ماذا يعني الأدب الألماني المعاصر دون مشروع كراوسر؟
يطرح الروائي والكاتب المسرحي الألماني الشهير «دانيال كيلمان» تساؤلًا مهمًّا، ألا وهو: «لماذا لا يحظى الروائي المخضرم هيلموت كراوسر ومنتجه الأدبي بالشهرة التي يستحقها؟» مؤكدًا أن هذه الحالة لا بد أن تنتهي، وبخاصة بعد صدور روايته الأخيرة «عندما بدأ كل شيء مع جان» التي تنفذ إلى أعماق حقبة العصور الوسطى الفرنسية، وترتكز على شخصية جان دارك التاريخية، وجعلها محورًا لاجترار ماضي أوربا. يقول كيلمان: «مقالي هذا ليس مراجعة لرواية كراوسر الجديدة. لكنني سأتحدث عن «كراوسر» الإنسان والأديب الموهوب الذي تربطني به علاقة صداقة قوية على مدار سنوات مضت…».
في الواقع، قد لا أمتلك المسافة اللازمة التي تجعلني قاضيًا عند الحديث عن «كراوسر». كثيرًا ما كان يُطلَق عليه لقب «العبقري.. غريب الأطوار». وعندما دخلت غمار العمل الروائي، في منتصف التسعينيات، كانت روايته التاريخية «Melodien» (ألحان) أحد أهم وأنجح التجارب التي حررت الأدب الألماني المعاصر: فهي رواية مليئة بالمعرفة التاريخية والشغف، وبحث فلسفي في جذور الموسيقا. لقد كتب كراوسر روايته أديبًا وشاعرًا يقدر عمق وثراء التجربة الشعرية للبشرية. والواقع أنه من الصعب أن أشرح لأي شخص شرع في الكتابة اليوم كيف كانت شخصية هيلموت كراوسر المهيمنة في ذلك الوقت؟ لقد كانت مسرحيته Lederfresse (وجهٌ جلدي)- المسرحية الألمانية الأكثر أداءً في جميع أنحاء العالم. كما نشر كراوسر أحد عشر مجلدًا من مشروع كتابة مذكراته في ذلك الوقت، إلى جانب العديد من دواوين الشعر والقصص القصيرة والروايات. والحقيقة أنه من الصعب التفكير في مناقشة الأدب الألماني المعاصر دون التفكير في مشروع كراوسر الأدبي. لذلك، استوقفتني فكرة طارئة، وهي أنه يمكن للشهرة أن تأخذ مسارات غريبة؛ هيلموت كراوسر لم يتوقف قط عن فعل الكتابة طوال هذه السنوات، ولم يتراجع أداؤه في يوم من الأيام.
لقد استمر في كتابة المسرحيات، وإن كان هذا اللون الأدبي قد خفت بعض الشيء ولم يعد له مريدوه كما كان في السابق. كذلك استمر في نشر الروايات؛ العديد منها مستواه جيد، وبعضها فائق الروعة، وكلها أصلية وليست مقتبسة. وعلى الرغم من كل هذا الزخم نادرًا ما حازت أعماله على مراجعات. وعلى الرغم من أهمية أعماله ونفاذها إلى الأعماق، لا أعرف السبب وراء غياب القراءات النقدية لها. لقد استمر كراوسر في كتابة الشعر وترجمة مسرحيات شكسبيرية، لكنها جميعها كانت في دائرة اهتمام فئة قليلة من القراء والمعجبين. لقد كان يخاطب الصفوة طيلة الوقت ولا يعير اهتمامًا لحسابات الشهرة والأكثر مبيعًا.. فمن المؤكد أنه لا توجد علاقة بين الشهرة والجودة ولكن المخيب للآمال ألا يصل العمل الجيد لأكبر شريحة ممكنة من الجماهير، لهذا شرعت في كتابة هذه السطور.
أدوار الفنان الحقيقي
يحمل كراوسر أيضًا عشقًا أصيلًا للموسيقا، وقد ظهرت بوادره الأولى في كتاباته. ثم ترجمه، لاحقًا، باتجاهه إلى التلحين. وعلى الرغم من ذلك فلم يلحظ الجمهور أنه أصبح ملحنًا. لقد كان يكتب الموسيقا لدار «يونيفرسال ميوزيك» الشهيرة قرابة عشرة أعوام في فيينا. كما قدم كونشيرتو «فيولا» في قبرص عام 2019م تحت قيادة نيلز مونكمير. عشق كراوسر الموسيقا منذ صغره وربما راوده الأسف على عدم دخوله مضمار العزف والتلحين إلا متأخرًا، فلم يشرع في التلحين إلا منذ عشر سنوات فقط. لقد كان أيضًا بطلًا في لعبتي الشطرنج والطاولة. والواقع لم تقلّ موهبة كراوسر في عزف الألحان عنها في نظم الكلمات. عن نفسي لم يكن بإمكاني كتابة روايتي «مسح العالم/ Die Vermessung der Welt» من دون إلهام رائعة كراوسر «Melodien». فعلى الرغم من اختلاف الروايتين، فإن قوة كراوسر وحريته ومدى طلاقته في سرد القصص التاريخية، مثّلت
لي تشجيعًا حاسمًا.
عندما تعرفت إلى كراوسر، تمكنت سريعًا من معرفة الشخص اليقظ والمتحفظ واللطيف الذي يتوارى خلف قناعه الثائر. لقد نشأت بيننا صداقة خلقت حالة من التبادل المعرفي أشبه بـ«مدرسة دائمة اليقظة»- فكان يطلب من أصدقائه الاهتمام بما يشغله ويدور في خلجاته، في محاولة للتنبؤ بما يصعب التنبؤ به بواسطة خلق حلقة من الاستشراف. وقبل بضع سنوات من الآن، أمكنه إعادة اكتشاف الملحن «ألبرتو فرانشتي» الذي كاد يطويه النسيان. لقد ألهمته أعمال «فرانشتي» بدرجة مثيرة للاهتمام، حتى إنه في غضون عامين من العمل التطوعي، نسخ إحدى مقطوعات فرانشتي ونقلها إلى برنامج موسيقي أسسته «جمعية أصدقاء فرانشتي» لتعريف الجماهير بفنه.. ومنذ ذلك الحين، أخذ يدافع عن هذا الملحن بحيوية لم يفكر مطلقًا في حشدها لتسويق أعماله الخاصة: لقد رأى ما يفعله أحد أدوار الفنان الحق، متبنّيًا نظرية أن كل فنان لا يزال على قيد الحياة، من واجبه أن يدافع عن نظرائه الأموات.
بالطبع، لدى كراوسر ما يُسمَّى «الآراء القوية»، لكنه لا يستاء أبدًا من الخلاف. إذا أخبرته أنك ترى شيئًا مختلفًا تمامًا عما يراه، فغالبًا ما ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة بشكل غير متوقع، قائلًا: «لا يهم»، ثم يغير الموضوع بـ«روح وثابة». فهو لا يجعل الفكرة تسيطر عليه داخليًّا وتنزع عنه سلامه مع الآخرين، وإنما يقابل الخلاف بكل الفضول والود ورحابة الصدر. كذلك تنطوي شخصيته على جانب آخر، وإلا ما كان كاتبًا. فهو يمتلك روح دعابة قوية لا تخلو من الصراحة المفرطة التي تُنفِّر أحيانًا القراء ضعفاء القلوب. كذلك يظل عنصر الاستنفار، له علاقة بالواقع الذي يتعامل معه بنزعة معرفية في أعماله. وتحضرني هنا مقولة أديبنا الكبير «يوهان فولفغانغ غوته»: «مقابل المزايا العظيمة للآخر، لا يوجد
خلاص سوى بالحب».
وها نحن هنا مع رواية «كراوسر» الجديدة، التي حملت عنوانًا كان في حد ذاته قافية داخلية مزدوجة. فالرواية عبارة عن كتاب في أفضل معاني الكلمة الساخرة. لقد كُتب الكثير والكثير عن جان دارك، ولكن -في رأيي- لا يوجد شيء بمثل هذا الجموح. ربما من أهم وصايا الكتابة النافذة ألا تحاول اختصار الحبكة. لكن من المثير أن نقول: إن «جان دارك» تظهر في الرواية بصورة ظلية، على الرغم من كونها شخصية رئيسة. فهناك سفر عبر الزمن، ليس على طريقة الخيال العلمي، ولكن على طريقة الألحان؛ بطريقة مجزأة ورؤيوية تسمى «اندفاع الوقت». أسلوب سرد الرواية مريح جدًّا؛ إذ أفسح ولع كراوسر السابق بالتركيبات المعقدة والكلمات النادرة المجال لـ«خفة ومرح» يقفان بالتوازي من الحبكة المركبة.
«عندما بدأ كل شيء مع جان» هي أيضًا رواية عن الثقافة الأوربية المُحتضِرة في مجدها ووحشيتها. إنها رواية عن حب أقوى من الموت حرفيًّا لأنه امتدد لقرابة 700 عام. لقد سألت هيلموت للمرة العاشرة، لماذا اخترت هذا العنوان الطويل لروايتك؟ وفي المرة الأخيرة لم يقاوم الرد، لكنه نظر إليَّ بابتسامة عريضة يعرفها جميع أصدقائه جيدًا، قائلًا: «حسنًا، لأنه لا يُقصَد به أن يؤُخَذ على محمل الجد!».. كان رده كافيًا للكشف عن أسلوبه الرمزي ذي الإسقاطات البعيدة التي تحتاج إلى يقظة القراء والنقاد على حد سواء. فعلى المرء أن يتخيل كراوسر، ذلك الكاتب الذي تُجُوهِلَ، كشخص غير نمطي على نحو لافت للنظر. بالطبع يود أن يكون لديه أكثر الكتب مبيعًا -فمن لا يرغب في ذلك؟- ولكن في الحقيقة، على الرغم من أن عمره 58 عامًا فقط، فإن لعبة الشهرة بأكملها لم تعد تشكل أهمية له.. لكنني أرى أنه لا يجب تأجيل إعادة اكتشافه أكثر من ذلك. وقبل كل شيء يجب قراءته بوعي عميق؛ لأنه لا يوجد كثير من العباقرة في هذه الحياة حتى نتمادى في تجاهل كاتب مثله.
هوامش:
(١) دانيال كيلمان: كاتب مسرحي وروائي ألماني من أصل نمساوي.. حقق نجاحًا وشهرة عالمية بروايته «مسح العالم / Die Vermessung der Welt» المنشورة عام 2005م، وهي واحدة من أعظم روايات الأدب الألماني في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية.
(٢) هيلموت كراوسر: أحد أشهر الكُتاب الألمان وأكثرهم إنتاجية، له أكثر من 15 رواية؛ منها ثلاث روايات تحولت إلى أفلام سينمائية. كما تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات المهمة، فضلًا عن احتلاله مكانة مرموقة كاتبًا مسرحيًّا في جميع أنحاء العالم، حيث عُرضت مسرحيته الأولى LEATHERFACE أكثر من 400 مرة في عام (1994م). هو أيضًا صاحب رواية «Melodien»، إحدى أكثر روايات الأدب الألماني تميزًا وثراءً.
رابط الموضوع : https://www.zeit.de/2022/31/helmut-krausser-literatur-theater-musik