موز ريدة!
عندما ولدت لاحظت أمها أن هذه الصغيرة تمتلك جمالًا خاصًّا بها، أصابها خوف من العين، قال لها زوجها: اذكري الله، وتعوذي من إبليس، ابنتنا ما زالت في البداية من حياتها، نفرت دمعة من عينها، شاهدها الزوج ومسحها بلطف،
قال الزوج: ماذا نسميها؟ قالت له والدتها: رفعة، على اسم جدتي.
ولماذا لا نسميها: نمشة على اسم أمي؟
ابتسمت الأم وقالت: سبقتك، ابتسم موافقًا، كان منزلهما في قمة جبل تمرق به السحب والبروق والرعود التي تمنح هذه العائلة الصغيرة معنى وطعمًا مختلفًا للحياة، الزوجة أحاطت منزلها بأحواض زرعت بها الريحان والوزاب والنعناع، تسقيها كل يوم، ذهبت تجلب حطبًا من الغابة القريبة من منزلهم، كان هذا ديدنها كل صباح تحتطب وتضيفه إلى (السريف) الذي ينمو يومًا إثر آخر. الحطب من ضرورات بيوت القرى التي تعتمد في الإضاءة على الإتريك والفانوس واللمبة الصغيرة، وأيضًا أن المرأة لها الشركة مع زوجها الذي تكنُّ له كل الحب، تذهب للحقل بخبزة شعير إن لم يتوافر القمح، وفي الليل تعوضه بالعصيدة والمرق ما بين المغرب والعشاء، ثم تبدأ الحياة.
في الفجر تستيقظ قبله، تغتسل، توقظه ببسمة يعرفها، يغتسل ويسحب ثوره للحقل ويزرع الذرة وهو يغني رفقة الثور والمنحى وصوت الغروب وهي تدفق الماء في حوض البئر وينساب للحقل الظامئ، تذكر ابنته وشغبها الذي لا يتوقف وعلى البعد شاهد زوجته وطفلته الباسمة حين اقتربت هي وابنته، قال: سبحانه الله، قبل قليل وأنا أفكر في رفعة، ردت عليه الزوجة: وأنا؟ ضحك قائلًا لها: أنت في القلب دومًا.
حين غادرتا بعد أن وضعت له زوجته خبزة بر حالية رفع رأسه إلى السماء يا الله لك الحمد والشكر اللهم احفظ لي زوجتي وابنتي. وعاد إلى حقله.
حينما عاد لمنزله حزة الغروب رفقة ثوره، لم يدخل البيت إلا بعد أن عشى ثوره وأدخله السفلي وقال له: نتلاقى غدًا.
دلف لبيته فإذا بالصمت يحيط بالمكان، أوجس خيفة وبحث عن حبيبتيه فلم يجدهما، سأل جاره اللصيق بمنزله فخرجت زوجته مرحبة به واعتذرت له: زوجي مسافر لأبها لكن الله يحييك.
شكرها ورأت الهلع بعد أن قال لها: إنه لم يجد زوجته وابنته في البيت، طمأنته قائلة: ربما ذهبت لأهلها في القرية المجاورة الله يحفظهما لك وفي وداعة الله.
كان قلبه يدق بشكل غير طبيعي وتناوشته الأوهام والظنون وهو يسير نحو منزل أهل زوجته في القرية القريبة من منزله، طمأن نفسه حين شاهد الأضواء تشع من خلال النوافذ والصمت يلف المكان، طرق الباب وإذا بحبيبة القلب وابنته يقولان له: امرق، دخل المنزل وإذا برائحة الطعام تفوح في الأنحاء، غمز لزوجته متسائلًا: قالت: ضيوف، حين دخل المجلس شاهد وجوهًا غابت عنه طويلًا، رحب بهم، كان والد زوجته أكبر الرجال، بدأت الأحاديث تأخذ مداها وكل يتنهد عند حادثة غبر عليها الزمان، أصبحت ظلالًا في الذاكرة لا يكاد يستبين، كان فرحًا في داخله وهو يتتبع ابتسامة زوجته وضحكات ابنته التي ملأت مع الأطفال الآخرين البهجة لكنها كانت الأجمل، راود الأم خوف شفيف ولم تحاول أن يشعر به أحد لكن أمها شعرت بذلك، أصبحت تعد الثواني، لكن واحدة من الحضور رفعت صوتها: لماذا لا تطلقون عليها (موز ريدة) هز الجميع رؤوسهم بالموافقة الجماعية.
ولا يزال قلب الأم والأب يدقان خوفًا خفيًّا.
في اليوم التالي كانت موز ريدة على غير عادتها التي كانت تملأ البيت بهجة، عاودها البكاء المستمر والأم لم تستطع أن تقدم لها شيئًا، لجأت للبكاء المر، ترك الأب حقله وثوره، في البيت غابت البسمة، زار البيت الكثير من الأقارب يجلبون معهم الأغنام، والعسل، والحنطة، بكى الأب بكاءً مرًّا وكأن موز ريدة تعوضه عن كل شيء، مرت سنة وهي في مضجعها.
أصبحت تفقد وزنها يومًا إثر يوم لكن ملامحها الجميلة لم تتغير، الكل ينصح، النساء والرجال من الأقارب والجيران، قالت إحداهن: أحضروا لها مطوعًا يقرأ عليها، مؤكد أن عينًا ما صلت على النبي أصابتها، الأب لم يستسغ الفكرة، قائلًا: لا بد أن نذهب إلى أبها ونعرضها على الأطباء، نظر إليه الآخرون نساء ورجالًا شزرًا لكنه لم يهتم، حمد الله أن سيارة الأبلكاش التي تعبر القرية في الأسبوع مرة واحدة ستعبر غدًا، فرح بشكل لم يوصف وكان يحدث موز ريدة: سنذهب إلى أبها وربي يمنحك العافية، ابتسمت، أضاء المكان، نامت تلك الليلة كما لم تنم من قبل. وابتسامتها تملأ البيت، في الصباح الباكر كانت (موز ريدة) أول من قام من مرقده، قالت لها أمها: لن تصل السيارة إلا بعد الظهر عودي ونامي، ضحكت البنت وقالت: شبعت نوم.
كان والدها يخفي هاجسًا لا يود أن يطلع عليه أحد، محاولًا اغتصاب ابتسامة زائفة، توقفت السيارة وبرفقتهم حقيبة صغيرة الحجم، الأب سلم على الحضور من النساء والرجال ورد التحية (قارش): مرحبًا ألف، عسى ما شر؟ التفت لوجه ابنته الباسم ما بها إلا العافية، ولكن عليها قل عافية.
قال قارش: في (المسقي) يذكرون (يحيى الصحية) يقولون يده خفيفة.
رد عليه والد موز ريدة سلمت وجهتي أبها، صمت قارش بعد أن هز كتفيه وأخذ (يطرق) والجميع ينصتون.
عبروا المسقي متوجهين باتجاه (القرعاء) بأشجارها الكثيفة، فجأة توقف السائق بعد أن خرج من الخط الرئيس، وضع عدته والتقط شجيرات يابسة وأشعل النار، ثم وضع براد الشاي وأخذ يغني: يا رايح المسقي تعال اسقني ماء، من ريقك الحالي اسقني ماء.
هبط جميع من كانوا في السيارة وتقاسموا فيما بينهم خبز الشعير وأقراص البر، استغرق كل ذلك حوالي ساعة من الزمن، عاودوا المسير وعبروا قرى (الشرف) المجاورة لأبها، وفي سوق الثلاثاء توقف بهم المسير، وكل اتجه إلى مقصده.
وقف الأب وابنته برهة من الزمن والحيرة تظهر عليه، قال له قارش: ترغب أن أقلك أنت وهذه (المملوحة) للمستشفى أومأ برأسه خجلًا.
غادروا إلى المستشفى العام، أدخل الأب يده ومدها للسائق، ضحك السائق وحلف بالطلاق ما يأخذ هللة واحدة على أملح بنت في الجنوب، وأردف: الله يعافيها ويطمنكم عليها وترجع بالسلامة لوالدتها ومن يحبونها.
سلمت، قالها وهو يودع قارش، انتظر طويلًا إجراءات الكشف والمعاينة، شعر بالغربة على رغم قرب المسافة.
قضت (موز ريدة) ثلاث ليال وبجانبها والدها الذي لم يفارقها ولو لوهلة،
صباح اليوم التالي قال له الطبيب المصري: الحمد لله النتائج مشجعة، والعسل دي عندها أنيميا ونحن نتابع حالتها لمدة أسبوع.
بعد عشرة أيام ذهبت (موز ريدة) رفقة والدها الذي كان مبتسمًا ورفع صوته بالغناء وقارش يرد له الصوت كان كل من في السيارة رجالًا ونساءً يرفرف عليهم الفرح. هل هو روح موز ريدة وبسمتها التي لا تجف، هل هو روح الأب الذي ترك من يحب وحيدة في البيت، وترك رزقه في الحقل؟ كان ذلك الفرح هدية للأم الغائبة، الفرح فكرة بسيطة وصعبة، كيف نختارها؟
كان الليل في أوله وكانت أم (موز ريدة) ترقب من نافذتها النور الذي يصدر من سيارة قارش، كانت تحسب المسافة حين وصلت (المسقي) شعرت في تلك اللحظة بدونهما أن القرية قد شع الفرح في جوانبها. ارتسمت البسمات فوق وجوه النساء والرجال والأطفال الذين يحبون (موز ريدة) حد الوله.
تجاوزت مرحلة الخطر، كبرت ازدادت جمالًا يلفت الأنظار، كانت ترقب يوم السوق، تشاهد البدويات وجمالهن الطبيعي بقبعاتهن التي تحتوي المكحلة والمرود و(المبصرة) الصغيرة التي تشاهد بها ملامح وجهها والقليل من الريحان والوزاب في شعورهن، موز ريدة كانت محط أنظار الجميع نساءً قبل الرجال، قالت لها إحداهن: هنيئًا لمن كنت من حظه، الله يحفظك من العين يا بنتي.
عادت لمنزلها بعد أن انتهى السوق انتظارًا للأسبوع القادم، دخلت بيتهم الصغير يحملها فرح لا تستبينه ولا تدرك له مصدرًا، بمرور الوقت بدأت تنضج، والغيرة تنهش قلوب الأخريات من مثيلاتها في القرية، كبرت وسمحت لها أمها بالذهاب للاحتطاب وكان ذلك مؤشرًا واضحًا أنها أصبحت امرأة تتحمل المسؤولية.
وقد سمح لها من أمها وأبيها بالذهاب للبئر لجلب الماء للمنزل، يمر الزمن وموز ريدة تثمر حتى نفسيًّا، بدأت طرقات منزلها تتابع من الآخرين لكن الباب لم يفتح، والحوار لم يبدأ.
موز ريدة لم تفهم شيئًا، هناك لغز ما تخفيه الأم والأب كشيء مقدس، وهي لا تدركها سألت في البداية أمها: ما الذي يحدث؟
وبعد مرور سنتين سألت والدها السؤال نفسه، قال لها: ألم تخبرك أمك؟
ضحكت من قلبها قائلة: لم أعد صغيرة (عليكم وجه الله علموني)!! وحين لم تسمع أي إجابة انهمرت باكية وخرجت من (المجلس) وذهبت لغرفتها الصغيرة، لحقت بها أمها، استمرت في البكاء وحين عرف قلب الأم أنها هدأت، قالت: ابنتي نحن (طرف) بحلقت موز ريدة وقالت: يعني من طرف القرية، أو من طرف البيت؟ لم أفهم شيئًا مما تقولين، لم تقل أمها شيئًا مراعاة لشعورها في تلك اللحظة، قالت لها: سوف أعود إليك حينما تهدئين.
حين عادت إلى المجلس شاهدت زوجها حزينًا ومكتئبًا، لكن العشرة الطويلة بينهما أملت عليهما أن يلوحا لها بذلك، هز رأسه علامة الموافقة.
بعد برهة من الزمن أطلت عليهما واتخذت مقعدها والبسمة المسروقة تزيدها جمالًا وعفوية، وساد صمت طال وقته ولم يجرؤ أحد من البدء بالكلام، فجأةً طرق الباب وهبطت وإذا بها جارتهم خفيفة الظل التي لا يكرهها أحد في القرية.
روت لهم حكاية مضحكة، ابتسم الجميع وعاد الهدوء المؤقت للوجوه المهمومة، وكانت سحابة من قلق تفضح ملامح الأم والأب الذي باح لزوجته بسر أقلقه منذ ثلاثة أسابيع. قال لها: منذ شهر لاحظت شابًّا من أهل القرية المجاورة يحاول التقرب من حبيبتنا موز وأنت تعرفين الأمور التي لا تدركها، أومأت الأم برأسها موافقة ثم أردفت بسؤال: وما الرأي؟
نصبر شهرًا ربما ظلمنا الرجل ولعلها من باب الصدفة وليس له مطمع، والله أشعر بتغير مزاجها وحدة طبعها قالتها أمها. قال الأب: نقول خير ونترقب.
تمر الأيام وحال من القلق يملأ المنزل بعد الهدوء السابق الذي كانت موز هي السبب الأساسي في وجوده، تمر الأيام والليالي، وفي ليلة جنوبية تراكمت الغيوم السوداء تنذر بمطر شديد، ومن المؤكد أن الرجال في كل قرية هم رجال الإنقاذ وخصوصًا في الوديان التي تجرف الأشجار والرجال، كانت ليلة مرعبة ليست لموز ريدة وأمها، بل القرية قاطبة. الذين ينتظرون أحبابهم، لأول مرة يكرهون المطر الذي يفقدهم أحبابهم، وحين سمع الجميع صوت إطلاق النار ابتهجوا جميعًا النساء والرجال فهي البشارة التي تدل على نجاة الجميع دون فقد أحد، كانت الموجوعة الوحيدة في القرية والقرى التي تجاورها هي (موز ريدة) وكانت تفكر في موضوع واحد (الأصل والطرف) وتضحك في داخلها من هذه المتناقضات، قالت لوالدها الذي تحبه وهو ممن يصيخ السمع لها: آمنت بما تقولون، لكن السؤال الذي يقلقني: أليس الذي يملك صنعة أفضل من الآخر؟
دهش الأب ولعله سمع هذه المقارنة لأول مرة في حياته. لاذ بالصمت، قالت موز: أجبني ولا تتهرب من إجابة لسؤال دار بخاطرك مرارًا وتكرارًا ولم تحاول أن تطرحه على أحد، أليس كذلك؟
خرجت وهي تبكي، تذكر الأب تلك القصة القديمة المتداولة حين سأل شاب والده سؤالًا هزه: إلى متى ونحن صناع؟ دهش الأب وحاول أن يرتدي قناع الحكمة وقال: إلى عيد الفطر!
صبر الشاب طيلة تلك المدة وعند مرور أيام العيد الثلاثة، سأل الشاب والده السؤال السابق نفسه وظن الأب أن ابنه قد نسي الفكرة من أساسها قال له الأب: إلى عيد الأضحى، هز الشاب رأسه وأردف قائلًا: نترقب ذلك اليوم، يدرك في داخله أن تلك المواعيد هربٌ من المواجهة لحقيقة لن تتغير أو تتبدل، لكن الابن رغب في إجابة يدركها وقانون اخترعته القبيلة منذ عهود سابقة، وعلى رغم أن كل شيء يتطور للأفضل، تظل القبيلة تتمسك بقوانينها التي لا تريد أن تتغير أو تتبدل.
تمر الليالي والأيام ثم يفد العيد ويذهب الأب فجأة لمكة حاجًّا وهي ليست المرة الأولى، بل العاشرة، يبتسم الابن في داخله ويعرف أن والده هرب من الإجابة بعذر شرعي.
عاد من الحج وفرح بسلامته الجميع ومضت ثلاثة أيام في الزيارات من أهل قريته ومن القرى المجاورة، في اليوم الرابع عاد كل شيء لطبيعته، ما عدا الابن الذي يبحث عن الإجابة.
في اليوم الخامس سأله السؤال نفسه، فجأة غادرت الأم المجلس رغبة ورهبة
أتريد الحقيقة يا بني: سوف نظل صناعًا، صناعًا إلى يوم القيامة! ابتسم الابن ابتسامة ساخرة وغادر المكان.
بكى الأب بكاءً مرًّا، ودخلت الأم قائلة: هذا ما كنت أتوقعه، هؤلاء يعيشون في زمن جديد، لا تأبه لذلك، هذا جيل متغير، جيل مختلف، ولا بد أن نتحمل الكثير من نزواتهم والعديد من أسئلتهم المستفزة لنا، وهو أمر طبيعي، صمت الأب طويلًا، وعرف مؤخرًا أن ابنه التحق بالعسكرية في الطائف، قال بحزن شفيف: دعهم يقومون بتربيته، ذهبت الأم إلى (الملهب) لإعداد وجبة العشاء.
في اليوم التالي كانت ملامح موز أكثر إشراقًا وبهجة، كأنها عادت لطبيعتها الأولى.
كادت بطبيعتها الأنثوية تبوح بسرها الذي يشغل بالها، لكنها تريثت، بحس الأنثى شعرت الأم بأن موز تخفي سرًّا لا تود أن تبوح به لأي مخلوق، لكنها تعيش اللحظة بكل تفاصيلها.
في قمة بهجتها التي لا تحد بدأ والدها يثني عليها ويشعرها افتخاره بسمعتها في القرية وقدرتها الفائقة في استمالة الناس للإعجاب بها وبرزانة عقلها، ثم مال إلى صمت وكأنه يرتب أفكاره القادمة، شعرت بأن هناك قصة لم تتضح تفاصيلها بعد!
ولكنها شعرت في داخلها بوحشة لم تدرك كنهها، وحين رغبت في الخروج من المجلس الذي يضمها بأبيها، أشار لها بالمكوث، هنا زاد قلقها، داخلتها الحيرة والصمت الذي ران على المكان.
أغرب شيء ليمنح الموقف تعقيدًا بالغًا أن المرأة التي تضحك الجميع بخفة روحها وكأن هذه الدنيا لا تعني لها شيئًا سوى الضحك وبث روح الفرح في قلوب الآخرين لم تحضر منذ زمن الأمر الذي أضاف للوقت ذلك اللون الرمادي، كأن الأب فشل في مهمته، قال لها: نتحدث غدًا وخرج من المجلس الذي لم تحضره والتي كانت تتفادى الموضوع برمته.
ذهبت موز لغرفتها، لم يزرها الرقاد حتى الفجر، تسأل نفسها ما الذي يحدث،
غفت قلـيلًا.
عندما فتحت عينيها وجدت أمها لجانبها ساهمة، سألتها لماذا تردد أبي في إخباري عما يخبئه في خاطره ليلة الأمس، ولماذا هربت من المواجهة، بكت الأم ولم تشرح شيئًا، قامت موز وقبلت وجنتيها ورأسها حتى هدأ خاطرها.
مضى شهر كامل بنفس الإيقاع وكأن الأمر لم يتغير بالنسبة للأب والأم لكن ذلك لم يتغير بالنسبة لموز ريدة الأمر أخذ منحى آخر منذ عرفت أنها أقل مرتبة اجتماعية من الآخرين، وكان يخامرها من وقت لآخر ذلك الحزن الشفيف.
كان ذلك الشاب الذي يعبر قريتهم من آن لآخر يؤكد ظنون الأب التي لفتت انتباهه وأكد ذلك لزوجته وحمل ذلك العبور محمل الظن الإيجابي آنذاك لكن هذا العبور تكرر بشكل يدعو للريبة والظن، كان من أهل القرية المجاورة ومعظمهم من ملاك الحقول.
تسري الأسرار بين النساء أول الأمر ثم تنتقل للرجال وربما تكون مشوهة أو مبتورة أو مضافًا إليها لتبدو حقيقة تؤكد مصداقية قائلها.
سرت الأخبار وتناقلتها ألسنة أهل القريتين المتقاربتين، لكن آخر من علم بذلك هي موز ريدة ووالدها وأمها بأن الشاب الذي يتردد من آونة لأخرى كان مغرمًا بموز ريدة ولكن حاجزًا كان يقف أمام طموحاته تلك، فهو أصل ابن أصل وهي طرف، التقته مرات ثلاثًا حين كانت تجمع الحطب لمنزلها وحاول هو أن يقنع رفيقاتها أن الأمر كان بالصدفة البحتة، كان ذلك مقبولًا في المرة الأولى لكنها في المرتين الأخيرتين، اتضح أن ذلك لم يكن بمحض الصدفة، فضحهما ذلك الهيام الذي يزهر على وجهيهما كلما التقيا، كان هذا الشاب يندفع رافعًا صوته بالغناء وكأنه يشعر الأشجار والجبال والوديان بأنه عاشق لأجمل بنات المنطقة.
دخلت المجلس ورأت ملامح أبيها الذي يود أن يقول شيئًا ما، وكما هي عادتها خرجت أمها من البيت ذاهبة للبئر وقربتها فوق ظهرها وخاطرها مع زوجها وابنتهما متوجسة مما سوف يحدث فهي تعرف الاثنين حق المعرفة، تعرف عناد موز، وتعرف مشاعر الأب الحقيقية، تذكرت فجأة عندما زارهم رجل كبير السن ويبدو هادئًا ومتزنًا يبتعد من قريتهم بمسافة طويلة، وضعت قربتها في مكانها المعتاد وقبل أن يتفوه الأب بكلمة دخلت، قال الأب: الحمد لله سوف تشاركنا أمك في الحديث والرأي، التفتت لأمها وكأنها تقول: ما الذي تخفيانه عني؟
والله يا بنتي العلم علم خير، الرجل الذي زارنا قبل مدة تقدم يطلب القرب منا راغبًا في الزواج بك وبودي سماع رأيك وسلامتك.
لم تبح موزة بكلمة، لكنها بكت وتبعتها أمها لغرفتها، لحقت بها وتحدثت معها طويلًا لكن دون فائدة، ظلت على هذا المنوال لثلاثة أيام ثم فاجأتهما في اليوم الرابع بالموافقة، شكَّت الأم أنها تخفي عنها أمرًا، آثرت الصمت حتى ينهوا يوم العرس وتذهب معه لقريته البعيدة، ربما تألف الحياة هناك وتنسى من تحب، لم تلحظ على ملامحها الفرح أو السعادة وهي تعرف ابنتها حق المعرفة وشخصيتها القوية والمتفردة وغموض يشعر من قبالتها بعدم القدرة على فهم شخصيتها وتصنيفها بين مجايليها من البنات الأخريات.
ذهبت معه لقريته عندما انتهت طقوس الفرح للآخرين، أما بالنسبة لها فكان يومًا دامعًا، وصلت لقريته، وكان بيتها مليئًا بالفرح من أقاربه.
شعرت لوهلة بفرح ناقص، تذكرت أمها وأباها والمرأة العجوز التي تنثر الفرح في القرية، تذكرت الحقل والثورين والبئر والعصافير التي تلتهم القمح، بكت ومسحت دمعها.
حين دخلت غرفتها في القرية البعيدة شعرت بالوحدة، لكنها صبرت وفي ذهنها فكرة لم تكتمل، حين دخل زوجها الغرفة لم تعره الانتباه اللازم، لكن الزوج كان عاقلًا ويكبرها بسنين عديدة.
قالت له: أعرف أن ما أقول لك سيؤذي مشاعرك، لكن أنا وبصدق أحب شخصًا آخر في قريتي؟
كانت تجربته في الحياة ممتدة منذ زمن طويل وعانى كثيرًا في هذه الحياة حتى جاوز الستين من التجارب والتحديات، تعلم الهدوء في اتخاذ القرارات المهمة، الغرابة العجيبة أن أهل القرية يسمونه الحكيم على رغم أنه طرف، لكن تجربته الممتدة في الحياة منحته اللقب والتقدير، قال لزوجته الصغيرة: يا بنتي أدرك ما تمرين به من المحبة لشخص آخر يفوقني أصلًا وغنى، لكن أطلب منك طلبًا يستغرق مدة ليست بالطويلة، فمن العيب لي والأسى أن أطلقك في مدة وجيزة، وأقول امنحيني أربعة أشهر تبرر فكرة الطلاق، أدرك يا بنيتي ما تشعرين به من قلق ومحبة لشخص آخر لكن سمعتي سينالها الكثير من الازدراء ويلحق بها سلبيات عديدة ولا أرغب في أن أصبح حكاية هزء تلوكها الألسن وخصوصًا بهذه السن.
تأثرت بحكايته تلك، لكنها قامت بمفاجأته عندما قالت بوضوح تام: هذا الجسد لن يناله سوى من أحببت. ران الصمت عليهما.
كان يمتلك (زرعًا صغيرًا) وبيته الذي يسكنه، ودكان حدادة، وطاحونة تدر عليه مبلغًا لا بأس به.
كانت تذهب إلى الطاحونة مرة واحدة في الأسبوع، وبعد شهرين ذهلت عندما رأته يعمل هناك وكأنها تراه للمرة الأولى في حياتها، احمر وجهها وارتبكت، همست بصوت منخفض: بشرني عنك، ابتسم قائلًا: ها أنا أمامك اشتقت لك كثيرًا، خرجت قبل أن يراها أحد، أخذ الفرح يحملها وكأن طائرًا يعلو بها فوق الحقول والسبل متجهة لمنزل زوجها محاولة ألا يعلم بذلك أحد، حين دخلت منزل زوجها حاولت أن تخفي فرحها احترامًا له، حين دخل لبيته ورأى وجهها الذي ازداد نضارة قال لها بهدوءه المعتاد: وجهك مليء بالفرح أو أنا مخطئ؟
دخلت غرفتها وشعور يلازمها بالفرح أغمضت عينيها على صورته واستعادت تلك اللحظة عندما رفع صوته بالغناء يحلم بأن تكون من نصيبه، نامت وهي تحلم به.
تمر الأيام بطيئة عليها وعلى الزوج الذي يقلب الأمور ويدرك في دخيلة نفسه القرار الذي اتفقا عليه منذ شهرين، فاجأت الحبيب ذات مرة بجلب (عريكة البر والسمن والعسل) داخل كيس القمح في آنية صغيرة محكمة الأغلاق، ابتسم قائلًا: أشهد بالله أنك (خبلة)!!!
ساورها فرح لم تستطع أن تعبر عنه يملأ جوانحها يضيء لها المكان وشعرت بأن هناك ما يستحق الحياة، بدأت تزهر من جديد، تذكرت صويحباتها ورحلة الحطب وتذكرته وهو يغني وتذكرت منزلها والدفء الذي يحيطها من أمها وأبيها، تذكرت العجوز التي تملأ الوطن بهجة وفرحًا، تذكرت مغامراتها التي لم تحدث، لكنها مليئة بالخيال المضحك من قبلها تخترع الحكاية من أساطير الجن وقصص القدماء مليئة بالتناقض عندما ترويها مرة أخرى.
تصر أن قصتها هذه المرة جديدة وهي قد سردتها كثيرًا في السابق.
كان زوجها يحاول التنصل من هذا الزواج الذي لم يتم بعد أن صارحته بمنتهى الوضوح أنها لن ترتبط أبدًا بأي أحد سوى ذلك الإنسان الذي تحبه ولن ترغب في أي شخص غيره.
يحادث نفسه: كيف أقنع الآخرين بذلك ولم يمر زمن يبرر هذا الطلاق السريع إن حدث، بعد أربعة أشهر من الحياة الرتيبة والملل الذي ينتابها من حين لآخر.
قال لها زوجها: يابنت الحلال أظن أن زواجنا هذا لم يكتب له النجاح، غدًا سنذهب إلى بيتكم وأخبره انفصالنا.
حاولت أن تكتم فرحها احترامًا له وتقديرًا له وهو الذي لم يكسر خاطرها أبدًا.
لم تنم تلك الليلة في انتظار سفرها للأهل الذين تحبهم والقرية التي تعشقها، وحبيب عمرها السابق والمستمر.
رافقها زوجها لقريتها وحين دخل البيت واجه الأب الحزين وقال: ربي ما كتب هذه الزيجة وهي لم تقصر معي، لكن قدر ومكتوب، رد عليه الأب: مرحبًا بك ألف ونعرف أنك حافظت على ابنتنا وقدرتها.
هذه ورقة طلاقها، مد بها لأبيها وأما أنا تعقبني العافية والستر للجميع حاول أن ينهض لكن الأب قال: والله ما تذهب حتى تأخذ كرامتك وواجبك.
تجمع أهل القرية ونائب القريتين في منزل الأب، وتناولوا واجب الضيف
حاول الآخرون استضافته لكنه وبكل أدب قدَّم اعتذاره للجميع، في اليوم التالي غادر قريته وحيدًا، وحزينًا.
في داخلها أحست بنفس شعور زوجها السابق، لم يرفع صوته عليها لمدة شهور أربعة، لم يكدر خاطرها بكلمة أو تصرف، عرف أنها تحب شخصًا آخر يشاركها أحلامها ومستقبلها، على رغم الفارق الأسري بينهما، الحبيب وقع في مشكلة مع عائلته، فقد رفضت الفكرة من أساسها جملة وتفصيلًا، لتباين المستوى بين العائلتين، حاول إقناع والده وعائلته دون جدوى، الأيام تمر وحزن شفيف يتضح على وجهيهما التقاليد صارمة، ولا تهتم بالعاطفة التي بينهما، لم يجد ملجأً سوى نائب القريتين الذي يقدره كل السكان ويكنون له الاحترام والتقدير، زاره صبيحة يوم الإثنين وهو يوم السوق للقريتين وما جاورهما، قبل رأسه ورحب به الشيخ كثيرًا فهو يحبه ويقدره، ويعرف تمام المعرفة أنه جاء ليساعده في تحقيق رغبته بإتمام الزواج على رغم معارضة والده وعناده في هذا الشأن.
كان أهل القريتين يأنسون له ويحبونه لخفة ظله وشجاعته ووسامته، على رغم كسله الشديد تجاه زرعه، فهو لا يحب الزراعة وشؤونها، كانت أمنيته الوحيدة امتلاك سيارة بين القرى المختلفة ويسمع أحاديث الناس وهمومهم المختلفة، الحلم لم يتحقق.
ظل مدة طويلة يذهب للنائب الذي قال له: والدك لا يغير رأيه وقد قلت له أكثر من مرة لكنه لم يقتنع وفي رأيي أنه لن يقتنع، تعرفه أكثر مني، ونصيحتي لك: عدم الاستعجال والزمن كفيل بتغيير الناس والأفكار، راهن يا بني على الزمن كما قلت لك.
هز الشاب رأسه دليل الموافقة، لكنه خرج من بيت النائب مكسور الخاطر، ظل في منزله طيلة أسبوعين يفكر في هذه التقاليد البالية التي ورثها أبًا عن جد ولم يجد لها تفسيرًا أو مبررًا.
ذات يوم خرج من عزلته، قابلها في الغابة القريبة، لم تكن كعادتها مبتسمة لكنها حتى في غضبها تملك جمالها الخاص، وهو في تلك اللحظة يخطف الحزن ملامح وجهه، لم يرفع صوته بالغناء المبهج كالمعتاد وكانت ترسم ملامح الألم والغضب والصدود وكأنها تشاهده للمرة الأولى.
حملت حطبها فوق ظهرها متجهة نحو القرية رفقة صويحباتها في صمت وكأنها فقدت عزيزًا عليها، هو أخذ طريقًا مختلفة صوب قريته محاطًا بالحزن والغضب في آن واحد.
ذهب إلى بيته مليئًا بالحزن والضياع وحب يأسره، والتقاليد تفرق بينهما، لم تكن تشعر منذ أن عرفت الحياة أنها الأدنى، بل كانت تفتخر أنها صانعة وطرف، لكنها جزء من هذه القبيلة كيف اعترفت بمواطنتها ولم تعترف بصنعتها التي كانت لها ولذويها سبة ولها ولأهلها رزقًا متاحًا، ولم يستغن الطرف الآخر الأصيل عن الحاجة لخدماتنا في كل وقت أي تناقض هذا الذي يحدث؟
وصلت هذه المقولة لكل الناس في القرية والقرى المجاورة وكأنها فتحت جرحًا آثر الناس عدم مناقشته وكأنه جرح اندمل لكنه لم ولن تمحوه الذاكرة والأيام.
في حالة صفاء ذهني قرر العاشق أن يغير من طبيعة الكسل والخمول التي عرفه الناس بها على رغم ما يمتلكه من حقول، لكن كل ذلك لم يغيِّب موزة من خاطره وتفكيره، ووالده لا يزال يحمل فكرة الأصل والطرف، وهو يدرك تمام الإدراك بأن نائب القبيلة هو الوحيد الذي لديه القدرة على إقناع أبيه، الذي قال له مرة أثبت لي أنك يمكن أن ترفع رأسي وتعمل مثل الآخرين في حقولهم دون شكوى أو كسل.
كان كلام والده يشبه التحدي واختبار القدرات لديه، نفض غبار الكسل وقصد حقله والبئر المجاورة، أثبت للجميع قدرته، بدأ الأب يعجب به شيئًا فشيئًا ويسمع كلام أهل القرية وهم لا يصدقون كيف خرج إلى الشمس والحقول وثمار الذرة ويشارك حماة الحقول لصد الطيور التي تشاركهم الحصاد.
عبرت عدة شهور وتغيرت فكرة والده عن ذي قبل، وبدا يمدحه في كل مناسبة مفتخرًا به، ومتحاشيًا ذكر موز ريدة، وكأن الأب والابن ينتظران اللحظة المناسبة لطرحه مرة أخرى، لا سيما من قبل الابن العاشق، هل يذهب لنائب القبيلة الذي يشعره دائمًا بالود، من جانب آخر لا يرغب في تشويه الصورة التي يفتخر بها والده لكن الموضوع في نظره ليس إلا عادة مقيتة بدأ بها الآباء وتبناها الأبناء بغباء ورضي بها الطرف الآخر على رغم تقديم خدمة لا يتقنها الذين ينعتون أنفسهم بالقوى العليا في كيان القبيلة.
في طريقه لشراء بعض الحاجيات من السوق الأسبوعي، شاهد المرأة العجوز التي يحبها الجميع لخفة دمها، سلم عليها مقبلًا رأسها، ضحكت كعادتها قائلة له: دور لي بعل يا ولدي! ضحك من كل قلبه قائلًا: أبشري.
التفتت بخبث وقالت له: موز ريدة تسلم عليك!
الله يسلمك ويسلمها. لم يزد كلمة لمعرفته الكاملة أن هذه العجوز لا تحمل سرًّا، فجأة لم تكن في الحسبان مرقت موز ريدة، ألقت عليه السلام، أدهشته ولم يتمكن من الجواب سحبت العجوز ودخلا للسوق وهو في ذهوله، لم يبرح مكانه وغزت الذكريات خاطره، بدأت النار تشتعل في خاطره وأعادت له وهج محبتها قرر في اليوم التالي الذهاب لنائب القرية في محاولة أخيرة للتوسط لدى والده وإقناعه بقبول الفكرة المرفوضة من قبله جملة وتفصيلًا.
راهن الشاب العاشق على تقدير والده لنائب القرية الذي يحبه كل الناس ويجمعون على نظافة قلبه ومقاصده، ذهب إليه وكان خارج منزله يتخذ من مبنى بالحجر مفروشًا ليقابل من يطلب منه معونة أو يعرض عليه شكوى.
فرح الشاب العاشق حين شاهده بمفرده والنائب انفرجت أساريره ورحب به وأخذ يمازحه: مرحبًا ألوف يا فاتن الصبايا.
اغتصب ابتسامة، كان بحاجة ماسة لوساطته وعند من؟ عند أبيه الذي يؤمن بالعراقة في كل شيء ولا يهمه الآخر على الإطلاق.
رحب به النائب الذي لا يكره أحدًا والمحبوب من الجميع لحكمته وكرمه.
دعاه لتناول وجبة الغداء برفقته وكان الشاب يحاول الفكاك من تلك الدعوة لكنه فشل في ذلك، بعد الغداء سأله النائب عن أبيه وهل ما زال مصرًّا على فكرة عدم الزواج من هذه الأسرة الطيبة؟
قال الفتى بغصة: نعم لا يزال مصرًّا ولن يقنعه سواك، صمت طويلًا في انتظار إجابة من نائب القرية: ابتعد قليلًا إلى المدينة المجاورة، لمدة أسبوعين أو ثلاثة، لكي أحاول زحزحته عن موقفه.
تذكر صديقًا أعزب في المدينة المجاورة، استأذن من والده، قبل رأس والدته، انتظر السيارة الوحيدة وخرج من قريته وخاطره مشغول بتذكر (موزة) طيلة الطريق، وصل وابتلعته المدينة.
مر عليه أسبوع كامل في المدينة التي تشوّه الغرباء، تكرههم، صديقه هدَّأ خاطره، المدن لا تكره الغرباء لكن لا تعترف بهم يا صديقي ولا تعرفهم.
في القرية يعرف الناس بعضهم بعضًا، تاريخ كل عائلة ومزاجهم وعاداتهم يحفظون أسماء حقولهم آبارهم وديانها، جبالهم وما ينبت بها من حشائش وأشجار، ولذا تنشأ المحبة.
مكث في المدينة شهرًا كاملًا ولم يعرف سوى صديقه وبعض صحبته الذين فقدوا فيها براءة القرية ولم يلبسوا قناع المدينة، لكن هاجس موزة لم يفارقه أبدًا.
ها هو يطل على حقول القرية وشعور بالأمان يهدئ خاطره، دخل لقريته إلا أن قلبه يحوم حول القرية الأخرى، قبل رأس والده ووالدته شعر بدفء البيت وعينا والدته تلاحق تعابير وجهه وهو يحدثهم عن المدينة القاسية.
قالت له والدته: صنعت لك العريكة التي تحبها مغطاة بالسمن والعسل ابتسم. الله يحفظك يا بنت الشايب.
فجأة وإذا بالعجوز التي يحبها الجميع تطرق الباب، وحين دخلت سلمت على الأم والأب، قالت: لا تأكلوا العريكة أرغب في مشاركتكم، رحب بها الأب والأم، غمزت للشاب الذي أدرك أن هناك شيئًا ما.
رافقها إلى الباب (الطارف) قالت له: موزة ترقبك بعد يومين في (الطور) القريب، شكرها: أنت عجوز الحظ والفرح، ضحكت وانحدرت لقريتها وهي تبتسم.
كان يحسب هذين اليومين دهرًا، بدأ يحسب الساعات والدقائق في انتظار الموعد.
صعد الجبل قاصدًا (الطور) الذي يمتلئ بالأشجار، هناك وجدها ورفيقاتها اللاتي انسحبن من المشهد تاركين لهما الحرية المطلقة، لم يتفوه بكلمة، لكنه لم ينقطع عن النظر لوجهها الجميل، أشاحت بوجهها قليلًا وقالت: لماذا لا تبوح بما يعتمل في داخلك؟ ابتلع ريقه أكثر من مرة ولم يجب!
هيا يا بنات، نادت بصوت مرتفع وغادروا (الطور) ولم تلتفت له أو تودعه كما اعتادت في كل مرة يلتقيان.
شعر بالانكسار والهزيمة، سار ببطء شديد نحو قريته، دخل بيته ومكث ثلاثة أيام لا يأكل إلا الخفيف ولا يكلم أحدًا.
انتبه والده لهذا التصرف، لم يعره انتباهًا، كان قاسي القلب والتقاليد زادته قسوة.
لم يسأل عنه، سألت الأم عنه مرارًا لم تجد سوى إجابة واحدة من الأب: ليكن رجلًا، وتصمت الأم كعادة الأم في القرى التي تكون الكلمة دائمًا للرجل.
إذا كان ولدك مصرًّا على الزواج من هذه الفتاة فلا أعرفه ولا يعرفني على الإطلاق، ذهب الأب لنائب القرية الذي يقدره كثيرًا، ولا يرد له طلبًا كان مجلسه عامرًا بالناس من أهل القرية وكل واحد منهم له قضية في دوائر الدولة وكان يضع ختمه على خطاباتهم وربما يضيف جملة من هنا أو من هناك حسب ما طلبه الرجل.
وحين انفض الجميع رحب الشيخ به وسأل عن أحواله، وبابتسامة عريضة قال: ما أخبار ولدك العاشق؟ انتظر الإجابة ولم تأت فغير الموضوع وسأل: ما أخبار (البلاد)؟
لا بأس لكن هذا الولد العاشق لو تحول عشقه للبلاد كان أثبت جدارته إلا أنه يذكرني بالمثل الشعبي (ما ينفع المسقى وفي الحوض غادي)، ابتسم النائب وقال: فيه البركة والخير لا تتركه (ينفر) منك، هذا زرعك الأول وأنت الخبير، أولادنا وبناتنا خلقوا لزمان مختلف عن زماننا ومثلك ما يعلم، هز رأسه مرارًا وكأنه يوافق على ذلك وعلى مضض، واحترامًا لرأي النائب وحكمته، أكمل النائب حديثه، قال له: أنا أطلب منك طلبًا وقل أبشر، قال الأب: أبشر وفي داخله يدرك أن ما يطلبه يكدر خاطره، لكن النائب كان أكثر ذكاءً، فقال له: هل أولادك لن يخرجوا من هذه القرى التي تتكرر في كل عام؟ المدينة هي المستقبل، قال الأب بحسرة واضحة: إن هاجروا للمدينة من يحل مكانهم ومن يزرع البلاد؟
ضحك النائب من كل قلبه وأردف: النساء، رد الوالد: مستحيل.
لم يدرك الوالد أن هناك فخًّا يعد له وقال له النائب: حرمك الله يحفظها ألا تساعدك في الحقل وتعشي الثيران جنبًا إلى جنب بقربك، وحين يبدأ الحصاد يأتي النساء ومعظمهم من المشرق يساعدونك في ذلك وبأجورهم، المرأة مماثلة لك في كل شيء.
حتى فكرة الأصل والطرف لا معنى لها على الإطلاق، كلٌّ بجهده، وقدرته، أليس كذلك؟ هز الأب رأسه بالموافقة على كلام النائب الذي أردف قائلًا: ما دمت مقتنعًا من كلامي، لم لا توافق على زواج ابنك من (موز ريدة) فهي وعائلتها من أطيب الناس وهم جزء منا ونحن جزء منهم، توكل على الله وأنا أبارك هذه الجيزة وتتبناها، لك ثلاثة أسابيع تفكر وتقرر وأنا في انتظارك وإجابتك.
مر شهر كامل والنائب قلق على صاحبه، استدعى ابنه وسأله، قال له الابن: ذهب لخالتي في خميس مشيط، وهي تشكو من المرض، قال النائب: الله يشفيها ويعيده بالسلامة لنا جميعًا.
كانت زوجته قد توفيت منذ مدة طويلة ونال الحزن منه ما نال الزوجة التي ذهبت بحبها وتركت له أبناءً ثلاثة أكبرهم العاشق الولهان.
كانت شقيقته تعاني المرض، ولكن الرب بعث لها امرأة مطلقة ولم يكتب لها أن ترزق بأطفال وكانت جميلة ولديها القدرة على أن تدخل كل قلب.
الأب مدد زيارته لأخته شهرًا جديدًا، قال لأخته: هذه المخلوقة تستاهل التكريم، أدركت أخته أنه بدأ يلمح لها عن فكرة الزواج دون أن يقول ذلك مباشرة، ابتسمت الأخت وقالت له: هل أعجبتك؟ قال: في ذمتي، نعم.
ضحكت الأخت، لم هذه الضحكة بلا سبب، قالها الشايب، ردت عليه: إلا وبسبب سوف يفاجئك كثيرًا، وما هذا السبب؟
قالت: هي طرف!
اندهش وردد: طرف؟ وكأنه لم يصدق ذلك، وتبدلت مشاعره وكظم غيظًا لا يستطيع البوح به، ولكن شقيقته تعرف دواخل أخيها وتعرف أنه مال إليها بل أحبها وذلك يتضح في عينيه عندما تدخل، وعندما تتحدث، نشأ صراع عجيب في خاطره، هل ينكر ما كان عليه سابقًا؟ سؤال يتردد في ذهنه، لكن محبته بدأت تمحو ما ورثه من الآباء والأجداد، الزمن كفيل بالمحو وكفيل بالإضافة وملاحقة الزمن الذي يفرض إيقاعه، لا مناص من تغير الناس وتغير مفاهيمهم، تعافت شقيقته، لكنه آثر البقاء أسبوعًا آخر، والأخت تكتم في صدرها ضحكة لا تجرؤ على أن تطلقها، لكنها كانت في منتهى السعادة.
في القرى البعيدة تنمو الحكايات وفي المدينة تخبو.
يشعر براحة لم يعتدها وعشق عاصف قد هجره منذ حين وكأنه أصبح ذكرى تستعاد في الأمسيات، حين يرى (شهرة) يشعر بحب جارف ويتردد متى ما فكر في أصلها، وهذه الفكرة أخذت في الاضمحلال شيئًا فشيئًا.
قالت له شقيقته: لقد تأخرت على حلالك وأولادك، ابتسم، الحلال هم الذين يعملون به، تجاوزوا مرحلة المراهقة وأنا أعتمد عليهم بعد الله.
عاودت الابتسام وقالت له: الحب (شغلة).
ضحك من كل قلبه، التفتت الأخت صوبه، وما رأيك في (موز ريدة)؟
مال لصمت طويل وقال: كنت مخطئًا بشأنها وعائلتها، نظرت إليه وقالت: يوم زواجك وزواج ولدك في يوم واحد، وغرقت في ضحك متواصل.