وضعية ترجمة
«لا نتكلم إلا لغة واحدة»/ «لا نتكلم قط لغة واحدة». (جاك دريدا «أحادية لغة الآخر»
(Le monolinguisme de l’autre, Galilée, 1996, p21)
«أحادي اللغة الذي أتكلم عنه يتكلم لغة لا يملكها. الفرنسية ليست لغته. ولكونه حُرِم من أي لغة، ولكونه لا ملاذ له…- ولكون أحادي اللغة هذا، بكيفية ما، معقود اللسان (وربما هو يكتب لأن به حبسة لسان)- لذلك كله فقد أُلْقي به في الترجمة المطلقة، وهي ترجمة من غير قطب يحال إليه، من غير لغة أصلية، من غير لغةٍ منطلق. فليس لديه، إن شئت، سوى لغات وصول، إلا أنها لغات، ويا للمغامرة الفريدة، لا تتمكن من بلوغ منتهاها، ما دامت لا تعرف المنطلق الذي تنطلق منه، ولا من أي موقع تتحدث ابتداءً، ولا على أي قطب تعتمد، ولا أي وجهة سيتخذ مسارها. إنها لغات لا مقصد لها». (ج. دريدا، نفسه، ص 117)
«إن كل لغة هي بمعنى ما، لغة أجنبية عن نفسها، عن إطارها القومي؛ لأن الأدب ينغرس في شجرة أنساب نصية، وهي نفسها شجرة أسطورية». (ع. الخطيبي)
الكتابة في مرآة الترجمة
تعودنا أن نطرق المسألة اللغوية من خلال سردية مزدوجة تحيل إلى كيفيتين للوعي بالذات. السردية الأولى لم تكن تضطرنا إلى أن نأبه، فيما نقوله ونكتبه، بلغات أخرى وثقافات أخرى، أما في الثانية، فقد صرنا في حاجة إلى مرآة الآخر كي نرى أنفسنا، وأصبحنا نستعمل لغات أخرى غير لغتنا، ونوظف نماذج نستمدها من خارج ثقافتنا، وهذا حتى إن اقتصرنا على استعمال العربية لغةً.
الكيفية الأولى للوعي بالذات هي التي طبعت الثقافة العربية التقليدية. فعلى الرغم مما عرفته حركة الترجمة في تلك الثقافة، فإن العرب، على حد قول عبدالفتاح كيليطو، «كانوا ينظُرون إلى الترجمة كعملية تتم من جانب واحد، عملية تنطلق من اللغات الأخرى (الفارسية، اليونانية، السريانية) إلى العربية، أما العكس فلم يكن على الأرجح ليخطر لهم ببال»(١). وهكذا لم يكن الناطقون باللغة العربية يرون أن شعرهم، ديوانَهم المميز، يجوز عليه النقل كما أكد الجاحظ. صحيح أن قدماءنا لم يذهبوا مذهب يونان الذين لم يطوروا أي نظرية عن الترجمة؛ لأنهم لم يكونوا يعترفون للآخر بالقدرة على الكلام المعقول. الآخرون بالنسبة للإغريق برابرة يتحدثون كلامًا غير مفهوم، وهم أبعد ما يكونون عن اللوغوس، عن الكلام المعقول، فلا شيء يمكن أن يُنقل عنهم.
وضعية قدمائنا كانت مخالفة لما كان عليه الإغريق، إلا أنها مخالفة كذلك لما صرنا عليه الآن. فنحن أصبحنا نعتمد ترجمات ومقارنات وموازنات، شعورية أو لا شعورية، كيفما كانت الظاهرة التي نصفها، كما صار لا معنى لما نكتبه ونقرؤه إلا في ترجمته. أصبحنا نكتب كي نُتَرجَم، بل إن منا من يكتب أولًا بغير العربية، كي يَعمل هو نفسه، فيما بعد، على ترجمة ما كتب، حتى إن بعض الروائيين العرب أصبحوا يكتبون وهم يفكرون في مترجِمهم المحتمل. وهكذا أصبحنا لا نقرأ أدبنا (ولا نكتبه) إلا مترجمين مقارنين موازنين. فلم تعد المقارنة وقفًا على بعض المتخصصين، وإنما هي تعم كل من يقترب من الثقافة العربية.
إن القارئ الذي يطلع على نص عربي، سرعان ما يربطه بصفة مباشرة، أو غير مباشرة، بوعي أو بدونه، يربطه بنص أوربي، إنه مقارِن ضرورة، أو إذا شئنا، مترجم. «لقد أبدعنا طريقة خاصة في القراءة، نقرأ نصًّا عربيًّا وفي ذهننا نصوص من الأدب الفرنسي أو الإنجليزي أو الإيطالي». إلا أن الأهم من ذلك هو أن الترجمة لم تعد تعقب كتابة نصوصنا وتأتي بعدها، وإنما أصبحت تتخللها. فهي لم تعد بالنسبة إلينا نقل لغة إلى لغة أو أدب إلى أدب، بل إنها لم تعد مجرد نشاط فكري، وإنما صارت أسلوب تفكير، بل أسلوب حياة ونمط عيش. فكل ما نكتبه أو نقوله بلغتنا مشروط بلغات أخرى متضمن لها. لقد صارت الترجمة واقعنا المعيش.
هذا ما أقترح أن نطلق عليه: «وضعية ترجمة».
التعدد والكثرة
من هذا المنظور تغدو الازدواجية، أو التعدد اللغوي والثقافي واقعًا معيشًا. وهو ليس واقعَ مَنْ يتحدثون ويكتبون بلغات أجنبية فحسب، وإنما حتى الذين يتحدثون العربية ويكتبون بها. تساءل صاحب كتاب «أتكلم اللغات جميعَها، لكن بالعربية»: «ما الحال بالنسبة لمن يكتبون بالعربية؟ إنهم كذلك، وبمعنى ما، ذوو لسان مفلوق، (أي أنهم مزدوجو اللسان) ليس فحسب لأنهم يتمكنون من اللغة الفرنسية إن قليلًا أو كثيرًا، ولأن بعض تعابير هاته اللغة ولطائفها تتسرب إلى نصوصهم، وإنما خصوصًا لأن نماذجهم الأدبية هي نماذج أجنبية في جزء منها»(٢).
السؤال المطروح علينا الآن هو: هل هذا التعدد لعنة أم رحمة؟ هل هو نقمة، أم نعمة وحظ سعيد؟
قبل محاولة الإجابة، أرى من اللازم أن نتوقف عند مفهوم التعدد هذا لنميزه عن مفهوم مشابه هو مفهوم الكثرة. واسمحوا لي مقدمًا إن أسهبت قليلًا في هذه النقطة. نعلم أن المد الفلسفي الذي طور مفهوم التعدد هو المد التجريبي. في المنظور التجريبي الكائنات علائق و«بيْنِيّات»، الوجود الفعلي هو للروابط. ما كان أحد الفلاسفة الفرنسيين يعبر عنه بقوله: «الوجود للمعيات وليس للماهيات». العلاقة هي الأصل في الذات، وليس العكس. العلائق هي ما يُوَلّد العناصر، وليست هي ما يتولد بيْن العناصر. فلا شيء يتحقق بذاته، كل عنصر يتولد عما يتجاوزه. ولا وجود لكل موحد. كل ما يوجد هو الانفتاح اللانهائي وحركة التداخل والتعدد التي لا تنقطع. هنا يغدو الكائن ترابطًا ظرفيًّا حركيًّا لا يخضع لأي مبدأ قارّ، وتصبح الهوية توليفًا بين أطراف. لن يعود الاختيار مطروحًا بين الهوية ونفيها، وإنما بين هوية مفتوحة على إمكانات متعددة، وأخرى محددة تحديدًا أزليًّا. ستغدو الهوية هنا جمعًا يقال على المفرد. لن تعود المسألة الأساس إذًا تحرير المتعدد، وإنما توجيه الفكر نحو مفهوم متجدد للواحد. كما لن يعود التعدد هو ما يقابل الوحدة، وإنما ما يقابل الكثرة.
الكثرة هي تعددية «الكم المنفصل»، وهي تعددية حسابية؛ لكونها تقوم أساسًا على آلية توليد مجموعة الأعداد الطبيعية نفسها، وأعني عن طريق إضافة وَحْدة إلى الوحَدات، إضافة صوت إلى الأصوات، لغة إلى اللغات، رأي إلى الآراء، حزب إلى الأحزاب، عنصر إلى العناصر، فرد إلى الأفراد.
على عكس الكثرة التي تنحلّ إلى «تعداد»، فإن التعددية تروم خلخلة مفهوم الوَحْدة ذاته، وتفكيك الثنائي وَحْدة/تعدد. الكثرة كثرة «خارجية»، أما التعددية فتقيم «داخل» الوَحْدة، فتجعل الاتصال ينطوي على انفصال، والوَحْدة تشمل حركة وتضم أطرافًا. فليست علاقة الوَحْدة بالتعدد كعلاقة الكل بالأجزاء، أو المجموع بمكوناته، وإنما كعلاقة الهوية بالاختلاف.
التوحيد في الكثرة توحيد اختزالي، يُرجع العناصر جميعَها إلى عنصر أساس، ويردها إليه و«يختزلها» فيه (كما تختزل الكسور في الحساب)، بحيث لا تغدو العناصرُ الأخرى تفرُّداتٍ تقوم جنبًا إلى جنب، وإنما مشتقات تنبع من مصدر، وفروعًا تتفرع عن أصل، ونسخًا تقاس على مصدر. هذا التوحيد اختزال لأنه يميز في الكثير بين أصل وفروع، بين مرتبة أساس ومراتب ثانوية، بين «هوية حقيقية» و«هويات مستنسخة» فيرد هذه إلى تلك ويقيسها عليها. أما التعددية فإنها «تمتد» في فضاء يترك لكل عنصر نصيبه من التميز، ويسمح للتفردات بنصيبها في الوجود.
ليست التعددية، والحالة هذه، هي كثرة الوحدات، وإنما هي تعدد الاختلافات. ها هنا تكون الوحدة من الحيوية بحيث تستطيع أن تستوعب التعدد، ويصبح التعدد مفهومًا باطنيًّا «يصدع الوحدة ويضم أطرافها»، فيغدو إنسان التعددية ليس ذاك الذي يحمل جوازات عدة، ويتكلم لغات عدة، وإنما ذلك الكائن السندبادي الذي «يوجد» بين لغات، وبين ثقافات، والذي ينظر إلى الآخر على أنه المجال المفتوح للانفصال والالتقاء اللامتناهيين، ويرى العيشَ معًا شرطًا لوجوده.
ليست التعددية اللغوية إذًا هي أن نكون أمام كثرة من اللغات، وإنما هي أن تتشابك هذه اللغات في عمليات ترجمة. كتب ع. الخطيبي: «ليست الازدواجية اللغوية، وتعدد اللغات، مجرد علائق خارجية بين لغة وأخرى، بين اللغة المصدر والهدف على حد قول اللسانيين، وإنما هي عناصر تدخل ضمن النسيج البنيوي لكل فعل كتابة، لكل غزو للمجهول تعبر عنه الكلمات. في كل كلمة، وفي كل اسم أو لقب ترتسم دومًا كلمات أخرى، كتابتها الضيْفة. في كل كلمة كلمات أخرى، في كل لغة لغات أخرى»(٣).
جسور الاختلافات
يرى ج. دولوز أن هذه هي العلاقة التي تربط الأدب باللغة. يكتب: «يرسم الأدب في اللغة، كما يقول بروست، نوعًا من اللغة الأجنبية التي ليست لغة أخرى، ولا لهجة مستعادة، وإنما صيرورة اللغة آخرَ، سعيٌ أقلي لهذه اللغة الأغلبية، هذيان يفرض ذاته، خط عجيب ينفلت من المنظومة المهيمنة… ابتكار في التراكيب والأسلوب، هذه هي صيرورة اللغة… يتجلى الأدب في مظهرين، من حيث إنه يحدث شرخًا في اللغة الأم، وأيضًا من حيث إنه يبدع لغة في اللغة… كل كاتب مضطر لأن يصنع لنفسه لغته. فكما لو أن اللغة تدخل في هذيان يجعلها تحيد عن مسارها»(٤).
لا تهم هذه الوضعية اليوم لغة دون أخرى. عندما سئل أومبرتو إيكو مرة: ما لغة أوربا؟ (التي لم ترفع قط، كما نعلم، شعار التوحيد اللغوي على غرار التوحيدات الأخرى، ولم تنشئ سوقًا أوربية لغوية)، رد قائلًا: «لغة أوربا هي الترجمة». يبدو إذًا أن الترجمة هي لغة التعددية، ولكن شريطة أن ندرك أن التعدد، كما قلنا، ليس تساكنًا بين أشكال عدة للأحادية اللغوية.
ربما أمكننا الآن أن نجيب عن سؤالنا عما إذا كانت التعددية نعمة وحظًّا سعيدًا؟ فنقول:
عندما تدخل اللغات في عمليات ترجمة، بهذا المعنى الذي حددناه، فإن تعددها ينتعش، ولا تعود تقتصر على الاختلاف مع غيرها من اللغات وإنما تسعى لأن تخالف ذاتها. كتب دولوز: «لا تُنحت اللغة الأجنبية في اللغة نفسها من غير أن يهتز كيان اللغة ذاته ويبلغ حدًّا، ويرتمي في خارج يتشكل من مرئيات ومسموعات لا تمت لأية لغة بِصِلَة. هذه المرئيات ليست خيالات موهومة، وإنما أفكارًا حقيقية يراها الكاتب ويسمعها في ثنايا اللغة وفجواتها. وهي ليست توقفات عن الحركة، وإنما محطات تشكل جزءًا منها كخلود لا يتجلى إلا في الصيرورة، وكمنظر لا يظهر إلا في غضون الحركة. فهي لا توجد في مكان اللغة»(٥).
بهذا المعنى فإن واقع الترجمة ينتزع اللغة من عاداتها المألوفة لابتداع لغة جديدة. كان شيشرون يقول: إن ترجمة الإغريق ترمي إلى تحويل اللغة اللاتينية وجعلها ترقى إلى البلاغة اليونانية. فكأنه يتوخى أن يتكلم لغة الأصل في الترجمة.
في كتابها في «امتداح الترجمة»(٦) تلخص الفيلسوفة الفرنسية بربارا كاسان رأي هومبولت حول هذه المسألة، فتقول: «في الواقع لا يتكلم المرء لغته جيدًا إلا بمقارنتها بلغة أخرى، فنحن لا ندرك نظام اشتغال اللغة إلا عندما نقارنها بنمط اشتغال لغة أخرى». ثم تعقب: «وهذا ما أعنيه بالترجمة». لا تشتغل اللغة إلا مقارنة بأخرى وفي اقتران معها. لا تشتغل ولا تتطور إلا في/ وبحركة اختلافها مع اللغات الأخرى. بهذا المعنى لا يمكننا التفكير في المتعدد من غير إقامة جسور بين الاختلافات، من غير أن نؤكد الاختلافات في علائقها المتبادلة. على هذا النحو فإن وضعية الترجمة ترعى الاختلاف، وترسي مفهومًا مغايرًا عن الوحدة، بعيدًا من أن يكون مجرد مقابل للتعدد، أو مجرد استعادة لوحدة أصلية، لكي يغدو رعايةً للتعدد وتدبيرًا له، لكي يكون تدبيرًا للاختلاف، ذلك التدبير الذي يُسمى في مجال آخر: ديمقراطية.
هوامش:
(١) انظر: عبدالفتاح كيليطو، لن تتكلم لغتي، دار الطليعة، بيروت.
(٢) ع. كيليطو، أتكلم اللغات جميعها، لكن بالعربية، ترجمة: ع. بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء، 2013م.
(٣) ع. الخطيبي، Nationalisme et internationalisme littéraires”
“ in Figures de l’étranger dans la littérature française, Denoël, Paris, 1987, pp. 201-214
(٤) ج. دولوز، الأدب والحياة موجود في:
G. Deleuze, «La littérature et la vie», in Critique et clinique
(٥) المرجع نفسه.
(٦) باربارا كاسان، في امتداح الترجمة.
Cqssin Barbara, Eloge de la traduction, compliquer l’universel, Fayard, 2016.