بين الجمال والبروباغندا… آراء في وظيفة الفن

بين الجمال والبروباغندا… آراء في وظيفة الفن

دائمًا ما يُطرح سؤال متعلق بالوجهة التي يمكن أن تتخذها الأشكال التعبيرية التي تجد نفسها في سياقات معينة تفرض عليها خدمة أغراض شتى. وتنبع وجاهة السؤال من الإيمان بما تملكه الأشكال التعبيرية من قوة التأثير من جهة، ومن توازي القيم الجمالية التي تنطوي عليها مع قيم أخرى لا تنفصل عنها وإن بدا عكس ذلك. وللإجابة عن هذه المسألة خيضت جدالات شتى، أحدها ما دار في عشرينيات القرن الماضي بين اثنين من المثقفين الأميركيين الأفارقة الذين أخذوا يفكرون بجدية في مسألة الاستخدامات التي ينبغي أن يوظف فيها فن السود وأدبهم. المثقفان اللذان أطلقا الجدل هما دبليو إي بي دوبويز وآلان لوك، وكانت لديهما أفكار مختلفة تتعلق بوظائف الفن والأدب عند السود. فبينما اقترح لوك استخدامًا جماليًّا بحتًا للموهبة السوداء، دعا مواطنه دوبويز إلى مشاركة اجتماعية وسياسية للكتّاب والفنانين السود لتحسين وضع مجتمعهم. ولذلك جرى تداول هذا الجدل على نطاق واسع واجتذب مساهمة عديد من الكتاب والفنانين المعاصرين من مواطني الولايات المتحدة ذوي الأصول الإفريقية، مثل لانغستون هيوز، وجورج سكايلر، وتشارلز دبليو تشيسنت، على سبيل المثال لا الحصر.

توظيف الجماليات خارج العمل الجمالي

تنظر هذه المقالة إلى ذلك الجدل وتحاول تقييمه في مقابل أفكار الناقد والمفكر الألماني ڤالتر بنيامين الذي كتب حول الموضوع نفسه تقريبًا ولكن في سياق آخر. لقد طرح بنيامين في كتاباته المختلفة، وبخاصة مقالته «المؤلف بوصفه منتجًا» التي كتبها عام ١٩٣٤م، موقفًا جدليًّا مستوحى من الماركسية لمعالجة مسألة الجماليات في مقابل البروباغندا. ولكن عند النظر إلى السياقات التي نشأ فيها الجدالان يتبين أن بنيامين تمكن بأسلوبه الجدلي من التوفيق بين وجهتي النظر المتعارضتين لكل من لوك ودوبويز. ومن الجدير بالذكر أن إجراء المقارنة بين خطي التفكير هذين أمر ممكن على الرغم من اختلاف سياقهما، فالاتجاهان الفكريان يركزان على أسئلة مماثلة مع أنهما نتاج أجندات مختلفة تمامًا.

دبليو إي بي دوبويز

إن الأسئلة النظرية التي طرحها بنيامين من جهة وكل من لوك ودوبويز من جهة أخرى تتعلق بالنوع نفسه من الاهتمام النظري: ما الطرق- إن وجدت- التي يجب أن تستخدم الجماليات لخدمة قضايا خارج العمل الأدبي؟ وفي حين ينخرط لوك ودوبويز في المجال الاجتماعي والسياسي للفئة العرقية التي ينتميان إليها، فإن نظرية بنيامين مدفوعة بالتعبير الماركسي عن الصراع الطبقي، فمقالته مليئة بالمفاهيم الماركسية، مثل علاقات الإنتاج وغيرها. وفي الواقع، فإن إلقاء نظرة على محادثاته ومراسلاته مع مواطنه برتولت بريشت، على سبيل المثال، من شأنه أن يوضح هذه الخاصية. قد يكون التأثير الآخر هو حياة بنيامين الخاصة، فنحن نعلم أنه عاش أسلوب حياة لا يتوافق مع مهنته في الكتابة، وإدراكه لوضعه بصفته كاتبًا يعيش بالكاد على موهبته ربما يكون قد ساهم في تشكيل نظريته حول المؤلف باعتباره منتجًا. ومع ذلك فإن هذا لا يؤثر في جدوى مقارنة حجة بنيامين مع تلك التي طرحها لوك ودوبويز على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.

دبليو إي بي دوبويز كاتب أميركي من أصل إفريقي كان غزير الإنتاج، إذ شملت مسيرته الكتابية النقد والتاريخ وعلم الاجتماع والنشاط السياسي. وقد عُرف في الأوساط الأدبية والفكرية بعمله محررا لمجلة (Crisis) المخصصة للنهوض بأدب السود وفنونهم. نشر دوبويز عام ١٩٢٦م مقالًا في المجلة نفسها بعنوان «معايير الفن الزنجي»، بعد أن طرح أفكار المقال لأول مرة في مؤتمر شيكاغو لمنظمة (NAACP) وهي المنظمة الوطنية المعنية بتمكين السود. في المقال الذي كان بمثابة بيان فكري أعرب دوبويز عن موقف ثوري لا هوادة فيه مفاده لزوم توظيف الفن في الاستخدامات السياسية لرفع مستوى قومه، بحيث يجب أن يؤدي فن السود دورًا حاسمًا في تغيير النظام الاجتماعي الأميركي، أو على الأقل في تحديه ومساءلته. وهذا ما يجعل الحديث عن فن السود جزءًا أصيلا من النضال من أجل المساواة الاجتماعية التي كان المجتمع الأميركي الإفريقي يسعى إلى تحقيقها. لقد قدمت محنة السود في أميركا لهذا المجتمع فرصة غير مسبوقة لتعريف الجمال، فبسبب التهميش الممنهج «لم يصل إلينا نفور معين من التبجح المبهرج فحسب، ولكن أيضًا رؤية لما يمكن أن يكون عليه العالم لو كان عالمًا جميلًا حقًّا»، كما يجادل دوبويز.

الفن كدعاية وقضية

في ذلك المقال تركيز شديد على روح العصر التي ينبغي التعبير عنها بحريةٍ من خلال الفن، وهي روحٌ جديدة مبنية على إدراك الماضي والعزم على الحصول على مستقبل مختلف. يكتب دوبويز معبرًا عن تلك الروح: «نحن السود… لدينا في داخلنا حركات جديدة، حركات بداية تقدير جديد للفرح، ورغبة جديدة في الإبداع، وإرادة جديدة للوجود». علاوة على ذلك فإن تلك الروح مبنية على الاختلاف في الخبرة الحياتية التي دفعت دوبويز إلى القول: «نحن السود نستطيع أن نرى أميركا بطريقة لا يستطيع الأميركيون البيض رؤيتها بها». ولتوضيح كيفية التعبير عن «الروح السوداء» يفترض الكاتب رؤية إنسانية تكون فيها الحقيقة والعدالة أمرًا أساسيًّا بحيث يمكن تحقيق التقدم التصاعدي للرجل الأميركي الأسود من خلال توظيف الأدب والفن لصالح القضية. كما أنه من واجب الفنان الأسود أن يعبر عن القيم السامية للحقيقة والعدالة التي تنال إعجاب الإنسان العالمي بغض النظر عن عرقه أو لونه أو دينه. ولتحقيق هذا الهدف عليه أن يستخدم الحق، ليس من أجل الحق ولكن لأن الحقيقة خير خادم للخيال على حدّ تعبيره. حينها فقط يتمكن الفنان الأسود من تخليق الجمال وتحقيقه والحفاظ عليه بأكثر الطرق إثمارًا.

يوجّه دوبويز انتقاداته إلى سياسات الاعتراف في الولايات المتحدة، إذ يشير إلى ضآلة فرص النشر أمام الفنانين والكتّاب السود، وإلى أن الصعوبات في التعرّف على مواهب السود واحدة من سمات الوسط الأميركي في بدايات القرن العشرين. في سياق كهذا يعتبر الاستخدام الدعائي للفن والأدب الشرطَ الأساسيَّ للاعتراف بالفنانين والكتاب السود. ويعتقد دوبويز أنه «إلى أن يفرض فن السود الاعتراف بهم، فلن يصنَّفوا بشرًا»، داعيًا إلى «حكم حر وغير مقيد» دون وساطة من صناعة النشر البيضاء وبدلًا من القيود التي تهيمن على مشهد النشر. هكذا يمكن للمرء أن يفهم بيان دوبويز القوي حول الاستخدام الدعائي للتعبير الفني، الذي يؤكد من خلاله على أن «كل الفن دعاية ويجب أن يكون كذلك دائمًا».

بالنسبة لدوبويز يكتسب هذا الاتجاه الدعائي شرعيته من مواجهة البروباغندا البيضاء الموجودة في المجالين الأدبي والفني، فقد تميزت المسرحيات والقصص في زمنه بالتفاوت الصارخ في تصوير الشخصيات البيضاء والسوداء، ولذا تقع على عاتق الفن الأسود مهمة تحدي هذا التباين من خلال الدعاية الإيجابية. يضيف دوبويز أنه بفضل تلك التوقعات وأعراف التوصيف السائدة حتى الفنانين البيض أنفسهم كانوا محصورين ومحدودين، فقد فرضت دور النشر رؤيتها على مواهب الكتاب والفنانين على حد سواء من خلال تضييق نطاق نوع القصص المقبولة في الصناعة. ولكن بالطبع الأمر أكثر صعوبة للفنانين السود الطامحين: «إذا أراد رجل ملون أن ينشر كتابًا، عليه أن يستعين بناشر أبيض وصحيفة بيضاء ليقال: إنه عظيم». يصبح من الواضح أن سياسات الاعتراف والتمثيل تشكل الرغبة في استخدام الفن من أجل النهوض بقضية المجتمع الأميركي الإفريقي في أميركا العشرينيات من القرن الماضي.

الشاعر والنبي، الوعظ والغناء

يتناقض موقف دوبويز المتشدد هذا مع موقف زميله آلان لوك، وهو شخصية مهمة فيما يعرف بعصر نهضة هارلم، حيث كان فيلسوفًا وناقدًا يكتب عن الفن والأدب الأميركي الإفريقي بغزارة ويسهم إسهامًا كبيرًا مع زملائه الآخرين في مشهد هارلم النابض بالحياة. تناولت مقالة قصيرة كتبها لوك عام ١٩٢٨م بعنوان «فنّ أم دعاية» السؤال المُلِحّ المتمثل في جماليات السود. عندما تُقرأ المقالة بوصفها ردًّا على مقال دوبويز المشار إليه أعلاه، الذي نُشر قبل عامين من مقالة لوك، فإنها تشكل جزءًا مما أصبح يُعرف لاحقًا باسم مناظرة لوك ودوبويز. يمثل هذا الجدال معسكرَيْنِ متباينين حول مسألة طبيعة الالتزام في الإنتاج الأدبي والفني للمثقفين السود في أميركا ما قبل الحرب الأهلية. وكانت النقطة الأساسية التي اختلف حولها المثقفان، كما أسلفنا الذكر، هي الوظيفة التي ينبغي أن يكون عليها الأدب والفن الزنجي الجديد، فبينما أكد دوبويز أن مثل هذا الأدب في تصويره لتجربة السود يجب أن يهدف إلى تحسين وضعهم الاجتماعي والسياسي، رفض معاصروه هذا الالتزام بوصفه دعاية لا ينبغي أن يكون عليها الأدب والفن.

آلان لوك

على عكس دوبويز، يرى لوك أن اهتمام مثقف الحركة الزنجية الجديدة يجب أن يرتكز على أسس جمالية بحتة، وأنه لا بد من التقليل من الاستخدام الاجتماعي والسياسي الصريح للأدب والفن، أو حتى التخلي عنه إن أمكن، بحجة أن مثل هذا الاستخدام للموهبة يعبّر عن دونية أقلية تعيش في ظل أغلبية متعالية. وفي هذا الصدد، يجب أن ننسب كثيرًا من الفضل إلى الموهبة الفردية التي من الممكن أن تضيع في التعبير الجماعي الأساسي للاستخدام الدعائي للأدب والفن. إن دفاع لوك عن التعبير الفردي لا يعوق اتباع القيم العالمية، مثل الحقيقة، التي ينبغي نشرها في تعزيز مصالح الجنس البشري عامة. لا يستلزم هذا التقدم بالضرورة تبنيًا ساذجًا لموقف «الفن من أجل الفن»، ولكن يستلزم على حد تعبير لوك «إدراكًا عميقًا للغرض الأساسي للفن ووظيفته بوصفه جذرًا أساسيًّا لحياة قوية ومزدهرة».

يفتتح لوك مقالته بمجموعة من الأسئلة من قبيل: هل هذا جيل النبي أم جيل الشاعر؟ وهل تقوم قيادتنا الفكرية والثقافية بالوعظ أم بالغناء؟ إلى غير ذلك. وهو يؤيد جانب الشاعر بالطبع. والسبب يكمن حسب رأيه في الاتجاه العام للاستخدام الدعائي للتعبير الفني لتعزيز بنية السلطة السائدة. يفترض لوك أن الدعاية بصرف النظر عن خطيئتها «تديم موقف الدونية الجماعية حتى في الصراخ ضدها»؛ لأن ما هو مسخر للبروباغندا يظل يتحدث في ظل الأغلبية المهيمنة التي يخطبها أو يتملقها أو يهددها أو يناشدها. صحيح أن لوك يسلط الضوء بإيجاز على الفاعلية الاجتماعية للدعاية، معترفًا بأن الفن لم يكن كافيًا دائمًا، وأن «الدعاية غذت على الأقل شكلًا من أشكال المناقشة الاجتماعية الجادة، وكانت المناقشة الاجتماعية ضرورية، ولا تزال ضرورية». ومع ذلك فإنه يرفض النزعة الحزبية للدعاية مجادلًا بأنها غالبًا ما تكون «أحادية الجانب وغالبًا ما تصدر أحكامًا مسبقة»، ولهذا يجب على الكتاب والفنانين الأميركيين الأفارقة أن يسعوا جاهدين لتنمية «فن الشعب» لا «فن الزُّمر».

المؤلف بوصفه منتجًا

إن فكرة بنيامين عن المؤلف بوصفه مُنتجًا عند مقارنتها بالأفكار التي أثيرت في مناظرة لوك ودوبويز توفّر نموذجًا جدليًّا يجيب عن السؤال المطروح بالجمع بين الجمالي والسياسي. لا ينبغي أن تكون مهمة الكاتب جمالية بحتة ولا سياسية حصريًّا، بل مزيجًا من الأمرين. لكن قبل الخوض في مناقشة تفصيلية حول كيفية جمع بنيامين بين لوك ودوبويز، دعونا نتناول حجّة بنيامين. يتخذ بنيامين خطوتين لتطوير فكرته حول المؤلف بوصفه منتجًا. ولعل الجانب الأهم في مقاله يكمن في اعتماده على موقع المؤلف في سياسة التأليف. وأعني بهذا الطريقة التي ينقل بها بنيامين مكانة المؤلف من مجموعة علاقات الإنتاج. فيما قبل كان المؤلف دائمًا مؤطرًا فيما يتعلق بالعمل. بمعنى آخر، يُحدَّد التزام المؤلف بقضية سياسية من خلال كيفية تعبيره عنها في عمله. ينطوي هذا الموقف على مفارقة في سياسة التأليف. وبينما يُنظر إلى المؤلف على أنه مثقف يُتوقع منه أن يغير علاقات الإنتاج من خلال الولاء للطبقة العاملة، فإن موقفه يشير إلى موقف منفصل إلى حد ما.

أما الخطوة التي يدعو إليها بنيامين فتتصور موقعًا مختلفًا للمؤلف، وتضعه ضمن علاقات الإنتاج لا خارجها. يضع بنيامين المؤلف التقدمي في مواجهة نظيره البرجوازي المحافظ. وإذ يضطر التقدمي إلى اتخاذ قرار بشأن المكان الذي يرغب في ممارسة نشاطه فيه، يفترض بنيامين أن «قراره متخَذ على أساس الصراع الطبقي»؛ فهو يضع نفسه إلى جانب الطبقة العاملة، وفي هذا نهاية استقلاله بحسب تعبير بنيامين. ولكننا في وقت لاحق نتوصل إلى استنتاج مفاده أن كون المؤلف إلى جانب البروليتاريا ليس بالكفاءة نفسها وهو داخلها. يقول بنيامين: «إن مكانة المثقف في الصراع الطبقي لا يمكن تحديدها، أو بالأحرى اختيارها، إلا على أساس موقعه داخل عملية الإنتاج».

العمل الأدبي أو الفني جزء لا يتجزأ من سياق العلاقات الاجتماعية التي تحددها إلى حد كبير علاقات الإنتاج، ومن هنا تبرز الحاجة إلى معالجة جدلية للمسألة تتخلص من التصور النمطي الذي لا يرى العمل إلا وجهًا لوجه مع العلاقات الاجتماعية والإنتاجية في عصره. وبدلًا من ذلك، ينبغي دراسة العمل الأدبي ضمن تلك العلاقات. إن تقدم قضية البروليتاريا في الصراع الطبقي يتم من خلال التحرير الحقيقي لوسائل الإنتاج الذي يتطلب تغيير جهاز الإنتاج في المقام الأول بدلًا من توفيره. يستلزم الموقف الجديد الذي تصوره بنيامين إعادة تعريف مهمة لدور المؤلف والتفكير في موقعه داخل عملية الإنتاج؛ حتى يتمكن من خوض النضال بكل ما يصاحبه من آلام.

تذويب الحدود

الخطوة الثانية التي يتخذها بنيامين لتوضيح مفهومه للمؤلف بوصفه منتجًا هي أنه ينفي التمييز بين الأنواع الأدبية من ناحية، وبين المؤلف والجمهور من ناحية أخرى. يؤكد بنيامين أن الأنواع الأدبية لها دورات حياتها، فهي تظهر وتزدهر وتموت؛ لذلك لا ينبغي لنا أن نتمسك بمفاهيم جامدة فيما يتعلق بالأنواع والأشكال الأدبية، كما لا ينبغي التعامل مع النوع والأشكال تعاملًا وجوديًّا، بل علينا أن نعيد التفكير باستمرار في المفاهيم المتعلقة بها «إمّا أردنا العثور على أشكال مناسبة للطاقة الأدبية في عصرنا». وهذا يتطلب عملية يسميها بنيامين ذوبان الأشكال الأدبية، وهي عملية مرتبطة بقوة باللحظة التاريخية وبعملية الذوبان التي تطمس الحدود بين المؤلف والقارئ؛ إذ يجب أن يهدف عمل الكاتب إلى تحويل القراء إلى متعاونين نشطين في عملية الإنتاج. ويمثّل مسرح بريشت الملحمي نموذجًا مضيئًا لهذه العملية بفضل اعتماده تقنيات جذابة، مثل المونتاج وما إلى ذلك. على عكس المآسي والأوبرا، يستخدم المسرح الملحمي العنصر الأكثر جوهرية وغير القابل للاختزال- المسرح: المنصة أو الخشبة. بعد ذلك يجري استخدام هذا العنصر لإشراك الجمهور في عملية التفكير النقدي في العمل الذي يشاهدونه وفي مجتمعهم الاجتماعي والسياسي.

وكما يقول بنيامين: «بينما يكتسب الأدب في اتساع ما يخسره في العمق، فإن التمييز بين المؤلف والجمهور، الذي تحافظ عليه الصحافة البرجوازية بوسائل مصطنعة، يبدأ في الاختفاء». وبما أن الالتزام ليس كافيًا فلا بد من وجود «موقف المعلم»، الذي يُعلِّم الكاتب بموجبه كتّاب آخرين ويخبر تضامنه معهم لأول مرة بوصفهم منتجين آخرين. ولعل هذا ما يفسر استخدام الصحيفة شكلًا أدبيًّا لصالح حجة بنيامين. فالصحيفة بالنسبة لبنيامين «ساحة الارتباك الأدبي»؛ لأن محتواها يستعصي على أي شكل من أشكال التنظيم غير ذاك الذي يفرضه عليه نفادُ صبر القارئ. علاوة على ذلك فإن الصحيفة هي الموقع الأكثر إستراتيجية للكاتب، ولكن بما أنها لا تزال مملوكة لرأس المال فإنها موقعٌ «في أيدي العدو» بحسب تعبيره. وعلى هذا الأساس فإن الكاتب الناشط يحارب ويتدخل بشكل فعال في مشهد الإنتاج الثقافي، على عكس الكاتب الإعلامي الذي يكتفي بنقل التقارير ويتولى دور المتفرّج.

في الختام، أؤكد أن ما ينقص في جدال لوك ودوبويز يمكن العثور عليه عند بنيامين. فعلى سبيل المثال يعبّر بنيامين منذ البداية عن إحباطه إزاء استقطاب الاتجاه أو الالتزام السياسي من ناحية ونوعية عمل الكاتب من ناحية أخرى، وهو الاستقطاب الذي يمكن أن نجد أصداءه في مناظرة لوك ودوبويز. بدلًا من الإطار غير القابل للتوفيق يقترح بنيامين أن عمل الكاتب يجب أن يُظهر الاتجاه الصحيح وأن يطمح في الوقت نفسه إلى تحقيق جودة عالية. علاوة على ذلك لا يرى بنيامين إمكانية الجمع بين الاتجاه السياسي الصحيح والقيمة الجمالية فحسب، بل يزعم أيضًا أن «ميل العمل الأدبي لا يمكن أن يكون صحيحًا سياسيًّا إلا إذا كان صحيحًا أيضًا بالمعنى الأدبي». وهذا الارتباط مهم جدًّا؛ لأنه يعيد النظر في علاقة المؤلف بالسياق الذي يعمل فيه، ما يجعل الصواب السياسي للعمل الأدبي مشروطًا بطابعه الفني التقدمي. إن هذا المفهوم يخدم غرض توجيه وظيفة الإنتاج الأدبي والثقافي نحو التقدم في الطبيعتين الفنية والسياسية من دون الحاجة إلى التضحية بأي منهما.

معتزل الكتابة

معتزل الكتابة

تمثل‭ ‬أشكال‭ ‬الاعتزال‭ ‬المختلفة‭ ‬حلمًا‭ ‬يراود‭ ‬الكتّاب‭ ‬على‭ ‬الدوام؛‭ ‬لأن‭ ‬مهنتهم‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الوقت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭. ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬الاعتزال‭ ‬حقًّا‭ ‬أعلى‭ ‬أولويات‭ ‬الكاتب،‭ ‬ولذا‭ ‬فإنه‭ ‬يدأب‭ ‬ما‭ ‬استطاع‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬الوقت‭ ‬والمكان‭ ‬القادرين‭ ‬على‭ ‬مدّه‭ ‬بالهدوء‭ ‬اللازم‭ ‬لإنجاز‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬كتابته‭. ‬واليوم‭ ‬تزداد‭ ‬أهمية‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬بسبب‭ ‬تسارع‭ ‬رتم‭ ‬الحياة‭ ‬وكثرة‭ ‬المشاغل‭ ‬وتفاقم‭ ‬الضغط‭ ‬الناشئ‭ ‬منها‭. ‬فيغدو‭ ‬استقطاع‭ ‬وقت‭ ‬ينأى‭ ‬به‭ ‬المرء‭ ‬عن‭ ‬مشاغل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬وقلقها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ترتيب‭ ‬الأوراق‭ ‬وإنعاش‭ ‬الحسّ‭ ‬الإبداعي‭ ‬وإعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬الكتابة‭ ‬وتأملها‭ ‬أمرًا‭ ‬لا‭ ‬غِنى‭ ‬عنه‭. ‬ولقد‭ ‬لمستْ‭ ‬هذه‭ ‬الحاجةَ‭ ‬هيئةُ‭ ‬الأدب‭ ‬والنشر‭ ‬والترجمة،‭ ‬فعملت‭ ‬على‭ ‬إعداد‭ ‬مبادرة‭ ‬معتزلات‭ ‬الكتابة‭ ‬وتنفيذها،‭ ‬والمبادرة‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬حزمة‭ ‬مبادرات‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬مفهوم‭ ‬الكتابة،‭ ‬والاعتراف‭ ‬بكونها‭ ‬مهنة‭ ‬وحرفة‭ ‬لها‭ ‬متطلباتها‭ ‬الخاصة‭ ‬وفرص‭ ‬تطويرها،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬تمثل‭ ‬منعطفًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الأدبي‭ ‬المحلي‭. ‬

تسنّى‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أشارك‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المعتزلات،‭ ‬وهو‭ ‬معتزل‭ ‬الكتابة‭ ‬الذي‭ ‬أقيم‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬عنيزة‭ ‬آخر‭ ‬شهر‭ ‬ديسمبر‭ ‬الماضي،‭ ‬وأفيد‭ ‬من‭ ‬الفرصة‭ ‬التي‭ ‬أتاحها‭ ‬لي‭ ‬وبضعة‭ ‬كتّاب‭ ‬آخرين‭ ‬عرب‭. ‬أقيم‭ ‬المعتزل‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ساحر‭ ‬محاط‭ ‬بالخضرة‭ ‬ويضمن‭ ‬أقلّ‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬النشاط‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬استثمار‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الطبيعة‭ ‬والممارسة‭ ‬الكتابية‭. ‬وأستطيع‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬المعتزل‭ ‬حقق‭ ‬أهدافه‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬وقتٍ‭ ‬ومكانٍ‭ ‬مناسبين‭ ‬لإكمال‭ ‬مشاريع‭ ‬كتابية‭ ‬أو‭ ‬بدئها،‭ ‬وقد‭ ‬حظيت‭ ‬بأن‭ ‬كنت‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬نصوص‭ ‬بُدئت‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬المعتزل،‭ ‬وأخرى‭ ‬أُكملت‭ ‬فيها،‭ ‬بل‭ ‬مسوّدات‭ ‬لقصص‭ ‬كُتبت‭ ‬بالكامل‭ ‬تقريبًا‭. ‬لقد‭ ‬وفّر‭ ‬المعتزل‭ ‬الاسترخاء‭ ‬المطلوب‭ ‬لذهنية‭ ‬الكتابة‭ ‬وإنعاش‭ ‬قوة‭ ‬الإبداع‭ ‬وترميمها،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬إتاحة‭ ‬الفرصة‭ ‬لأنْ‭ ‬يعيد‭ ‬الكاتب‭ ‬الاتصال‭ ‬بذاته‭ ‬المبدعة‭ ‬والتواصل‭ ‬مع‭ ‬عمليته‭ ‬الكتابية‭. ‬

كان‭ ‬برنامج‭ ‬المعتزل‭ ‬مجدولًا‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬التنظيم‭ ‬والمرونة،‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬حصص‭ ‬طعام‭ ‬وفُسَح‭ ‬وجولات‭ ‬سياحية‭ ‬وعمل،‭ ‬ويعين‭ ‬على‭ ‬تهذيب‭ ‬عادات‭ ‬حسنة‭ ‬مثل‭ ‬تنظيم‭ ‬الوقت‭. ‬

ولعل‭ ‬أميز‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬ورشُ‭ ‬عمل‭ ‬كتابية‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬التناقش‭ ‬عن‭ ‬كثب‭ ‬حول‭ ‬قصص‭ ‬المشاركين‭ ‬الذين‭ ‬قرؤوا‭ ‬نصوصها‭ ‬وتلقّوا‭ ‬حولها‭ ‬الآراء‭ ‬والتعليقات‭ ‬والمشورة‭ ‬أحيانًا،‭ ‬وربما‭ ‬مارسوا‭ ‬مهاراتهم‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬التعليق‭ ‬على‭ ‬نصوص‭ ‬غيرهم‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المعتزل‭ ‬أسهم‭ ‬على‭ ‬قصر‭ ‬مدّته‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬إحساس‭ ‬المشاركين‭ ‬بمجتمع‭ ‬كتابي‭ ‬وتطوير‭ ‬هذا‭ ‬الإحساس‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التواصل‭ ‬الفعال‭ ‬مع‭ ‬مجموعة‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬الأقران‭ ‬لا‭ ‬تتوانى‭ ‬عن‭ ‬تقديم‭ ‬الدعم‭ ‬والتوجيه،‭ ‬وقبل‭ ‬ذلك‭ ‬الإلهام‭ ‬والتأثير‭. ‬

إن‭ ‬معتزلات‭ ‬الكتابة‭ ‬تجربة‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬ملتقى‭ ‬طرق،‭ ‬وهي‭ ‬السياحة‭ ‬الثقافية،‭ ‬صناعة‭ ‬الثقافة،‭ ‬الرعاية‭ ‬الأدبية‭ ‬والتنشيط‭ ‬الثقافي،‭ ‬وهذا‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬حيويتها‭ ‬وأهميتها‭. ‬ويكاد‭ ‬مأخذي‭ ‬الوحيد‭ ‬على‭ ‬المعتزل‭ ‬الذي‭ ‬شاركت‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬برنامج‭ ‬المعتزل‭ ‬متروك‭ ‬تقريبًا‭ ‬لميسّر‭ ‬المعتزل،‭ ‬ونجاحه‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافه‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬الميسّر‭ ‬وتصوره‭ ‬للمعتزل‭. ‬لكني‭ ‬آنستُ‭ ‬من‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المعتزلات‭ ‬حرصًا‭ ‬على‭ ‬صقل‭ ‬التجربة‭ ‬وتطويرها،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أنه‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬المراجعة‭ ‬والتقويم‭ ‬تؤدي‭ ‬وظيفتها‭ ‬وتستوفي‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬وضعت‭ ‬من‭ ‬أجلها‭. ‬كما‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬توجد‭ ‬برامج‭ ‬أخرى‭ ‬تصبّ‭ ‬في‭ ‬المصلحة‭ ‬ذاتها،‭ ‬مثل‭ ‬مِنح‭ ‬الكتابة‭ ‬والتفرّغ‭ ‬والمعتزلات‭ ‬المطوّلة‭. ‬

نجاح محمود صباغ واخفاقاته التلابس الجندري في “بركة يقابل بركة”

نجاح محمود صباغ واخفاقاته التلابس الجندري في “بركة يقابل بركة”

يمكن اعتبار فلم محمود صباغ «بركة يقابل بركة» (٢٠١٦م) تعليقًا نقديًّا على المجتمع السعودي اتخذ أكثر من طريقة، ولكن مقدار نجاحه في تحقيق هدفه يتباين من طريقة إلى أخرى. كتب غيرُ واحدٍ عن الصوت الرسالي المباشر الذي يرتفع من وقت إلى آخر في أثناء الفلم، تحديدًا من خلال بضع لحظات مونتاجية يطلب فيها المخرج من المشاهد أن يعود إلى الوراء ويفكر. إنها لحظات إشكالية، يمكن أن تقدم معلومات تاريخية ومعاصرة للمشاهد الأجنبي، ومع ذلك يصعب القول: إن اللجوء إليها، باستخدام تقنية المونتاج، كان إيماءة بريختية ترمي إلى نزع الألفة وتوفير مساحة نقدية، كما فعل بريخت في المسرح الملحمي الذي يهدف إلى الحيلولة دون تماهي الجمهور مع الشخصيات عاطفيًّا، ودفعهم عوضًا عن ذلك إلى التفكير بوعي. ليس غريبًا أن يكون استخدام المونتاج ذاك أضعف أجزاء الفلم لأنه يقدّم، في الأغلب عبر بركة عرابي، رسالة مباشرة من دون أن يكون للجمهور دورٌ في الحكم عليها. أبرز اللحظات المونتاجية كانت حينما اندفع بركة عرابي في نوبة نوستالجية إلى ماضٍ صامتٍ وحبيس (عرابي العجوز المُقعَد لا يتكلم طوال الفلم) ليؤسس تباينًا صارخًا بين الماضي والحاضر، ويتهم فيه خطابًا معينًا بالمسؤولية عن الحاضر المتعثر. كل هذا في وقتٍ لم يكن فيه الفلم مشغولًا بتفسير ما حدث أو بتبرير هذا الحنين من دون إضعاف موضوعه.

على أية حال، مقابل هذا الإخفاق، ينجح الفلم إلى حد كبير في تصوير العلاقات الاجتماعية، خصوصًا تلك المرتبطة بالأدوار الجندرية، بمعالجة سينمائية بعيدة من المباشرة. لعلّ خير مثال على هذا كيفيةُ تعامل الفلم مع ما أسميه «التلابُس الجندري» أو الـ«crossdressing» وهي ممارسة يرتدي فيها الفرد من فئة جنسية أو جندرية معينة ملابس مرتبطة، حسب الأعراف المتواطأ عليها، بفئة جنسية أو جندرية أخرى. وُجدت هذه الممارسة في الفلم من خلال بضع حالات ارتدى فيها الممثل الذكر ملابس نسائية أو ارتدت فيها الممثلة المرأة ملابس رجالية حسبما سيأتي من تفصيل. يمثّل تبادلُ الملابس بين جنسين مختلفين ازدواجًا يتوازى والازدواجَ الذي أشار إليه عنوان الفلم. وتكمن أهمية الحديث عنه في كون القراءات السابقة للفلم تجاهلت تناول هذه الممارسة تقريبًا، على الرغم من أن الإنتاج التلفزيوني والسينمائي والمسرحي في السعودية يزخر بحالات مشابهة. إضافة إلى ذلك يقدّم هذا الجانب حالة من النقد الذاتي لفلمٍ ذاتيّ الوعي (ليس أدلّ على وعي الفلم بذاته من الإشارات المتكررة إلى شتى الفنون، والإلماحة الذكية في مستهلّ الفلم إلى استخدام التشويش للتيسير على الآخرين أداءَ عملهم، وباقي الجوانب الناتجة عن وعي الفلم بذاته باعتباره جهدًا ثقافيًّا وفنيًّا في وسط معين هو ناتِجُه في الوقت نفسه الذي يعلقّ فيه عليه).

أعراف اجتماعية صارمة

أعود إلى التلابس الجندري باعتباره نقدًا ذاتيًّا، فهو بتعقيده يقدّم نقيضًا للمباشَرة آنفة الذكر. ويهمّنا التركيز على صورتين لهذه الممارسة شديدتي الأهمية، وهما ارتداء بركة عرابي ملابسَ نسائية في المسرحية التي يؤديها داخل الفلم، وارتداء بيبي حارث ملابسَ رجالية في حفلةٍ تقيمها عائلتها التي تبنّتها انتهت بأن خرجت بيبي إلى الشارع تقود سيارة. هاتان الصورتان —في تقابلهما— تقدمان تعليقًا غير مباشر، وبالتالي أكثر إقناعًا، على الأعراف الاجتماعية الصارمة في مجتمع الشخصيتين اللتين تقاسمتا بطولة الفلم. إن الشخصيتين كلتيهما، بركة عرابي وبيبي حارث، لا تعرِّفان نفسيهما على أنهما تتوقان إلى هوية جندرية غير التي يستطيع الجمهور تمييز انتماء كلّ منهما إليها. إنهما ليستا «ترانسجندر» مثلًا ولا تتماهيان بالضرورة مع الهوية الجندرية المعطاة لهما مؤقتًا في أثناء التلابس الجندري. وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الإيماءة تقدِّم حالةً تُمرَّر من خلالها أفكار مهمة لموضوع الفلم. إضافة إلى كونها هوية مؤقتة، هي أدوارٌ تعطى للشخصيات من جهة خارجية ولم تكن —على الأقل في البداية— تُعتنَق تطوّعًا أو ابتداءً. بعبارة أخرى لا تتضمن هذه الممارسة في الحالتين «خداعًا ضروريًّا» ولا تدخُّلًا في أعراف الهوية الجندرية السائدة في المجتمع نابعًا من رغبة الشخصية في تعريف نفسها بأنها مختلفة عما يُمليه عليها مجتمعها. أقول في البدء على الأقل لأن كلتا الشخصيتين تأخذ هذه الهوية الجديدة إلى واقعها في مغامرة صغيرة كما سنرى. في كلتا الحالتين يأتي قبول الشخصيتين بذلك الدور المؤقت استجابة للظروف المحيطة، وهو ما يساعدنا في فهم سلوك الشخصيات ودوافعها عبر مجموعة أسئلة منها: هل اكتسبت الشخصيتان في أثناء ارتدائهما ملابس الجنس الآخر معرفةً، ما كان لهما أن يكتسباها في ظرف آخر؟ وكيف استثمرتا تلك المعرفة إن وجدتْ وهما تخرجان من هويتهما المؤقتة إلى مجتمع يبني معياريته الجندرية على أساس المغايرة؟

مشهد من الفيلم

بالنظر إلى الاتجاه الذي تمثله كل حالة من هاتين الحالتين يمكن الاهتداء إلى تحليل كاشف، ففي حالة بركة عرابي الآتي من الطبقة الاجتماعية الدنيا، يأتي اشتراكه في المسرحية —حيث يكون عليه أداء دور شخصية امرأة— جزءًا من محاولته تحسين وضعه وربما الهروب من الظروف الاقتصادية. أما في حالة بيبي حارث الآتية من الطبقة الاجتماعية العليا، فاشتراكها في حفلة «القيسة» امتثالٌ لأعراف طبقية ترفيّة، لكنها أيضًا تتحدى تلك الأعراف بقيادة السيارة مستفيدة من الهوية المؤقتة التي أعطيت إياها. وفي الحالة الأخيرة إشارة مهمة؛ إذ أدّى هذا التعامل مع الهوية الجديدة إلى كسر حاجز إلى الأسفل سببه رغبة بيبي حارث المستمرة في الخروج من ربقة الطبقة الاجتماعية التي تحكمها سننٌ ذكورية صارمة وميكانيكية، يرافق تلك الرغبة توقٌ إلى طبقة أقل (قد تكون الأصل لكونها بنتًا مُتبنّاة) ولكنها طبقة أقل صرامة حين يتعلق الأمر بالحياة الاجتماعية، على الأقل فيما يبدو لبيبي. فرق آخر في الاتجاه الذي تمثله كلتا الحالتين هو في دوافع المشاعر التي يجدها المشاهد تجاه كلتا الشخصيتين وهما ترتديان ملابس الجنس الآخر. تقريبًا يمتنع المشاهد عن التعاطف مع بركة عرابي نظرًا للمساحة العاطفية المخلوقة من أجل الكوميديا. دور أوفيليا واحد من أكثر لحظات الفلم كوميديا الباعثة على الضحك لسبب بسيط هو أن الميكانيكية الشديدة التي يؤدي بها بركة الدور الأنثوي تتباين تباينًا عظيمًا مع حيوية السياق الذي وجدت فيه، وهذا لبّ الكوميديا؛ لذلك لا غرو أن يشعر المشاهد بحاجة إلى الضحك، حيث يرى الشخصية تواجه صعوبة في أثناء ارتدائها ملابس الجنس الآخر، خصوصًا أن التجربة بعيدة تمامًا من تجارب المشاهد، وهو ما يجعل أمر الضحك عليها ممكنًا ومستساغًا. أما حينما يتعلق الأمر ببيبي حارث فالوضع على العكس تمامًا. إنها تنزع نفسها من سياق تراجيدي كئيب يدفع المشاهد للتعاطف معها وهي تتحرر مؤقتًا من بيئة ضاغطة وخانقة.

في حالة بركة عرابي، يأتي ارتداء بطل الفلم ملابس نسائية استجابة لتمثيل دور أوفيليا في مسرحية «هاملت» التي يُخرجها صديقه. وتكمن أهمية هذه الحالة في كون الفنان مضطرًّا لتمثيل هذا الدور وتحقيق نجاح صغير في حياته المتواضعة، وذلك بقبوله دورًا لم يكن سيحصل عليه لولا أن تنازل عنه الفنان المعيّن له أصلًا (هل تنازل عنه لأنه دور امرأة؟ ربما). هذه الممارسة هي أيضًا تعليقٌ على ملمح من ملامح الحياة الفنية والاجتماعية في السعودية، وهي منع وجود الجنسين معًا على خشبة المسرح. إذن، السبب الذي أوجد هذا الدور في الأساس هو مشكلة سياسية. جدير بالذكر أن الشخصية هنا تؤدي الهوية الجندرية الجديدة أداءً رديئًا يخفق في إقناع الجمهور، بدءًا من المسرحية، حيث الممثل يخفق في تقديم أداء مقنع لدور أوفيليا، وانتهاءً بحياته الشخصية التي يبدو فيها ساذجًا جدًّا عندما يتعلق الأمر بالجنس الآخر الذي ارتدى ملابسه. من هنا تبرز قيمة الصورة الأيقونية التي افتُتح بها الفلم، أعني صورة بركة عرابي وهو يتفحص حمالة الصدر، يقف أمامها عاجزًا عن الفهم كأنه يقف أمام لغزٍ، أعزلَ من كل دراية. حتى حينما اكتسب قليلًا من الخبرة، بفضل أدائه للهوية الجندرية الجديدة، لم تكن خبرته مُعينًا له في مغامرته العاطفية، ولم يستفد من تلك الهوية المؤقتة، بل على العكس خلقت مواقف متباينة في وظائفها وغير متوقعة. فمثلًا، في موقف كوميدي، يُهدي بيبي قطعة ملابس داخلية في أول لقاء لهما. وفي موقف درامي، يسألها عن نوع حمالة الصدر «الپوش أپ» التي اقترح عليه مُخرج المسرحية أن يلبسها. إخفاقه في توقيت السؤال أدى إلى سوء تفاهم وقد توقع أن المعرفة التي منحتها إياه تلك الهوية المؤقتة ستكون عاملًا في رتق واقع بيبي حارث. بالطبع لم تتفهم بيبي الإيماءةَ بل استنكرتها بفضل الصرامة التي اعتادت عليها في محيطها الذكوري، فهو إمّا يعرف ما لا يجدر به أن يعرف من مفردات العالم الأنثوي الحميم، وإمّا يتودد إليها بطريقة فجّة ومستغِلة. كانت تلك الحادثة التي ختمت مغامرة عاطفية يتحمل مسؤولية انتهائها المجتمع. أدركت بيبي بفضل الحادثة أنها إنما كانت تلعب دورًا في مسرحية اجتماعية، دورًا انتهى بحَمْل ميّادة وما ترتّب عليه من نتائج، في مفارقة إضافية، وهي أن انتهاء دورها في تلك المسرحية كان بسبب وساطة بركة في سعي ميادة للحمل على يد الداية سعدية. إن كان هذا الإدراك قد فتح عينيها على حقيقة وضعها، فإنه لم يعتقها من ربقة استغلال مؤسسة العائلة الأرستقراطية إلا ليضعها في ذمة استغلال آخر تقوم عليه مؤسسة رأسمالية ستستمر على النهج نفسه في استغلال الفرد وتشييء الجسد.

هروب من الواقع

أما في حالة بيبي حارث، فترتدي بطلة الفلم ثوبًا رجاليًّا وشاربًا في مناسبة أقامتها ميادة احتفالًا بحَمْلها بعد عقود من العقم. في تلك الحفلة ظهرت ميادة في زي رجالي كامل (ثوب وشماغ وعقال وبشت) وظهرت بيبي في زيّ شامي كامل بشارب مبالغ فيه، إضافة إلى مجموعة من الضيفات على رأسهن الداية سعدية التي أنهت عقم ميادة. هذه الممارسة من جانب العائلة لا تمثل استجابة لظروف معينة ولا تطمح إلى صعود في السلّم الاجتماعي (كما هي الحال مع بركة عرابي) إنما هي هوية «موضعية» و«تجربة معيشة» بصورة مؤقتة. بمعنى آخر، يمكن اعتبارها تجربة طوعية و«حدودية» تمثل هروبًا من الواقع إلى عالم لا يبني معياريته الجندرية على أساس المغايرة. استكمالًا لهذا الدور المؤقت أخذت بيبي مفتاح السيارة وخرجت في زيها الرجالي تقود سيارتها في ليل جدة. إذن، ثورة بيبي حارث على عائلتها ليست ناجمة بالكلية عن وعي بزيف الطبقة التي تنتمي إليها العائلة وإخفاقها في التأقلم وفقًا لنواميسها، إنها ناجمة عن رغبة في الاستقلال الاقتصادي، وبالتالي النفسي، كما هي ناجمة عن انجذابها العاطفي إلى بركة عرابي. وهذا ما يجعلنا نقول: إنها تمثيل لحالة غامضة ترمي إلى تحقيق قيم مُستقاة من الطبقة البرجوازية التي ترعرعت فيها مثل قيمة الاستقلال (بفضل النجومية التي حققتها)، وتتحداها في الوقت نفسه بالحب عبر الطبقات الاجتماعية. حتى قيادتها السيارة، الفعل الذي كان يمكن أن يكون ثوريًّا، لم يترتب عليه من النتائج ما يعود عليها بمشاكل إضافية.

لا يقود التلابس الجندري، حسب الحالتين الموصوفتين أعلاه، إلى إحداث غموض في جندر الشخصيتين؛ لأن أيًّا منهما لم يكن يتحدى الأعراف الجندرية السائدة، لكنه عوضًا عن ذلك يكشف كشفًا غير مباشرٍ المجتمع السعودي المعاصر من خلال توظيف موفَّق لإبراز التباين بين وضعَيِ الرجل والمرأة فيه. يؤسس فلم «بركة يقابل بركة» لتباين مستمر بين ما هي الأمور عليه وما ينبغي أن تكون، وهذا التباين لا يشكل في الأغلب دافعًا للحدث وللشخصيات، بل عقبة متينة في طريق تحقيق الشخصيات أهدافها. ولهذا السبب لم تغير نهاية الفلم في مصاير الشخصيات إلّا على مستوى الإدراك، وهو تغيير لا يستهان به، لكنه لا يجمع البطلين في تتويج ناجح لعلاقتهما العاطفية. لقد اختار الفلم رسوخَ الأدوار الجندرية وصرامتها أحد موضوعاته، لكنه في الحين الذي يلوم فيه المجتمع لومًا مباشرًا قد يخفق في القبض بحساسية على تعقيدات العلاقات الاجتماعية، يُقارب الموضوع نفسه مقاربة مقنعة وغير مباشرة من خلال الاعتماد على التلابس بين الجنسين.

برامج الكتابة الإبداعية في أميركا

برامج الكتابة الإبداعية في أميركا

علي-المجنونيليس‭ ‬بخافٍ‭ ‬على‭ ‬مطّلعٍ‭ ‬الاتصال‭ ‬الوثيق‭ ‬بين‭ ‬السياسة‭ ‬والثقافة،‭ ‬فلطالما‭ ‬خدم‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬الآخر،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬الاهتمام‭ ‬حقًّا‭ ‬هو‭ ‬حرصُ‭ ‬بعض‭ ‬المعنيين‭ ‬على‭ ‬التشديد‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬منطقةً‭ ‬منيعةً‭ ‬ضد‭ ‬التدخل‭ ‬السياسيّ‭. ‬هذه‭ ‬المنطقة،‭ ‬بحسب‭ ‬المؤمنين‭ ‬بوجودها،‭ ‬أمينةٌ‭ ‬للإبداع‭ ‬الإنسانيّ‭ ‬المحض‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يولي‭ ‬بغير‭ ‬الفن‭ ‬وشروطه‭ ‬اهتمامًا‭. ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬يُطرح‭ ‬السؤال‭: ‬هل‭ ‬لمنطقةٍ‭ ‬بريئةٍ‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬وجودٌ‭ ‬فعليّ؟‭ ‬هل‭ ‬يتمتع‭ ‬الإبداع‭ ‬بحِمى‭ ‬حصنٍ‭ ‬حصينٍ‭ ‬يتمترس‭ ‬خلفه‭ ‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬تدخُّل‭ ‬خارجيّ؟

تشكّل‭ ‬فصول‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬عامة،‭ ‬وفي‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬خاصة،‭ ‬حالة‭ ‬مهمة‭ ‬يمكن‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بها‭ ‬لدحض‭ ‬فكرةِ‭ ‬وجودِ‭ ‬منطقةٍ‭ ‬بريئةٍ‭ ‬للإبداع؛‭ ‬ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يظن‭ ‬بعض‭ ‬المهتمين‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬يجتمع‭ ‬طلابٌ‭ ‬متطلّعون‭ ‬في‭ ‬صف‭ ‬دراسيّ‭ ‬أو‭ ‬تدريبيّ‭ ‬يُعنَى‭ ‬بتدريبهم‭ ‬على‭ ‬أساليب‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية‭ ‬أو‭ ‬السردية،‭ ‬فإنهم‭ ‬يغدون‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬التطلعات‭ ‬السياسية‭ ‬أيًّا‭ ‬كان‭ ‬الواقفون‭ ‬خلفها‭. ‬والحق‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬خلاف‭ ‬ذلك؛‭ ‬لأن‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬بالطريقة‭ ‬التي‭ ‬وُجدت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية،‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الحال‭ ‬جزءٌ‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬صراع‭ ‬دوليّ‭ ‬شرس‭. ‬إن‭ ‬فكرة‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول،‭ ‬ثم‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الفكرية‭ ‬والجمالية‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تنشرها‭ ‬داخل‭ ‬صف‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬لَدليلٌ‭ ‬قاطع‭ ‬على‭ ‬تورّط‭ ‬نشاطها‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬الفنّ‭ ‬بكثير‭. ‬

لقد‭ ‬خضعت‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬خضوعًا‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭ ‬لظروف‭ ‬الصراعِ‭ ‬الأيديولوجيّ‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬الذي‭ ‬أسفر‭ ‬عنه‭ ‬انتهاءُ‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭. ‬شهدت‭ ‬الكليات‭ ‬والجامعات‭ ‬الأميركية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬طفرةً‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬في‭ ‬برامج‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا،‭ ‬جلبت‭ ‬معها‭ ‬وظائفَ‭ ‬هفا‭ ‬إليها‭ ‬الكتّابُ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬فجاء‭ ‬ظهورُ‭ ‬برامجِ‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬نتيجةَ‭ ‬إيمانٍ‭ ‬عميقٍ‭ ‬بأن‭ ‬تدريس‭ ‬الكتابة‭ ‬للطلاب‭ ‬الأميركيين،‭ ‬وغير‭ ‬الأميركيين‭ ‬أحيانًا،‭ ‬سيحصّنهم‭ ‬ضد‭ (‬البروباغندا‭) ‬الشيوعية‭. ‬تعليق‭ ‬الأمل‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬كدرعٍ‭ ‬فكريّ‭ ‬وقائيّ‭ ‬يأتي‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬أُسس،‭ ‬تقدّم‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬نظيرًا‭ ‬معاكسًا‭ ‬لكلّ‭ ‬ملامح‭ ‬الثقافة‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ؛‭ ‬من‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأسس‭ ‬أن‭ ‬الأدب،‭ ‬بحسب‭ ‬الرؤية‭ ‬الأميركية،‭ ‬نشاط‭ (‬فردانيٌّ‭) ‬بالضرورة،‭ ‬تحتلّ‭ ‬الإرادة‭ ‬الإنسانية‭ ‬والتجربة‭ ‬الفردية‭ ‬فيه‭ ‬أولويةً‭ ‬وأهميةً‭ ‬كُبريَيْنِ‭. ‬كما‭ ‬رسّخت‭ ‬تلك‭ ‬الرؤيةُ‭ ‬الدعوةَ‭ ‬إلى‭ ‬تفادي‭ ‬التجريدية‭ ‬بوصفها‭ ‬مدرسة‭ ‬فنية‭ ‬جمالية،‭ ‬وقدّمت‭ ‬عوضًا‭ ‬منها‭ ‬النموذج‭ ‬الواقعيّ‭ ‬الذي‭ ‬يحتفي‭ ‬بالذاتيّ‭ ‬واليوميّ‭ ‬والملموس‭. ‬

برامج-الكتابة-الإبداعي٣‬هزيمة‭ ‬الشيوعية

هكذا‭ ‬إذن،‭ ‬جاءت‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬بوصفها‭ ‬حقلًا‭ ‬معرفيًّا‭ ‬أكاديميًّا‭ ‬يحصل‭ ‬خرِّيجوه‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬ماجستير‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬كمختبرات‭ ‬لتدريب‭ ‬الكتّاب‭ ‬على‭ ‬الانضباط‭ ‬الذاتيّ‭. ‬ورَعَتْ‭ ‬تلك‭ ‬البرامجَ‭ ‬مجموعةٌ‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬أخذت‭ ‬على‭ ‬عاتقها‭ ‬مهمة‭ ‬هزيمة‭ ‬الشيوعية‭ ‬ومحاربتها‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رأت‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬خاصةً،‭ ‬والأدب‭ ‬عامةً،‭ ‬بتعقيداته‭ ‬وتركيباته،‭ ‬درءًا‭ ‬للأفراد‭ ‬من‭ ‬الانجرار‭ ‬بسهولة‭ ‬وراء‭ ‬صيحات‭ ‬شعارات‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ،‭ ‬كما‭ ‬رأت‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬فرصةً‭ ‬مواتية‭ ‬لموازنة‭ ‬الكِفَّة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تميل‭ ‬آنذاك‭ ‬لصالح‭ ‬التقدم‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬الذي‭ ‬أفرز،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬بغير‭ ‬قصد،‭ ‬إرهاصاتٍ‭ ‬سمحت‭ ‬بحدوث‭ ‬كوارثَ‭ ‬هائلة؛‭ ‬دفع‭ ‬الإنسان‭ ‬ثمنها‭ ‬غاليًا‭. ‬

شغل‭ ‬ارتباطُ‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬بالحرب‭ ‬الباردة‭ ‬اهتمامَ‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين،‭ ‬والملاحظ‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬العاميْنِ‭ ‬الماضيين‭ ‬ظهرت‭ ‬مقالاتٌ‭ ‬وكتبٌ‭ ‬عِدَّة‭ ‬تتناول‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭. ‬ولعلنا‭ ‬نجد‭ ‬تفسيرًا‭ ‬لهذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬المتزايد‭ ‬مؤخرًا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬وثائق‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬أمست‭ ‬متاحة‭ ‬للبحث‭ ‬والدراسة‭ ‬والتحليل،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬عودة‭ ‬حكومة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬لنهج‭ ‬دبلوماسية‭ ‬ثقافية‭ ‬بعد‭ ‬أحداث‭ ‬11‭ ‬سبتمبر‭ ‬وانخراط‭ ‬أميركا‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬ضد‭ ‬ما‭ ‬تسميه‭ ‬الإرهاب‭. ‬أحد‭ ‬الذين‭ ‬حاولوا‭ ‬إلقاء‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬بالحرب‭ ‬الباردة‭ ‬إريك‭ ‬بينيت،‭ ‬وهو‭ ‬كاتبٌ‭ ‬انتظم‭ ‬في‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية؛‭ ‬أعرق‭ ‬برنامج‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬

في‭ ‬مقالاته‭ ‬الأخيرة‭ ‬وكتابه‭ ‬الصادر‭ ‬عام‭ ‬2015م‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬ورش‭ ‬الإمبراطورية‭: ‬ستغنر،‭ ‬إنغل،‭ ‬والكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬الأميركية‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‮»‬‭ ‬تناول‭ ‬بينيت‭ ‬الأرضية‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬لبرامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية،‭ ‬عبر‭ ‬تحليل‭ ‬دور‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية‭ ‬الأميركية‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البرامج‭ ‬الثقافية‭ ‬سرِّيًّا‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬وبالعودة‭ ‬إلى‭ ‬العنوان‭ ‬الفرعيّ‭ ‬لكتابه،‭ ‬نجد‭ ‬أنه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬رُوَّاد‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية؛‭ ‬أولهما‭ ‬والاس‭ ‬ستغنر‭ ‬مدير‭ ‬برنامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬ستانفورد؛‭ ‬ثاني‭ ‬أقدم‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬أميركا،‭ ‬والآخر‭ ‬بول‭ ‬إنغل،‭ ‬مدير‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭. ‬ولأن‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬المذكور‭ ‬آنفًا،‭ ‬يمثّل‭ ‬حالة‭ ‬مركّزة،‭ ‬فإن‭ ‬المرء‭ ‬بوسعه‭ ‬أن‭ ‬يتبيّن‭ ‬الدور‭ ‬الضليع‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬البرنامج‭ ‬الرائد‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬تسليط‭ ‬بعض‭ ‬الضوء‭ ‬عليه‭. ‬

برامج-الكتابة-الإبداعية1

لبرنامج‭ ‬آيوا‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬الريادة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية؛‭ ‬إذ‭ ‬أُنشِئ‭ ‬البرنامج‭ ‬عام‭ ‬1936م‭ ‬بوساطة‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬وكُتَّاب‭ ‬السَّرد‭ ‬تحت‭ ‬اسم‭ ‬Iowa Writers’‭ ‬Workshop‭. ‬يُمنح‭ ‬خريجو‭ ‬البرنامج‭ ‬شهادة‭ ‬ماجستير‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬ويرسخ‭ ‬عبر‭ ‬صفوفه‭ ‬قليلة‭ ‬العدد‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬‮«‬الانضباط‭ ‬الذاتي‮»‬‭ ‬لدى‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬يعينه‭ ‬وهو‭ ‬يشرع‭ ‬في‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الكتابة‭ ‬الاحترافية‭ ‬والنشر‭. ‬يوجد‭ ‬اليوم‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬خمس‭ ‬مئة‭ ‬برنامج‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬وحدها،‭ ‬أكثرها‭ ‬أسسه‭ ‬خريجو‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭. ‬ولا‭ ‬يختلف‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬البرامج‭ ‬المشابهة‭ ‬له،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬سواها‭ ‬من‭ ‬البرامج‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬العالم،‭ ‬لكن‭ ‬قيمته‭ ‬تكمن،‭ ‬كما‭ ‬أسلفت،‭ ‬في‭ ‬ريادته‭ ‬وفي‭ ‬الأثر‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬تركه،‭ ‬ولا‭ ‬يزال،‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬والأدباء‭ ‬الأميركيين‭. ‬ولما‭ ‬للبرنامج‭ ‬من‭ ‬مكانة‭ ‬مرموقة،‭ ‬يتباهى‭ ‬خريجوه‭ ‬بانضمامهم‭ ‬له‭ ‬وبعبورهم‭ ‬عالمَ‭ ‬الكتابة‭ ‬الاحترافية‭ ‬بوساطته؛‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬أيضا‭ ‬أغوى‭ ‬البرنامجُ‭ ‬عبر‭ ‬السنين‭ ‬قائمة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬الأميركيين،‭ ‬لعل‭ ‬أهمهم‭ ‬تشارلز‭ ‬رايت،‭ ‬وبول‭ ‬هاردنغ،‭ ‬وغين‭ ‬سمايلي،‭ ‬وساندرا‭ ‬سيسنيرو،‭ ‬وغيرهم‭. ‬كما‭ ‬درّس‭ ‬في‭ ‬البرنامج‭ ‬زمرة‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬الأدباء‭ ‬الأميركيين‭ ‬مكانةً؛‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬الشاعر‭ ‬والروائي‭ ‬روبرت‭ ‬بن‭ ‬وارن،‭ ‬والشاعر‭ ‬فيليب‭ ‬ليفين،‭ ‬والروائي‭ ‬فيليب‭ ‬روث،‭ ‬والشاعر‭ ‬مارك‭ ‬ستراند،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬الروائية‭ ‬ميريلين‭ ‬روبنسن‭. ‬

برامج-الكتابة-الإبداعية4

بول إنغل وعائلته

‭‬محارب‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة

لا‭ ‬يكاد‭ ‬يُذكر‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ذكر‭ ‬بول‭ ‬إنغل،‭ ‬الذي‭ ‬ضمّن‭ ‬بينيت‭ ‬اسمه‭ ‬في‭ ‬عنوان‭ ‬كتابه‭ ‬الفرعيّ،‭ ‬ثاني‭ ‬من‭ ‬استلم‭ ‬مهامّ‭ ‬إدارة‭ ‬الورشة،‭ ‬وهو‭ ‬رجل‭ ‬عصامي‭ ‬من‭ ‬آيوا،‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬وُصف‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬محارب‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‮»‬‭. ‬قبل‭ ‬انضمام‭ ‬إنغل‭ ‬لبرنامج‭ ‬آيوا‭ ‬تجاذبته‭ ‬الأفكارُ‭ ‬والأهواء‭ ‬السياسية‭ ‬والحركات‭ ‬الفكرية،‭ ‬وتقلّب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬ردحًا‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬حتى‭ ‬حينما‭ ‬انتهت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬يسير‭ ‬مع‭ ‬التيار‭ ‬المناوئ‭ ‬للشيوعية‭. ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬إدارة‭ ‬إنغل،‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬مدة‭ ‬أربعة‭ ‬وعشرين‭ ‬عامًا‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬1941م،‭ ‬أضحى‭ ‬البرنامجُ‭ ‬علامةً‭ ‬فارقةً‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافيّ‭ ‬الأميركيّ،‭ ‬حتى‭ ‬طبقت‭ ‬شهرتُه‭ ‬فيما‭ ‬بعدُ‭ ‬الآفاقَ‭. ‬جديرٌ‭ ‬بالذكر‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭ ‬عند‭ ‬سماع‭ ‬اسم‭ ‬إنغل‭ ‬قدرتُه‭ ‬الفائقة‭ ‬على‭ ‬تحصيل‭ ‬التبرعات‭ ‬للبرنامج‭ ‬وجلب‭ ‬الداعمين‭. ‬

لقد‭ ‬استحلب‭ ‬إنغل‭ ‬جيوبَ‭ ‬رجالِ‭ ‬الأعمال‭ ‬من‭ ‬الحزب‭ ‬المحافظ‭ ‬مستغلًّا‭ ‬عداءهم‭ ‬غير‭ ‬المشروط‭ ‬للبروباغندا‭ ‬الشيوعية‭ ‬التي‭ ‬يصدّرها‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ؛‭ ‬أقنعهم‭ ‬بأن‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭ ‬يحمي‭ ‬القيم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬أميركا‭ ‬وفي‭ ‬خارجها‭. ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬داعمي‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭ ‬مؤسسةُ‭ ‬روكفيلر‭ ‬المشهورة‭ ‬التي‭ ‬ضخّت‭ ‬أربعين‭ ‬ألف‭ ‬دولار،‭ ‬مبلغ‭ ‬ضخم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬لصالح‭ ‬البرنامج‭ ‬إبّان‭ ‬حقبة‭ ‬إدارة‭ ‬إنغل‭. ‬كما‭ ‬قامت‭ ‬المجلات‭ ‬والدوريات‭ ‬الثقافية،‭ ‬بإيعاز‭ ‬من‭ ‬إنغل،‭ ‬بدور‭ ‬واسع‭ ‬في‭ ‬الدعاية‭ ‬للبرنامج‭ ‬والترويج‭ ‬لنشاطه‭. ‬في‭ ‬آيوا‭ ‬هُيِّئ‭ ‬المكان‭ ‬لجذب‭ ‬الكُتَّاب،‭ ‬واحتُفي‭ ‬بالكُتَّاب‭ ‬المنضمين‭ ‬للورشة‭ ‬عبر‭ ‬نشر‭ ‬قصصهم‭ ‬وقصائدهم‭ ‬في‭ ‬أرفع‭ ‬المجلات‭ ‬الأدبية،‭ ‬وأقيمت‭ ‬الفعاليات‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬دائمًا‭ ‬تحمل‭ ‬على‭ ‬عاتقها‭ ‬الاضطلاع‭ ‬بدور‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ،‭ ‬وإذكاء‭ ‬الرُّوح‭ ‬الوطنية‭ ‬الأميركية‭. ‬

لكن‭ ‬دور‭ ‬التمويل‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬بحال‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬الأعمال‭ ‬من‭ ‬اليمين‭ ‬المحافظ،‭ ‬بل‭ ‬ساهمت‭ ‬فيه‭ ‬جهات‭ ‬حكومية‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬مقالة‭ ‬مثيرة‭ ‬للجدل،‭ ‬نشرها‭ ‬موقع‭ ‬The Chronicle of Higher Education‭ ‬قبل‭ ‬عامين‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬كيف‭ ‬سطّحت‭ ‬آيوا‭ ‬الأدبَ‮»‬‭ ‬وصف‭ ‬إيريك‭ ‬بينيت‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬الملتحقين‭ ‬ببرنامج‭ ‬آيوا‭ ‬بالمجنَّدين‭ ‬الذين‭ ‬جُندوا‭ ‬بمساعدة‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية؛‭ ‬للمحاربة‭ ‬على‭ ‬جبهتين‭: ‬جبهة‭ ‬عسكرية‭ (‬البروباغندا‭ ‬الشيوعية‭)‬،‭ ‬وأخرى‭ ‬جمالية‭ (‬التجريد‭). ‬بوضعه‭ ‬برنامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬سياقه‭ ‬السياسيّ،‭ ‬رأى‭ ‬بينيت‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬تضررت‭ ‬بفعل‭ ‬إغداق‭ ‬الأموال‭ ‬الحكومية‭ ‬على‭ ‬البرنامج،‭ ‬منتقدًا‭ ‬ما‭ ‬غدا‭ ‬يُعرَف‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الثقافية‭ ‬بـ«نموذج‭ ‬آيوا‮»‬‭ ‬الكتابي‭.‬

أخذ‭ ‬بينيت‭ ‬على‭ ‬البرنامج‭ ‬تحديدًا‭ ‬الرؤيةَ‭ ‬الضيقةَ‭ ‬المحبطة‭ ‬التي‭ ‬تُدرَّس‭ ‬في‭ ‬ورشة‭ ‬آيوا،‭ ‬وحجم‭ ‬التفاعل‭ ‬الثقافيّ‭ ‬المختزل،‭ ‬وضيق‭ ‬التعريف‭ ‬المعتمد‭ ‬هناك‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬أدبيّ‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭. ‬وارتكز‭ ‬على‭ ‬تجربته‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬آيوا؛‭ ‬إذ‭ ‬الخيارات‭ ‬الفنية‭ ‬والجمالية‭ ‬المتاحة‭ ‬أمام‭ ‬الكاتب‭ ‬محدودة،‭ ‬ويتبعها‭ ‬المدرسون‭ ‬وخريجو‭ ‬البرنامج‭ ‬بولاء‭ ‬وتفانٍ‭ ‬أعميَيْنِ‭. ‬تلك‭ ‬الخيارات‭ ‬شكّلت‭ ‬قوالبَ‭ ‬يمكن‭ ‬اتباعها‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬كتابة‭ ‬روايات‭ ‬رائجة‭ ‬وناجحة،‭ ‬لكن‭ ‬حسب‭ ‬مقاييس‭ ‬ضيقة؛‭ ‬أصبحت‭ ‬تعتمدها‭ ‬سوق‭ ‬الكتاب‭ ‬الإبداعيّ‭. ‬

أما‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالتمويل،‭ ‬فقد‭ ‬انطلق‭ ‬بينيت‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬مضمونها‭ ‬أن‭ ‬المخابرات‭ ‬الأميركية‭ ‬قامت‭ ‬بتمويل‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا؛‭ ‬إذ‭ ‬ضخَّت‭ ‬لصالح‭ ‬البرنامج‭ ‬مؤسسة‭ ‬فارفيلد،‭ ‬وهي‭ ‬بحسب‭ ‬وصف‭ ‬بينيت‭ ‬‮«‬جبهة‭ ‬مرتبطة‭ ‬بوكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية‭ ‬تُعنَى‭ ‬بالعمليات‭ ‬الثقافية‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬العالم،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منظمة‭ ‬تدعى‭ ‬‮«‬الكونغرس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬الثقافية‮»‬‭ ‬آلاف‭ ‬الدولارات‭. ‬كان‭ ‬إلحاح‭ ‬إنغل‭ ‬عاملًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬في‭ ‬تحصيل‭ ‬ذلك‭ ‬الدعم‭ ‬وغيره‭. ‬مما‭ ‬أورده‭ ‬بينيت‭ ‬رسالةٌ‭ ‬بعثها‭ ‬إنغل‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسة‭ ‬روكفيلر‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬‮«‬إنني‭ ‬واثق‭ ‬من‭ ‬أنكم‭ ‬قد‭ ‬شاهدتم‭ ‬مؤخرًا‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬يؤسّس‭ ‬جامعةً‭ ‬في‭ ‬موسكو‭ ‬تستقبل‭ ‬الطلاب‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬الدولة‮»‬‭. ‬أبدى‭ ‬إنغل‭ ‬في‭ ‬الرسالة‭ ‬مخاوفه‭ ‬من‭ ‬‮«‬التلقين‭ ‬الأيديولوجيّ‭ ‬المتوقع‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬سيتلقاه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجامعة‭ ‬آلافُ‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬تأمين‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬تعليم‭ ‬أكاديميّ‭ ‬من‭ ‬قبلُ‭. ‬لمَّح‭ ‬إلى‭ ‬خطورة‭ ‬قَوْلبة‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬واحد‭ ‬مراقب،‭ ‬وعَدَّ‭ ‬ذلك‭ ‬تكتيكًا‭ ‬سوفييتيًّا‭ ‬مألوفًا،‭ ‬ثم‭ ‬ألحَّ‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬أنْ‭ ‬تنافس‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬الاتحادَ‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار‭ ‬الحيويّ،‭ ‬وإن‭ ‬اضطرت‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬مكان‭ ‬واحد‭ ‬ومراقب‭ ‬مثل‭ ‬الذي‭ ‬يُشرف‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬آيوا‭. ‬وفي‭ ‬رسالة‭ ‬أخرى‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية،‭ ‬وعد‭ ‬إنغل‭ ‬الوكالة‭ ‬ببناء‭ ‬برنامج‭ ‬للطلاب‭ ‬الأميركيين‭ ‬والأجانب‭ ‬على‭ ‬السواء‭ ‬يكون‭ ‬‮«‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬المحيطَيْن‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬‮«‬قلب‭ ‬الوسط‭ ‬الغربيّ‭ ‬الأميركيّ‮»‬؛‭ ‬ليعلمهم‭ ‬أميركا‭ ‬الحقيقية؛‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬ولاية‭ ‬آيوا‭ ‬الجغرافيّ‭ ‬من‭ ‬جسد‭ ‬أميركا‭. ‬

.

.

برامج-الكتابة-الإبداعية5


بول إنغل يقرأ وسط مجموعة من الطلاب في ورشة آيوا للكتّاب في الخمسينيات

السياسة‭ ‬والأيديولوجيا

بحسب‭ ‬النقد‭ ‬الجديد،‭ ‬تكون‭ ‬الملامح‭ ‬الأيديولوجيّة‭ ‬للعمل‭ ‬الأدبيّ‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال‭ ‬عديمة‭ ‬الصلة‭ ‬بالقيم‭ ‬الجمالية‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭. ‬وإن‭ ‬استطاعت‭ ‬الظهور‭ ‬أو‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القيم‭ ‬فهي‭ ‬عنصر‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيه‭ ‬ودخيل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إبداعيًّا‭ ‬محضًا‭ ‬ومتخيَّلًا‭ ‬صِرفًا‭. ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس،‭ ‬مُنح‭ ‬مصطلحُ‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬دلالاتٍ‭ ‬سلبيةً‭ ‬بالضرورة،‭ ‬وتكاد‭ ‬تكون‭ ‬شيطانية،‭ ‬وارتبط‭ ‬ارتباطًا‭ ‬وثيقًا‭ ‬بالشيوعية،‭ ‬ولهذا‭ ‬تماشى‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬الذعر‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬المجتمع‭ ‬الأميركيّ‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭. ‬بطريقة‭ ‬ما،‭ ‬كان‭ ‬المصطلح‭ ‬يعادل‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬السياسة‮»‬‭ ‬سيئ‭ ‬الذِّكْر‭ ‬آنذاك‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬مفارقة‭ ‬كبرى‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاوزها‭ ‬بسهولة‭ ‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬للتو،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬محاولة‭ ‬عزل‭ ‬الأدب‭ ‬عن‭ ‬السياسة،‭ ‬وعزل‭ ‬الفن‭ ‬عن‭ ‬الأيديولوجيا،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬محاولة‭ ‬سياسية‭ ‬وأيديولوجيّة‭ ‬بامتياز‭. ‬ويمكن‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬مصطلحًا‭ ‬مثل‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬تعرّض‭ ‬لأَدْلَجة‭ ‬صارخة،‭ ‬وتشويه‭ ‬متعمّد‭ ‬أُريدَ‭ ‬منه‭ ‬ترسيخ‭ ‬فوبيا‭ ‬الشيوعية‭ ‬لدى‭ ‬المجتمع‭ ‬الأميركيّ‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬

لم‭ ‬تألُ‭ ‬الحكومة‭ ‬الفيدرالية‭ ‬جهدًا‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬الشيوعية‭ ‬على‭ ‬الأصعدة‭ ‬كافة،‭ ‬وضخّت‭ ‬أموالًا‭ ‬طائلة‭ ‬إلى‭ ‬التعليم‭ ‬العالي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬آمنت‭ ‬أنها‭ ‬تخوض‭ ‬مع‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬معركة‭ ‬أفكار‭. ‬لقد‭ ‬عوَّلت‭ ‬الحكومة‭ ‬الأميركية‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬وما‭ ‬أعقبها،‭ ‬على‭ ‬الجامعة‭ ‬بوصفها‭ ‬حاضنة‭ ‬للشباب،‭ ‬وركزت‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يتلقّاه‭ ‬الطلاب‭ ‬الجامعيون‭ ‬في‭ ‬الصفّ‭ ‬الأكاديميّ‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لقاحًا‭ ‬ضدّ‭ ‬الموجات‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬تتناهب‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض‭. ‬وكان‭ ‬الإعلام‭ ‬يقوم‭ ‬بالدور‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬جبهة‭ ‬أخرى؛‭ ‬إذ‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬استثمار‭ ‬المخاوف‭ ‬والآمال‭ ‬التي‭ ‬وسمت‭ ‬حقبة‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المجلات‭ ‬حماسةً‭ ‬للخطوات‭ ‬التحصينية‭ ‬ضد‭ ‬المشروع‭ ‬الشيوعيّ،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مشروع‭ ‬ورشة‭ ‬آيوا،‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬تايم‮»‬‭ ‬ذائعة‭ ‬الصيت‭. ‬
.

.

‬تصور‭ ‬فقير‭ ‬منزوع‭ ‬الإنسانية‭ ‬للعلم

على‭ ‬نطاق‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬البرنامج،‭ ‬ركز‭ ‬الخطاب‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬النَّيْل‭ ‬من‭ ‬الخطاب‭ ‬الشيوعيّ،‭ ‬ووصمه‭ ‬بالخطاب‭ ‬الأيديولوجيّ‭ ‬المحض‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬تناقض‭ ‬كبير؛‭ ‬إذ‭ ‬سعت‭ ‬الجهود‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بها‭ ‬جهات‭ ‬ومؤسسات‭ ‬مختلفة‭ ‬إلى‭ ‬تضخيم‭ ‬خطر‭ ‬الأيديولوجيا،‭ ‬لكن‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬الشيوعية‭ ‬فقط،‭ ‬كأن‭ ‬الخطاب‭ ‬المناهض‭ ‬للشيوعية‭ ‬ليس‭ ‬أيديولوجيًّا‭. ‬أهم‭ ‬المؤسسات‭ ‬التي‭ ‬رفدت‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬المتناقض‭ ‬المؤسسة‭ ‬الأكاديمية‭. ‬ففي‭ ‬الأربعينيات‭ ‬والخمسينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬ظهر‭ ‬دعاة‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬النقد‭ ‬الجديد‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬تقدير‭ ‬التعقيد‭ ‬الشكلانيّ‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الأدبيّ،‭ ‬وعزله‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬خارج‭ ‬النصّ‭. ‬تصب‭ ‬مدرسة‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬تركيزها‭ ‬عند‭ ‬دراسة‭ ‬العمل‭ ‬الأدبيّ‭ ‬على‭ ‬‮«‬الكلمات‭ ‬على‭ ‬الصفحة‮»‬‭ ‬،‭ ‬وتنطلق‭ ‬من‭ ‬مسلمات‭ ‬أهمهُّا‭ ‬أن‭ ‬اللغةَ‭ ‬الأدبية‭ ‬شكلٌ‭ ‬خاصّ‭ ‬يعمل‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬الاستخدامات‭ ‬اللغوية،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ -‬أيضًا‭- ‬مُباينةٌ‭ ‬للغة‭ ‬العلمِ‭ ‬الحرفيةِ‭ ‬والمباشِرة‭ ‬في‭ ‬الدلالة‭. ‬

دفع‭ ‬مؤسسيي‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬نفورٌ‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬والعقلانية‭ ‬اللذين‭ ‬احتَفَتْ‭ ‬بهما‭ ‬الرأسمالية؛‭ ‬لأنهما‭ ‬قدَّما‭ ‬تصورًا‭ ‬فقيرًا‭ ‬ومنزوع‭ ‬الإنسانية‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬الرُّوحانية‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬السحر؛‭ ‬لذلك‭ ‬ركزت‭ ‬مقاربتهم‭ ‬في‭ ‬استقصاء‭ ‬العناصر‭ ‬التي‭ ‬تصبغ‭ ‬الأدبية‭ ‬على‭ ‬نص‭ ‬ما،‭ ‬والنتيجة‭ ‬أن‭ ‬أوْلت‭ ‬مقاربتهم‭ ‬اللغةَ‭ ‬المجازيةَ،‭ ‬والمفارقةَ،‭ ‬والغموضَ‭ ‬اهتمامًا‭ ‬كبيرًا‭. ‬هكذا‭ ‬أحال‭ ‬الاحتكامُ‭ ‬إلى‭ ‬قيم‭ ‬جمالية‭ ‬محضة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬تحليل‭ ‬النصوص‭ ‬وتأويلها‭ ‬الأدبَ‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬مختلق‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الخيال‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قُطعت‭ ‬أطنابُ‭ ‬السياقات‭ ‬التي‭ ‬نشأ‭ ‬فيها‭ ‬وعُدَّت‭ ‬التأويلات‭ ‬الخارجية‭ ‬للأدب‭ ‬باطلة؛‭ ‬لأن‭ ‬العالم‭ ‬الواقعيّ‭ ‬منفصل‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭. ‬رفض‭ ‬النقدُ‭ ‬الجديدُ‭ ‬المناهجَ‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬سبقته‭ (‬مثل‭: ‬النقد‭ ‬التاريخيّ،‭ ‬والنقد‭ ‬الماركسيّ،‭ ‬ونقد‭ ‬التحليل‭ ‬النفسيّ،‭ ‬والنقد‭ ‬البيوغرافيّ،‭ ‬ونقد‭ ‬استجابة‭ ‬القارئ‭) ‬بوصفها‭ ‬خاطئة،‭ ‬متّهمًا‭ ‬إياها‭ ‬بمساواة‭ ‬الأدبيّ‭ ‬بما‭ ‬ليس‭ ‬أدبيًّا‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬فقدت‭ ‬لاحقًا‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬وَهَجها‭ ‬بفضل‭ ‬حركات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬البنيوية،‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تشكّل‭ ‬حضورًا‭ ‬قويًّا‭ ‬في‭ ‬الأكاديميا‭ ‬والثقافة‭ ‬بشكل‭ ‬عامّ؛‭ ‬إذ‭ ‬يركن‭ ‬إليها‭ ‬كثيرٌ‭ ‬ممن‭ ‬يؤمن‭ ‬بأن‭ ‬النص‭ ‬الأدبيّ‭ ‬وَحْدَة‭ ‬مستقلّة‭ ‬من‭ ‬الإبداع‭ ‬الإنسانيّ‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬منعزلةً‭ ‬عن‭ ‬السياقات‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬أُنتج‭ ‬فيها‭ ‬العمل،‭ ‬وأن‭ ‬العقل‭ ‬المبدع‭ ‬يحظى‭ ‬باستقلال‭ ‬ذاتيّ‭ ‬له‭ ‬كامل‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬العمل‭ ‬الفنيّ‭ ‬أو‭ ‬الأدبيّ‭. ‬وتنسحب‭ ‬هذه‭ ‬الاستقلالية‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬الأدبيّ‭ ‬نفسه؛‭ ‬إذ‭ ‬ينطوي‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحتاجه‭ ‬المتلقي‭ ‬لفهم‭ ‬العمل‭ ‬وتذوُّقه‭ ‬وتقديره‭. ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬مواءمتُه‭ ‬للمنظمات،‭ ‬وما‭ ‬تشيعه‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬واللغة‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬لها‭. ‬بالنسبة‭ ‬لتلك‭ ‬المنظمات،‭ ‬حكوماتٍ‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬مؤسساتٍ‭ ‬ثقافيةً،‭ ‬فإن‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬عليها‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬مريحة‭ ‬وغير‭ ‬مزعجة؛‭ ‬لأنها‭ ‬مأمونة‭ ‬الجانب‭ ‬ومتوقعة‭ ‬التصرفات‭. ‬

برامج-الكتابة-الإبداعية7

وحين‭ ‬حدثت‭ ‬طفرة‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة؛‭ ‬برزت‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مناهج‭ ‬فعَّالة‭ ‬وعملية‭ ‬لمقاربة‭ ‬الأدب‭ ‬وتدريسه،‭ ‬فالارتفاع‭ ‬المفاجئ‭ ‬والسريع‭ ‬لِقَبول‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الأدب‭ ‬في‭ ‬أقسام‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬حينما‭ ‬انتهت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية؛‭ ‬أفضى‭ ‬إلى‭ ‬صفوف‭ ‬متكدّسة‭ ‬ومدرسين‭ ‬تعوزهم‭ ‬الخبرة‭. ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬أهمية‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬يقدّم‭ ‬نموذجًا‭ ‬لتحليل‭ ‬الأدب‭ ‬وتأويله،‭ ‬يتَّسم‭ ‬بأنه‭ ‬مبسّط‭ ‬ومعياريّ،‭ ‬وأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كلِّه‭ ‬سهل‭ ‬التدريس‭. ‬كما‭ ‬واكب‭ ‬هذه‭ ‬التطورات‭ ‬الأكاديمية‭ ‬ميلٌ‭ ‬إلى‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بأفضلية‭ ‬الأدب‭ ‬الغربيّ‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬السوفييتيّ،‭ ‬وبخاصة‭ ‬مع‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالحداثة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬الشكل‭ ‬الأقصى‭ ‬للأدب‭ ‬الغربيّ‭. ‬ونتج‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الميل‭ ‬تنحيةُ‭ ‬الرواية‭ ‬الواقعية‭ ‬عن‭ ‬المنهج‭ ‬الذي‭ ‬يدرس‭ ‬في‭ ‬الأكاديميا‭ ‬وتهميشها،‭ ‬وإدراج‭ ‬الأدب‭ ‬الحداثيّ‭ ‬عوضًا‭ ‬منها؛‭ ‬لاهتمامه‭ ‬بالجماليات،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬مهمشًا‭ ‬ومُزدرًى‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬وقتًا‭ ‬طويلًا‭. ‬وفي‭ ‬الحال‭ ‬اعتنقت‭ ‬برامجُ‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬أعرافَ‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬ودرّستها‭ ‬في‭ ‬ورش‭ ‬الكتابة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وجدت‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسخيره‭ ‬لخدمة‭ ‬العاطفة‭ ‬المناوئة‭ ‬للشيوعية،‭ ‬والمروِّجة‭ ‬للفردانية‭ ‬الأميركية،‭ ‬ساعدها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أسبابٌ‭ ‬عملية‭ ‬أخرى؛‭ ‬مثل‭: ‬نزوع‭ ‬الجامعات‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬حدود‭ ‬واضحة‭ ‬بين‭ ‬التخصصات‭ ‬المختلفة‭ ‬وغيرها‭. ‬

ليست‭ ‬الأعراف‭ ‬الأدبية‭ ‬والنقدية‭ ‬وَحْدَها‭ ‬ما‭ ‬سُخر‭ ‬لخدمة‭ ‬السياسيّ،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬مُثُلًا‭ ‬وقيمًا‭ ‬استُخدمت‭ ‬للغرض‭ ‬نفسه‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬فرانسيس‭ ‬ستونر‭ ‬سوندرز‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬الثقافية»؛‭ ‬إذ‭ ‬جزم‭ ‬سوندرز‭ ‬بأن‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬قُدّرت‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬أعز‭ ‬مكتسبات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الليبرالية‭ ‬قيمةً،‭ ‬سُخرت‭ ‬لخدمة‭ ‬أجندات‭ ‬سِرّية‭. ‬وحاول‭ ‬سوندرز‭ ‬كشف‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الجهود‭ ‬الاستثنائية‭ ‬التي‭ ‬تورّط‭ ‬فيها‭ ‬أكثر‭ ‬دعاة‭ ‬الحرية‭ ‬الثقافية‭ ‬حماسةً‭ ‬في‭ ‬الغرب؛‭ ‬إذ‭ ‬كانوا‭ ‬يعملون‭ ‬لصالح‭ ‬السي‭ ‬آي‭ ‬إيه‭ ‬أو‭ ‬بدعم‭ ‬منها،‭ ‬سواءُ‭ ‬أعلموا‭ ‬بذلك‭ ‬أم‭ ‬لم‭ ‬يعلموا‭. ‬ركز‭ ‬سوندرز‭ ‬في‭ ‬تقصّي‭ ‬برنامج‭ ‬السي‭ ‬آي‭ ‬إيه‭ ‬السِّرِّيّ‭ ‬للتدخلات‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬أميركا؛‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬خطة‭ ‬احتواء‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تذويب‭ ‬شغف‭ ‬النخب‭ ‬الثقافية‭ ‬بالشيوعية،‭ ‬مستعينًا‭ ‬بوثائق‭ ‬وأدلّة‭ ‬تثبت‭ ‬استغلال‭ ‬أميركا‭ ‬رموزًا‭ ‬ثقافية؛‭ ‬مثل‭: ‬إيزايا‭ ‬برلين،‭ ‬وجورج‭ ‬أورويل،‭ ‬وجاكسون‭ ‬بولوك،‭ ‬وهانا‭ ‬آرنت،‭ ‬واستخدامهم‭ ‬كأسلحة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭. ‬

الراقصون‭ ‬بوصفهم‭ ‬دبلوماسيين

انضمّ‭ ‬إلى‭ ‬المقالات‭ ‬والكتب‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بالإبداع‭ ‬كِتابٌ‭ ‬آخر‭ ‬صدر‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬الراقصون‭ ‬باعتبارهم‭ ‬دبلوماسيين‮»‬‭ ‬لكلير‭ ‬كروفت‭. ‬يحلل‭ ‬كتاب‭ ‬كروفت‭ ‬الذي‭ ‬استندت‭ ‬في‭ ‬تأليفه‭ ‬إلى‭ ‬مقابلات‭ ‬كثيرة‭ ‬أجرتْها‭ ‬مع‭ ‬مصممي‭ ‬رقص‭ ‬وراقصين،‭ ‬كيف‭ ‬سخّرت‭ ‬الحكومة‭ ‬الأميركية‭ ‬الرقصَ‭ ‬في‭ ‬تصدير‭ ‬صورة‭ ‬مثالية‭ ‬لأميركا،‭ ‬ويختبر‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬الدبلوماسيّ‭ ‬الثقافيّ‭ ‬في‭ ‬مرحلتين‭ ‬مهمتين‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأميركية‭: ‬العقود‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬والجزء‭ ‬المنقضي‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭. ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬استهدفت‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬ظُنّ‭ ‬أنها‭ ‬أكثر‭ ‬عرضة‭ ‬للتأثير‭ ‬الشيوعيّ‭ ‬الصينيّ‭ ‬السوفييتيّ؛‭ ‬مثل‭: ‬أوربا‭ ‬الشرقية،‭ ‬وأميركا‭ ‬اللاتينية،‭ ‬وجنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭. ‬

وفي‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬عقب‭ ‬أحداث‭ ‬11‭ ‬سبتمبر،‭ ‬تحوَّلتْ‭ ‬بوصلةُ‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الثقافية‭ ‬الأميركية‭ ‬لتستهدف‭ ‬مناطق‭ ‬يدين‭ ‬أكثر‭ ‬سكانها‭ ‬بالإسلام‭ ‬ومعظمها‭ ‬في‭ ‬آسيا‭. ‬خلال‭ ‬هاتين‭ ‬الحقبتين‭ ‬كان‭ ‬نشاط‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الثقافية‭ ‬قائمًا‭ ‬على‭ ‬أشُدِّه؛‭ ‬إذ‭ ‬بعثت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬فنانين‭ ‬إلى‭ ‬الخارج،‭ ‬بوصفهم‭ ‬ممثلين‭ ‬رسميين‭ ‬لها،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬أعمالًا‭ ‬فنية‭ ‬من‭ ‬لوحاتٍ‭ ‬وسواها،‭ ‬بوصفها‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬برامج‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬نفذتها‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬متفرقة‭ ‬من‭ ‬العالم‭. ‬ولعل‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬عروض‭ ‬الرقص‭ ‬دلالةً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬عام‭ ‬1962م‭ ‬حين‭ ‬أدَّت‭ ‬فرقة‭ ‬باليه‭ ‬مدينة‭ ‬نيويورك‭ ‬عرض‭ ‬‮«‬ويسترن‭ ‬سيمفوني‮»‬‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬مسرح‭ ‬بولشوي‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬موسكو‭. ‬كان‭ ‬حدثًا‭ ‬رمزيًّا؛‭ ‬إذ‭ ‬عُزف‭ ‬قبل‭ ‬بدئه‭ ‬نشيدا‭ ‬أميركا‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬الوطنيان،‭ ‬وقاد‭ ‬فرقةَ‭ ‬الراقصين‭ ‬والراقصات‭ ‬الأميركية‭ ‬مهاجرٌ‭ ‬روسيٌّ‭ ‬يُدعَى‭ ‬جورج‭ ‬بالانشين‭. ‬قوبل‭ ‬العرض‭ ‬بحفاوة‭ ‬شديدة؛‭ ‬بسبب‭ ‬ما‭ ‬عزته‭ ‬الكاتبة‭ ‬إلى‭ ‬الاختلافات‭ ‬الجمالية‭ ‬بين‭ ‬الباليه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الدولتين،‭ ‬وإلى‭ ‬تزامن‭ ‬العرض‭ ‬مع‭ ‬أزمة‭ ‬الصواريخ‭ ‬الكوبية‭ ‬التي‭ ‬كادت‭ ‬الحرب‭ ‬أن‭ ‬تندلع‭ ‬بين‭ ‬الدولتين‭ ‬بسببها‭. ‬على‭ ‬عكس‭ ‬التحذيرات‭ ‬التي‭ ‬تلقاها‭ ‬فريق‭ ‬الباليه‭ ‬باحتمالية‭ ‬أن‭ ‬يواجه‭ ‬جمهورًا‭ ‬غاضبًا‭ ‬في‭ ‬المسرح،‭ ‬كان‭ ‬الحضور‭ ‬مبتهجًا،‭ ‬وقابل‭ ‬الفريق‭ ‬بتصفيق‭ ‬حارّ‭ ‬وهتاف‭ ‬طويل‭.‬

برامج-الكتابة-الإبداعية6

مبنى ورشة آيوا للكتابة الإبداعية

عن‭ ‬هذا‭ ‬العرض‭ ‬كتبت‭ ‬كروفت‭: ‬‮«‬من‭ ‬خلال‭ ‬إرسال‭ ‬باليه‭ ‬مدينة‭ ‬نيويورك‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬بوصفه‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الأميركية‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين؛‭ ‬اخترقت‭ ‬وزارةُ‭ ‬الخارجية‭ ‬الأميركية‭ ‬والمسرحُ‭ ‬القومي‭ ‬الأميركي‭ ‬والأكاديميةُ،‭ ‬الجهة‭ ‬التي‭ ‬اختارت‭ ‬الفنانين‭ ‬لجولات‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية،‭ ‬اخترقتا‭ ‬الستارة‭ ‬الحديدية‭ ‬بفن‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬أشكال‭ ‬الفنون‭ ‬المحبوبة‭ ‬في‭ ‬روسيا‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬الجولات‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬موّلتها‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأميركية‭ ‬ضمن‭ ‬برامج‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الثقافية،‭ ‬تحمّل‭ ‬السفراء‭ ‬الثقافيون،‭ ‬الراقصون‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الفنانين،‭ ‬مسؤولية‭ ‬تصدير‭ ‬سردية‭ ‬وطنية‭ ‬مهيمنة‭ ‬تحاول،‭ ‬وإنْ‭ ‬عبثًا،‭ ‬أن‭ ‬تطرد‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬تُهمًا‭ ‬محتملة‭. ‬أكَّد‭ ‬مسؤولون‭ ‬حكوميون‭ ‬للفنانين‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الجولات‭ ‬الدولية‭ ‬أن‭ ‬عملهم‭ ‬ليس‭ ‬سياسيًّا،‭ ‬كما‭ ‬أشار‭ ‬بعض‭ ‬الفنانين‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مسؤولين‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬أَمْلَوْا‭ ‬على‭ ‬الراقصين‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬تحضيرات‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الجولة‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭ ‬العاصمة‭ ‬تعليماتٍ‭ ‬محددةً‭ ‬طلبوا‭ ‬فيها‭ ‬منهم‭ ‬ألَّا‭ ‬يخوضوا‭ ‬في‭ ‬محادثات‭ ‬سياسية‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬وجودهم‭ ‬في‭ ‬الخارج‭. ‬

عمد‭ ‬المسؤولون‭ ‬عن‭ ‬برامج‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الثقافية‭ ‬إلى‭ ‬إفهام‭ ‬الفنانين‭ ‬أن‭ ‬تصرفاتهم‭ ‬تمثّل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية،‭ ‬وحضّهم‭ ‬على‭ ‬تجنّب‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سياسيًّا؛‭ ‬مثل‭: ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬حرب‭ ‬فيتنام‭ ‬في‭ ‬الستينيات‭. ‬وبحسب‭ ‬كروفت،‭ ‬فإن‭ ‬إرسال‭ ‬فنانين‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬يُعَدّ‭ ‬خطوة‭ ‬مهمة‭ ‬للحكومة‭ ‬الأميركية؛‭ ‬لأنه‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬على‭ ‬مسؤولي‭ ‬الحكومة‭ ‬أن‭ ‬يديروا‭ ‬الفنانين‭ ‬بحساسية‭ (‬إذ‭ ‬الفنانون‭ ‬بخلاف‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬الجامدة،‭ ‬غير‭ ‬متوقعي‭ ‬التصرف‭)‬،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتصرف‭ ‬الفنانون‭ ‬كبُرْهان‭ ‬على‭ ‬وعد‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الأميركية‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬حكومة‭ ‬يسمح‭ ‬بمعارضة‭ ‬فردية‮»‬‭. ‬ثبت‭ ‬أن‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الأميركية‭ ‬يمكن‭ ‬تصديرُها‭ ‬بوساطة‭ ‬عروض‭ ‬الرقص،‭ ‬والدراما‭ ‬الحية‭ ‬بطريقة‭ ‬أفضل‭ ‬وأنجع‭ ‬من‭ ‬تصديرها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مباشر‭. ‬

في‭ ‬الختام،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يذهب‭ ‬الظنّ‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬منيع‭ ‬ضد‭ ‬التدخّل‭ ‬السياسيّ‭ ‬لَهُو‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الحال‭ ‬وثيق‭ ‬الارتباط‭ ‬به‭. ‬لقد‭ ‬بانَ‭ ‬أن‭ ‬برنامجًا‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الوسط‭ ‬الغربيّ‭ ‬الأميركيّ‭ ‬إنما‭ ‬كان‭ ‬مسرحًا‭ ‬لتجاذبات‭ ‬سياسية‭ ‬وفكرية‭ ‬تسافر‭ ‬عبر‭ ‬المحيطات‭. ‬بعض‭ ‬الذين‭ ‬تفاعلوا‭ ‬مع‭ ‬كتابات‭ ‬إريك‭ ‬بينيت‭ ‬وغيره‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬فضح‭ ‬تورُّط‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية‭ ‬الأميركية‭ ‬في‭ ‬تمويل‭ ‬مشاريع‭ ‬ثقافية‭ ‬لصالح‭ ‬أهداف‭ ‬سياسية‭ ‬لم‭ ‬يمانعوا‭ ‬هذا‭ ‬التدخّل‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬أنه‭ ‬يوفّر‭ ‬وظائفَ‭ ‬وتعليمًا‭ ‬للكُتَّاب‭. ‬هذه‭ ‬وجهة‭ ‬نظرة‭ ‬مفهومة،‭ ‬وبينيت‭ ‬نفسه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬ريموند‭ ‬كارفر،‭ ‬وهو‭ ‬يتدرب‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬كتاب‭ ‬غارقين‭ ‬في‭ ‬صيغ‭ ‬معادية‭ ‬للشيوعية،‭ ‬مُدرِكًا‭ ‬أن‭ ‬قصصه‭ ‬القصيرة‭ ‬تقوم‭ ‬بحرب‭ ‬أيديولوجيَّة‭ ‬مع‭ ‬ديكتاتور‭ ‬سوفييتيّ‭ ‬ميت‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬هذه‭ ‬تضمحلّ‭ ‬عند‭ ‬إدراك‭ ‬الضرر‭ ‬الذي‭ ‬يلحقه‭ ‬التدخل‭ ‬السياسيّ‭ ‬ببرامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬والمتمثّل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬التدخّل‭ ‬السياسيّ‭ ‬يفرض‭ ‬شروطه‭ ‬بالضرورة،‭ ‬ويرسخ‭ ‬لجُملة‭ ‬من‭ ‬الأعراف‭ ‬الفنية‭ ‬والقيم‭ ‬الجمالية‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬حضورُها‭ ‬مُهيمِنًا‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الأميركيّ‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭. ‬

لقد‭ ‬نجحت‭ ‬أميركا،‭ ‬كما‭ ‬يبدو،‭ ‬فيما‭ ‬أخفق‭ ‬فيه‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬الصادرات‭ ‬الثقافية‭. ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الإبداع‭ ‬الحقيقيّ‭ ‬قد‭ ‬خسر‭ ‬كثيرًا؛‭ ‬بسبب‭ ‬حقن‭ ‬صفوف‭ ‬الكتابة‭ ‬بأيديولوجيا‭ ‬الإذعان‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬التصريح‭ ‬بها‭ ‬أحد‭. ‬
.

.

رجال‭ ‬مخابرات‭ ‬خريجو‭ ‬ورش‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية

من‭ ‬الجليّ‭ ‬أن‭ ‬إنغل‭ ‬استخدم‭ ‬في‭ ‬مراسلاته‭ ‬للمموّلين‭ ‬لغة‭ ‬سياسية‭ ‬مشفرة‭ ‬تناسب‭ ‬الجو‭ ‬العام،‭ ‬وشدد‭ ‬على‭ ‬نجاعة‭ ‬استخدام‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬الشيوعية‭. ‬وهكذا‭ ‬توافقت‭ ‬رؤيته‭ ‬المعلنة‭ ‬مع‭ ‬رؤية‭ ‬الحكومة‭ ‬الأميركية،‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الكونغرس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬الثقافية‮»‬‭ ‬والهادف‭ ‬في‭ ‬نشاطه‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬إقناع‭ ‬اليسار‭ ‬غير‭ ‬الشيوعيّ‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬وأوربا‭ ‬أن‭ ‬أميركا‭ ‬تَعْنِي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ميكي‭ ‬ماوس‭ ‬وكوكاكولا‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬غريبًا‭ ‬أن‭ ‬قام‭ ‬برنامج‭ ‬‮«‬الكونغرس‮»‬‭ ‬بدفع‭ ‬اشتراكات‭ ‬في‭ ‬مجلات‭ ‬أدبية‭ ‬أميركية‭ ‬لكُتَّاب‭ ‬من‭ ‬الكتلة‭ ‬الشرقية‭ ‬من‭ ‬أوربا،‭ ‬وبخاصة‭ ‬إذا‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬رجال‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬الأميركية‭ ‬هم‭ ‬خريجون‭ ‬سابقون‭ ‬من‭ ‬ورشة‭ ‬آيوا‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية؛‭ ‬مثل‭ ‬الروائيين‭ ‬جون‭ ‬هانت‭ ‬وروبي‭ ‬ماكولي‭. ‬ليس‭ ‬غريبًا‭ ‬–أيضًا‭- ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬إنغل،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أسس‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الستينيات‭ ‬برنامجًا‭ ‬متفرعًا‭ ‬من‭ ‬ورشة‭ ‬آيوا‭ ‬سمَّاه‭ ‬‮«‬برنامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الدوليّ‮»‬،‭ ‬على‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬دولار‭ ‬أميركيّ‭ ‬للسفر‭ ‬إلى‭ ‬آسيا‭ ‬وأوربا؛‭ ‬لتجنيد‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬الشباب،‭ ‬والمثقفين‭ ‬وبخاصة‭ ‬ذوي‭ ‬الميل‭ ‬اليساريّ‭ ‬منهم،‭ ‬ومنحهم‭ ‬زمالات‭ ‬لدراسة‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬آيوا‭. ‬

كان‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬جلب‭ ‬كُتَّاب‭ ‬أجانب‭ ‬أن‭ ‬‮«‬يحبوا‭ ‬أميركا‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬يكتبوا‭ ‬بتفهُّم‭ ‬أكثر‭ ‬عن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية»؛‭ ‬لهذا‭ ‬حرَّر‭ ‬رجال‭ ‬الأعمال‭ ‬المحافظون‭ ‬لصالح‭ ‬مشروعه‭ ‬شيكاتٍ‭ ‬بمبالغَ‭ ‬كبيرةٍ‭ ‬جدًّا‭. ‬لقد‭ ‬نجح‭ ‬إنغل‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬مموّلي‭ ‬البرنامج‭ ‬بأن‭ ‬الأدب‭ ‬سوف‭ ‬ينقذ‭ ‬العالم،‭ ‬وأن‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬بينيت،‭ ‬سوف‭ ‬‮«‬تلقح‭ ‬العقول‭ ‬الضعيفة‭ ‬ضد‭ ‬الأيديولوجيّات‭ ‬الشمولية‭ ‬التبسيطية،‭ ‬وتشفي‭ ‬الجروح‭ ‬الرُّوحية‭ ‬التي‭ ‬أحدثتها‭ ‬الكارثة‭ ‬العالمية،‭ ‬وربما‭ ‬تمنع‭ ‬حدوث‭ ‬أمثالها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‮»‬،‭ ‬ووفقًا‭ ‬للتصوُّر‭ ‬الذي‭ ‬ساهم‭ ‬إنغل‭ ‬في‭ ‬رسمه،‭ ‬يروِّج‭ ‬البرنامج‭ ‬للتجربة‭ ‬الملموسة،‭ ‬والخصوصية‭ ‬الذاتية،‭ ‬والحياة‭ ‬الواقعية‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬بينما‭ ‬يرفض‭ ‬التجريد،‭ ‬والعمومية،‭ ‬والتجارب‭ ‬المدفوعة‭ ‬بالأيديولوجيا‭. ‬ويحتفي‭ ‬بالأدب‭ ‬الذي‭ ‬يُعلي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الحياة‭ ‬الجوَّانية‭ ‬والخاصة‭ ‬بالفرد‭ ‬التي‭ ‬تنعكس‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجارب‭ ‬يعيشها‭ ‬لا‭ ‬تمليها‭ ‬عليه‭ ‬أي‭ ‬أيديولوجيّات‭. ‬إنه‭ ‬يقدم‭ ‬قيمة‭ ‬الفردانية‭ ‬باعتبارها‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬رُوِّج‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وبعدها؛‭ ‬لتناهض‭ ‬الأنظمة‭ ‬الشمولية‭ ‬في‭ ‬نموذجَيِ‭ ‬الفاشية‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬وإيطاليا،‭ ‬والشمولية‭ ‬اليسارية‭ ‬للاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭. ‬