إيلون ماسك ومعضلة حرية التعبير
تخلق شبكات التواصل الاجتماعي جدلًا لا ينقطع فيما يخص قدرتها على مؤازرة الحق الإنساني في حرية التعبير. في مناسبات كُثُر ناصرت هذه المنصات أصواتًا مكممةً تنشد سبيل الخلاص وأخرى منفية وغير محزون عليها. واستثمرت حركات إنسانية متعددة، مثل النسوية ومناهضة العنصرية والوعي البيئي في الرواج المعرفي المثير الذي تقدمه هذه الشبكات، وحققت تقدمًا ملحوظًا في مطالبها من خلال حسابات تكرست في رفع الوعي بالقضايا الإنسانية المعاصرة التي أخذت في جذب تعاطف دولي وانتشار واسع لم يكن ممكنًا من دون هذه المنصات.
يمكن القول: إن عولمة القضايا الإنسانية فرصة تاريخية لم تتحقق من قبل، وهي تزيد من التكاتف البشري حول مشكلات مشتركة بين المجتمعات وتُكسِب هذه الفئات تعاطفًا من شأنه تخفيف وطأة الظلم وانعدام العدالة حول العالم. وهذا ما ذهب إليه كثير من مؤيدي ما يسمى «العولمة البديلة» التي ظهرت كحركة أو مجموعة حركات تصحيحية ومضادة في الوقت نفسه للعولمة الاقتصادية إحدى وسائل الكولونيالية الحديثة. أسهمت هذه المنصات بشكل ملحوظ في تحقيق جزء من أهداف العولمة البديلة أي في خلق تواصل إيجابي وتضامن غير مسبوق بين البشر باختلاف مواقعهم الجغرافية، وهذا الحس الإنساني الفريد من الممكن تصوره وتطويره عبر هذه المنصات. لكن في الوقت نفسه هناك حقيقة مفادها أن هذه الشبكات تطورت كامتداد لنزعة تقنية مادية ترتكز على مبادئ نفعية بالدرجة الأولى. ومن منظور أخلاقي، لا يمكن أن نعزي التقدم الإنساني لجهات تقتات على رواج المعاناة البشرية وتعُدّ الإنسانَ الباحث عن الأمل سلعةً قابلة للتداول وفرصة لصنع الثروة.
الاحتلال التواصلي
لذلك فإن هذه الحسنات في سهولة الوصول للمعلومة والتعرض للأخبار قد تُطوِّر عادات استهلاكية تسلّع المعرفة، وتستوعب هذا السلوك كأمر طبيعي ومسلّي في بعض الأحيان؛ أي أن التفاعل بالمشاهدة أو المشاركة يخلق شعورًا ممتعًا نتيجة الاستهلاك أو حتى المشاركة في الإنتاج. لا يمكن هنا أن نغض النظر عن خطورة المقابل النفسي والاجتماعي لهذا التكيف. ولا أدري من يشاركني قلقي هذا حول التحديات المنبثقة من التعود على الترويج المستمر للمعرفة من دون مساءلته.
أستذكر هنا النقاش القديم الجديد عن سعير التقدم العلمي وقدرته على تسخير المتعة مقابل تثبيط الحرية الفردية. نعيش حتمًا في «عالمٍ شجاعٍ وجديد» على حد وصف الكاتب والفيلسوف الإنجليزي ألدوس هاكسلي في تنبؤاته الشهيرة في ثلاثينيات القرن الماضي، حينما تخيل العالم بعد قرون من زمنه في عبودية تامة يخلقها سيطرة العلم على المجتمع. فيصبح البشر متيمين بالاستهلاك ومذعنين بكامل الاستسلام للآلة. كان هاكسلي حينها يقظًا لتصعيد التقدم الصناعي المستمر وتأثيره النفسي والاجتماعي قبل الاقتصادي.
تلك السوداوية وهذا الحس التاريخي الذي أكتب تحت تأثيره الآن يدرك جيدًا كيف نهجت الرغبةُ في السيطرة أساليبَ مختلفة عبر التاريخ، وأحد أشكالها اليوم هو التحكم بالمعرفة من خلال احتكار منافذها. يعيش العالم الآن ما أسميه «استعمارًا تواصليًّا» غير مسبوق، ولا أعني بهذا قدرة شبكات التواصل الاجتماعي على خرق الخصوصية وتشكيل الأذواق، بل ميلها للتحكم بما يجب أن تتلّقاه وما يجب منعه، وتسليعها للمعرفة، وصناعتها لتوجهات فكرية غير أصيلة.
فمنذ فترة انتقل الحديث عن ممارسات الفيسبوك في التجسس على العملاء إلى نطاق آخر وذي خطورة أكبر من وجهة نظري. إن الحديث عن استيلاء رجل الأعمال الأميركي إيلون مَسْك على منصة تويتر لا ينتهي عند صفقة تجارية قابلة للنجاح أو الفشل. أكّد الملياردير الأميركي أنه أتم صفقة ضخمة دفاعًا عن حرية التعبير. لكن إذا افترضنا أن منصة تويتر هي مساحة شاسعة لكل شعوب العالم ويحكمها ما يشبه الدولة الافتراضية التي تشرع القوانين وتغيّب وتحضّر من تشاء كما أشار المالك أو الملك الجديد للمنصة، فكيف تُسن هذه القوانين وتنفذ الأنظمة؟
إن ما يحدث الآن هو بلا تحفظ تشييء لحرية التعبير، وتكرار للخطاب المسلوب سلفًا (حقوق الإنسان). وهنا أتساءل كما يفعل إيمانويل والرستين في نقده للمركزية الأوربية. من يملك حق القرار تجاه ما أقول وأفعل؟ ومن له حق التدخل؟ ومِن منظور مَن؟ ينبغي في هذا الموقف من نقد تفكيكي لهذا الخطاب. وبتعقّب حياة إيلون مَسْك وتاريخه الاجتماعي لا يمكن التثبت من جدية هذا الخط الفكري إذا توصلنا لحقيقة تاريخية مفادها أن قيم إنسانية من ضمنها حرية التعبير بادرت بها حركات يسارية لا تتماهى كليًّا مع انحياز مسك المستمر لأسطورة الرجل الأبيض الثري والمسيطر.
إن حديث إيلون مسك الإنساني ليس جديدًا من نوعه. أصبحت مهمة تحرير الشعوب مؤخرًا هواية الأثرياء من حول العالم: من إصرار بيل غيتس على القضاء على الفقر إلى بطولة مسك في حماية حرية التعبير كحق إنساني. لا يبدو خطاب الإنقاذ هذا وليد اللحظة لكنه انتقل مؤخرًا من هاجس في مخيلة الإمبراطور السياسي إلى هوس اقتصادي شائك للمنقذ الجديد. أستعرض هنا موضوعًا في غاية الأهمية وهو الكيفيات التي يتنافس بها الأثرياء للتحكم بالعالم من خلال التظاهر بقدراتهم على حل مشكلات كانوا قد ساهموا بجزء كبير في خلقها. فمشكلات زيادة الفقر وقمع الحريات نشأت في ظروف ساعدت هؤلاء وبحدٍّ كبير في صناعة ثرواتهم وأمجادهم.
استثمار المعاناة
ما أسميته سلفًا «الاستعمار التواصلي» وهو الممارسة القائمة على التحكم بالشعوب عبر خطابات إنسانية مظللة لا يطلقها سياسيون، وإنما رجال أعمال لديهم النزعة السياسية في السيطرة واستغلال النفوذ. وهذه الخطابات تحمي توجهات هذه المنصات. فتصبح شبكات التواصل الاجتماعي عبارة عن دول وإمبراطوريات رقمية تخدم التوجهات الفكرية وليس الاقتصادية فقط لملّاك هذه الشبكات الاجتماعية. يرتكز نفوذ مسك على منتج قوي وهي منصة توفر للبشر متعة واستقرارًا ظاهريًّا، لكنها في الوقت نفسه تسلب حريتهم وربما سعادتهم الحقيقية. والحديث عن هذا الأمر وبهذه اللغة مؤرق لكنه واقعي على حد قراءتي. وفي فلسفة هاكسلي فإن شعور السعادة الحقة، مثل الرضا والاكتفاء، دائمًا ما يكون جديرًا بالازدراء مقارنة بما يعزي الإنسان في ضيقته ويعوضه عن بؤسه، وهو الشعور الذي تمنحه الإثارة المتكررة في منصة تويتر وبقية الشبكات الاجتماعية.
يهدف هذا التكييف السيكولوجي على استهلاك الخدمات الرقمية إلى نوع من التنويم المغناطيسي، ويعمل الترويج المعرفي المتحكم فيه مسبقًا كالدوبامين ليحقق جرعة السعادة المطلوبة حيث يسهم تكرار معلومات بعينها في تشكيل عقل وشخصية المستهلك. ومن هذا المنطلق يكون الاستهلاك الأعمى هو الشرط الأساسي لتحقيق السعادة. مع مرور الوقت يتصرف الإنسان كالآلة وينفّذ ما يطلب منه بالكامل من دون مقاومة أو قدرة على التفكير. فيقود هذا السلوك إلى إدمان المتعة وعدِّها السعادةَ الحقيقية والسبيل الوحيد للخروج من التعاسة. ويشعر الإنسان تحت هيمنة المؤثرات أنه بحاجة للإنقاذ، ولا يلبي هذه الحاجة سوى الاستهلاك السريع للمعرفة. فيتحقق الرضا ليس بطريقة طبيعية من خلال التفكير والاختيار الحر، ولكن من خلال مؤثرات مثل مشاعر الخوف والترهيب التي تتطلب منه انتظار الحماية من جهات خارجية. فيضطر الإنسان للتضحية بحريته من أجل المتع الجسدية ووهم الاستقرار.
يظهر حديث إيلون مسك عن حرية التعبير الإشكالات الكبيرة التي تنتج عن التعامل مع الواقع الإنساني المعقد من منظور تجاري وبغرض الكسب المادي. عمّق الاقتصاد النيوليبرالي المنافسة العالمية الشرسة بين المؤسسات المختلفة على امتلاك الخبر ونشره للمستهلك، وتحقيق أكبر مكسب ممكن من المعاناة الإنسانية من دون مسؤولية أخلاقية تجاه الآخر. وهنا يمكنني وصف هذا الفعل بالسلوك الهدام الذي لا يسلط الضوء على القضية أو يناصرها من مبدأ إنساني وإنما بغرض زيادة التفاعل المربح. فمنصات التواصل الاجتماعي، بقدر ما تفتح آفاق للتكاتف بين البشر، فهي أيضًا مسرح تنافس وانتفاع، وتسعى باستمرار لتوفير ما يلبي رغبات وتوقعات المستهلكين، ولا تقدم بالضرورة ما يبني حياة الإنسان ويحفظها. فيُظهر هذا الاهتمام المتزايد بقضية معينة نفاق بعض المؤسسات الربحية التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان لكنها تستفيد من معاناته.
من هنا أؤكد أن هذا الجدل حول الفائدة من عدمها ليس بالضرورة سلبيًّا ومدمرًا في نتيجته أو إيجابيًّا، كما يفسره أدورنو، بل قد يفضي إلى شكل من أشكال الوعي والتوعية بخطورة الموقف الحالي. ومن هنا يمكن الاستفادة من هذا الجدل في فهم القيمة الحقيقية للحرية التي تكمن في الاستقلال الفردي وليس في التماهي مع أخلاقيات المؤسسة الربحية. فيمكن تصور الحرية من خلال البحث المستمر عن الحقيقة الذي يستلزم الانعتاق من كل عوامل التحكم والتأثير.