الرواية العربية المعاصرة في الجزيرة العربية
لأن الرواية، في أي مكان، ترتكز على الكاتب والنص بقدر ما تتأثر بالنشر والقراءة، فإن هذه المقالة ستتناول ثلاث نقاط هي: أهمية حضور القارئ، ورواية «دائرة التوابل» للقاصة والروائية الإماراتية صالحة عبيد، وروايتي «خطف الحبيب» أو شهادتي ككاتب.
أهمية حضور القارئ
يكتسب أي سردٍ، قصة قصيرة أو رواية، حضوره على مائدة الحدث الثقافي، بانتقال النص من الكاتب إلى القارئ، وبهذا فإن أي سردٍ لا يُعمّد إلا بالقراءة، وعليه وجب التوقف عند القارئ والقراءة بوصفهما الرابط الأهم، الذي يجعل لنص الكاتب معنى وأهمية.
تختلف القراءة بين قارئ وآخر، ويمكن تقسيم القراء إلى ثلاث فئات: قارئ يقرأ للمتعة والتسلية، قارئ يقرأ بقصد التعلم والاستفادة، وقارئ يقرأ بقصد فحص عوالم النص والكتابة عنه نقديًّا أو بحثيًّا.
مع بدء قراءة النص تتشكّل العلاقة التفاعلية بين القارئ والنص، اعتمادًا على مراميه في قراءة النص؛ لذا فإن البحث والتنادي للتباحث في عالم «الرواية العربية المعاصرة في الجزيرة العربية»، وبقدر ما تتعلق بالكاتب والنص فهو يتعلق بالقارئ، ومن وأي فئة كان، مثلما يتعلق بسوق النشر. فلا يمكن النظر إلى الكاتب ونصه بمعزل عن القارئ وجمهور القراءة. وإذا كان كثير من المؤتمرات والندوات والأبحاث تخوض في ماهية الكاتب والنص وعالمهما في العصر الراهن، فإن هذه النظرة ستكون قاصرة ما لم تأخذ بحسبانها القارئ؛ فوحده صانع الحدث الأهم وهو الغائب الحاضر في قراءة وتقييم ونجاح وتسويق أي عمل، ولا يصح تجاهله.
ينظر الباحثون والكتّاب العرب إلى سوق الكتاب في الغرب بمبيعاتها «المليونية» بإعجاب وحسرة كبيرين. وتُقدَّم المئات من الدراسات والأبحاث حول ذلك. ويتم الحديث حول الكاتب والكتاب، والنشر والناشر، والجوائز الأدبية، وسقوف الحرية في الأوطان العربية، وحرية تنقل الكتاب وأسعاره في معارض الكتب، ويصرّح جميع الناشرين العرب بأن: «الكتاب في الغرب صناعة!»، دون أي توقف واجب أمام القارئ، ودراسة طبيعة سوق القراءة العربية، ودون أي سعي ملحوظ من الناشر لتسويق كاتبه وكتابه! ففي الغرب الناشر هو المسوّق الأول والأهم للكتاب، وهو من يحمل الكاتب إلى رحلات تسويقية في كثير من البلدان والجامعات والمعاهد والبلديات والمكتبات ونوادي القراءة، وبما يضمن عقد صلة تفاعل بين الكاتب وجمهور القراءة، ومن ثم المساهمة الفاعلة في تسويق الكتاب.
صحيح أن شعوبًا عربية كثيرة تعاني الويلات في تأمين عيش يومها، وصحيح أن الحديث عن الكتاب مع منْ لا يجد قوت يومه يأتي بوصفه بطرًا، وفي بعض البلدان يكون من الكماليات، وبخاصة في وجود مواقع التواصل الاجتماعية، ومحركات البحث، وشبكات التواصل الاجتماعي، وتضخّم الأسعار وتدني دخل الفرد العربي. ومجمل هذا يشير باعتقادي إلى ضرورة أن يُعاد النظر في الإعداد والتخطيط للمؤتمرات والندوات والأبحاث الخاصة بالكاتب والكتاب والنقد والأسلوبية والقراءة، بحيث يكون البحث والدراسة حول القارئ وسوق النشر حاضرين دائمًا. وهذا لا يعني بتاتًا جعل وعي أو مزاج القارئ المتحكم الأوحد والمؤثِّر على النص وسوق الكتاب، لكن يعني ضرورة وجود هيئات قراءة متخصصة تختار الأصلح أدبيًّا وفنيًّا للنشر، وكذلك محرر أدبي متمرس ومتخصص، لدى كل دار نشر، يتولى قراءة النصوص الإبداعية المختارة، وتكون له عين ثاقبة على مُجريات سوق الكتاب: نصًّا وإخراجًا وغلافًا وتسويقًا. والخروج بعالم النشر من رؤى وقناعات ومقولات بائسة ما عادت تصلح لوقتنا الراهن. فالواقع أظهر بما لا يدع مجالًا للشك أن الكتاب الباقي عبر القرون وحده ذاك الذي يوثّق للواقع ويخوض في القضايا الإنسانية والأفكار والمشاعر والمرامي الإنسانية، فوحدها المشترك الباقي بقاء البشرية.
الواقع الحالي يستوجب أن يكون هناك صناعة وسوق للكتاب العربي. ولأن السوق تعتمد على السلعة والبائع والمشتري. وعليه لا تستقيم هذه السوق ودراساتها المستقبلية دون مراعاة مستوى حالة القارئ الأكاديمية والاجتماعية والاقتصادية، والنهوض بذائقة القراءة، وجعلها ممارسة اجتماعية مهمة. وهذا ما سيُعلي من شأن الكاتب والكتاب. وللأسف فإن الدراسات المتخصصة والمعمّقة والأبحاث والإحصائيات حول القارئ العربي، وطبيعة أكثر الكتب مبيعًا، وشرائح القراء، ومقارنات مبيعات معارض الكتب، تكاد تكون مُنعدمة.
إن على الكاتب تقديم نصه المبدع للنشر والطباعة بأفضل هيئة تتوفر على العناصر الفنية الضرورية واللازمة للجنس الأدبي. وعلى الناشر ضرورة مراعاة مادة الكتاب، وعدم الطبع والنشر سعيًا وراء ربح يخلط سوق الكتاب العربي، ويدمّر مواهب الشباب بجريرة أعمال هابطة تلاقي ترويجًا يجعل من كتّابها نجومًا دون استحقاقهم لذلك.
القراءة ممارسة إنسانية ومتعة وتسلية تُعين الإنسان على فهم الواقع واحتمال مصاعبه، وكشف خبايا مختلف قضاياه. وللكتابة والقراءة وحدهما دخول مناطق ملتبسة، لا يجرؤ الواقع المعيشي على دخولها والتجوال بين جنباتها، ومن ثم يتسنى للكتابة والقراءة اكتشاف واستخراج كل ما عجز الواقع المعيشي عن النطق به.
البصمة الأسلوبية
تبدأ رواية «دائرة التوابل» للقاصة والروائية الإماراتية صالحة عبيد (منشورات المتوسط)، بعبارة: «سقط الرأس». يُنظر إلى جملة البدء في الرواية بوصفها واحدة من أهم جمل الرواية؛ لكونها تشكّل اللقاء الأول والانطباع الأول بين القارئ والنص. فهي جملة دالة، تحمل من الإيحاء الشيء الكثير لإجمالي مقولات الرواية. ومن هنا فإن التوقف عند جملة البدء في رواية «دائرة التوابل» بوصفها جملة مفتاح تشير لمقولة الرواية ورسالتها بامتياز يظهر بشكل واضح «سقوط رأسٍ». فإذا ما أُخذ بالحسبان أن الرواية تناقش قضية حضور المرأة في المجتمع الإماراتي/العربي، فسيصبح للجملة دلالة مهمة، في الصعوبات التي تواجه المرأة في سبيل إثبات نفسها في مجتمع ذكوري، وكيف أن مكابداتها قد تنتهي «بسقوط رأسها» بشكل أو بآخر، وسواء كان هذا السقوط ماديًّا أو معنويًّا.
للخوض في تقنيات الكتابة وكشف البصمة الأسلوبية الدالة في سردية الكاتبة صالحة عبيد تتضح الخصائص الآتية: مع الصفحات الأولى للروية، يكتشف القارئ أن هناك ربطًا سعت الكاتبة إليه يتمثل في الموروث العربي، بحضور الغضب والثأر والنار والدم، ممثلًا بحياة ومقتل عبدالله بن المعتز، وبين حكاية الرواية التي تدور في الإمارات في عشرينيات القرن الماضي، حتى منتصف الثلاثينيات، مرورًا بانتشار مرض الجدري بين أهالي الإمارة، ووصولًا للحاضر.
البصمة الأسلوبية المهمة التي تميّز أسلوب صالحة عبيد، سواء في كتاباتها القصصية أو الروائية، هو أنها تؤمن بأن قراءة النص السردي هي علاقة بين القارئ والنص، وأن هذا يستوجب بذل القارئ لجهد وانتباه واجبين لكي يستطيع أن يظفر بحكاية النص ويعيش تشويقه بمتعة، وكأن القراءة لا تكتمل إلا باهتمام ووعي القارئ، ومشاركته في فك رموز النص الروائي. فهي لا تقدم حكايتها مجانًا، بل تطالب القارئ بأن يكون متوقد الذهن يقرأ بانتباه لتذوق مختلف مستويات النص.
أرى أن أهم بصمة يمكن أن تميّز أسلوب كاتب عن كاتب آخر هو «الراوي»؛ فالراوي هو بلا منازع أهم شخصيات أي عمل، مما يستوجب توقف المؤلف طويلًا أمام شخصية الراوي، والتمعن فيما إذا ما كان رجلًا أو امرأة، وسنه، ومستوى علمه ووعيه، وكذلك صلته بحوادث الرواية. فالواقع الإنساني، منذ عيش الإنسان الأول في الكهوف، يقول: لا يمكن أن يقصّ راوٍ حكايةً إن لم يكن قد شهدها أو علم عنها بأية وسيلة. ومن هنا يأتي التفريق بين: الراوي العليم، والراوي بصيغة ضمير المتكلم، والراوي بصيغة ضمير المخاطب. وكرأي شخصي أنا لا أحبّذ الكتابة بصيغة الراوي العليم، فمن أين لراوٍ أن يعلم كل شيء عن كل شيء! ومعظم كتابات المؤلفة صالحة عبيد تأتي بصيغة الراوي العليم.
الكاتبة صالحة عبيد، وفي واحدة من أهم خصائصها الأسلوبية، هي صوت حقيقي مدافع عن قضايا المرأة الإماراتية والعربية، خاصة، ورصدها للعيش والصعوبات التي تعانيها هذه المرأة. فبطلة الرواية تعيش محاطة ومرصودة بنظرة الرجال الدونية للمرأة منذ صغرها. فالرواية تقدم حكاياتها بحياكة شديدة الدقة وربما التعقيد. حيث التداخل بين الحاضر والماضي، وحيث النظرة الدونية التي تلاحق الفتاة/المرأة في جميع مراحل حياتها، وكيف أن الشابة الإماراتية الطموحة، لا تجد بدًّا من التضحية بمشاعرها، وقبول الزواج من رجل لا تحبه مقابل حريتها في التعلم ودراسة «الطب الشرعي» بعيدًا من الوطن في «أدنبرة». كما أنها أظهرت إيمانها بواقع تميّز المرأة الإماراتية العربية، قديمًا وحديثًا، ومحاولاتها الدائمة لفرض هذا التميّز في مجتمع رجالي، لا يسمح للمرأة بأخذ حضورها الإنساني الكبير، ويرى في ذلك زعزعة لمكانة الرجل، حتى إن بطلة الرواية، تلجأ في نهاية الرواية، بسبب من انكسارات روحها، لجدع أنف ابنتها الصغيرة؛ معتقدة أنها بذلك إنما تحميها من أي منازلة قد تجرّ عليها الحروب وتجور على حياتها.
مؤلفة رواية «دائرة التوابل» ترى في كفاح المرأة وجهًا مهمًّا لوجودها، وكأن هذا الوجود لا يستقيم إلا بوقوفها بوجه الصعاب وتحمل الآلام لإثبات تميّزها وقوتها. فـ«شمّا» بطلة الرواية سرعان ما تكتشف عنصر قوة في شخصيتها يتمثل في قدرتها على شم الروائح وتميزها، سواء الروائح التي تميّز كل جنس من التوابل، أو تلك الروائح الخفية التي تكوّن ملمحًا خفيًّا لكل إنسان. وهذا ما يجعل من وجود شمّا حضورًا ملموسًا في الأسرة ومحيطها، ويحوز بالتالي على اعتراف الجد، وبما يعني رجل الأسرة وفي بعدها الأكبر المجتمع: «يزداد قبح أنف شمّا، وتتأخر في اللحاق بقافلة الزواج، لكن، لا يبدو أن هذا امر يُنقص منها، فلها تميُّزها الخاص ورحلتها التي لا تُشبه فيها قريناتها». ص110
تؤكد الكاتبة صالحة عبيد، في أكثر من مشهد، المقارنة الظالمة التي تُعقد في الأسرة والمجتمع، قديمًا وحديثًا، بين البنت والولد، التي تأتي غالبًا لصالح الولد، حتى لو كان لا يحوز ما يميّزه. وهذا ما يجعل التمييز البغيض يحاصر البطلة طوال مسيرتها الصعبة.
لفك اشتباك مختلف أزمان الرواية، وبغية تقديم الأزمان المختلفة لحكاية الرواية، فلقد قسّمت المؤلفة روايتها سبعة عشر فصلًا، وعنونت كل فصل باسم الشخصية التي سيتناولها الراوي، ويكشف خبايا حياتها.
من خصائص كتابة صالحة أن تبقى مخلصة لمقولة وفكرة الرواية الرئيسة، وفي رواية «دائرة التوابل» اشتغلت على فكرة الرائحة، عبر مشاهد كثيرة شكلت الحيز الأكبر من الرواية، ودائمًا تأتي هذه الرائحة مقترنة بالعنف والقسوة، مما قد يدفع بعض القراء لاستذكار رواية «العطر» للكاتب الألماني «باترك زوسكيند». وبسبب تقسيمات الرواية، فليس هناك راوٍ واحد، بل هناك العديد من الرواة، وقد تكفّل كل راوٍ بتقديم حال وعوالم أبطاله بلسانه ووعيه.
أرى أنه لا يحق لكاتب أن يختصر ويشرح عوالم رواية حسب فهمة في أسطر قليلة؛ لذا ما يمكنني قوله هو أن صالحة عبيد، وعبر روايتها «دائرة التوابل»، قدمت حكاية إماراتية متقنة بسوية روائية عالية جدًّا. وتعرضت من خلالها لكثير من التراث الإماراتي داخل حدود الأسرة، واستطاعت ربط ذلك في أحداث موازية حدثت في أوقات سالفة من التاريخ العربي. كما أنها، وعلى امتداد الرواية، كشفت عن علاقة البنت الصغيرة بالولد، وعلاقة الفتاة بالشاب، والمرأة بالرجل، وكانت هذه العلاقة حاضرة عبر أكثر من مشهد. وكم تبدو تلك المشاهد دالة في قدرة الكاتبة على الغوص في مشاعر وأفكار أبطالها ومن ثم استنطاق أعمق مشاعرهم الإنسانية. وكما في مجموعتها القصصية الممتعة «خصلة بيضاء بشكل ضمني» كان للراوي العليم نصيب كبير في الرواية، بينما جاءت بعض فصول الرواية بصيغة ضمير المتكلم، وهذا ما جعل النص أقرب للقارئ.
«دائرة التوابل» رواية إماراتية عربية مكتوبة بلغة روائية متقنة، وهي مفتوحة على قراءات وتأويلات كثيرة، ومؤكد أن حضورًا كبيرًا ينتظرها.
تجربة نشر مختلفة
أرى أن المعادلة الأهم التي يحتكم إليها أي كاتب عند التفكير في نشر إصدار جديد هي إجابة السؤال التالي: ما الذي سيضيفه هذا الإصدار لرصيدي لدى القرّاء؟ فما هو مفترض أن كل إصدار لأي كاتب إنما يزيد من رصيده لدى القراءة، ويؤكد من حضوره ككاتب مبدع، وكصانع متميّز لمشاهد فنية تبزّ مشاهد الواقع، في قدرتها على الإتيان بما عجز الواقع عن الإتيان به. فالواقع مرتهن لقوانين وقيم قاسية ومستقرة، لا يسمح لأي فرد بكسرها. ووحده الفن، عبر المبدعين من المفكرين والكتّاب والفنانين، يستطيع كسر قوانين الواقع والمناداة بحيوات جميلة تغذي أحلام الإنسان.
إذا صحّ لي تناول تقنيات الكتابة وكشف البصمة الأسلوبية الدالة التي تميّز كتاباتي، بعد مشوار كتابي جاوز العقود الأربعة، ورصيد جاوز الأربعة والعشرين إصدارًا في القصة والرواية والكتاب الأكاديمي، واستنادًا لروايتي المعنونة: «خطف الحبيب»، التي نشرتها، في تجربة نشر عربية غير مسبوقة، لدى 14 ناشرًا عربيًّا في أسبوع واحد، وغطّت جميع العواصم العربية، يمكنني القول فيما يشبه شهادة على أعمالي:
حين بدأت الكتابة في منتصف السبعينيات كنت محاطًا بالروائي الكبير المرحوم إسماعيل فهد إسماعيل، والصديقة العزيزة الكاتبة ليلى العثمان. وأستاذي إسماعيل كان مشغولًا بكتابة الهم العربي وقضايا الأمة العربية، بينما تخصصت الأديبة ليلى العثمان بالكتابة عن ماضي الكويت. ومنذ أول قصة قصيرة نشرتها، بتاريخ 17 يناير 1978م، في جريدة «الوطن الكويتية» اتخذتُ من قضايا الواقع الراهن عالمًا خصبًا لكتاباتي في القصة والرواية.
منذ اللحظة الأولى لتفكيري بالنشر، أشعر بأن النشر مسؤولية كبيرة، ومسؤولية تاريخية على كاهل الكاتب، وأن على الكاتب الحق أن يسلط ضوءًا كاشفًا على القضايا المهمة في حياة الإنسان، وأن يقدّم شهادته على واقعه وعصره. وأن يكون أبدًا إلى جانب قضايا الحق للإنسان بعمومِها، وقضايا المرأة بخاصة، وذلك بسبب الظلم والجور الذي تتعرض له المرأة في كل مكان في العالم، لا لشيء إلا لأنها أنثى.
منذ أول قصة نشرتها، كنت مدركًا أن الواقع مستقرٌ بقوانينه ومقولاته الاجتماعية، وأنه يكسر وقد يقتل كل من يمسّها أو يتحرش بها. لكني ولسبب أُجلُّه، كنتُ ولم أزل أكتب مُدينًا سكون وأصولية هذا الواقع، ومبشّرًا بواقع مختلف يكون أكثر سلامًا وحرية وديمقراطية للإنسان.
في مرحلة متقدمة من أعمالي، استشعرت ثقل وطأة الراوي العليم، وأدركت استحالة أن يلمّ إنسانٌ ما بكل ما يخصّ إنسانًا آخر في واقعه وأفكاره وسلوكياته وأحلامه. ومنذ كتاباتي الأولى اتخذت طريقي باستنطاق أبطالي بألسنتهم ليعبّروا عن معاناتهم وأحلام واقعهم. وهكذا اتخذت من صيغة ضمير المتكلم، وصيغة ضمير المخاطب أسلوبًا لأعمالي القصصية والروائية.
منذ روايتي الأولى «ظل الشمس» التي صدرت عام 1998م، اشتغلت وفق مدرسة الرواية الفرنسية «التخييل الذاتي-Autofiction» بحيث حضرت باسمي وسيرتي الذاتية الحقيقية في أعمالي الروائية، مع أن المشي في هذا الطريق يُعد مغامرة خطرة وغير مأمونة، وكم نالني وأفراد أسرتي الأذى بسبب ذلك!
في جميع أعمالي القصصية والروائية أفرد مساحات كبيرة للحوار، لقناعتي بأن لا شيء يكشف الإنسان بقدر كلامه، وهذا جعلني أتأمل في جملة الواقع السهلة والبسيطة والحميمة، وأقف كثيرًا أمامها في سبيل تحويلها لجملة فنية في الرواية، فشتّان ما بين المشافهة والكتابة.
في كل ما أكتب أجعل نهايات قصصي أو رواياتي مفتوحة على السؤال، وهذا لا لشيء إلا لأن الواقع لا يقدم نهايات محددة، وحتى الموت لا يعني نهاية للإنسان، في اسمه وعياله وتركته.
تُرجمت أعمالي للغات كثيرة: الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والصينية والتركية والهندية، لكني وفي جميع ما كتبت لم أكن أفكر في الترجمة أثناء الكتابة، فأنا أكتب ما أُومِنُ به، وما أظنه يعري الواقع القاسي والساكن الذي أعيشه في بلدي الكويت، وقد يمسّ وعي القارئ. لكن الترجمات جاءت باهتمام المترجمين، ومؤكد لست ضد الترجمة.