بواسطة عباس الحايك - كاتب مسرحي سعودي | يناير 1, 2020 | الملف
قَدَّمَ المسرح العربي منذ تأسيسه حتى وقتنا الحالي تجارب مهمة، على مستوى المسرح الاجتماعي والتاريخي؛ حتى ضمن ما يمكن أن نطلق عليه بتيار التجريب المسرحي، رغم ما واجهه منذ بدايات التأسيس، فالتاريخ ينقل لنا ما عاناه أبو خليل القباني ليؤسِّس مسرحه، وما عاناه أيضًا غيره من المسرحيين من صعوبات في تحقيق أحلامهم بمسرح قريب من الناس، فقد عانى مثلًا أحمد السباعي إيقافَ مشروعِه المسرحي في مكة، والمسرحيون الذي لحقوه في المملكة مع تيار يتضادّ مع الفنون وبخاصة المسرح. فالمسرح لا يمكن أن يخرج إلى النور وسط هذه البيئة الطاردة التي لاحقت المسرحيين في أكثر من بلد.
وهذه ليست الصعوبة الوحيدة التي لم تواجه المسرح في دول غربية أخرى، كان المسرح متأصلًا في الوجدان الشعبي لكونه خارج من خاصرة الطقوس الدينية قبل أن يصبح فنًّا خالصًا متجردًا. لكن، لأن المسرح كان فنًّا مستوردًا للعرب فقد واجه هذه البيئة الطاردة، حتى حينما تعزَّز وجوده في البلاد العربية واجَهَ مشاكل أخرى، منعته أن يقدم تجربة عالمية يمكن أن تضعه على خريطة المسرح العالمي. فالمسرح لم يكن يومًا صناعة كما في الغرب، ولم يكن حاضرًا ضمن خطط التنمية الشاملة للدول العربية، فبقي فنًّا فقيرًا يعتمد على الجهود الذاتية، وما دخل في دائرة الصناعة أو الاستثمار، كان مسرحًا سطحيًّا ركز على الإضحكاك من دون قيمة، فصار مسرحًا طارئًا ينتهي بانتهاء العرض، فلا يبقى ويدوم. فالصناعة قادرة على ضمان ديمومة المسرح، فهي تهيئ الأرضية المناسبة للإنتاج المسرحي، ولإنتاج أشكال متنوعة من المسرح، حتى الفِرَق المستقلة قادرة على إنتاج مسرحيات نوعية.
أضيف إلى المشكلات التي تواجه المسرح العربي، هو سقف الحرية المتباين بين دولة وأخرى، فهناك دول حدت المسرح في إطار ضيق جدًّا، وصارت الموضوعات التي يمكن تناولها معدودة وهذا يشكل عائقًا في وجه أي إبداع مسرحي الذي يحتاج إلى حرية وفضاء متسع، صحيح أن هناك دولًا عربيةً أعطت المسرح مساحة من الحرية لكنها تظل محدودة. المسرح العربي يحتاج إلى المال والموازنات وقبلهما الاهتمام الحقيقي والإيمان بأن المسرح فن ضرورة، ثم يحتاج إلى حرية ليكون قادرًا على أن يتماسّ مع قضايا الناس، ويقترب أكثر منهم، ليجذب إليه الجمهور لتكتمل معادلة المسرح. أما مسألة التراث، فإن المسرح كان ولا يزال ينهل من التراث الإنساني عامة، والتراث المحلي خاصة في الخليج العربي، فالمسرح في الخليج وفي تراث المنطقة، من حكايات شعبية ومفردات تراثية حفزت كتاب المسرح ليكتبوا نصوصهم انطلاقًا من هذا التراث، ومع ذلك ما زال ثمة قصور في التناول المسرحي لمفردات التراث، فمثلًا في المسرح السعودي، انشغلنا كثيرًا بالعموميات، انشغلنا بالإنسان ككل وتناسينا تراثنا المتنوع، فغابت الصحراء بكل ما فيها من زخم عن المسرح السعودي، وغاب الجبل والسهل، كما كان حضور البحر خجولًا، قِسْ على ذلك المسرحَ العربيَّ عامة. رغم أن التراث يمكن أن يكون مخزن حكايات، لو التفت له المسرحيون وركزوا عليه أكثر من التركيز على الهم الإنساني العام والمجرد. ولكن يبدو أن التغيرات التي طرأت على العالم وتحوله إلى قرية صغيرة تشابهنا فيها وتلاشت التباينات، بدا التراث بعيدًا من الهم، حتى محاولات التأصيل المسرحي التي علا صوتها في الماضي، خفت وهجها واستسلمت للواقع.
بواسطة عباس الحايك - كاتب مسرحي سعودي | يناير 28, 2018 | مسرح
المسرح السعودي ينشط ضمن مسارين؛ المسار الأول هو مسار المسرح الجماهيري الذي يقدم في المناسبات مثل الأعياد أو الإجازات الرسمية، وهذا المسار يقدم مسرحًا كوميديًّا يلامس قضايا المجتمع ويتجاوز الكوميديا إلى كوميديا الفارْس أو التهريج وهو ما يعرف بالمسرح الجماهيري، المسار الآخر هو مسار المسرح النوعي أو مسرح المهرجانات، وهو الذي يقدم عروضًا مسرحية تبتعد في الأغلب من ملامسة القضايا الاجتماعية المحلية إلى قضايا إنسانية أكثر شمولية، ومنصتها المهرجانات المسرحية محلية كانت أو خارجية، وهذا النوع من المسرح لا يشاهده في الأغلب الجمهور بشتى أطيافه، بل تقتصر مشاهدته على طيف واحد هو طيف المسرحيين والمهتمين أو ضيوف المهرجانات. والمألوف أن المسارين لا تُقدم ضمنهما عروض متكررة ومتواصلة، وبخاصة مسار المهرجانات، حيث يتدرب الطاقم لأسابيع من أجل عرض واحد أو اثنين فقط، أو أن تنجز المسرحيات لغاية المشاركة في مهرجان. بينما في المسرح الجماهيري تتكرر العروض وقد تصل في أحسن حال إلى عشرة عروض.
مسرحية «حبل غسيل»، تجاوزت هذا المألوف في عروضها حتى كتابة هذا المقال إلى 71 عرضًا مسرحيًّا جابت بها الفرقة مدنًا سعودية، وشاركت في مهرجانات متنوعة مثل مهرجانات مسك الخيرية أو مزاين الإبل أو في عروضها الأسبوعية التي يحتضنها فرع جمعية الثقافة والفنون بالدمام. وهنا تكمن فرادة هذه المسرحية، فلم يتأتَّ لأي مسرحية سعودية أن تصل لهذا الرقم في تعداد العروض. وتكمن فرادتها أيضًا في اعتمادها على مبدأ الارتجال، وانضوائها تحت مفهوم مسرح البلاي باك Playback Theatre. بدأ مسرح البلاي باك أولًا في عام 1975م في نيويورك بواسطة جوناثان فوكس، وقد بدأ فوكس هذا النوع من المسرح الذي كان امتدادًا للمسرح الارتجالي ومسرح ما يعرف بالحكواتي عند العرب، مع زميلته الناشطة الاجتماعية والكاتبة جو سالس وبعض المسرحيين الذين كونوا الفرقة الأولى لمسرح البلاي باك. ويعرّف مركز البلاي باك هذا المسرح بأنه «شكل من أشكال المسرح الارتجالي، حيث يحكي الجمهور أو أفراد المجموعات قصصًا من حياتهم، ثم يشاهدونها تُجسد على المسرح»: (http://www.playbackcentre.org/).
واستُخدم هذا النوع من المسرح في الأساس في مجالات تعليمية، وعلاجية، وللورش التدريبية للمسرحيين الجدد، إضافة إلى التعبير عن القضايا الاجتماعية. ولتكريس هذه النمط المسرحي أخذت الفرقة التي تأسست، عروضها إلى المدارس والسجون ودور المسنين والمؤتمرات والمهرجانات في محاولة لتشجيع الناس على سرد قصصهم، وقدمت هذه العروض دوريًّا بشكل شهري، حتى هذا اليوم، فالفرقة تحولت إلى مركز لمسرح البلاي باك، تقدم فيه دورات وورشًا في مهارات الارتجال.
استغراب ودهشة
في الوطن العربي، قُدم مسرح البلاي باك في أكثر من دولة عربية من بينها فلسطين عبر عروض فرقة مسرح (انسمبل فرينج) في الناصرة في عام 2012م، وفي مصر يقوم أستوديو عماد الدين بتنظيم دورات متواصلة في فنون الأداء وتقنيات مسرح البلاي باك. أما في الخليج فلم يظهر هذا النمط المسرحي إلا من خلال مجموعة مسرحية «حبل غسيل» إذا استثنينا تجارب الارتجال الأولى المؤسسة للمسرح في الخليج، وهي بعيدة من مفهوم مسرح البلاي باك. وكانت «حبل غسيل» أثارت الاستغراب والدهشة والتساؤلات حين انطلقت الفرقة بأول عروضها المسرحية. فكيف يمكن لمجموعة من الممثلين ارتجال مشهد مسرحي قائم على فكرة أو حكاية أو حلم بالتشارك مع الجمهور من دون تنسيق ولا ترتيب مسبق ولا نص، ارتجال ابن لحظته، حيث قدموا مادة مسرحية كوميدية تناسب طبيعة الجمهور السعودي الميال للكوميديا والضحك في المسرح، وهذا ما وعته الفرقة واستثمرته لترفع من رصيد تواصلها مع هذا الجمهور.
من المسرحية
يقول مخرج هذه التجربة الفريدة المخرج البريطاني الأردني محمد الجراح عن بداية الانطلاقة «الفكرة بدأت عندما أحسست بأن المسرحيات السعودية التي تعرض غير مشبعة للجمهور ومدة عرضها لا تزيد على عرض أو عرضين وموضوع المسرحيات المقدمة أيضًا نوعًا ما صعب، ومن هنا جاءت «حبل غسيل» بسهولة طرحها وقربها من الجمهور. إضافة إلى الخروج عن العروض التقليدية المعروفة لدى الناس بوجود نص مكتوب جاهز. جاءت الفكرة لإعطاء الفرصة للجمهور للتحكم بموضوع العرض من خلال طرح أفكارهم وقضاياهم ومشاكلهم وأحلامهم». في «حبل غسيل»، ثمة ارتجال بنكهة المسرح الجماهيري الاجتماعي، لكن الفارق قدرة الممثلين على الحفاظ على اتزان عروضهم وعدم الاقتراب نحو التهريج والإسفاف، فهناك عقد ضمني بعدم الخروج عن هذا الاتزان، وهذا ما لاحظناه في مجمل عروض المسرحية، فالموضوعات التي دارت حول القضايا الاجتماعية في الأغلب، وبخاصة أن المسرحية اختلفت في هذه الجزئية عن التجارب العربية الأخرى التي فتحت الباب أمام كل الموضوعات المطروقة اجتماعيًّا حتى تلك التي تحمل ملمحًا سياسيًّا وهو ما أخذت منه «حبل غسيل» مسافة قصية، حيث كان الاتفاق الأوَّلي مع الجمهور ألَّا تتجاوز الأفكار التابوهات الثلاثة (الدين، والسياسة، والجنس)، ولكن هذا لا يمنع أن المسرحية قدمت قائمة طويلة من الموضوعات التي تهم الجمهور السعودي في كل المدن التي جالت فيها المسرحية، ومنها الموضوعات الآنية التي تتداول بين الناس، وهو ما قرب هذه العروض كثيرًا من الجمهور لكونها أصبحت أشبه بترجمان بصري لما يجول في أذهانهم.
أكثر ما ميَّز المسرحية القدرةُ الأدائية والعفوية عند ممثليها (فيصل الدوخي، وإبراهيم الحجاج، ومحمد القحطاني، وناصر عبدالواحد) حتى قدرة الارتجال الموسيقي لدى ماجد السيهاتي، فلولا هذه القدرة لَما استطاعت هذه المسرحية أن تقترب من السبعين عرضًا، فهي قائمة على سرعة بديهة ممثليها وقدرتهم على توظيف ممكناتهم في تحويل فكرة الجمهور خلال برهة من الوقت لمشهد مسرحي مرتجل، إضافة إلى قدرتهم على فهم بعضهم بعضًا عبر لغة إشارية مضمرة. وأظن أن ما خلق هذا النوع من التفاهم والقدرة على فهم الممثلين بعضهم بعضًا ودخولهم في دائرة المشهد المسرحي عائد إلى تلك الألفة أو ما يقال عنها الكيمياء بينهم، فمن يتتبع عروض هذه المسرحية وخارج العروض تتجلى له تمامًا هذه الألفة بين طاقم المسرحية. وهذه الألفة أيضًا انعكست على علاقتهم بجمهورهم، فالمسرحية أولًا كسرت الجدار الرابع في المسرح التقليدي، فليس هناك جدار وهمي يفصل هذا المتفرج عن المسرحية، فيكون دوره متلقِّيًا فقط، بل تحول المتفرج إلى صانع لهذه اللعبة المسرحية، حيث أدخل بكل رحابة إلى خشبة المسرح كصاحب فكرة، وهو ما يربط هذا المتفرج برابط حميمي مع طاقم المسرحية؛ لأنهم يجسدون أفكاره وأحلامه. وعن اختيار الجراح لممثليه، يقول: «لم يكن اختيار الممثلين سهلًا وبخاصة لحداثة العمل والأسلوب داخل المملكة، فـبعد خمس سنوات من البحث والتعامل مع كثير من المسرحين جرى اختيار هذا الفريق»، ويواصل الجراح تدريباته مع ممثليه قبل كل عمل مسرحي ولا يكتفي بتدريبات التأسيس، حيث تشمل هذه التدريبات «التمرينات والتدريبات العامة المتعلقة بالارتجال كفنٍّ عام، ومنها التدريبات الخاصة كتكنيك الارتجال بأسلوب البلاي باك». «حبل غسيل» مسرحية، أبدعت في فرادتها، وفي حضورها، وفي انتشارها، وفي قدرتها على تجديد العلاقة مع الجمهور الذي غاب عن المسرح لأنه لم يجد ذاته حاضرة فيه. وكل هذا لا يمكن أن يتأتى من دون وجود مايسترو بارع قادر متعمق في فهم العلاقات بين الممثلين والجمهور، فالجراح لم يكن مجرد مخرج مسرحي، لكنه امتلك قدرات المدرب المسرحي حيث أخرج قدرات ممثليه؛ لأنه استطاع أن يدخل إلى عوالمهم. المسرحية استمدت قوتها وقدرتها على الانتشار من كل هذه العوامل، فقد منحت الجمهور «الحرية الممنوحة في اختيار موضوعات العروض، ومنحته الدهشة والإبداع اللذين يصنعهما الممثلون، فالعروض تتسم بالبساطة فيتقبلها الجمهور، وبخاصة مع سهولة تقديمها في أي مكان، والأهم هو عدم التنبؤ بما سيكون عليه العرض، لا بالنسبة للجمهور ولا للممثلين»، هذا ما يراه الجراح.
دوائر أكثر اتساعًا
ومما استمدت منه المسرحية قوة الاستمرار والتواصل والقدرة على التسويق والانتشار، كان دخول قناة «سين» التي نشطت على اليوتيوب وتحولت لشركة بما تملكه من قاعدة جماهيرية عريضة جدًّا على خط العمل كمنتج ومسوق، فهذا أخرج المسرحية إلى دوائر أكثر اتساعًا ورحابةً، لتخرج لنا كل هذه التوليفة. ويرى المدير التنفيذي لـ«سين» عبدالمجيد الكناني أن «تميز الفكرة وعدم طرحها مسبقًا على مستوى المملكة، إضافة إلى أن هناك عوامل متشابهة بين المحتوى الرقمي وفكرة المسرحية مثل الحالة التفاعلية مع الجمهور وتجدد المحتوى في كل عرض «جعلهم في سين يتبنون المسرحية ويسوقونها، حيث قدمت لها «شبكة تسويق في الإنترنت للعروض، إضافة إلى المهام الإدارية والتنظيمية والتسويقية التي تسمح بانتقال العروض إلى مناطق متعددة في المملكة والاستفادة من مواهب بعض المنتمين لسين». ويصف الكناني تجربتهم في «سين» مع «حبل غسيل» بأنها «رائعة على الصعيد المهني ومثرية على الصعيد الفني، وقد تكون أيضًا فرصة لإعادة حالة الجماهيرية في المسرح حيث استطاعت المسرحية إيجادها بين شرائح متعددة من الجمهور السعودي». ويؤكد أنه من الممكن لاحقًا أن تفكر «سين» في إنتاج أعمال مسرحية مقبلة «خصوصًا أن المسرح أحد أعمدة الفنون التي ننطلق منها في إنتاجاتنا عبر «سين»، أما بخصوص المواصفات فدائمًا هناك بحث عن الجديد، الفكرة الجديدة والخلاقة هي أهم معيار نستطيع من خلاله تقديم الدعم الإنتاجي والتسويقي للعروض المسرحية».
تملك حبل غسيل ممكنات الاستمرار والوصول للرقم الهدف الذي تسعى له الفرقة وهو رقم (100) من تعداد العروض، فكل عرض يختلف عن الآخر من منطلق الموضوعات والمشاهد التي يجسدها الطاقم وتنوعها، لكن السؤال هل استطاعت هذه المسرحية باستقطابها لعدد كبير من الجمهور أن تغير من نمط التفكير تجاه المسرح لدى الجمهور السعودي، هل يمكن لمسرحية أخرى أن تنجح كما نجحت هذه المسرحية، وأعني المسرحيات المتكئة على نص وتمارين أداء، باستقطاب جمهور يعادل جمهور «حبل غسيل»؟! وما الذي يمكن أن تقدمه الفرقة ضمن مسرح البلاي باك من جديد بعيدًا من تجربة هذه المسرحية؟! فالمسرح يحتاج لحركة دؤوبة ولا يكفيه تجربة ناجحة تنتهي ويتوقف بعدها هذا الزخم. يحتاج المسرح السعودي من جهته للالتفات لهذه التجربة واستثمار نجاحاتها، واكتشاف سر وصولها للجمهور، ويحتاج للاستفادة منها والاشتغال على تطويرها أو تطويعها لصالح التجارب المسرحية المتنوعة التي تبدو في الأغلب محصورة في المهرجانات وتؤرشف في الكتب والمقالات البحثية من دون أن يكون لها متلقٍّ يحضر ويتفاعل ويصفق، وهذا ما يحتاجه المسرح أكثر من احتياجه لعروض مهرجانات لا يشاهدها أحد. فالجمهور أساس علاقة التلقي المفترضة في أي شكل من أشكال الفنون البصرية، ومنها المسرح.
بواسطة عباس الحايك - كاتب مسرحي سعودي | مايو 12, 2016 | مسرح
عباس الحايك
كاتب مسرحي سعودي
لم تكن بداية المسرح في السعودية متأخرة إذا ما قيست بظهور التجارب الأولى على مستوى دول الخليج وبعض الدول العربية، فأكثر الروايات التي وردت حول البدايات والتي أرجعت ظهور المسرح إلى الفكرة التي كانت تراود الأديب الراحل أحمد السباعي في تقديم عرض مسرحي في مكة بعنوان «فتح مكة» في عام 1960م، وهي الفكرة التي لم تظهر للنور رغم المحاولات الحثيثة من السباعي والتي اصطدمت برفض اجتماعي آنذاك. أو تلك التي أشارت إلى أن البداية كانت في عام 1974م، يوم عرض المسرحي إبراهيم حمدان مسرحيته «طبيب بالمشعاب» المعدة عن مسرحية موليير «طبيب رغم أنفه» وعرضها في العاصمة الرياض، أو أيضًا تلك الروايات التي حددت البدايات بعام 1972م وهو التاريخ الذي وصلتنا فيه أول مسرحية موثقة من فرع جمعية الثقافة والفنون بالأحساء «العزوبية» تأليف خالد الحميدي وإخراج حسن العبدي، ومسرحية «ريتا» تأليف وإخراج حسن العبدي التي انطلقت منها فكرة جمعية الثقافة والفنون وخرجت رسميًّا للنور في عام 1974م، فات هذه الروايات الرجوع لوثيقة تؤكد أن المسرح المدرسي كان موجودًا قبلها بسنوات وبالتحديد في عام 1928م وهي مسرحية «بين جاهل ومتعلم» قدمتها المدرسة الأهلية بعنيزة والتي أسسها صالح بن صالح أحد رواد التعليم في المملكة.
ومع هذا التأكيد على قدم المسرح في المملكة إلا أن هذا المسرح كان ولا يزال يواجه عقبات تؤخر من مسيرته الإبداعية موازاة مع الحركة المسرحية في دول الخليج رغم ما قدمه هذا المسرح من تجارب إبداعية لفتت الانتباه، لكن هذه التجارب لم تتأتّ إلا من نضال المسرحيين السعوديين أنفسهم؛ من أجل مسرح سكنهم فعشقوه، فلم يقفوا عند كل عقبة بل حاولوا تجاوزها، ولكن العقبات تتراكم وتتكاثر فتضعهم في أزمة وجود.
اجتهادات شخصية
هناك عدد من العوامل تظافرت مسؤوليتها على عدم تطور المسرح السعودي وبقائه في دائرة الاجتهادات الشخصية وإن كان بعضها لافتًا. فالبداية في النظرة الاجتماعية الملتبسة للمسرح، والفهم الخاطئ لرسالة المسرح وجدواه، وهو ما جعل بعضهم يقف موقف الضد تجاهه، هذه النظرة التي أخرت الاعتراف بالمسرح كفن يمكن أن يقدم للمجتمع رسائل قيمية وجمالية. وثاني العوامل هو الجهات المنوط بها دعم ورعاية واحتضان المسرح، كوزارة الثقافة والإعلام؛ إذ إنها لم تخصص للمسرح ما يكفي لدعمه معنويًّا وماديًّا؛ معنويًّا بالتغطيات الإعلامية واهتمام التلفزيون مثلًا بالعروض المسرحية والبرامج التي ستساهم في ترسيخ هذا الفن اجتماعيًّا بين جمهور التلفزيون، وماديًّا في شح ما تقدمه الوزارة للمسرح، فهي لم تقدم البنية التي يمكن أن تخدمه، كالمسارح والقاعات في المدن الكبرى بالمملكة، ولم تخصص له موازنات كافية؛ لتسير عجلة المسرح بشكل طبيعي، فالذي ينظر إلى مخصصات لجان المسرح في فروع جمعية الثقافة، ويقارنها بمخصصات الفرق المسرحية الشبابية في دول خليجية مجاورة؛ تتجلى له صورة المأزق الذي يعيشه المسرح السعودي الذي وصل إلى حالة تقشف يعانيها الآن كل فروع جمعية الثقافة والفنون التي لا تتمكن من إقامة أي نشاط مسرحي من دون استجداء الدعم من القطاع الخاص الذي بدوره لا يبدي حماسة للمسرح. أضف إلى ذلك تعطيل العديد من المشاريع المسرحية المهمة، كجمعية المسرحيين، ومهرجان المسرح السعودي الذي يفصلنا عن آخر دورة له ثماني سنوات رغم الوعود المتكررة بإقامته.
والعامل الأهم، ويبدو أكثر إثارة للسجال، هو غياب المرأة عن المسرح في السعودية سوى عن العروض النسائية البحتة التي يمثل فيها نساء في حضرة جمهور من النساء، الافتراق بين جنسين مسرحيين؛ مسرح رجالي وآخر نسائي (ليس بالضرورة نسوي) يضع كتاب المسرح والمخرجين في مواجهة صعبة مع هذا الغياب. هناك عامل آخر أجده يؤثر سلبًا في المسرح في السعودية وتقع مسؤوليته على المسرحيين أنفسهم، فمن يطالع أخبار المسرحيين في الصحف أو في مواقع التواصل الاجتماعي، يجد أنهم يقضون كثيرًا من وقتهم في الجدال والسجالات التي لا تنتهي، والخلافات التي تضيع عليهم الوقت الكثير الذي يكفيهم ليتفرغوا لإبداعاتهم، فالمسرح يحتاج لتواصل واتصال، وعلاقات وتآلف، لا علاقات تتسم بالاختلاف والصراعات.
تجاوز العقبات
وعلى المستوى الشخصي، فأنا ككاتب مسرحي ربما حاولت تجاوز تلك العقبات بالكتابة لمسرح مختلط، مسرح تتشارك فيه المرأة والرجل في حكاية واحدة، أكتب من دون سقف، ومن دون حواجز، ووجدت أن مواقع الإنترنت وسيلة سهلة لوصول نصوصي لأكبر عدد من المهتمين بالمسرح؛ لتقرأ نصوصي، وتنفذ خارج دائرة المسرح السعودي الذي لا أملك فيه من رصيد سوى عرضين مسرحيين «المزبلة الفاضلة» لماهر الغانم، و«بارانويا» لياسر الحسن، وثلاث مسرحيات اجتماعية. بينما نصوصي كلها تقريبًا نفذت في دول عربية وبرؤى إخراجية مختلفة، فـ«المزبلة الفاضلة» نفذت أكثر من عشر مرات في دول خليجية وعربية، بلغتها الأصلية وبلهجات محلية؛ مثل: اللهجة العمانية واللهجة الجزائرية، كما ترجم لي نص «هجرة النوارس البرية» وقدم باللغة السريانية شمال العراق، وقدمت لي مسرحية «المعلقون» في الكويت وعمان، ونص «الموقوف رقم 80» في عمان والجزائر، و«صبية كان اسمها حنين» في المغرب، و«جزيرة الأماني» في فلسطين المحتلة وفي عمان، إضافة إلى أول نصوصي التي فزت بها في جائزة الشارقة للإبداع العربي 2001 «فصول من عذابات الشيخ أحمد» التي قدمت في افتتاح مهرجان أيام الشارقة المسرحية 2003، وقدم بعضًا منها لاحقًا في البحرين المخرج عبدالله السعداوي.
الإنترنت كان وسيلتي للخروج من دائرة العقبات والصعوبات التي تواجه المسرحيين في السعودية، فهو الفضاء الحر والجسر الأقرب لخشبات المسرح العربي، فلولاه لما وصلت نصوصي لأكثر الدول العربية؛ لتنفذها الفرق المسرحية العربية، وتكون مشاريع تخرج ومادة إخراج في معاهد وكليات فنية ومسرحية، فانتظار مخرج تقنعه نصوصي لينفذها في المملكة ربما يطول كثيرًا، والأسماء التي تنفذ نصوصها صارت معدودة على الأصابع، وصار لكل فرقة كاتبها الذي لا تخرج عن طوع نصه؛ لذا كان لزامًا عليّ أن أبحث عن منفذ جديد لنصوصي المسرحية؛ لتخرج من أدراج المكاتب. وهذا ما أحاول تمريره على كتّاب النص المسرحي، وأطلب منهم أن ينشروا نصوصهم في مواقع الإنترنت المسرحية المتخصصة، فالباحث عن النص يلجأ لهذه المواقع أولًا.