«جسر بضفة وحيدة» لهيا صالح… فلسفة الموت ومآلات الذات
يرى هيغل أن عبقرية الفن تكون «تجلِّيًا للحقيقة عبر ما هو جميل وانكشاف للمطلق فيما هو حسي، كحدس وكصورة». من هذا المنطلق، تنهض فكرة العمل الفني «جسر بضفة وحيدة»، للأديبة هيا صالح، على قناعة راسخة، تعبر في واقع الأمر عن رؤية أكثر رحابة، ودلالات أشمل اتساعًا، بالانفتاح على الكينونة بإلقاء الضوء عليها، عبر التصالح مع فكرة الموت، وتقبلها كحقيقة لا مناص منها. وهو تصريح في شكله المعلن عدائي للإيمان الوهمي والاعتقاد المزيف والتفكير البائس، من حيث إن وجود الإنسان، يغدو وجودًا حركيًّا متسائلًا. والإشكال المطروح أمامنا: هل يمكن للإنسان أن يغير من طبيعة أخطاء الماضي أم هي خارجة عن نطاق إرادته؟ وكيف يجري التعامل مع هذه الوضعية في ظل هذه الأزمة المترامية الأطراف؟ وأين تكمن حقيقة الأشياء طبقًا لقوانين الفهم؟ وهل رهان التجربة الإنسانية في ترتيب موادها، متوقف على الجوانب الداخلية أم الخارجية؟ وإلى أي مدى تكون الكتابة الغرائبية والفانتازية أداةً صالحةً للتعبير عن الواقع؟
الكينونة وجدلية الموت والحقيقة
نستطيع القول: إن الرواية الصادرة عن (الآن ناشرون وموزعون، عمان، الأردن)، تضعنا أمام حوارية منطقية ومعقولة؛ على الرغم من تركيبتها اللغوية الغرائبية والفانتازية؛ إذ راوَحَت بين الهدم والبناء في طابعها الجدلي، كما تحيلنا في الوقت نفسه إلى منطق الإزاحة والتحول والتبدل. وهكذا، يُنَصَّبُ هذا السجال في حركيته المتذفقة واسترجاعاته الواعية؛ لكونه يجر القارئ في تأملاته الموضوعية إلى مساءلة الذات أو الكائن، بربط علاقته بموضوعة الموت، عبر ذاك الاتصال الوثيق ببطلة الرواية سامية، وهي من أصول فلسطينية، تحترف مهنة التصوير الفوتوغرافي. فاستوجبت الرؤية في هذا المضمار، إعادة القراءة في موضوعة الحقيقة، كحدث يساهم في إغناء التجربة الإنسانية في مقاربتها لهذا الموضوع الجدير بفهمه واستيعابه. تقول الساردة على لسان سامية «مؤخرًا، لم أعد أُومِنُ أن العين تأتينا بالنبأ الصادق؛ لأن الشيء الذي نراه الآن ليس هو نفسه الذي نراه بالضبط، فقد قطع رحلة طويلة داخل أجهزتنا الحيوية قبل أن نعي وجوده وماهيته… إن تخلصنا من الإيمان بالحقائق يمنحنا الحرية».
بصورة أو بأخرى، فإن هذا التوظيف، يعبر في رمزيته على التصوير، الذي يخلق حالة من حالات الطوارئ، من خلال البحث عن المعنى المفقود، بقدر ما هو تجديد للمسارات والقناعات والتجارب الهشة، بحيث يؤكد رهانات التغيير المنشودة. من هذه الزاوية، تقول الساردة أيضًا «أدرك الآن سبب تعلقي بالتصوير؛ لقد كان نافذة لي لتصحيح بعض المسارات في ذاكرتي، وتخليدًا صادقًا، ليس لما رأيته من مشاهد فحسب، بل لما أحببته وجذبني أيضًا. كما نستحضر قصتها مع الشاب الذي يعمل نادلًا في المقهى، وبسبب موت عائلته، أظلمت الحياة في وجهه، واقتنع بالحرف الواحد في أن يلتحق بهم؛ لأنه رأى بقاءه في الحياة لم يعد يجدي نفعًا، ولكن سرعان ما تراجع عن فكرة الانتحار، وراح يقول لسامية «لقد تصالحت مع ذلك الموت. أدرك أنهم ماتوا وقد شيعتهم بيديّ هاتين، وكنت أود اللحاق بهم، لكنني تراجعت بعد أن اكتشفت أنني أستطيع الالتقاء بهم من غير حاجة للانتحار».
ومن المؤكد أن هذه العودة للشاب تستمد طاقتها أو حضورها من ذاته؛ إذ تتركز في المقام الأول، حينما تجنح الكينونة إلى وظيفة الاستيعاب كمعطى إيجابي، أي ككائن فاعل ومتحرك على المستوى التداولي. هذا يقودنا لا محالة إلى التحرر من الأحكام المسبقة أو القناعات الراسخة. وتأسيسًا على ذلك، نجد أن هذه الممارسة تعتمل في سياق إعادة صياغة العلاقة بين الذات والحياة، أو بين واقع الإنسان ومشروعية وجوده حيال قراراته واختياراته، وبشكل خاص، يكون لها بالغ الأثر على مستوى الإدراك والوعي أو رؤية العالم. وفي هذا المستوى، يُنتقَل من أفق الماضي إلى أفق الحاضر، بحيث يكون قابلًا لعملية الفهم التي تستجيب للفطرة السليمة، أي المشروعية التي تكشف عن تعقل الإرادة الجوانية في أبعادها الأنطولوجية، ما يتيح للذات التخلص من مظاهر التناقض والتمزق والتشظي.
ولا بدّ من الإشارة، هنا، إلى المفهوم الذي يستند إلى الهجرة الإنسانية بتعبير المفكر التونسي فتحي المسكيني، أي الهجرة التي تكون برهانًا ناصعًا على تحقيق الإمكانات الوجودية «ما زال عطرك يملؤني.. يجتاحني، ثم يتبخر كل شيء وتبقين أنت.. هذه هي الحقيقة التي أعيشها منذ افترقنا.. ولأعترف لك أنها أقوى من الزمن». وهكذا، تؤكد الرسالةُ في جوهرها قوةَ الحضورِ ضمن مسالك الوصول، بوصفها سيرورة تؤثث لمنعطف جديد في مراجعاتها الشاملة.
علاقة الذات بالوجود
يمثل هذا الطرح من الكاتبة هيا صالح، إحدى السمات الجوهرية للعمل السردي، بما هو معالجة تطمح في غائيتها؛ إلى شطب الذاكرة المخزنة للأشياء الراسخة التي تقع تحت وطأة التقديس، من خلال تخليص الأنا من أعباء وسجن التفكير الماضوي، بمشاهده وصوره وأفكاره الممتدة في الزمكان «أنا حبيسة الماضي، ولا أرى في الحاضر تعويضًا لي عمّن خسرتهم من الأحبة، ليس بمقدوري أن أنساهم وأواصل حياتي بشكل طبيعي.. أغمض عيني وأتخيل أن الأمور معكوسة تمامًا، وأن الأموات هم المستيقظون لا نحن!».
نفهم من المقطع السردي، أن الصراع الديالكتيكي الممتزج بجراحات الماضي النازفة، وانتكاسات الحاضر الجارفة، عمّق من عمر وحجم الأزمة لدى سامية في حالتها الراهنة؛ نظرًا لفقدان والديها ورحيلهما عن الحياة، وحرب الخليج الثانية التي اضطرتها إلى مغادرة المكان. ومن ثمة، مع مرور الوقت أضحت غارقة في مستنقعات الماضي، والتقوقع بداخله لتعيش صنوف الحرمان، ما أوصلها إلى درجة القطيعة مع الحاضر، محملة بثقل الآلام والأوجاع. لهذا، ترى الكاتبة أن إعادة بناء الماضي وربطه بالحاضر، يترتب عليه انسحاب وإلغاء هذا النمط من التفكير؛ لكونه يبقى سجين آثار الماضي، وهو يجره من ورائه طوعًا وكرهًا. وفي نهاية المطاف، يتحدد كرؤية للعالم، لذا، فعمليات التجديد، تتطلب عدم تجاهل صيرورة التغيير. وبذلك، تكون الذات في علاقة مباشرة مع الوجود، من أجل الوصول إلى مستقبل أفضل على مستوى الواقع المعيش: «تتردد في ذهني عبارة ذلك الشاب في المقهى: عليك الإيمان بالرؤية لتري». لأن هذه الصورة المشرقة، تمثل لحظة التشكل والتكون، وكيفما كان الحال، ستكون الممهد للطريق الصحيح الضابط لحركة الوعي، وما يميز هذا الانخراط، كونه يفتح آفاقًا جديدة للكينونة؛ لترى الحياة من نافذة أخرى، إذ من خلالها يكون الخروج من أفق الوجود الحالي المغلق على نفسه، إلى وجود حقيقي بوصفه ولادة وتجلّيًا.