«إثراء» يعيد الاعتبار للغة العربية في أوساط الشباب ومتسابقون يدهشون الجمهور الغفير بجمالياتها
هل أعاد برنامج «أقرأ» الاعتبار للغة العربية في أوساط الشباب، فتيات وفتيانًا؟ فمن المعروف أن اللغة العربية تشهد حالًا من التدهور في أوساط هذه الشريحة العمرية؛ بسبب إقبالهم لساعات طويلة على التعامل مع وسائط التواصل الاجتماعي وما تزخر به من تطبيقات وبرامج، ليس للغة العربية فيها نصيب كبير، وهو ما جعل لغتهم اليومية مشوهة جراء إقحام مفردات ومصطلحات أجنبية. يستطيع حضور فعاليات برنامج «أقرأ» الإجابة بالتأكيد عن السؤال المطروح سالفًا، إذ حضرت اللغة العربية وفي أكثر مستوياتها عمقًا وجمالًا وجزالةً. وبدا الحضور كأنما يكتشف كم أن اللغة العربية جميلة فعلًا، وتنطوي على إمكانات تعبيرية هائلة، وأنها ليست صعبة ولا مستحيل الوقوف على أسرارها، والنهل من ينابيعها الغائرة في التاريخ والأرض والإنسان.
ولعل ما ميز فعاليات برنامج إثراء القراءة «أقرأ» التي ينظمها مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء» واستمرت يومين (26 و27 مايو)، ما أضفاه المشاركون في البرنامج من حيوية وتنافس ومناظرة وقراءة نصوص لفتت الأنظار، أكثر من أي فعالية أخرى جاءت على هامش الحدث الرئيس. المناظرة والمسابقة التي توجت بفوز العراقي زين العابدين المرشدي (جائزة لجنة التحكيم)، والمغربي سفيان البراق (جائزة الملتقى)، والسعودية بلقيس الصولان (جائزة الجمهور) كانت موضع اهتمام كبير وشهدت جمهورًا واسعًا، حيا طويلًا وصفق كثيرًا لتلك النصوص التي تلاها عن ظهر قلب المشاركون العشرة، ثمان فتيات وشابان، من السعودية وعدد من الدول العربية.
تضمنت فعاليات البرنامج مناظرة حول قرصنة الكتب، أضرارها من ناحية، وفوائدها من ناحية أخرى. وهو موضوع ينسجم مع برنامج إثراء القراءة. تناوب فريق الدفاع، عن حقوق الملكية الفكرية وعدم قرصنة الكتب، وفريق المعارضة، الذي يؤيد القرصنة، على تقديم الحجج لتدعيم موقف كل منهم، ليفوز في خاتمة المناظرة الفريق الذي يعارض منع قرصة الكتب، مؤكدًا ضرورة إتاحة المعرفة للجميع كحق إنساني يتفوق على القانون. في هذه الفعالية كان واضحًا قدرة الشبان والشابات على الدفاع عن رؤيتهم للقضية المطروحة، وبما تحلوا به من قدرة على الحجاج واستعداد ذهني وسرعة بديهة وقدر لافت من المعلومات التي استند إليها كل فريق، من الفريقين، إضافة إلى معرفة لا بأس بها بالقانون. حتى لغة الجسد كانت حاضرة بقوة، عند تصدي كل فريق للمهمة التي أوكلت له في الدفاع أو المعارضة.
أما المسابقة وهي الحدث الرئيس، وجاءت بعد عدد من المراحل قطعها المشاركون وصولًا إلى عدد محدود من الأسماء، فقد استحوذت على اهتمام كبير إذ غصت القاعة بالحضور عدا الذين تابعوها وقوفًا، وستضج قاعة المسرح الكبيرة في مركز «إثراء»، بين لحظة قصيرة وأخرى، بالتصفيق والهتاف والحماسة لهذه المشاركة أو ذلك المشارك. نجوم القراءة هؤلاء كانوا نجومًا فعلًا، وأضفوا شيئًا من النجومية على أعضاء لجنة التحكيم، وهم الدكتور زياد الدريس، والدكتورة جوخة الحارثي، والدكتورة هنادا طه.
العودة إلى الينابيع الصافية للغة
وعلى الرغم من صغر سن المشاركين، أي أنهم ينتمون إلى جيل التقنية، فإن لغة التقنية ستغيب عن نصوصهم، وبدلًا من ذلك حضرت جزالة اللغة وجماليتها، والعودة إلى ينابيعها الصافية. فلا مفردات إنجليزية أو من لغات أجنبية، ولا مصطلحات وسائل التواصل الاجتماعي، ستتخلل نصوصهم. أصغى الجمهور إلى نصوص جميلة وبليغة، تتعامل بتبجيل مع اللغة وتعبيراتها، نصوص تميزت بمجازات مدهشة، وصور مذهلة. قاربت النصوص مواضيع مهمة، مثل: وباء كورونا، ومأساة هابيل، ومفهوم البيت، والقهوة وتحدياتها العالمية، منذ اكتشفت حتى صارت سلعة تتصارع عليها كبريات الدول، إضافة إلى موضوع الطفولة، وأهمية الكلمة. أفكار ومواضيع تشتبك مع الفرد وهمومه اليومية والتاريخية والثقافية والوجودية، من دون أن تغفل الإلحاح على مسألة الهوية. وكانت الخلفيات البصرية المصاحبة لتلاوة النصوص لافتة بتعبيريتها ورمزيتها ومحاولة تجسيدها لبعض ملامح النص وهواجسه الجمالية والموضوعية، بعيدًا من أي إبهار بصري غير مدروس.
كانت المسابقة والمناظرة أيضًا التي شارك فيها الشباب حديث المثقفين والمهتمين في جلساتهم الجانبية، وأكدت حجم ولع الشباب بالقراءة والتحصيل المعرفي، وعكست مدى قدرة هؤلاء على النقاش الهادئ وتفنيد ملاحظات لجنة التحكيم بقدر ملحوظ من الثقة التي تسندها معرفة جيدة. كشفت نصوص الشباب عن القراءات المتنوعة التي تشمل حقولًا ومجالات عديدة. نصوص عميقة وذكية، لافتة بالزوايا التي انطلقت منها لمعاينة مواضيع في غاية الجدة والطرافة. في كثير من المواقف بدا فيها هؤلاء الشباب يتخطون أدباء مكرسين، من خلال ذلك الاستعداد الذهني، والخوض في نقاش عميق وهادئ حول مسائل لا تخلو من تعقيد، مسائل تخص أسرار الكتابة، وتوظيف المعلومة، أو تطويع تقنيات فنون عديدة في نص واحد… ستجد القصة، والقصيدة بأنواعها، والوثيقة والسرد السينمائي، كل ذلك موجود في نص واحد. إضافة إلى ذلك الحفظ الذي يلفت الانتباه، من دون خطأ واحد، أو نسيان، أو تعثر. كأنما تأتي النصوص على أفواههم عفوًا، وكأن الأمر لا يحتاج تكبد مشقة استدعائها من الذاكرة.
دور مفصلي في حياة المشاركين
في شهادات المشاركين التي كانت تبث قبل تلاوة كل مشارك لنصه، أكد المشاركون جميعهم الدورَ المفصليَّ الذي لعبه برنامج أقرأ في حياتهم كلها، وليس فقط في مسار تحصيلهم الثقافي والمعرفي من خلال القراءة. إذ بات كل مشارك ينظر إلى نفسه في ضوء مرحلتين، ما قبل انخراطه في البرنامج وما بعده. ولا شك في بذل القائمين على البرنامج جهودًا جبارة في استخلاص نخبة المشاركين من آلاف المتقدمين، ثم العمل على صقلهم في مخيم استمر أسبوعين، عبر برنامج مكثف، شارك فيه بعض الكتاب السعوديين والعرب.
الأمر اللافت أيضًا، تلك الروح الرائعة التي تحلى بها المشاركون، بين بعضهم وبعض، وخصوصًا عند إعلان الفائزين، فكان من المناظر المدهشة رؤية المتنافسين يهنئون بعضهم بحرارة، كما لو أن فوز أحدهم هو فوز للآخر. ومن المشاهد المؤثرة حضور بعض أفراد الأسرة لعدد من المشاركين، لمؤازرتهم والوقوف إلى جانبهم، في لحظاتهم الصعبة.
شهد البرنامج تنظيم عدد من الندوات والجلسات الحوارية التي شارك فيها عدد من الكتاب السعوديين والعرب، وفي مقدمتهم الشاعر والمفكر أدونيس، والشاعر قاسم حداد، والناقد محمد العباس، والدكتور علي زعلة، والقاص علي المجنوني، والروائي والقاص طاهر الزهراني، والإعلامي أحمد طابعجي، والروائي أمير تاج السر، الذي شهد توقيعه لروايته الجديدة حضورًا لافتًا، بعض هذا الحضور جاء من مدن بعيدة نوعًا ما؛ كي يحظى بنسخة من توقيعه، ومع ذلك كانت النسخ قد نفدت سريعًا، شأن بقية الكتاب؛ إذ إن إثراء اشترى عددًا محدودًا من النسخ ووقعها الكتاب مجانًا للقراء، وهذه بادرة من «إثراء» تستحق التنويه. ومن الكتاب الذين وقعوا أيضًا الدكتور حمزة المزيني، الذي تحدث في حفل توقيعه لسيرته الذاتية الصادرة في طبعة جديدة عن محطات من حياته، كما توقف عند أمه التي لم تدخر جهدًا لتربيته وإخوته، ودفعهم إلى التحصيل العلمي، متطرقًا إلى اكتساح الإخوان المسلمين لجامعة الملك سعود، خلال دراسته الجامعية، وأنه قابل محاولاتهم لاستقطابه بالرفض. المزيني توقف أيضًا عند قضيته مع أحد الأكاديميين في جامعة الملك سعود، وما ترتب على هذه القضية من حكم قضائي عليه بالسجن والجلد، غير أن الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز أبطل هذا الحكم، وأعاد القضية إلى الجهة المعنية وليس المحاكم. وكذلك وقعت الكاتبة إنعام كجه جي والكاتب واسيني الأعرج، والكاتب العماني الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية زاهر القاسمي. ومن المشاركين أيضًا، الإعلامي نجم عبدالكريم، والشاعر فاروق جويدة، والإعلامية بروين حبيب، والشاعر شوقي بزيع، والكاتبة شهد الراوي، والكاتبة بشرى خلفان، والمترجمة أزهار أحمد، والكاتبة أميرة غنيم، والإعلامية صفية الشحي. وقدم البرنامج الختامي الإعلامي محمد أبو عبيد.
اللغة جوهر الذات
إلى ذلك، حضر البرنامج الختامي وزير التعليم يوسف البنيان ورئيس شركة أرامكو المهندس أمين الناصر، إضافة إلى عدد من الشخصيات والمثقفين والمفكرين والإعلاميين. شهدت الحفلة الختامية فقرات غنائية باللغة الفصحى للفنانة فايا يونان، وكلمة للشاعر والمفكر أدونيس الذي أكد أن «أقرأ» مفتاح في الرؤية القرآنية للإنسان والحياة لما لها من أثر خلّاق، ولا سيما أن المعرفة سلطة وأما الكتابة شرط أساسي لصحة القراءة، مؤكدًا أهمية إتقان اللغة الأم للعرب للخوض في ذواتهم باعتبار اللغة جوهر الذات، قائلًا «لن نجد شاعرًا في معظم اللغات الحيّة يخطئ في لغته التي هي جوهره، كما نجد في لغتنا العربية، وأما الكتب المترجمة وبخاصة الفلسفية والشعرية فإن من أكثر الضرورات إلحاحًا أن يُنظر في أمرها على نحوٍ شامل»، منوهًا إلى أن القراءة مسؤولية الجميع بوصفها فنًّا وعلمًا تجمع الإنسان بالعالم، في الوقت الذي يكشف التاريخ الثقافي بأن مسألة القراءة لم تشغل العرب معرفيًّا وفنّيًّا كما شغلتهم الكتابة لأسباب عدة. أدونيس، في كلمته، وصف حال العالم العربي مع القراءة بأنه «يشكو من أزمة في الإبداع الثقافي كتابةً وقراءةً»، مختتمًا كلمته بتوجيه التحية لمركز «إثراء» آملًا أن يزداد «أقرأ» تأصلًا وانفتاحًا لتأسيس قراءة عربية جديدة للإنسان والحياة والكون.
125 ألف متقدم
من جانبه، أعرب مدير مركز إثراء عبدالله خالد الراشد عن فخره بنتائج المسابقة التي امتدت عربيًّا، مشيرًا إلى أن مسابقة «أقرأ» ليست مسابقة تنافسية في الاطلاع وحسب؛ فالمركز يسعى لكي تكون المسابقة علامة فارقة في الفكر العربي، لتنمي ملكة التفكير النقدي، وينطلق فيها عنان تحدّي المألوف، ليُحتفى بالقراءة كأولوية مجتمعية، يتجه إليها الشباب بفكر بنّاء مُنتج، فلم يُفتح باب المشاركة للدول العربية كافة، بحسب الراشد، إلا من أجل هذا الهدف، كجزء من التحول الثقافي الذي تشهده المملكة العربية السعودية، وكجزء من اعتزازنا بلغتنا ودورنا في الحفاظ على هويّتنا العربيّة جميعًا.
وأوضح أن «النسخة الفارقة في السنة العاشرة تحديدًا، أحدثت نقلة نوعية للبرنامج الذي بدأ كمسابقة وطنية ليصبح برنامجًا عربيًّا صُنع بأيدٍ سعودية تحت سقف إثراء، في تناغم يشهد عليه عددُ المشاركاتِ الكبيرة التي وردت من شبابنا العربي الذي تجاوز أكثر من 125 ألف قارئ وقارئة، باتوا يمثلون جزءًا مهمًّا من هذه المنظومة المعرفية التي تسعى إلى صناعة جيل قارئ في عصر الانفجار المعرفي الهائل وثورة المعلومات المتسارعة».
أول بحث عربي حول الاتزان الرقمي
وكشف الراشد سعي مركز إثراء للعمل على بحث يعد الأول من نوعه في العالم العربي والأكبر على مستوى العالم في مجال الاتزان الرقمي، بتوجيه من رئيس شركة أرامكو المهندس أمين الناصر، الذي يبحث مدى تأثير التقنية من وسائل التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي وغيرها في العقل البشري، والحياة الاجتماعية، وزعزعة الارتباط بمصادر المعرفة والفكر.
حفْز المواهب ودعم الأوساط الشبابية
من جانب آخر، وقّع مركز «إثراء»، مذكرة تفاهم مع وزارة التعليم على هامش الحفل الختامي لبرنامج «أقرأ»، مشتملة على البرامج التي يقيمها المركز سنويًّا وهي: فورمولا 1 للمدارس، أقرأ، إضافةً إلى برنامج سينك «الاتزان الرقمي». وتأتي المذكرة انطلاقًا من الدور التكاملي بين الجانبين للعمل على تفعيل العديد من المبادرات والبرامج والأنشطة داخل البيئة التعليمية، بما ينسجم مع رسالة «إثراء» في حفْز المواهب ودعم الأوساط الشبابية بالمعرفة ومختلف أنواع العلوم؛ ليكونوا نواة المستقبل عبر تنمية مواهبهم وقدراتهم العلمية والتعليمية بطرق إبداعية ومسارات ابتكارية.
وتضمّنت مذكرة التفاهم إسهام الجانبين في رفع مستوى التنافسية والوعي بالعلوم والتقنية وأسس الهندسة، وتنمية حس القراءة ونشرها؛ وهو ما يعزز من جوانب الإنتاج الثقافي وغزارته محليًّا ودوليًّا، إلى جانب العمل على تحقيق الفائدة القصوى من وسائل التقنية، وإيجاد حلول مقنّنة للحياة الرقمية عبر العديد من الأبحاث والدراسات التي تتطلع إلى قياس مستوى الوعي للأفراد والمجتمع. ونصّت المذكرة على التنسيق بين الجانبين في العديد من البرامج منها الفورمولا 1 للمدارس، الذي يقيمه «إثراء» سنويًّا ويستهدف شريحة من الطلبة الموهوبين؛ لتصميم سيارة تحاكي سيارة الفورمولا 1 بتنفيذ برنامج تدريبي مكثّف لطلبة المدارس الحكومية والأهلية، وتوفير مقرات تدريب في خمسة مدن (الرياض، المدينة المنورة، الأحساء، الظهران، جدة) كمرحلة أولى لتصفيات بطولة العام الحالي، على أن يعمل الجانبين على زيادة عدد المدن في الأعوام المقبلة، إلى جانب ترشيح معلمين ومعلمات لمواد العلوم، والفيزياء، والحاسب الآلي، والرياضيات؛ لتدريبهم على المنهج التعليمي الخاص بالفورمولا 1 للمدارس، وذلك للمشاركة في المسابقة العالمية التي تنظم سنويًّا بعد الانتهاء من التصفيات التي تقام على مستوى المملكة. وجرت مراسم توقيع الاتفاقية في مكتبة مركز «إثراء» الذي مثّله مدير المركز عبدالله بن خالد الراشد، فيما مثّل وزارة التعليم وكيل البرامج التعليمية الدكتور محمد بن سعود المقبل.