أول رواية عربية كتبها «شيخ أزهري» من أب مسيحي أواخر القرن الـ 18
أعتقد أن علينا الاعتراف بأن الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801م) وإن كانت قد جاءت بالمطبعة محمولة على ظهر مدفع، ونظمت الشوارع، وقسمت الأحياء، وأشعلت الرؤوس بأهمية العلم، إلا أنها جاءت إلى مجتمع لم يكن يندر فيه المتعلمون، ولم يكن لينشغل بهذا الوافد الجديد ويتأثر به ويؤثر فيه، إن لم يكن جاهزًا بالأسئلة المعرفية البسيطة.
هذا المعنى الذي أكَّدته الدكتورة نيللي حَنَّا في كتابها «ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية»، رافقنا طويلًا في أثناء رحلة البحث عن هذه الرواية العربية الأولى، إلى أن وقعنا بالمصادفة على معلومة تقول: إن أحد أشهر رجال «الأزهر الشريف» في العقد الأخير من القرن الثامن عشر، كان هو صاحب أول رواية عربية مسجلة ومطبوعة على الإطلاق، وهو الأمر الذي سنحاول إثبات صحّته هنا بأكثر من دليل.
طبعًا، اكتشاف مثل هذا يستحق منا أن نقدم الأدلة على صحته، مثلما يستحق منا أن نكون مستعدين لكي نعدل الحديث الدارج -أكاديميًّا وبحثيًّا وإعلاميًّا- عن أن أول رواية عربية كُتبت بين عامي 1850م و1900م، مثل روايات: «ويْ إذن لستُ بإفرنجي» لخليل أفندي خوري، و«الساق على الساق في ما هو الفارياق» لأحمد فارس الشدياق، وروايات زينب فواز وعبدالحميد البوقرقاصي ومحمود طاهر لاشين، و«حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحي، و«غابة الحق» لفرنسيس فتح الله مراش، إلى أن جاءت رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل عام 1913م، وهي الرواية التي اتفق الجميع على أنها أخذت الشكل الفني الروائي الأكثر نضجًا، وابتعادًا من اللغة القديمة من كل ما سبقها من محاولات، وباتت هي أول رواية عربية بشكلها الحديث.
الأكثر دقة أن نقول: إن كل هؤلاء ولا شك كانوا يمثلون جيل الرواد أو المؤسسين الأوائل للرواية، وهو الجيل الذي لا بد أن تكون سبقته إرهاصات هنا أو محاولات أولية هناك، أغلبها لم يصل إلينا، ولا بد أن تكون هذه المحاولات -حال اكتشافها ولو بالمصادفة مثلما حدث معنا- هي الاستثناء الخارج عن أي قانون، لتكون جديرة بمكانتها الاستثنائية تلك. ونحن نعتقد أن ما كتبه الشيخ هبة الله محمد المهدي الحنفي، وصدر لأول مرة باللغة الفرنسية تحت عنوان «حكايات الشيخ المهدي» هي أول رواية عربية على الإطلاق، ونتمنى أن تُترجم ذات يومٍ قريب من الفرنسية إلى العربية؛ لكي يرتد الحق إلى أهله، ونبدأ في التعرف إلى قصة هذا الرجل والاستماع إلى حكاياته المثيرة، وهي قصة تستحق أن تُحكى.
مَن الشيخ المهدي؟
كما ذكرنا اسمه الشيخ هبة الله محمد المهدي الحنفي (1736- 1815م)، لكن الموقع الرسمي لـ «دار الإفتاء المصرية» يقول: إن الشيخ المهدي وُلد في الإسكندرية عام (1243هـ) أي ما يوازي عام 1828م، لوالد مسيحي، لكنه دخل الإسلام صبيًّا، وصار شيخًا في الأزهر، وأضاف الموقع الرسمي لدار الإفتاء: «ولما توفي الشيخ الإمام الشرقاوي أجمع كبار العلماء على ترشيحه –
يقصد الشيخ المهدي- لمشيخة الأزهر، ولكن الوالي محمد علي باشا آثر بها الشيخ الشنواني». وقد استوقف اسم الشيخ المهدي مؤرخنا الكبير عبدالرحمن الجبرتي، الذي عرفه من قرب وسمع منه، وترجم له في «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، وقال الجبرتي عنه ضمن حديثه عن وفيات عام 1815م:
«ومات الأستاذ الفريد، اللوذعي المجيد، الإمام العلامة، والنحرير الفهامة، الفقيه النحوي والأصولي الجدلي المنطقي، الشيخ محمد المهدي الحفني، ووالده من الأقباط، وأسلم هو صغيرًا دون البلوغ على يد الشيخ الحنفي».
وعلى الرغم من أن الجبرتي وصف كثيرًا من أنشطة وتجارة وعلاقات وصعود الشيخ المهدي بكثير من الحسد على ما جمعه من ثروات، نتيجة تدخله لحل كثير من المعضلات، وحصوله على مقابل لجهوده، بتعيينه على أوقاف «سنان باشا» وغيرها، وحصوله على مناصب كثيرة منها «الضرب خانة» و«السلخانة» و«الجوالي»؛ فإن الجبرتي لم يُشر إلى أنه كتب الرواية بالطبع، لكنه وصفه بأنه كان «حسن البيان، والتفهيم وسلاسة التعبير، وإيضاح العبارات، وتحقيق المشكلات، ونما أمره وبَعُد صيته»، كما أنه عَدّه واحدًا من أميز علماء عصره، وربما لو كان مصطلح الرواية قد ظهر وقتها كان أطلق عليه صفة الروائي.
الجبرتي أشار إلى المهدي بوصفه أكثر علماء عصره انفتاحًا وتعاونًا مع الحملة الفرنسية وعلمائها، وتلك النقطة الأهم بالنسبة لنا في هذه الحكاية؛ لأنها تثبت إجادته اللغة الفرنسية حديثًا على الأقل، كما تثبت محبة الفرنسيين واحترامهم له، على الرغم من أنها قد تتضمن اتهامًا للشيخ بالتعاون مع المستعمر الذي دخل البلاد بجيوشه، مشيرًا إلى أن الشيخ المهدي داخلهم (يقصد الفرنسيين) ولاطفهم في أغراضهم، وأضاف: «اجتمع بهم وواصلهم وانضم إليهم وسايرهم، ولم ينقبض كغيره عن المداخلة فيهم، بل اجتمع بهم، وواصلهم وانضمّ إليهم وسايرهم ولاطفهم في أغراضهم، وأحبوه وأكرموه وقبلوا شفاعاته ووثقوا بقوله، فكان هو المشار إليه في دولتهم مدة إقامتهم بمصر، والواسطة العظمى بينهم وبين الناس، في قضاياهم وحوائجهم، وأوراقه وأوامره نافذة عند ولاة أعمالهم، حتى لُقّبَ عندهم وعند الناس بكاتم السر، ولما رتبوا الديوان الذي رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين في قضاياهم ودعاويهم، كان هو المشار إليه فيه».
إذا كانت تلك هي قصة الشيخ كما جاءت في تاريخ الجبرتي فما هي قصة «حكايات الشيخ المهدي» التي أخذت شكل «الرواية» التي تعتمد على طريقة «ألف ليلة وليلة»، وصدرت باللغة الفرنسية في فرنسا عام 1833م؟
جلسات المورستان
كانت أول إشارة صريحة إلى هذه الرواية التاريخية قد وردت ضمن سطور «موسوعة ألف ليلة وليلة» أو «الليالي العربية»، الصادرة في مجلدين عن المركز القومي للترجمة، عام 2018م تأليف الباحثين أولريش مازروف وريتشارد فان ليفن، بترجمة المترجم الكبير السيد إمام. والإشارة وردت بالتحديد صفحة 270 من المجلد الثاني، ضمن الحديث عن الكاتب الفرنسي جان جوزيف مارسيل، (1776- 1854م) الذي ذهب إلى مصر بصحبة قوات نابليون العسكرية، حيث كُلِّفَ بإدارة المطابع، ومكث في كل من الإسكندرية والقاهرة في المدة بين عامي 1798 و1801م، وإلى جانب تنفيذ واجبه المباشر في نشر الصحف للجيش الفرنسي والمنشورات للمصريين، كان يعمل أيضًا على إتقان اللغة العربية وجمع الآثار. يقول مؤلفا «موسوعة الليالي العربية»:
«نشر مارسيل مجموعة من الحكايات تحاكي «الليالي العربية» بعنوان «حكايات الشيخ المهدي»، contes du cheykh el_mahdy v1 (1833)، وقد نشرت في جزأين، ظهر الجزء الأول «الليالي العشر التعيسة» عام 1828م، وظهر الجزء الثاني في مجلدين، «جلسات المورستان، أو من وحي مستشفى الأمراض العقلية بالقاهرة». والحكايات اعترف مؤلفها الفرنسي ببساطة أنه تَرجَمَها عن الأصل العربي، بعدما تسلمها مخطوطة من يد صديقه «هبة الله» الذي كان قبطيًّا ثم اعتنق الإسلام، وأصبح سكرتيرًا عامًّا لديوان القاهرة، ومحاضرًا في جامعة الأزهر، وشيخًا للإسلام عام 1812م.
يضيف مؤلفا الموسوعة، أنه على الرغم من أن بعض النقاد و(فهارس المكتبات) لا يزالون يعتبرون الشيخ المهدي هو مؤلف الحكايات التي ترجمها مارسيل للفرنسية، فإن نقادًا آخرين يرون أن مارسيل هو الذي كتب النص بنفسه، على غرار نموذج «ألف حماقة وحماقة»، ثم يشيران إلى موضوع الرواية في سطور قليلة: «الحكاية الإطار لـ«حكايات الشيخ المهدي»، تدور حول شاب اعتاد تنويم الناس عبر حكي الحكايات، وأُرسِلَ إلى مستشفى الأمراض العقلية بالقاهرة، حيث واصل سرد حكاياته».
يُشار إلى أن «موسوعة الليالي العربية»، هي أضخم عمل علمي قُدّمَ حول الليالي، تضمن أهم ثَبت بأسماء الأدباء والفنانين الذين تعاملوا مع نصوص الليالي سواء من أعلام العرب أو أعلام أجانب، وتحت عنوان «عالم الليالي العربية»، قدمت الموسوعة مسحًا مرتبًا أبجديًّا للمداخل المتصلة بأصل الليالي العربية وطابعها وسياقها والآثار التي خلفتها، ويتناول هذا القسم المهم، ما جاء في قصص الليالي من موتيفات عامة ومن شخصيات ومشاهير.
نستطيع اليوم أن نتأكد من صحة حصول الكاتب الفرنسي على مخطوطة الرواية من الشيخ المهدي، عبر ما كتبه الجبرتي عن علاقة الشيخ بالفرنسيين من أنه «خالطهم وواصلهم وانضم إليهم وسايرهم، بل اجتمع بهم، وواصلهم وانضمّ إليهم وسايرهم فأحبوه وأكرموه وقبلوا شفاعاته». ويمكننا أن نتوقع أنه ربما تعلم لغتهم بسرعة واستطاع أن يقرأ بها أيضًا بعض المؤلفات الروائية، بعدما تشبع بالطبع من قراءة أجزاء من قصص «ألف ليلة وليلة»، ولا شك أنه سمع من أصدقائه الفرنسيين كيف أحبوا «الليالي العربية» بعدما ترجمها أنطوان جالان إلى الفرنسية وصدرت عام 1707م، أي قبل هذا اللقاء بنحو 90 عامًا، فأثارت اهتمام الغرب وفضوله وصارت موضة العصر، لدرجة أن بعضًا يعتقد أن سحر الشرق في «الليالي العربية» ربما كان الدافع الثقافي الأهم لنابليون بونابرت في التعجيل بالذهاب إلى مصر.
يمكننا أن نفهم أيضًا من حكايات الجبرتي عن الشيخ المهدي أن الرجل عاش حياةً دراماتيكية من نوع فريد تليق بكاتب كبير، فكيف أمكن لهذا الصبي المسيحي أن يتحول إلى الإسلام، وأن يصل إلى درجة أن يصير شيخًا كبيرًا في الأزهر، وأن يترقى فيما بعد إلى أعلى المناصب؟ إلا إذا كان هذا الصبي يعيش في مجتمع يحمل بداخله نواة مجتمع مدني حقيقي، تسمح لمواطن غير مسلم أن يدخل الإسلام، وأن يتطور في المناصب المتاحة إلى درجة الترشُّح لمنصب شيخ الأزهر، كما أتاحت له أن يقرأ بلغة غير العربية، وأن يبدع كتابة تشبه الليالي، لكنها تسرد جانبًا من حياته المليئة بالمغامرات، بمعنى أنها حكاية تكفي صاحبها -منطقيًّا على الأقل- ليكون أول كاتب للرواية العربية.
هكذا يمكننا أن نفهم أن تلك الشخصية تنطوي فعلًا على حياة فنان متعدد الأفكار والمواهب، أديب يجرب كل شيء بنفسه، وحين اختار أن يكتب كَتَبَ قصصًا تُشبِه عالمه الأسطوري المخيف، تُشبِه رُعبه من فكرة الأقلية، التي دفعته إلى التحول إلى النقيض حيث أصبح واحدًا من نخبة الأغلبية، لكنه يحلم دائمًا بالسيطرة على الناس عبر وسيط ثقافي، ومن ثم لا يجد سوى الحكايات التي يؤثر بها فيهم وينيمهم تحت تأثيرها.
لعل من أكثر المفاجآت السعيدة في هذه الحكايات، أنها تُثبِت أن أول رواية عربية كانت تنتمي إلى ما يمكن أن نسميه الآن «الواقعية السحرية»، حيث يروي البطل حكايات تجعل الناس يستغرقون في النوم، وهي ثيمة سحرية ربما لا تخطر على بال روائي شاب اليوم، بعد مرور مئتي عام تقريبًا على وفاة مؤلفها.
في أثناء رحلة البحث الطويلة، حاولنا الحصول على صورة أو رسمة للشيخ المهدي، لكننا عجزنا عن إيجادها بالطرق التقليدية، فلجأنا إلى كتاب «وصف مصر»، وتحديدًا في الجزء الرابع عشر من طبعة مكتبة الأسرة 2002م ترجمة زهير الشايب، وهو الكتاب الذي وضعه علماء الحملة، وأشرف عليه بكل تأكيد صديقه جان جوزيف مارسيل، حيث رسم علماء الحملة بالكتابة وبالريشة جوانب من ملامح المجتمع المصري في زمانهم، وغلب علينا الظن أنهم رسموا صديقهم المفضل «الشيخ المهدي»، حينما كانوا يريدون رسم شخصية «أحد شيوخ القاهرة»، وهي الرسمة التي نوردها هنا على سبيل الظن لا أكثر.