«أُمّةٌ على رِسْلِها» لمها الفيصل… التباسات الهوية وإعادة التفكير في الحضارة
المتأمل في تاريخ الفكر العربي الحديث، منذ محاولاته الأولى في القرن التاسع عشر حتى وقتنا الراهن، سيجد أن سؤال الهوية بالتباساته وتعالقاته كافة هو السؤال المركزي الرئيس الذي انطلقت منه الأطروحات كافة (فهمًا، وقراءةً، وتحليلًا، ونقدًا) للأنا في علاقتها بالآخر. وقد استندت تلك الأطروحات، في معظمها، إلى مواقف أيديولوجية مسبقة تحدد طريقة هذه العلاقة وترسم معالمها. ولهذا ظلت أسيرة ما تستند إليه، ولم تتجاوز ذلك إلى رؤية أكثر شمولية تسعى لفهم الأنا بثوابتها، وعلى امتدادها التاريخي، ومن خلال القوانين الناظمة لها، وتسعى أيضًا لفهم الآخر وتأطيره وفقًا لتجاربه وتمثلاته الثقافية.
من هنا تأتي أهمية الكتاب الذي نشره مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية والمعنون بـ«أمة على رسلها: تأملات في بلاد العرب» 2023م لسمو الأميرة مها بنت محمد الفيصل والذي يقع في 250 صفحة من القطع المتوسط. الكتاب يتكون من اثنتي عشرة ورقة كُتبت في مدد زمنية مختلفة، الناظم بينها هو تأمل مفهوم الحضارة كما يعرف الآن، وتاريخ العرب الحضاري وموقعه بين الأمم. يدخل الكتاب في مساءلة نقدية لافتة مع بعض المفاهيم التي تبدو مستقرة ومتداولة بشكل واسع مثل الحضارة والثقافة والمرجعية والقيم، ليفكك بداهتها ويعيد قراءتها وفق المتغيرات الثقافية العالمية ومنظومة قيمها العابرة للحدود. كما يشتبك مع بعض التصورات الفكرية محاولًا تأطيرها ووضعها في سياقها المعرفي المناسب، دون تهويل أو تهوين.
ومثل العديد من الكتب التي خصصت موضوعاتها لدراسة الهوية الحضارية العربية بأبعادها المختلفة (اللغوية والقيمية والسيكولوجية)، يركز «أمة على رسلها» على قضايا أو ظواهر جزئية بدت مستشرية في واقع عربي متأزم يفتقد تحديد اتجاه بوصلته، ليخرج منها بقضايا أعم تمس الذهنية العربية نفسها وتصوراتها عن نفسها، ومع ذلك يتميز الكتاب بخلوه من الادعاءات الأيديولوجية أو الفرضيات غير المختبرة، إضافة إلى ما يحمله من محاولات تأصيلية لا تقف عند حدود الوصف والتحليل بل تتجاوزها إلى إعادة صياغة المفاهيم وتصحيح التصورات، وربط ذلك كله بالسياقات العربية الحضارية.
ارتباك المرجعيات
ماذا حملته لنا الحضارة والثقافة اللامادية؟ وما تداعيات تبني مقولاتها وتصوراتها على البنى المجتمعية التقليدية والفطرية مثل الأسرة والنسب والقبلية الرشيدة؟ على الرغم من أن الكتاب لا يطرح السؤال بهذا الشكل المباشر، فإنه السؤال المركزي الذي تنطلق منه المؤلفة في تحليلاتها المختلفة. لقد تحولت المؤسسات الكبرى السياسية والتعليمية إلى تبنـِّي منظور السردية المادية اللادينية، بل أُنشئت بفضله أنساق مجتمعية مبتكرة، ومنها خرج تصور جديد لطبيعة الأسرة، وصياغة مختلفة للعلاقات بداخلها، ناهيك عن الميوعة في تحديد الجنس البشري ذاته ليخرج تمامًا عن ثنائية الذكر والأنثى. ومن الآثار المباشرة لسيادة هذه التصورات، الإضرار الكبير بفكرة «المرجعية» ذاتها! فالانتقاص الكبير من قدر الأب، وما حدث من تحول في المكانة المقدسة للأم، في مخيلة وواقع المجتمعات العربية، قد أصابا رمزية كل من الأب والأم في مقتل. وقد انعكس ذلك سلبًا بشكل مباشر على مفهوم الأسرة والقبيلة.
تمضي المؤلفة بعد ذلك في تحليل مفهوم القبيلة وفك التباساته الدارجة، فالقبيلة لا يقابلها التمدن لأن القبيلة شكل من أشكال التجمع البشري وهي أقرب إلى مفهوم الأسرة. والقبلية ليست نمطًا بدائيًّا، مُؤسَّسًا على قاعدة من العلاقات الاجتماعية الجامدة، بل منظومة من العلاقات الإنسانية والبيئية والسلطوية غاية في التعقيد. كما تعمل ضمن نسيج من العلاقات التي تتصف بالتراتبية، حيث لا يمكن تصور أي نظام إلا وفيه تراتبية، لكن الدور التنظيمي للتراتبية هنا ليس قائمًا على ضرورة الفصل الصارم فيما بين الرتب.
صناعة الفرد السيكولوجي
يطغى المنظور السياسي على الحياة الحديثة؛ لذلك أصبحت الفردية فردية سياسية مصطنعة نمطية، وليست فردية طبيعية ثرية وحقيقية. وهذا يفسر لنا التضخم الكبير في فكرة «الحرية الفردية» داخل المجتمعات التي تتبنى الأيديولوجيا الليبرالية، والتركيز على فكرة «الحقوق»؛ أي حق الفرد، وليس «واجباته». ثم تجـاوزت الفردية ذلك لتصبح منهجيـة تفكير من أعظم آفـاتهـا التغـافل الكـامل عن الكل الجـامع، والتركيز على العنـاصر المتجزئـة المنفصلة. تناقش المؤلفة في هذه المقالة نشأة مفهوم الفردية في الحضارة الغربية مع إبستمولوجيا أوكام ونصله الشهير، ومذهب الاسمية الذي ألغى وجود الحقائق الكلية الجامعة إلا كأسماء وتصورات عقلية لا أكثر، وزعم أن الوجود الحقيقي يكمن في الأفراد فقط؛ أي أن الحقيقة لا توجد في ذلك الكل أو الجوهر الجامع، ولكنها مجرد حقائق منفصلة متفردة. وبذلك وضع إبستمولوجيا منغلقة، لا تقول: إن الجزء يمكنه أن يدلل على الكل، ما يخلق في النفس صفة التأمل والتدبر، ولكن الجزء في ذاته هو الكل، ما يخلق في النفس صفة التمركز حول الذات واعتلال العاطفة والشعور بالتوحد والاغتراب إزاء الكون.
يقول جيل دولوز: »إن المجتمع بصيغته المعاصرة ينتج الفصامات بالقدر نفسه الذي ينتج به المنتجات الاستهلاكية كافة»، هذه الفصامات، والأمراض النفسية عامة، قد جعلت إمكانية التحكم في الجانب السيكولوجي عند الإنسان يسيرة إلى حد كبير. وفي ظل غياب كامل للحقائق العلوية الثابتة للدين التي تنبني عليها فكرة الصواب والخطأ، وفكرة الحدود والمقدس، لا يجد الإنسان إلا ذاته كي يتكئ عليها، وهذا يفتح أمامه إمكانية تحقيق كل التجاوزات، وفي نهاية المطاف، ليس له إلا العلاج السيكولوجي؛ كي يداوي به العواقب المؤلمة لهذه التجاوزات.
اللغة مسكن الوجود
يصور نيتشه اللغة شبحًا جبارًا تمتد يداه نحو البشر لسحبهم إلى أماكن لا يريدون الذهاب إليها! وذلك لأن اللغة أمست منفصلة عن واقع البشر مستغرقة في حيز بعيد لا تعبر عن همومهم. «فما عاد من الممكن التعرف إلى الإنسان في اللغة… لأن اللغة ما عادت تتوافق مع همومه الحقيقية، ولكن مع خواء تلك الكلمات والمفاهيم المستبدة». من هنا تفرق المؤلفة بين الكلمة الحية والميتة، فكل كلمة لها عمق وتوسع. الكلمة الحية لها جذور، كما وصفها القرآن الكريم: «كشجرة طيبة»، أما الكلمات البلاستيكية المصنعة والمسطحة، فلها امتداد أفقي الإيحاءات فقط. إن حياة الكلمة تكمن في المعنى، وخارج حدود ذلك المعنى، تموت.
ثقافة حية وأخرى ميتة
إن كلًّا من «الثقافة» وابنتها المزعومة «الحضارة» لا يمكن لهما أن يمثلا غاية أو قيمة في ذاتهما. بل وجودهما إشارة إلى شيء أبعد منهما يُخدم من قِبَلهما؛ إما دين سماوي أو أيديولوجيا بشرية. والمتدبر لفعل الثقافة الحديثة يجد وكأنها تكتسب حيويتها من كل ما هو مضاد للثقافة التقليدية وصادم لها، كما يظهر في كثير من النتاج الإبداعي الحديث. فهي تُعرَّف سلبًا، بالنظر إلى الثقافة الحقيقية التقليدية، أي بكل ما يهدم تلك الثقافة التقليدية ويخالفها. لكن، أين الحضارة؟
ما من شك في أن أهم شيء لأي ثقافة ذات بال، هو تعريف تلك الثقافة للإنسان. لهذا تحاول المؤلفة تأكيد أنه في ظل غياب المرجعيات، وبعد أن أصبح الإنسان مرجعًا لذاته، اختُزل معنى أن تكون إنسانًا. ترتبط الحضارة بشكل وثيق بالتمدن. أما «الثقافة» فهي مرتبطة بشكل أكبر بالمجتمعات البدائية قليلة التمدن. لكن في الواقع إن سلمنا بهذا الوصف سيخرج علينا فهم «للثقافة» مغاير تمامًا لتلك الفكرة التي تتحدث عن صفات بدائية بسيطة، متأثرًا بالمدرسة الألمانية. فالثقافة، في هذا الفهم، مجموعة من القيم العليا وهي تمثل درجة أعلى من التمدن. ثم تشرع المؤلفة في رصد تاريخ هذين المفهومين، أي «الثقافة» و«الحضارة» والدواعي المجتمعية والمسوغات التاريخية الخاصة بالمجتمعات العربية التي تطلبت إيجاد مثل هذا التصنيف، والأهم، محددات هذا الفهم بالنظر إلى التجربة التاريخية والفكرية الخاصة لأمة العرب. مؤكدة أن مصطلح «الحضارة» فكرة حديثة، عـاجزة عن احتواء التجربـة البشريـة المتنوعـة.
قلق الثقافة
في أي تناول جاد للغرب الأوربي لا بد من النظر بتعمق إلى دور الكنيسة. فقد ربطت المسيحية وعي قبائل الجرمان بالشرق بشكل قدري، حتى أمسى مفهوم الوجهة لديهم Orientationهو صنو مفهوم الشرق. فهي كلمة مشتقة من كلمة Orient التي تعني المشرق، فأمسى يقال لمن أضاع وجهته فارتبك : Dis-oriented هذا الدور الذي تقف عنده المؤلفة تفصيلًا، أدى لخلق حالة من الارتباك والقلق الوجداني لدى الغرب؛ بسبب ارتباطه بالشرق وتأثير الدين والكنيسة في تكوينه، وكذلك تبعيته للحضارتين اليونانية والرومانية القديمة.
أنسنة أم فصام؟
كان كثير من مفكري عصر الأنسنة يعملون ضمن ثنائية تتنازعهم، أي واقع الإيمان بالمسيحية في حياتهم اليومية، وفي الوقت نفسه استلهام النموذج الوثني الكلاسيكي كمرجع يحتذى به. فهذه النصوص القديمة إما أن تقرأ بشكل تاريخي ولغوي كنماذج أدبية لأمة وثنية غابرة، تساعدهم في فهم الأناجيل، أو على أنها تمثل نصوصًا حية تحمل معاني وقيمًا تصلح في تشكيل الأنموذج الحياتي الأسمى للقارئ المعاصر. وهذا ما تسميه المؤلفة «الفصام التأويلي» أي ذلك المزيج من التعالي الثقافي الوثني، والحماسة الدينية المتوثبة للانتقام، وما نتج من ذلك جرّاء تبني حكام أوربا هذا المنظور، إلا أن المدهش أننا أمسينا نحن أشد المدافعين عن هذا الطرح، فإن جاز في الحالة الأوربية، فما المنفعة المرجوة بالنسبة لنا؟
الأميرة المخطوفة
حينما نحاول فهم ظاهرة الحضارة الغربية المادية الحديثة، غالبًا، لا نبحث في حقيقة جذورها الفكرية ومكوناتها العرقية. الافتتان بها جائز، كما هي الحال في العديد من التيارات الفكرية التي تقع أسيرة الفكر الغربي، لكن المهم، وهو ما تركز عليه المؤلفة، ألا يكون لدينا، نحن العرب، منطق ومنطلق حضاري موازٍ ومختلف، وذلك على الرغم من التجاور الجغرافي والتداخل الحضاري والتقاطع الفكري. وعلى الرغم من أن التماهي مع أطروحات «تأليه الإنسان» وفكرة «الفردوس الدنيوي» أتت متأخرة إلى العالم العربي، وتبناها كثير من النخب الفكرية، فإن المشكلة حدثت عندما غاب التمييز بين واقع الانهزام السياسي الساحق أمام تلك القوى، وحقيقة وجود مرجعية فكرية أصيلة متينة، ذات بناء أخلاقي روحي مقنع.
العرب ورثة اليونان وترجمان الحضارات
يزعم كثير من مفكري الغرب أن العالم العربي لم يكن سوى ناقل للحضارة الإغريقية، وهذا تقرير مجحف؛ لا يقبل به أحد اليوم. بل إن بلاد العرب كانت قبل دخول الإسلام تمثل حواضن للفكر الإغريقي، وبعد الإسلام قدمت الحضارة العربية قراءة منتقاة وعظيمة لإرث الإغريق أعادت إحياءه وصححت عليه، بعد طول سباته. لم تهتم الحضارة العربية الإسلامية بأساطير الإغريق أو المسرح ولا بإرث الديانات، بل انصب اهتمامها على الفلسفة والفكر بشكل كبير، ومثلت بذلك يقظة فكرية مكنتها من الأخذ والإضافة من هذا الإرث العظيم وإليه.
لماذا ومتى حذفت العربية؟
على الرغم من أن النقاشات حول توصيف حضارتنا بالإسلامية والعربية لم يتوقف حتى الآن، فإن المؤلفة لا تتعرض إليها بشكل مباشر، بل تركز على مسألة أخرى تتمثل في أنه لا توجد حضارة أمست تسمى بدين في يومنا هذا إلا «الحضارة الإسلامية»، وهي لا ترى في التمسك به عيبًا بأي حال من الأحوال، بل هو شرف لأي فرد يندرج ضمن هذا التعريف، ولا ننسى أن الإسلام خرج من جزيرة العرب؛ فالشرف الأكبر في ذلك للعرب، كما أنه لا عز للعرب من دون الإسلام. لكن، إذا نحن سلمنا بمنطق ادعاء مفهوم «الحضارة» وسلمنا بمحددات هذا الوصف وأهمية هذا المفهوم، الذي بفضله وعلى أساسه تصنّف الأمم والدول، فلا بد لنا، من طرح السؤال: لماذا؟ بل، متى حُذف وصف «العربية» من مصطلح «الحضارة العربية الإسلامية»؟
أخيرًا، إذا كان ثمة خطاب ممتد منذ بداية الألفية الثالثة يدعو إلى تجاوز مسألة الهوية وتعويضها بالإنسانوية، التي هي عبارة عن «هويات هجينة»، أو إذا شئنا استخدام لغة إدوارد سعيد «هجنة الهويات»، فإن كتاب «أمة على رسلها» يقف في الجهة المضادة من هذا الخطاب ويفتح النقاش من جديد، بلغة هادئة وبسيطة، حول هذا المفهوم بتحدياته الراهنة وأبعاده المختلفة.