انحرافات الديمقراطية ويقترح مقولات لإصلاحها، ويـنـتقد حركة «السترات الصفراء»؛ لأنها لم تقدم مقترحات ملموسة لتصحيح الخلل) وفي هـذه الظاهرة ما يـذكّــرنا بـسـيْـرورة الانتخابات في أوربا الغربية خلال ثلاثيـنـيات الـقرن الماضي، التي أوصلت أحزابًا نازية وفاشية إلى سـدة الحكم في ظـل أنظمة ديمقراطية تـتـبــنى مـبـدأ الــتـمـثيـل السياسي عـبْـر صنـاديق الاقتراع. وأمام هذا الصـعود المــتـواتـر لأحـزابٍ «شعـبوية» تــتـدثـر بشعارات الهوية القومية وحماية السيادة، أصبح الخطـر ماثلا للجميع، وأصبح الجـِــدال يـتنـاول «عـيـوب» الديمقراطية وثـغـراتها التي تـضفي الشـرعية على أحـزاب كـلـيانية تـستـعمل الـنظام الديمقراطي لـتـصل إلى السـلـطة وتـنـفذ برامج ضد الليبرالية وضـد القــيـــم والحقوق التي تـسعى الديمقراطية الـحق إلى صـوْنــها.
في حقيقة الأمـر، مـنذ ولادة الديمقراطية في عـهد ازدهار أثـيـنا القديمة، وهي تـحـمل بـذور أزماتها المتــناسلة. غــيـر أن الأُسّ الــــذي انــبـنــتْ عـليه، أي أن يحكم الشعب نفسه استـنـادًا إلى الحوار الجماعي وانتخاب مَـنْ هم الأجـدر بـتمثيل الشعب في تـنفيذ ما اتُّفِقَ عليه، يـظـلّ أساسًا لا غـنًى عـنه للوصول إلى الإجماع الضروري لـتدبير شـؤون المجتمع، وإشـراك جميع المواطنين في سياسة أمورهم. ومن الطبيعي أن يـقـتـرن هذا الاخـتيار الديمقراطي بـبـروز مشـكلات واختلافات وصـراعات تـقتـضي دوْمًا إعــادة النظر فـي المبادئ الأساس على ضـوء ما تـكـشـفه الـمـمارسة من ثـغــرات وثُقــوب. والأهـمّ، هـو أن الديمقراطية تـنـطلق من مـبدأ إشـراك مجموع الشعب في إبـداء الـرأي وتحـمّل المسؤولية، وتصحيح الأخـطاء. بعبارة ثـانية، انـتـبهتْ الديمقراطية إلى مـخـاطـر أشكال الحكم التي تُقصي المواطنين من تحمل مسؤوليتهم في التـدبيـر والمراقبة والانـتقاد، وتجـعل السلطة في يــدِ شـخـــــــــص واحد، أو طَغامة مُــسـتـبـدة…وهذا عـنـصر مـهم؛ لأنـه يسمح بالمراجعة والانـتقاد وتصحيح الأخطاء. وبذلك، رافقت الديمقراطية في تطـوراتها، تــطـوراتِ الـمـجتمعات في رحـلتها من المـجـهول إلى المعلوم، ومن الاستـبداد والحكم الـفـردي إلى تـنـظيم الـصراع الديمقراطي، وتـبويء الـعـــقـــل والـحوار الـصدارةَ في تخطيط مستقبل المجتمع ورسم سـياسته.
بـصفةٍ عامة، يمكن القول: إنّ الـحقــول السياسية في مختلف الأقطار والأصـقـاع، ظـلت تُراوِح بيـن التـوجّهات الديمقراطية والاتجاهات الاستـبدادية والأوتـوقـراطية؛ بـسـبب ذلك الصراع الأبديّ بيـن حكم الشعب لـنفسه وخضوعه لإرادات فـردية وأوليغارشيات متسلطة. غـير أن «الأزمنـة الحديثة» جعلت من الديمقراطية الـعــصَـبَ الأساس في الفـكـر السياسي المعاصر؛ لأنها هي المحرك الضـامـنُ لتحقيق الحداثة بـكـيْـفية شـاملة، يـتـضـافَــرُ فيها السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي. لـكنْ، على الرغم من المنجــزات الضخمة التي حـقـقـتها المسيـــرةُ الإنسانية في ظـلّ الأنظمة الديمقراطية، فــإن هذه الأخيرة لـم تسـلمْ من انحـرافاتٍ هـدّدتْ مُـنجزاتها، وكادتْ أن تُـطوّح بالمـــــجتمــــــــعات الأوربية إلى هاوية الدكتاتوريات النازية والفاشية والـكُـلـيانية (التـوتـاليتارية).
انحراف وسوء فهم
لأجـل ذلك، عندما تـبرز مظاهـر مُـنـبئة عن أزمةٍ ديمقراطية، يـنـصرف الذهـنُ تـــوًّا إلى تلك الثغرات التي هددتْ مـسـيرة الديمقراطيــة في القرن الماضي، والـمـتـمثلة أساسًا فـي مـظـهريْـن: الــكُـلّـيانية، والشعـبـوية. وحسب ما يذهب إليه بعض المحللـيـن، فـإن الكليانيـــــة مـرضٌ داخليّ مُــتـفـرّع عـن النظام الديمقراطي نفسه؛ إذ يُـجسّـد انحـرافًا وســوءَ فــهْـمٍ وتـطـبـيـقٍ للــديمقراطية، حـين يُـعوّض حُــــكــــــمَ الشعب وانتخاب مــمـثـليه وأعضاء مؤســســاته بـِـتـفــويضِ شـخصٍ واحد، أو جـهاز أو حــزب، لـمـمارسة الحكم في غـيبة الشعب ومــــن دون تصويت أو مـراقبة أو التـزام بـقوانين وبـنـود دسـتـورية… أما الشـعـبـوية، فــلا يمكن تـفسيرها – كما هو شائع- بـصعود الــيـمــيـــن المتـطرِّف مُـسـتـفـيدًا مِــنْ ديمقراطية الانتخابات؛ بــلْ هـي تـجسـيـدٌ لانْــقلاب الديمقراطية على نفسها، كما يشرح ذلك بيـيـرْ روزانفالون؛ إذ يُختَزَلُ حكم الشعب في «ذات فـردية» تـمثل الشعب ويُــعـطى لها تـفويضٌ جماهيري بـمـمارسة الديمقراطية باسم الشعب.
اسـتــيـحاءً من هذه الملاحظات، يمكن أن نـتوقف عند الأزمة التي تعيشها فرنسا بعد اندلاع انتـفاضة «السـتـرات الصفراء» منذ ما يقرب من خمسة أشـهر، ولـمّـا يَـمضِ أكثـر من سـنــتـيْـن على ولاية الرئيس الجديد إيمانويل ماكـرون وحزبه الـفـتـيّ «الجمهورية السائرة». إذا كان ماكرون قـد استـفاد من بُـطلان مـفعول انقسام الحقل السياسي الفرنسي إلى يـميـن ويــســار، ووجود حاجة إلى التـعـبـير عـــن فـئات اجتماعية مستـجدة، وبخاصّـةٍ بين الشباب وخريجي الجامعات المتطلعين إلى تجديد الخطاب والممارسة، فـإنـه لم يكن يـتوفـر على تجربة سياسية قبل استـوزاره في عهد الرئيس فرانسوا هـولاند. وشـجعه فـوزه غير المنتظـر بـرئاسة الجمهورية على أن يتـمادى في الثـقة بـنـفسه والاسـتئـثار بالـقرارات والمبادرات، إلى درجة أن رئيس حكومته أصبح، على حـدّ تعبير أحد الصحافيين، مـجرد متـنـفذ لقرارات الرئيس. في الآن نفسه، لـم يـنـتـبه ماكرون إلى التحولات الأخـرى التي كانت تـتـبلور داخل فـئات اجتماعية تعيش في أطراف الريف وضواحي المدن الكـبرى، وتـضطـلع بـوظائف في الإدارة والخدمات، لكنها لم تعد تستـطيع أن تعيش بـأجـرةٍ تقـلّ عن ألف يورو.
وهذه الفئات هي التي انـبثقت منها حركة «الستـرات الصفراء» احتجاجًا، أولَ الأمر، على الزيادة في سِــعـر الـبنزين والمحروقات، ثم تطورت بسرعـــة لتـضع سياسة الرئيس الليـبرالية، المـحابية لأصحاب رؤوس الأموال، مـوضع تساؤل ورفض. وفي أثناء الأسابيع الأولى من تظاهرات هـذه الحركة، وقبل تـسـرّب عناصر من «المُـكسّـرين» الممارسين للـعنف، كان جليًّا أن الستـرات الصفراء كانت تعـبر عن مشاعر وانتقادات تـشمـل الملايين من المواطنين الفـرنسيـيـن، كما كشفتْ في الآن نفسه عن كمية مذهلة من الحـقد المتغلغل في النفوس؛ وهذا ما جعـــــــــــل ماكرون يدرك عمق الشـرخ الذي أصاب النظام الديمقراطي في بلاده، فـبادر إلى زيادة جماعية في الأجور، واعـتـذر عن سـلوكه المــتــعالـي في مناسبات كانت الصحافة قد أبـرزتها. ولـما بات واضحًا للجميع أن الأمـر يتـعلق بأزمة في تـطبيق الديمقراطية وإصلاح آلـياتها، اضـطــر رئيس الجمهورية أن يبادر إلى فتح الحوار مع المواطنين، انطلاقًا من منتـخبي البـلديات والمجالس الإقليمية ونواب البـرلمان، ثم مــــــــــع مجموعة كبيرة من المثقفين والمفكرين والعلماء وأساتذة الجامعات…
مراجعة وانتقادات
وفي أثناء هذه اللـقاءات التي دامت أكثر من شهـر، طـُـرحتْ على الطاولة انتقادات قوية شملت الاقتصاد والضرائب والفوارق الاجتماعية ووضعية العـمال والموظفين في ظـل المنظومات الـرقمية، وموقف الدولة الملتبس من مشكلات الـبـيئة ومن أصحاب رؤوس الأموال… وأسـفـرت هذه الحوارات المـكثفة عن خلاصات قدمها الرئيس ماكرون إلى المواطنين، فـأقنعت بـعضًا، ولم تقنع الكثيرين ومنهم أعضاء حركة «الـستـرات الصفراء». الـمـهم، أن النظام الديمقراطي الــــفرنسي خضع للـمراجعة والانتــقاد، وأن الشعب استـطاع أن يـرغم رئيس الجمهورية على تـغـيـيـر انـفـراده باتخاذ الـقرار وأن يجعله يـنـصــت إلى الاحتجاجات والمطالب. وفي المقابل، أضحت «السترات الصفراء» مطالبة هي الأخـرى، بأن تقدم إسهامات ملموسة للخـروج من الأزمة، على أساس أن من واجب جميع المواطنين المساهمة في بـناء وحماية «المـنفعة الـعامة» التي هي شـرط أساس لقيام الديمقراطية وتطـويرها.
لكن ما يستحق الانتباه، هو أن أزمة الديمقراطية في أوربا لا تـقتصر على التعثرات الداخلية لكل بـلدٍ؛ ذلك أن مشروع الاتحاد الأوربي الذي انطلق منذ خمسينيات القرن الماضي، أصبح يمارس تأثيرًا مباشرًا على مصـير الديمقراطية في مجموع الأقطار الأوربية، سـلبًا وإيجابًا. وهذا ما بـدأ يتصدّر الواجهة عند كل انتخابات للبرلمان الأوربي. وقد أسـفرتْ بعض نتائج الانتخابات التي جرت أخـيرًا (26 مايو، 2019م) عـن نتائج تـؤكد صعود أحزاب اليمين المتطرّف التي تنادي بـتقويض الاتحاد الأوربي والعودة إلى قـوقعة السيادة الوطنية، وحماية أوربا من «غـزوات» المهاجرين… وجاء تـقدّم «التجمع الوطني» في فرنسا على حزب الرئيس ماكرون وبقية الأحزاب، ليصبح إنـذارًا واضحًا يتهدّد التقاليد العريقة التي كـرّستِ النظام الديمقراطي بفرنسا رمـزًا للدفاع عن حقوق الإنسان وعن القيم الكونية المؤمنة بالتعاون مع شعوب العالم. من ثـمّ، يمكن القول بأن مسألة الديمقراطية أصبحت ذات أبــعـادٍ قــارّيّة، بل غدتْ مشكلةً عالمية تتحكم في مضمون الحضارة الإنسانية كلها.
بواسطة محمد برادة - ناقد مغربي | مارس 1, 2018 | قضايا
أثارت مجلة (لو ديبا Le débat ) الفرنسية زوبعةً في الحقل الثقافي، عندما نشرت في عددها الأخير (197)، ملفًّا عن المخاطر المحدقة بعلم الاجتماع في فرنسا نتيجة هيمنة منهج «السوسيولوجيا النقدية» الذي أرسى دعائمه الباحث الكبير بيير بورديو (1930- 2002م). ومن أهمّ ما يأخذه المساهمون في هذا الملف على المنهج النقدي، أنه مسرفٌ في التسييس ويقود إلى نوع من ثقافة الاعتذار التي تلتمس العذر للفاعلين الاجتماعيين لتُعفيهم من المسؤولية؛ ويقدمون نماذج لذلك بأبحاث اعتمدت على ذلك المنهج في موضوعات مثل: الفشل المدرسي، وتأسلُم البلْدات الصغيرة بفرنسا، والميْز العنصري في الشغل والتوظيف… والواقع أن الأمر لا ينحصر في اختلافٍ بين منهج نقدي وآخر تحليلي أو «موضوعي»، بل يُلامس أزمةَ هُويّة علم الاجتماع في فرنسا داخل سياقٍ مُتسارع الإيقاع في التحولات السياسية والتقانية والاجتماعية، يُطاول في الآن نفسه مجال البحث ومناهج العلوم الإنسانية في مَسعاهَا إلى بلوغ يقينية العلوم الطبيعية والتطبيقية…
بالنظر إلى الوضع المزري الذي يوجد عليه علم الاجتماع في الفضاء العربي، لدرجة تقترب من جعله شبحًا لا تأثير له في إضاءة التحولات المتراكمة والعميقة في كل المجالات، وهو ما يجعل الحكامة في أقطارنا تستهدي غالبًا بالحدس والتخمين، بدلًا من الاعتماد على الأبحاث الميدانية والتوصيف الملموس، فإنني ارتأيتُ أن أجعل من هذه الخصومة الجدلية في فرنسا فرصة لإبراز أهمية السوسيولوجيا في المجتمع، بوصفها حجر الزاوية في صوْغ الأسئلة المُوجهة لمسار المجتمعات، بناءً على ما يُفرزه المعيش وتعكسُه العلائق وموازين القوى.
علمُ الاجتماع وإشكالية المنهج
يبدو لأول وهلة، أن لبّ هذه الخصومة هو اختلاف حول المنهج الذي يستوحيه كلّ فريق من هؤلاء السوسيولوجيين في فرنسا؛ لكن المسألة أبعد من ذلك؛ لأن لها جذورًا تتصل بالسياق الذي ظهر فيه علمُ الاجتماع في القرن التاسع عشر، ضمن انبعاثِ العلوم الإنسانية وتطلُّعها إلى أن تحقق درجة من العلمية تُضاهي ما بدأ يتحقق في العلوم الطبيعية (وبخاصة بعد صدور كتاب كلود برنارد (1813-1878م) عن «الطبّ التجريبي»، الذي دفع الكاتب إميل زولا إلى أن يكتب «الرواية التجريبية»، مدافعًا عن فكرة كتابة رواية علمية، مبنية على معطيات ووقائع مضبوطة…). والواقع أن هذا النزوع إلى تحقيق العلمية في مجال العلوم الإنسانية في القرن التاسع عشر، إنما ظهر بدافعٍ من التأثر والمنافسة مع صعود العلوم التجريبية والتطبيقية واكتساحها لاهتمام المجتمعات الأوربية التي كانت تعيش ثورتها التكنولوجية والاقتصادية، وتُسخرها لتوسيع نفوذها عبْر المستعمرات… ونتيجة لهذا التأثر السطحي بالمنهج العلمي، انجَرّتْ العلوم الإنسانية إلى ما باتَ يُعرَف بالعِلموية، أي تطبيق منهج مُقتبس عن العلوم الطبيعية على مجالٍ لا يمكن إخضاع عناصره ومُكوناته لمنهج تجريبي، تطبيقي، تتطابق فيه نتائج التحليل…
من ثمّ، انتبه الباحثون في التاريخ وعلم النفس والاجتماع والنقد الأدبي…، إلى أن المنهج ليس غاية في حدّ ذاته، وأنْ لا مناص من أن يكون وسيلة للإجابة عن أسئلة تراعي طبيعة المجال المعرفي وحدوده في الاستجابة لإنتاج معرفة موضوعية. أما السوسيولوجيا، كانت جهود إميل دُورْكايم الفرنسي (1858- 1917م) مُنعرجًا بَارزًا في ترشيد المنهج وإضفاء المصداقية النسبية على حقائق البحث الاجتماعي. وقد ترسّختْ مكانة دوركايم بعد نشره كتابًا مهمًّا عن ظاهرة الانتحار في فرنسا، وربْطِه التأويلَ بالممارسة السياسية؛ في حين آثر قطبٌ آخر من علماء الاجتماع (ماكس فيبَر: 1864- 1920م) أن يُلازم الحياد الخِلاقي تجاه تحليل الظاهرات الاجتماعية، فلا يتحيز لتأويل دون آخر. وهذان الموقفان سيقتسمان، إجمالًا، اتجاهات الباحثين في السوسيولوجيا إلى اليوم؛ إذ يمكن القول بأن بورديو سار على درب دوركايم مع تطويره؛ في حين استظل المحايدون في التأويل (ومنهم معارضو المنهج النقدي الآن) باتجاه ماكس فيبَر الليبرالي. ولا بأس من الإشارة إلى السياق الذي مهّدَ لتحقيق قفزة واسعة في المنهج السوسيولوجي في خمسينيات القرن الماضي. أقصد، بِخاصّةٍ، التبلوُر المتوازي الذي عرفتْه مجموعة من المناهج المتحدّرة من صلب البنيوية بتفريعاتها، ومن اللسانيات والسيميائيات ومدرسة الحوليات في دراسة التاريخ… وجميع هذه المناهج اقترنت بأسماء أعلامٍ بارزين أثروا بشكلٍ أو بآخر، في البحث السوسيولوجي. وما تجدر الإشارة إليه، أن معظم هؤلاء الباحثين الأعلام (كلود ليفي ستروس، وسوسير، وفوكو، وتودوروف، ورولان بارت…) تعاملوا مع تلك المناهج الجديدة تعاملًا مَرِنًا، يخضع لأسئلة الحقل المعرفي أكثر مما ينقاد لاعتناق وُثوقي لمنهج «علميّ» ثابت.
ولعل النموذج الذي يقدمه لنا تزفيتان تودوروف (1939- 2017م) طوالَ مساره العلمي، هو خير دليل على تفاعُل وتعالُق مناهج العلوم الإنسانية المعتمدة على موادّ يمتزج فيها الذاتي بالموضوعي، واللغوي بالاجتماعي. ويتبيّن ذلك من انتقال تودوروف من النقد الأدبي البنيوي إلى مجال التأريخ الفكري مُتّبِعًا منهجًا مغايرًا، يتوافق مع مجاله الجديد. وفي ذلك تأكيد على أن المنهج ليس غاية في حدّ ذاته، بل هو وسيلة تتفاعل مع أسئلة الباحث وسياق المعرفة المتطوّر.
بيير بورديو
بورديو والمنهج النقدي
استطاع بورديو، طوال حياته (1930- 2002م) أن يشيّد دعائم صلبة لعلم السوسيولوجيا في فرنسا وفي العالم، مستفيدًا من الفورة المنهجية والمعرفية التي اكتسحت الحقل الثقافي الفرنسي والعالمي، وموظفًا للفلسفة الماركسية من منظورٍ مُتباعِدٍ عن الوثوقية والجزْم الأيديولوجي. وانطلاقًا من ذلك، نَحَتَ مجموعة من المفاهيم والمصطلحات الأساس التي بَنَا عليها أبحاثه الميدانية وتنظيراته التي تشمل أوليات المجتمع وأيضًا الحقولَ الدينية والثقافية والأدبية… ومن أهم تلك المصطلحات: إعادة الإنتاج، والعنف الرمزي، والحقل الاجتماعي، والتمايُز، والهابيتوس habitus))، والرأسمال الثقافي، وسوق الخيرات الاجتماعية… واعتمد في تحليله للظواهر المجتمعية على وجود جدلية بين بنياتِ المجتمع وممارسة الفاعل، متجاوزًا تلك الثنائية التي طبعت البحث السوسيولوجي من قبْل. ومن أهم منجزاته، اهتمامه بدراسة السوسيولوجيا التربوية لتوضيح أن النظام التعليمي في فرنسا يقوم على مبدأ إعادة الإنتاج وعلى التمايُز الطبقي الذي يُورّث خصائص ومزايا تتصل بطريقة العيش وتكوين الذوق، وعناصر تؤمّن الامتياز في التراتب المجتمعي… وقد كان لمفهوم الهابيتوس كما أعاد تحديده بورديو، صدى واسع في البحث السوسيولوجي؛ إذْ أطلقه على ربْط الفعل بِبنية المجتمع، على أساسٍ من سيرورةٍ تتمّ وفق جدلية «البنيوية التكوينية» حيث تتمُّ المساواة بين الفاعل والبنية المجتمعية. وانطلاقًا من هذا المفهوم، نحتَ بورديو مصطلح «هابيتوس الطبقة» habitus de classe))، الذي استعمله لتوصيف نتائج تفاعلِ الفرد مع محيطه، استنادًا إلى أن كل واحد هو تجسيد لمجموع الصفات والقيم التي استوعبَها وتمثّلها وأعاد إنتاجها على طريقته… وفي كتابه عن الروائي غوستاف فلوبير: «قواعد الفن: تكوّنُ الحقل الأدبي وبِنيتُه»، استطاع بورديو من خلال تطبيق منهجه السوسيولوجي أن يُفسر العوامل الاجتماعية والتاريخية التي ساعدتْ على تكوُّنِ الشكل الإستتيقي عند فلوبير في منتصف القرن التاسع عشر، حين بدأ الحقل الأدبي ينحو صوْبَ تحقيق استقلاليته، معتمدًا على العلاقة المباشرة مع القراء والناشرين والنقاد…
إن هذه الإشارات المركزة إلى منهج بورديو، توضح أهمية مشروعه السوسيولوجي وطموحه إلى تغطية المجالات السياسية والثقافية والتربوية والأدبية بالتحليل وإعادة التأويل، في سياقٍ تميّز باحتداد الصراع واهتزاز القيم، وبخاصة بعد هبّة الطلاب في فرنسا وفي معظم أقطار العالم عام (1968م). ومن الطبيعي أن يجعل بورديو النقد والانتقاد عنصرين جوهريين في منهجه السوسيولوجي الذي لا يزال يحظى إلى اليوم بتأثير واسع في العاملين في مضمار البحث والتنظير السوسيولوجي. لكن من الطبيعي أيضًا، أن تقوم حركات تسعى إلى التجديد وتطوير المفاهيم الإجرائية والمنهجية في العلوم الإنسانية؛ ولذلك نريد أن نتوقف قليلًا عند حجج وانتقادات بعض الباحثين في مجال السوسيولوجيا بفرنسا، لنتبيّنَ إلى أي حدّ يحظى نقدهم بالمصداقية والاعتبار.
نرفضُ «ثقافة الاعتذار»
يُطالعنا في مقالات ملف مجلة «لوديبا» «المناقشة» مقال شديد اللهجة يحمل العنوان أعلاه، ولا يخلو من تحامل على بورديو؛ وقد وقّعه كل من جيرالد بروني وَإتيين جيهن اللذين أصدرا مُنذ أشهر كتابًا بعنوان: «خطرٌ سوسيولوجي». وقد ورد في مقالهما ما يلي: «بعض السوسيولوجيين الذين يسمّون أنفسهم «نقديين» يتكاثرون ليقولوا ويُعيدوا بأنه، بسببِ «النسق»، وَ«البنيات» و«الثقافة» (المُسيْطِرة) إلى غير ذلك، فإن الأفراد لا يتوفرون على تاريخ بِقدْرِ ما هُمْ خاضعون لِمَصير. إنهم {النقديون} يحظون بنجاح كبير في المكتبات وفي البحث عبْر «غوغل»، يبدونَ معه كأنهم المنتجون أو المؤتَمَنون على السوسيولوجيا الجيّدة الوحيدة. (…) إن الفكر المسمّى «نقديا» يحتلّ مكانة احتكارية سياسوية في السوق الثقافية للعلوم الاجتماعية. ويُقال: إنه، على الرغم من هذا النجاح، فإن بورديو كان يجد أنه لا يُقرأ ولا يُعرَف بالقدر الكافي. (…) إن بورديو الباحث الاجتماعي النقدي الذي يزعم تعريةَ حيلة النظام النسَقي وفضحه، يمكنه أن يكون، كما يظن، مُحرر الذين هم ضحايا ذلك النظام، لو أنهم قرؤوه ليكتشفوا في نهاية الأمر، الحتمية الاجتماعية التي هي أصلُ جميع المصائب التي يُعانونها. وواضح أنه إذا ما جرى الدفاع من دون شروط عن هذا التصوّر للعالم، فإنه سيُفرغ حيوية مقولاتٍ مثل الجدارة، والمسؤولية، والأخلاقية. حتى في صيغةٍ مُخففة، فإن ذلك التصور قد يُزكي عمليًّا، «ثقافة الاعتذار» لأنها تقدم محكيًّا نموذجيًّا لِكلّ مَنْ أراد أن يشرح تعثراته وأخطاءه أو فشله، اعتمادًا على التأثير الحتمي للأسباب (الاجتماعية، والنفسية أو البيولوجية) التي لا يملك لها دفعًا. إن السوسيولوجيا الحتمية تصبُّ، موضوعيًّا في اتجاهِ تلك المحاولة المعروفة جيدًا لدى علماء النفس الاجتماعيين، التي ميّزوها باسم «مُراوغة الرضا عن النفس» وهي المراوغة التي أوجدَ لها النقديون، بالتجربة، نموذجًا في الواقع».
جيرالد بروني
يطغى على هذه الانتقادات طابع البولميك الذي يختلق الأخطاء ولا يتقيّد بالتحليل المقنع. لكننا نجد في الملف مقالات أخرى تراعي الموضوعية وتقدر جهود الاتجاه الاجتماعي النقدي، وتصوغ انتقادات لها أسس متماسكة. ومن بينها، مقالة الأستاذة دومنيك شنابير التي لخصت انتقاداتها في خشيتها من أن علماء الاجتماع لا يستطيعون دائما ألا ينساقوا مع تأثير الحقبة الزمنية، وهو ما يجعلهم يتقبلون الرأيَ السائد. وتلخص موقفها على هذا النحو: «إن السوسيولوجيا هي بطبيعتها نقدية؛ وهذا هو ما يربطها، ضرورةً، بالديمقراطية. إلا أنه لا يكفي أن نستحضِر مشروعية النقد الاجتماعي المُلتصق بالسوسيولوجيا والديمقراطية لكي نجعل جميع الانتقادات علميةً».
وامتدادًا لهذا الجِدال الذي دشنتْه مجلة «المناقشة»، خصصت صحيفة «لوموند» (24-11-2017م) صفحتيْن لتعديل الكفّة وإسماع صوت باحثين لهم رؤية يسارية. وقد سجل نيكولا تريونغ في مقاله، أن هذا الملف يُبرز عدة أعراض كامنة وراء هذا التصدّع في مجال العلوم الاجتماعية بفرنسا، من أهمها: الاختلاف الإبستمولوجي، وتسييس البحث، والتنافس، والهجمات المُتكررة على «فكر 1968م» منذ 1980م، وأيضًا انبثاق أزمة هُويّة شاملة. ويستشهد تريونغ في نهاية مقاله برأيِ الفيلسوف الفرنسي المعاصر برينو كارسانتي: «إن العلوم الاجتماعية بصفة عامّة، والسوسيولوجيا بصفةٍ خاصة، مُصابة ب«فُقدانِ البوصلة» وغياب الأفق. وهذا الجِدال، على الرغم من تدشينه السيّئ، فإنه يسمح على الأقل بتحديد أفق وإن كان يكشف جبل الجليد العائم بالكادِ، ويُغطي الأبحاث المُجددة. قد لا تكون السوسيولوجيا رياضة للقتال، كما قال بورديو، إلا أنها تظلّ حقلًا للصراع…».
ونطالع في «لوموند» حوارًا مع برنارد لاهير، أحد المتأثرين بمنهج بورديو الذي تعرض لانتقادات شرسة في ملف «لوديبا»، ردّ فيه على خصومه مُعتبرًا أن هذا الملف يكشف عن عَرَض «الدفْع نحو اليمين» بالحياة الثقافية في فرنسا، وبخاصة أن الحقل السياسي عرف تحولًا عميقًا، كاد يمّحي معه التمييز بين يمين ويسار. ويضيف برنارد أن الاتهامات والانتقادات الواردة ضد السوسيولوجيا النقدية، واهية لا أساس علميًّا لها. ذلك أن كل بحث علمي هو بالضرورة نقديّ، ولا مناص من أن يتضافر العلم والنقد. وما يغيظ خصومنا، يضيف، هو أن أطروحات بورديو ومَنْ تشبعوا بمنهجه وطوروه، لا تزال تحظى بالمصداقية اليوم أكثر من الأمس؛ فمثلًا، ربط التغيّرات الاقتصادية والاجتماعية بالجانب الديني والثقافي عنصر أساس، ولا يمكن الفصل بين هذين المجاليْن، سواء في تشخيص الظاهرة أو معاينة «إعادة إنتاج» التفاوتِ والفروق الطبقية…
عودٌ على بدء
لا جدال في أن الخصومات الفكرية والعلمية والأدبية تكتسي أهمية خاصة؛ لأنها تكشف خلفياتٍ كامنة وراء تحولات تتمُّ في مجالات السياسة والأيديولوجيا والاقتصاد، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بحقلٍ ثقافيّ يتوفر على استقلاله الذاتي، ويعكس مجموع التيارات والاتجاهات، كما هو الشأن في فرنسا. لأجل ذلك، حاولنا من خلال تقديم هذا الملف عن أزمة السوسيولوجيا في فرنسا، إثارة الانتباه إلى أهمية هذا الفرع من العلوم الإنسانية في تأطير كل مجتمع، والتحسيس بمدى الحاجة إلى وجوده في الجامعات والمعاهد في وصفه أداةً ضرورية تضيء للأفراد وللسياسيين والدولة، الأوضاعَ الاجتماعية بما هي عليه من تحوّلٍ دائم، وتشابُكٍ وتعقيدات وصراع.
لكن، إلى جانب ذلك، يتضح من هذه الخصومة الجِدالية في فرنسا، أن علم الاجتماع يضطلع إلى جانب الكشف والتعرية والرصد، بتقديم معطيات وإحصائيات وظاهراتٍ تغذي الفكر الفلسفي والتاريخي، وتدعوه إلى أن يصوغ المعطيات المستجدة في مفاهيم ومقولات تسعف على بلورة ما يعتمل في أحشاء المجتمع، وإخراجه من منطقة الظلّ والردهات إلى مجال الرؤية والتأمل والتفكير. إنه لم يعد في مُكنة أيّ مجتمع اليوم، أن يظلّ مشدودًا إلى تأكيد ما ورثه واعتنقه، من دون الالتفات إلى ما يفرزه علم الاجتماع من حقائق ومعطيات لصيقة بالواقع وتغيّراته.
بواسطة محمد برادة - ناقد مغربي | نوفمبر 1, 2017 | الملف, كتاب الملف
يـبدو زمـنًا بـعيدًا ذاك الـذي صدرت فيه نصوص تـدافع عن حق المرأة العربية في أن تـنال الاحترام والاعتراف بدورها الأساس في بناء الأسـرة وتـربيـة الأطفال واكتـساب التـعليم والمعرفة… فـمنذ نـهاية القرن التاسع عشر ارتـفعت أصوات تنبّه إلى ضرورة الاعتراف بدور المرأة المتعلمة، المواطنة، في تـشيـيد صـرح النهضة المرجوّة بعد عصور مديدة من الانحطاط. ومن أبـرز تلك الأصوات، رفاعة الطهـطاوي في مشاهداته وتأملاته عـن رحلته إلى باريس، وكتاب قاسم أمـين «تـحــريـر المـرأة» (1899م)، وهما صوتان ألحّا على أهمية دور المرأة في بناء المجتمع، وعلى ضـرورة الاعتراف بإنسانيتها وقدرتها على الاضطلاع بـمهامّ جوهرية على دربِ تـرقية المجتمع وتـربية الـجيل القادر على النـهوض.
علوية صبح
عالية ممدوح
ومـثل هذا الخطاب، سـيـجد صـدى لـدى نـخبة النساء العربيات الـلائي بـادرن إلى الدعوة إلى تـحرير المرأة العربية مــن الـحِــجـر والـحجاب والـوصاية الذكورية الأبـدية. نذكر من بينـهن على سـبيل المثال، هـدى شـعـراوي ودريــة شـفيق. يمكن القول، إذن، بـأن بدايات تـكـوُّن الـخطاب النسـوي العـربي الحديث كانت في حضـن الخطاب السـياسي الـنهضـوي والوطني المقاوم لـلاحتلال الأجنبي، وكانت بـتـأيـيـدٍ من طلائع الرجال الذين أدركوا أن كل نـهضة تـحتاج إلى مساهمة النساء ضمن قـيـمٍ تـرفض عقلـية الحريم والوصاية والتـنـقيص من كـيان المرأة… وكان من الـطبيـعي، منذ بدايات الحركات النسائـــيـــة الـعربية حتى مـا بـعد الاستــقلالات عن الاحتلال، أن يكون أفـق المـطالب عـنـدها هـو «الـمساواة» مع الرجل في الحقوق والواجبات، لكـي تصبح فعلًا مـواطنة مـحـمـيّـة من العـنف الذكــوري والـتهـميش الاجتماعي والسياسي ووصاية الأزواج. ولـعـلّ هذا الأفـق الأوّلـي يـلـتقي مع أفـق جميع الخطابات والحركات النسائيـة التحـريـرية في العالم؛ لأن تـغـيـيـر الوضع الاعـتـباري للمـرأة، واكتـساب حقوق مُـعـتـرَف بها في القـوانين، مُـرتـبطــان بالـنـضال السياسي الذي يخوضه الجِـنســـان معًا. وما يمكن أن نلاحظه طوال الـقرن العشـرين، هو أن جـلّ الحركات الـنسائية وما أنــتـجـتْـه من خطابات، كانت على اتصالٍ وثـيـق بالأحزاب السياسية التي أصبحت حريصة على كسـبِ أصوات النساء بعد حصولهن على حق التصويت في بعض الأقطار العربية… ويمكن القول بأن الخطاب النسائي، عمومًا، جاء حاملًا بصمات الأيديولوجيات التي سادت الساحة طوال القرن الماضي؛ بيـن لـيـبرالية واشتـراكية وسـلفية وماركسية. ولا يمكن القول بأن الحركات النسائية المـستـنيـرة قد كان لها التأثـيـر الحاسم في تحقيـق مطالب المرأة العربية؛ لأن مجال العمل السياسي والاجتماعي، بـعد الاستقلالات، كان فاقدًا لــشروط الصـراع الـديمقراطي الذي يسمح بـإنجاز التـغـيـيـرات الـبنــيوية والثقافية المؤدية إلى تحقيق نهضة عربية قادرة على الانخراط في العـصـر، وتـمـثــُّـل أسـسه العقلانية المجــدّدة للقـيم والمـمارسة؛ لأجـل ذلك، لا تـزال أوضــــاع المرأة الـعربية إلى اليوم، تـعاني الــلامسـاواة والتـهميش والـعـنف الرجالي والوصاية من كل الأطراف. وعلى الرغم من ذلـك، فـإن ما حـقـقـته نـساء عربـيات من مكاسب وإثـباتٍ للـذات، يـؤكــد أن الحركات النسائية وخطابها قد أثـبتا جدارتهما وضـرورتهما لحماية حقوق المرأة وضمان الشروط المطلوبة لتحقيق المساواة وتصحيح قيم الفكـر الماضـوي.
خطاب مغاير ومساند
رجاء عالم
حنان الشـيخ
لـكن مـا يسـترعي الانـتباه ونحن نـعـايــِنُ حصـيلة ما حقـقـته الحركات النسائية والخطابَ المصاحبَ لها، هـو بـزوغ خـطاب مُسـانـِد ومُـغاير لـدى الكاتبات الـعربيات، مـنذ ثـلاثـينيات القرن العشـرين، وصولًا إلى الحقبة الراهنة، يطـرح أفـقًا مختلـفًا للـمـرأة الـمبدعة، وبــخاصـةٍ في مجال الـرواية. ولعل مي زيادة (1886-1941م) في كتاباتها النقدية، ومن خلال صالونها الأدبي (1913- 1933م)، كانت حاملة لشـعار المساواة بين الرجل المبدع والمرأة العربية المبدعة مع مراعاة خصوصية كــلٍّ منـهما: «إنــما نحن في الذات الإنسـانية الـواحدة الـجـهـة ُالمــاثــلة ُإزاء جـهةِ الرجـل، فـنـخـتـبـر إذن بـفـطـرتـنا ما لا يـستــطيع الرجلُ أن يـعـرفه، كما أن اختـبـارات حـضْـرتِـه تـظل أبـدًا مُــغلقة علينا».(في كتابها: عائشة تيـمور، شاعرة الطليعة). يمكن أن نـفهم من كلام مي زيادة أنه رفضٌ لاستـمـرار الرجل الكاتب في الاضطلاع بمــهــمــة التـعبـيـر نـيابةً عـن المرأة؛ لأن هناك تجارب خاصة بها لا يستطيع إدراك كُـنـهِــهـا؛ ويمكن أيضًا أن نـجد في ثنايا هذا الرأي دفـاعًـا عن مبـدأ المساواة بين المبدع والمبدعة على أساس من التكامل بـينـهما. لكـن هذا المـستـوى من الخطاب سـرعان ما سـيـأخذ في الـتبـدّل منذ خمـسيـنيات القرن الماضي، عـنـدما اتسـع عدد الروائيات، وبخاصة في الشرق العربي (مصر، وسوريا، ولبنـان، والعراق)، وبـعد أن حققت المرأة في تلك الأقطار وجودًا لافِــتًا في معظم مـرافق الحياة (التعليم الجامعي، والوظائف الحكومية، والمهــن الـحرة…). ويمكن أن نشـيـر في هذا السـياق، إلى روايتـيْـن أثارا جـدَلًا ولفتا النظر إلى تجديد نـسـبيّ في الخطاب الروائي النسائيّ: رواية «أنا أحــيـا»، لليـلى الـبعلبكي، و«الباب الـمفتوح» لـلطيفة الزيات. في هاتيْن الـروايتـيْـن نسـمع صوت المرأة عالـيًا يـريد أن يـنـبّـه إلى وجودِ ذاتٍ أنـثــوية، لها رَغباتها وعواطفها وإرادتها التي تـقـبلُ وتـرفض، بل تـتمـرّد على بـطريركية الأب وسطوة العائلة… والخطاب في الروايتـيْـن لا يجـتـرّ ما تدبـّجه الحركات النسائية والأحزاب السياسية، إنما يفسح المجال للذات النسائية لتـعـبـر عن وجودها من منطلق جـوّاني، له خصوصيته التي تـجاهلتها الخطابات الأخرى، أو استـوحاها روائيون رجال من موقع بـرّاني لا يتـغـلغل إلى سـويداء قلوب النساء المحمّلة بعذابات العنف الذكوري وتهميش المجتمع…
مـنـذ سـبـعـيـنيات القرن العشــرين، تـكـاثـر عـدد الروائيات العربيات، في نـوعٍ مـن التـصــادي مع الـحظـوة التي صاحبت جـنس الـرواية في وصفها شكلًا أدبـيـًّا ملائمًا للتـعـبـير عـن التـبدلات المتـسارعة داخل المجتمعات العربية، والتـعبير أيضًا عـن الجوانب الحميمة من حياة الـفـرد الطامح إلى إثـبات وجوده وقيـمتـه. ويمكن القول: إنه منذ الـثمانـينيات، أصبحت الرواية في مجموع حقول الإبداع العربية، لا فـرق بين مـركزٍ ومحيط، بمنزلة شـكل تـعـبـيري يـلجأ إليه الكُتاب والكاتبات الشباب للـتــنفـيس عن احـتقـانات القلق والحيرة والعلاقة مع الذات ومع المؤسسات المجتمعية. وهذه المعاينة لا تعني أن جميع تلك الروايات تـنطوي على العناصر الـفنية والشكلية المطلوبة في جنس الرواية؛ إنما هي ظاهرة أسـفـرت عـن فـرز عددٍ لا بأس بـه من الروائيين والروائيات الذين منحوا ـهذا الجنس التـعـبيـري وضعًا اعتـباريًّا يُـدرجه ضمن مقاييس الرواية ذات الأبعاد العالمية. من هذه الـزاوية، نجد أن الروائيات العربيات نـقـلْــنَ الرواية إلى مـستوى أعـمق قياسًا إلى الخطاب النسوي الذي ظـل يـسـيـر في ركاب الخطاب السياسي والأيديولوجي الـسائــد.
وقـبل أن أورد أمثلة من نصوص الروائيات العربيات، أودّ أن أبـدد التــبـاسًا صاحب الـنـمـوّ الـروائي النـسائي منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهو مـا يـتـعـلـق بالتـرويج لـمـصطلح «أدب المـرأة» على اعـتــبـار أن ما تكـتـبه مُبدعاتٌ نساء هو أدب لا يـشـبه ما يكتبه الرجال، ولا يسـتحق هذه التسـمية إلا إذا كان مقطوع الصلة بالأدوات والأشكال الفـنية التي سـبق أن بلورها مبدعون من قـبـل. وإذا لـم تـخُـني الذاكرة، فـإن دعاة خلق أدبٍ نسائي محض، كانوا يـتوخون أن يجري تجديد الأدب العربي أساسًا من خلال إبداعات الـمرأة العربية التي صُـنـفت حركاتها الإصلاحية ضمن الاحـتيـاط الثوري الذي تـفـتـقـر إليه المجتمعات العربية، لـتجديد اللغة والمعنى والـقـيَم… إلا أن مدة الالتباس هذه التي أثـرت في مقاييس التحليل والنقد، سرعان مـا جرى تصحيحُها من خلال إنتـاج روائيات موهوبات، أدركن أن الأدب بوصفه تـعـبـيرًا عن مشاعر وتجارب ومواقف من خلال شـكل فـني، هـو مجال مشـترك بين جميع البشـر، لا فـرق بين ذكـرٍ أو أنثى، وأن مـا يُـمايــز بين مبدع أو مبدعة هـو اســتــثمار الخصوصية التي يـتـوفر عليها كل منهما، فـسيولوجيًّا واجتماعيًّا وعاطفيًّا. بل إن خصوصية التجربة الأدبية مطلوبة من كل مبدع، لكي لا تأتي النصوص تـكرارًا واستـنساخًا لـما سـبَقَ. ويظلّ الأداء الفني المتوارث منذ أجيال والمتجدد ضمن شروط الإبداع لكل عصر، هو ما يميزُه من بقيـة الـخطاباتِ التي يـتـغذى منها فـكرُ المجتمع ووجدانُـه.
الـكتابة الروائية والرمـزية النـسـائية
مـيّ التـلمساني
من خلال قـراءتي لـبعضٍ من روايات كـتبـتـها روائيات عربيات، ألاحظ أن الخطاب الروائي بأشكاله الفنية المتنوعة، قـد حـقـقَ درجة عالية من العمق والـتـغـلـغل إلى لـبّ الوجود الـنسائي داخل مجتمعات لا تـزال متشبـثة بالذكورية وتهميش الـمرأة. بـعبارة ثانية، إن الـتخـيـيـل وتـوظيف المعيش، وتـفاعل الروائيات العـربيات مع النظريات الـفرويدية، أضاف إلى دلالات نصوصهنّ أبعادًا تـمتـح من التحليل النفساني والأنثربولوجي والفلسفة، ما جعل خطابـهن يـتـعدّى الإطار الاجتماعي والسـيـاسي. وهذه الـفئة من الروائيات الـمـميَّـزات يُـمكن إدراجهن ضمن الفـئة التي وصـفـتهـنّ الناقدة جوليا كــريـسـتـيـفا بالباحثات عن علاقة ذواتهن بالـعقد الــرمــزي: «لـم تـعد تُـخاض المعركة من الآن فصاعدًا في ســعيٍ إلى المــســاواة؛ فـالمعركة تـنشـد الاختلاف والخصوصية (…) إن الاختلاف الجنسي، البيولوجي، الفسـيولوجي المتصل بـإعادة الإنــتـاج، إنما يـتـرجمُ اخـتلافًا في علاقة الـذوات بـالعَـقـد الـرمزي الـمتـمثـل في الـعقـد الاجتماعي (…) وهو يُـزاوج بين الجنسي والرمزي ســعـيًا إلى العـثور في هذه الـمـزاوجة على ما يـميز الأنثــوي في البداية، وكــل امـرأة في نهاية الأمـر» (مجلة ألـف، عدد 19، كريستـيـفا: زمـن النساء، ترجمة: بشــيـر الســباعي).
فـعلًا، نـعثـر في بعض النماذج الروائية العربية النسائية على خـطاب يـتـخطى أفـق الدفاع عن المساواة بيـن الجـنسيْـن إلى طـرح مسألة وجود المرأة داخل العـقد الاجتماعي الذي يحدد علائق المواطنين بـذواتهم وبالآخـرين، مع مـراعاة الاختلاف والخصوصية بين الرجال والنساء. ومن هذه الزاوية، نشـيـر إلى نماذج حقـقت هذا المستوى الدلالي العميق من خلال شكلٍ روائي جديد يـسـند المحمولَ الإنساني للنص:
في «اسـمُـه الـغرام» لعلوية صبح (2009م)، تُـطالعنا شخصيات نسائية من طبقة متوسطة، متعلمة، كلهن يعـشن مشكلة الـعـمر الذي يجري نحو الكهولة والشيخوخة. كل واحدة تتحايل لاستــدامة الشباب ومغـازلة الأزواج والـعشـاق… لـكن نهْلا المسلمة التي أحبت هاني المسيحي، جعلتْ من الحب طوق نجاة تقاوم من خلالـه الزمن والسأم ونزوات الجسد العابــــرة. وضمن قصص النساء الخاضعات لـدوامة الـمـوضة، المتهافتات على كوكتيلات الأمسيات الاجتماعية، تـبرز قصة نـَـهْـلا كـرمْـزٍ لـعالم مُـضادّ يكون الحبُّ فـيه تـريـاقًا ضـدّ الأفـول والـموت: «لا شيء يقاوم الشيخوخة غـير الحب». تقول بطلة «اسـمُـهُ الـغـرام». إنها رواية، إلى جانب استـيحائها من حياة النساء في المجتمع اللبناني، فهي تـفتح أمامنا مجالًا لـتأمل علاقة الإنسان بالزمن، ومسألة مواجهة الموت في عالم فــقــدَ الـيقـين… «المـحبوبات» لـعالية مــمدوح (2003م): في رواياتها الأخرى، حملت الكاتبة وطنها الـمـمـزق في كتابتها لـذاكرتها، وفي هذه الرواية نجدها تستوحي حياتها في المنفى وهي متـنقلة بين فرنسا وكنـدا، بين حبها لابنها وهجوم الزمن الغادر في فضاء المنفى… وإلى جانب ما هـو خاص في عاطفة الأمومة، تـنقلنا الروائية إلى «مجتمع» كوزموبوليتاني يضم نساء أجنبيات من أقطار شـتى، وجميعهن تُـحاصـرُهنّ سـطوة الزمن والشيخوخة الـظالمة، وهن يبحثن عن وسيلة للاستـمرار في حب الحياة. «مُـخـمَـل»، لحـزامـة حـبايب (2016م): على مـستوى آخـر، تـستـوحي الروائيةُ حزامة مأساة شعبها الفلسطيني في مخيمات عـَـمّان، لـتصور قسـوة العلائـق العائلية، وانعكاس البؤس على السلوك، جاعلة من المرأة مـركز الـثـقل في مواجهـة المأساة. واسـتـطاعت «حـوّا»، إحدى بنات الأسرة في المخيم، أن تـتحمل كل العنف والأعباء لتـسعف أمها وأباها وجدتها، وبذلــــتْ جهدًا لتـتـعلم الخياطة، لكنها عندما عثـرت على الحب مصادفة، تصدى لها ابنها وأخوها ليـحرماها من حب مشروع… وعلى هذا النحو، ارتـقـت مأساة أسـرة «حــوّا» إلى مســتوى مأساة إنسانية مـرسومة بحساسية أنثوية كاشفة للمسكوت عـنه.
والأمثلة كـثيرة لا يمكن الوقوف عندها في هذا المجال، وتشمل أسماء روائياتٍ راسخات؛ مثل: سـحر خليفة، ورجاء عالم، وحنان الشـيخ، ومـيّ التـلمساني، وسـلوى بكر، وسـمر يـزبك، ورضوى عاشور، وفاتحة مـرشـيـد، والقائمة تطول. وما يجــب التـأكيد عليه، هو أن الروايات النسائية التي تجاوزت حدود الخطابات السياسية والاجتماعية تـوسلت، إلى جانب المعرفة والموهبة، بابـتداع أشكال تـستوحي المنجزات الـفنية في الرواية العالمية، مع إصرار على إسماع صوت المرأة في تجاربها الـذاتية وصـراعاتها مع الموروث الـمُـجـحف بـحقوقها. ومثل هذه الخصائص هو ما يؤهل الإبداع الأدبي، النسائي والذكوري على السواء، لأن يكون مـرصدًا لتـحولاتِ الخطاب الإبداعي المُـجدّد للقيم في كل مجالات الصـراع.
مـحمـد بـرادة – ناقد مغربي
بواسطة محمد برادة - ناقد مغربي | أغسطس 30, 2016 | قضايا
يـبدو لي أن معظـم الـجِـدال المتــصـل بفضاء الثقافة العربية المـمـتد من الخـليج إلى المحيط الأطلسي، يقوم على غير أساس؛ لأنه يــتوخى المفاضلة والتـرجيح، عوضًا من اعـتبـار التـكامل وتـبادُل التأثيـر. وإذا كان هذا التـوجّـه مبررًا في العصور القديمة، فـإنه غير مقبول الآن ونحن نعيش حقبة تاريخية وحضارية مخـتلفة تمامًا عما كانت عليه منذ أكثر من خمسة عشـر قـرنًا. قديمًا، كنا نسمع نقادًا من المشرق يـرددون، بعد اطلاعهم على كتابات وإبداعات المغاربييــن: هــذه بضاعــتـنا رُدّتْ إلـيـنا. ولم يكونوا يأخذون في الحسبان بعض العناصر المائزة تاريخيًّا وجغرافيًّا لدى الشعراء والنقاد الأندلسيـيـن والمغاربة.
هذا الموقف المـتـعالي يعود إلى أن العرب المشارقة كانوا يعدون أنفسهم مالكي اللغة والتراث والقواعد التي صدّروها إلى أرجاء بعيدة في ركاب التبـشيـر بالإسلام، لكن عصور الانحطاط وما أعقبها من يقظة مـتباطئة على أصوات مدافع حملة نابـليون، ثم حركات الاستعمار طوال القرن التاسع عشر، ونصف القرن العشـرين، كانت تـعـلن تـدشين مرحلة غير مسـبوقة في تاريخ الإنسانية، هي مرحلة الأزمنة الحديثة القائمة على العلوم والتــقـانة وتـرشيد بـنـيـاتِ الـدولة والصـراع السياسي؛ بـعبارة أخرى: دخلت البشـرية في أزمنة مختلفة تـمامًا عن سابقتها؛ لأنها اعتمدت على علوم ووسائط وأنـساق فكرية وفلسفية تستـهدف فك ألغاز المجهول، وتطـويع الطبيـعة، وغزو الفضاء، وجعل التواصل الـرقـمي حقيقة ملموسة تُـزيل الحواجز وتفرض الشفافية المطلقة.
ما يهمنا نحن هنا أن المـثاقفة وتـبادل التـأثير في كل المجالات أصبحا عنصريْن مؤثـريْن ومـخـتلفيْن عمـا كانا عليه، سواء بيـن ثقافة وأخــرى أم داخل الثقافة القائمة على لـغة واحدة مـشـتركة. من هنا يمكن أن نضع أيدينا على الخلــل الذي يعانيه النقاش المغلوط حول الثقافة والإبداع بين المشرق والمغرب؛ ذلك أن مؤسساتـنا التعليمية والأكاديمية لم تُـولِ اهتمامًا لمبحث سـوسيولوجيا الثقافة والأدب الذي يسعى لتـشـريح هذا الـحـقل الشاسع؛ لتقديم إحصائيات وأرقام وتحليلات موضعية عـن عدد المـنـتجين الثقافيـيـن، وعن طـرائق استـهلاك هذه الثقافة، وحجم المتلقـين، وعـــن الأجناس الأدبية والأشكال الفنية والسينمائية التي تحظى بالقبول؛ ذلك أنه لم يعـد ممكنا في عصرنا أن نتحدث عن الثقافة والإبداع من دون أن تكون لنا مـعطيات ملموسة عن نوعية وحجم المـنـتجيـن والمستهلكين، وعن مرجعيات هذه الثقافة وثـقلها داخل الحقل الاقـتـصادي.
الثقافة مكوّن للمتخيل الوطني
أحد الأعمال المسرحية المغربية
في مطلع القرن العشـرين، وبـتـوازٍ مع نشوء الحركات الوطنية من أجل مكافحة الاستعمار، أصبحت الثقافة عنصرًا مُـكوّنًـا لـلمــتخيّل الوطني، تـرمي إلى إحـياء الجوانب المُشرقة من التراث، وفي الآن نفسه تـنفتح على ثقافة «الآخـر» التي أثبتت فعـاليتها. وبـعد الاستـقلالات دخلت الثقافة العربية إلى مرحلة مغـايرة تحمل بصمات الصراع؛ من أجـل تـثـبـيت العدالة والمساواة وحرية الرأي ضمن دساتيـر وقوانين تحترم المواطنة، وتـتخذ من دمـقـرطة الثقافة وسيلة لـتغـيـير الوعي، والانفتاح على الثقافة الإنسانية الـمـمثلة لقيم السلام والحوار ورفض العنف والتعصب. وهنا أصبحت الثقافة العربية، على اختلاف موقعها بين مشـرق ومغرب، أمام إشكالية مشــتركة تــتمثل في الانتماء إلى الأزمنة الحديثة من خلال نظام سياسي عادل، وثقافة مسـتـوعبة لأشكال التعـبير والتفكير، قادرة على جعل المواطن حاضرًا ومشاركًا في بناء مجتمع جديد، وهذا الوضع المـستـجد بعد مرحلة الاستقلال عن الاستعمار، هو ما يجعل التفاخر أو المفاضلة بين مشرق ومغرب ثقافـيًّا، غير قائم على أساس. أنا لا أتـوفـر، لـلأسف، على دراسات سوسيولوجية للثقافة العربية في مـضاربها المختلفة، لكنني ألحظ أن ما نَـتجَ عن هذه التحولات السياسية والاجتماعية قد تـرك بصمات عميقة في الحقل الثقافي، وبخاصة منذ ستـيـنيات القرن الماضي وتـبـلوُر الصراع بين اتجاهات الحداثة والتـراثيين الذين يـتـشبثون بمنـهجية ماضوية في التـعاطي مع ما يحدث من حركة وتبدّل في الحقل الثقافي مشرقًـا ومغربًا. والظاهرة الواضحة في الحقل الثقافي العربي الراهـن، هو تفاعل نسـبي على مسـتوى الإنتاج الأكاديمي، وتفاعـل أكبر منه في مجال الإبداع الأدبي والفني والسينمائي، وبخاصة لـدى الأجيال الشابة التي تـعيش تـمـزقًـا في الهوية، وتهميشًا داخل المجتمع، وذهـولًا أمام الـمـدّ الأصـولي المـتطرف الذي يوظف الدين لـهدْم المجتمعات العربية.
من هذه الزاوية، لا مجال للمفاضلة أو التصنيف (المشرق أقوى في الإبداع، وأقطار المغرب أفضل على مستوى الفكر)، فهي أحكام مطلقة لا تـستـند إلى تحليل مقارن ملموس، إضافة إلى أنها تـتـغافل عن دور المثاقفة العالمية في تـوحيد وبلورة أشكال ومفاهيم مشــتركة بين الثقافات في عصــر الـعولمة. لا أتصور، مثلًا، أن روائيًّا أو مخرجًا سينمائيًّا عربيًّا، سيـنـطلق في إنتاجه من أشكال تقليدية متجاهلًا ما حقـقـه الإبداع في مجاله. ونفس الشيء بالنسبة للناقد أو المفكـر، إذا كان يـريد لإنتاجه أن يجد صدى في مجال البحث العلمي.
إعادة صياغة الإشكالية
على ضوء هذه الملحوظات المقتضبة، أرى أن الاهتمام بـسـوسيولوجيا الثقافة العربية، وبخاصة في جوانبها العملية، ســيـسـعـفنا بإعــادة صـياغة الإشــكالية بـطريقة عميقة، بـعيدًا من المفاضلة والمـفاخرة والأحكام المُـبـتسـرة.
وفي طليعة الحقائق التي يفاجئـنا بها الحقل الثقافي العربي، أنه شــاسع بفضل لـغـته التي تشمـل ثلاث مئة مليون نسمة، ومن خلالها يـتـكوّن فضاء مـتـنوع ومـمـتـلك لأداة الحوار والـتـبـادل، وقادر على إنشاء سـوقٍ اقتصادية تعـتــمـد على صـناعة الثقافة محـليًّا وعالميًّا؛ إذ لا يـعـقل أن المنتجيـن الثقافيـين العرب لا يـستـطيعون أن يعيشوا من إنتاجهم على رغم هذا الفضاء الواسع المشترك. بينما استطاعت السوق الأوربية الموحدة، على رغم تعدد اللغات، أن تخلق صناعة ثقافية ذات أبعاد اقتصادية وحضارية فاعــلة.
وإعــادة صوغ الإشكالية الثقافية سـيـقودنا، بالـحـتْـم، إلى وضع أيدينا على الخـلـل في مؤسسة الجامعة العربية التي، إذا كانت تجد أعذارًا بالنسبة للمجال السياسي، فـإنها تقف عارية أمام تقـصيرها وفشـلها في مجال الثقافة. لكن الأمـر، في نهاية التحليل، يـتـعـلق أيضًا بالمأزق السياسي العربي المـتمـثل في عدم الحسم بين الحداثة والماضوية؛ بين الاستبداد والديمقراطية؛ بيـن ثقافة التــنوير وثقافة النـقل والاجتـرار.
لأجـل ذلك، فإن الإنتاج الثقافي العربي المعاصـر، المتــصف بالـتـنوع والتكامل بين مشرق ومغرب، هـو مؤهّــل لأن يكون منـطلقًا لإعــادة التفكيـر الجدي في أزمة المجـتمعات العربية، على أساس من دراسات سوسيولوجية ميدانية، تجعلنا على بـينة من تأثـيرها، ومدى رواجها، وقدرتها على محاربة ثقافة التـدجيل والعنف.
إن من شأن إتاحة الفرصة لإنشاء صناعة ثقافية عربية، أن يـتـيح لكل بلد عربي أن يـتـعرف ما تـنتجه الأقطار الأخرى، وأن يسمح للمنتـجين في هذا المجال أن يعيشوا من أقلامهم وأفلامهم ولوحاتهم، محـقـقيـن بذلك نوعًا من الاستقلال المادي الذي هو ضـروريّ لحماية حـرية المنتجين الثقافيين والمبدعين، ويمـهد لاستـقلال الحقل الثقافي عن كل وصاية تـعـوق اضطــلاعه بمهمة الإبداع والنــقد الضـرورية لكل مجتمع يتطلع إلى بناء مستقبل أفضل.