«أغنية المسافر الوحيد»… قيس وليلى من عالمهما الروائي الواقعي إلى فضاء الكونية
يحملك الكاتب المسرحي العربي الكبير عبدالفتاح رواس قلعه جي، في مسرحياته، إلى عوالمَ حافلةٍ بالغرائبية والصور المدهشة والمشاهد الجذابة المكتنزة بالرموز والفكر وقراءةِ الواقع والإرهاص بالقادم من خلال الموتيفات التاريخية والأسطورية والواقعية والخيالية الحرّة اللامحدودة. كل ذلك ينتظم في حركة دائرية دائبة؛ وفي هذه الحركة السحرية يكمن السر الآسر في مسرحياته. قال عن نفسه ذات مرة: أنا لست كاتبًا مسرحيًّا وإنما
أنا ساحر.
في مسرحيته «أغنية المسافر الوحيد» ثمة انزياحٌ تام للشخصيتين الرئيستين قيس وليلى من فضائهما الروائي الواقعي إلى فضاءٍ آخر متعال، حيث يخلعان إهاب الطين ويرتديان إهاب الرحلة التاريخية الكونية فيبدوان وكأنهما يسبحان في الملكوت في سفرٍ شاق طويل. إنها مسرحيةٌ سلوكية معرفية وعرفانية تغوص في الواقع المعيش. فقيس هو السالك في طريق المعرفة ترشده حبيبته ليلى ليصيدَ بعض الكمالات السلوكية والأخلاقية والمعرفية من كبار الشخصيات التاريخية أو الواقعية التي يلتقيها ليصلَ في النهاية إلى مرتبة الإنسانِ الكامل ويتحدَ بمحبوبته ليلى ككائنين نجميين ليصبحا كائنًا واحدًا.
نحو جزيرة الحكايات
في المشهد الأول «أرغفةُ الماء» نجد قيسًا في انتظار ليلى ومعه جعبتُه على أُهبةِ سفر طويل، وتحضر ليلى الكونية ومعها طاقةُ ورد وسلة ملأى بأرغفةِ الماء وتقول:
-«خذ أرغفة الماء خبزتها لك وأنضجتها في التنور هي زاد الطريق؛ فأمامك سفر طويل… وهذا بلبل الدار احمله معك يرافقك بشدوه إلى جبل الجودي ويدلك على الطريق». تبدأ الرحلة في السفينة إلى جزائر السلوك فيرسي المركب على شاطئ «جزيرة الدموع»، في حوارٍ شعري، بخير الكلام والصفات، ومنه ما نُحيلُه تناصًّا للإمام علي زين العابدين، ويزور روضةَ «من آتى الطعام على حبه» وروضةَ «يا عبادي» حيث يطعم المليك الجائعين بيديه ويشتري الأرقاء ويحررهم ويقول لقيس:
«الحروف الثمانية والعشرون، دموع هاطلة… ومن هذه الدموع تولد لُغى العشق والأقلام».
ثم ترسي السفينةُ على شاطئ «جزيرة الصمت والكلام» فتستقبله «بثينةُ صاحبةُ جميل» وتقول له: «اتبعني». يسألها: «وإلى أين أتبعك أيتها الفاتنة؟» فتقول: «ستقابل أباك وجدَّك والصيد وافر والحقول يانعة». ويقف قيس أمام خباءِ «أمير الكلام» وعلى الباب سيف ذو شقين، وكتاب وقطرات دم، وتنتصب أمام الخباء شجرة الكلام، وكلما تكلم الأمير من داخل الخباء تهب الريح الشرقية وتتساقط كلماته من الأغصان وهو يحكي قصة أخيه في الله: «كان لي أخ فيما مضى، وكان يُعْظِمه في عيني صِغر الدنيا في عينيه». ثم يحدثه عن أسباب هزائمنا وعن المتخمة بطونهم ونفوسهم بالمال والسلطان. ثم يزور قيس والده وهو يعمل في البناء فيعظه ويقول: «يا بني اصقل قلبَك بمسحاة النور كما أصقلُ أنا هذا الحجرَ الأصم بهذه المسحاة».
وفي مشهد «الناسك والقبر» يعود إلى الفُلْك تصحبه ليلى إلى صحراء الربذة وهناك يلتقي عجوزًا تطلب منه أن يساعدها في دفن زوجها الغفاري ويحضر الدفن ثلاثة أشباح يخاطبون الجثة قائلين: «انهض يا فرح الأمس الثاكلِ رَغَد الغد وقص لنا الحكاية». فينهض الغفاري من موته ويقول: «وإنها مثل كل حكاية فيها خانٌ وحان، وصاحبُ شرطة، وأميرٌ وفقير، وداعٍ ونمرود ومحرقة، ورابذةٌ ومربوذ وربذة».
وفي ميناء إيمار على الفرات تستقبله «ريّا حبيبة قيس بن ذريح» وتسير به إلى مقبرة الشهداء ليلتقي ابن سمية، فيتعلم منه «كيف يدور مع الحق حيث يدور» وأويسًا القرني اليمني وقصته مع أمه ويأخذ عنه كمالات «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة» ويحاورهما ليكسبَ بعضَ المعارف والفضائل من حياتهما وتجربتهما.
ثم يعود إلى الفُلْك ليبحر نحو «جزيرة الحكايات» حيث تقود ليلى حبيبها قيسًا لمشاهدة بعض العروض عن خراب ماري التاريخية، ثم إلى مهرجان واحتفالات عيد المولد النبوي الشهيرة في أربيل التي يدعو إليها أميرها مظفر الدين كوكوبوري أحد قواد صلاح الدين، وحكاية الجلاد والأصدقاء الأربعة.
ثم تعود ليلى إليه وقد اكتست بجناحين من الريش وتطير به في أجواز الفضاء إلى «بيداء البَوادِه» فيزور عوالم لا يحيط بها وصف ولا يحدها زمان ولا مكان وتقول له: «قرأتُ حكاية أمك الوفائية وأبيك الكسيح وما عانيت وعانى إخوتك الأربعون من الحرب والجوع والقهر والسجون فرأيت أن أسرّي عنك وأُسْري بك وأعرج إلى عوالم النور والضباب. ويرى قيس الأنوار الشارقة في الإنسان فيقول لليلى:
«أما ترين هذه الأنوار الشارقة في الإنسان وحنينها وبكاءها لموطنها الأول، أهكذا يفعل العشق بصاحبه؟» فتقول: «لولا الأنوار الشارقة لكفّت الأفلاك عن السباحة والتسبيح…».
وتنتهي هذه الرحلة الكونية من حيث ابتدأت برسوِّ السفينة على «جبل الجوديّ»، وهناك في المشهد الأخير من الرحلة يلتقي قيس بليلى (الذكر والأنثى) ويتحدان بعد رقصةٍ كونية نورانية عارمة ليشكلا كائنًا واحدًا كاملًا مؤهلًا للقاء الحبيب الأعلى.
في المشهد النهائي يلتقي قيس بليلى العامرية (الأرضية) فتقول له: «قيس، لقد وافق أبي على زواجنا فتعال نتزوَّج». لكنه لا يُعيرها اهتمامًا ويحمل متاع الرحلة ويشير نحو السماء متمثلًا قول جوهرة: كروان رافت (أي) وسارت القافلة. وتنتهي المسرحية بهذا المشهد المؤثِّر حيث يلتفت قيس إلى ليلى العامرية ويقول لها: «قد تكونين العامرية… ولكنك لست ليلى»، ويطلب منها أن تعود إلى أهلها… ويتابع قيس سيره بينما تجلس هي حزينة يائسة تردد: «لقد جن قيس.. جن قيس».
هذه المسرحية مع أغلب أعمال القلعه جي تضع كاتبها في قائمةِ الكُتابِ العالميين لو كان لدينا رعايةٌ وعدلٌ وحيادية وترجمة وقدرةٌ على الانتشار.