زكي نجيب محمود.. الفيلسوف الذي تجرّأ على أفكاره
«ليست لحظات الزمن في حياة الإنسان سواسية كلها من حيث قوتها في توجيه الأحداث، وأثرها في تكوين الشخصية وتشكيلها؛ منها ما قد يمضي ولا أثر له، ومنها ما يكون له من بعد الأثر وعمقه، ما يظل يؤثر في مجرى الحياة إلى ختامها». الدكتور زكي نجيب محمود (1905-1993م).
مضى على وفاة زكي نجيب محمود قرابة الثلاثين عامًا. هو المدشّن الأول لتيار الوضعية المنطقية في مصر والعالم العربي والإسلامي، وهو الذي قضى جلّ عمره في البحث عن المعرفة والتنقيب والتأليف وإغناء المكتبة بمؤلفات في مختلف فنون الفكر والفلسفة والأدب. كان صاحب مشروع فكري جديد -في حينه- يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويوفق بين نظريات العلم وحقائق الإيمان، ويرسخ من خلاله ثقافته العربية والإسلامية، وبأسلوبه الأدبي الأنيق بسّط للقارئ العربي أعسر الأفكار، وفكّ أصعب مسائل الفلسفة، فاستطاع أن يخرج الفلسفة من بطون الكتب وأروقة المعاهد والجامعات لتؤدي دورها في الحياة.
عن شخصية بدأت تتلاشى عنها الأنظار والاهتمام، على الرغم من أنها رحلت بعد عطاء معرفي غزير، سنسرد جزءًا يسيرًا من سيرته، تأملاته ومراجعاته النافذة لرحلته الفكرية والمعرفية، ومساءلات عقله المتوهج الذي لم يتوقف ولم يكف عن النقد والتأمل والتحليل، وتحديدًا من سيرتيه «قصة نفس» و«قصة عقل».
الوضعية المنطقية وتقويض الماضي
لُقّب زكي نجيب محمود بأديب الفلاسفة نظرًا لاهتمامه الفريد بالأدب والفلسفة، ووصفه الأديب عباس محمود العقاد بأنه: «فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة؛ فهو مفكِّرٌ يصوغ فكره أدبًا، وأديبٌ يجعل من أدبه فلسفة». عُرف عنه شغفه بتحليل الأفكار والتوضيح المنطقي لها وتحديدها، فاتجه لدراسة الفلسفة وحصل على الدكتوراه فيها من لندن عام 1947م، ثم اهتم بتبسيطها وتدريسها والكتابة حولها بأسلوب سلس سائغ الفهم.
انبهر في سنوات دراسته في الغرب بعلومهم وفنونهم ونظمهم، ولطول معالجته الفلسفةَ، وعكوفه على دراستها، وتفهم قضاياها، آمن بالوضعية المنطقية واتخذها مذهبًا فلسفيًّا، يقتفي خطاه ويسير على هديه في فهم الوجود وتفسيره. وهو المذهب الذي يرى أن العلم هو النشاط العقلي الأوحد، وأن الجماليات والأخلاقيات والفضائل، وكل تلك العبارات الانفعالية الوجدانية لا معنى لها، فأي ادعاء لا يمكن التحقق من صحته عبر ملحوظات حسية فهو إنشاء بلا معنى، لا يضيف للعالم شيئًا، ومن بينها الفن والأدب وكذلك الدين والتراث القديم.
اتجه الدكتور زكي، وفقًا للفلسفة التي آمن بها، إلى مناهضة ما جاء في التراث العربي القديم، والنظر إليه بنظرة أقرب إلى الاستعلاء، داعيًا إلى التخلص من سلطان الماضي على الحاضر؛ لأنه مثل سيطرة الموتى على الأحياء. وألّف في دفاعه عن الوضعية المنطقية كتبًا كثيرة، كان من بينها «خرافة الميتافيزيقا» الذي اضطُرّ لاحقًا لتغيير عنوانه إلى «موقف من الميتافيزيقا» بعد هجوم كبير شُن على فكره المضاد للتراث العربي والإسلامي، وتنكّره لقيمة الدين في بناء النهضة العربية الأولى، بل استبعاده الوحي من دائرة المعرفة وربطه بالوجدان والشعور الخاليين من معنى العقل والتعقل. وأيضًا كتابه «المنطق الوضعي»، الذي كتبه وهو ما زال في باكورة مشواره الفكري غير مبالٍ بالمتربصين بأفكاره المقوضة للطرح الديني.
مما جاء فيه: «ولما كان المذهب الوضعي بصفة عامة، والوضعي المنطقي الجديد بصفة خاصة، هو أقرب المذاهب الفكرية مسايرة للروح العلمي كما يفهمه العلماء الذين يخلقون أسباب الحضارة في معاملهم، فقد أخذتُ به أخذ الواثق بصدق دعواه… وقد جعلتُ الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) أول صيدي، جعلتها أول ما أنظر إليه بمنظار الوضعية المنطقية لأجدها كلامًا فارغًا لا يرتفع إلا أن يكون كذبًا؛ لأن ما يوصف بالكذب كلام يتصوّره العقل ولكن تدحضه التجربة». واستمر الدكتور زكي على هذا المنوال في الثلاثينيات إلى الخمسينيات من القرن الماضي، يطالب مجتمعه بتغيير سُلَّم القيم وفقًا للنمط الأوربي، والأخذ بحضارة الغرب بكل ما فيها بوصفها حضارة العصر، ولاشتمالها على جوانب إيجابية في مجال العلوم التجريبية والرياضية، وبما لها من تقاليد في تقدير العلم وفي الجدية في العمل واحترام إنسانية الإنسان، وهي قيم مفتقدة في العالم العربي.
تأثير الطفولة
ولأن الأشياء تكتسب قيمة أكبر عندما نعرف حكاياتها، فلا يمكننا فهم موقف الدكتور زكي الصلب تجاه الوضعية المنطقية -الذي لاقى حينها هجومًا لاذعًا وخصوصًا من رجال الدين ومن المدافعين عن التراث العربي والإسلامي- دون أن نقرأ الحكاية من البداية، وأن نستكشف سيرة حياته، وقصص طفولته التي شكّلت ملامحَ شخصيتِه وسطّرها بأسلوب أدبي بارع في كتابه «قصة نفس»، حيث تتبّع فيها مراحل نموه النفسي، ناضحًا ذكرياته البعيدة من أعماق نفسه معتمدًا في تحديد مراحل عمره استنادًا إلى الحوادث الباكرة في حياته. ومن هذه الحوادث التي رأى أنها قد أحدثت في شخصيته تكوينات ومنعطفات غير عادية، وبقيت راسخة في ذاكرته، بسبب صرامة الأب وقسوته في التعامل معه وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره. فحين سأله والده عن مسألة في الحساب ولم يعرف الطفل «زكي» الإجابة سريعًا، ضربه الأب على رأسه بكتاب ضخم، وأضحك الضيف عليه الذي علّق قائلًا: «أهكذا تضربه بالدنيا كلها على رأسه؟»، ثم عاود الأب السؤال، وهو ينظر إلى طفله الباكي بعين السخط، ولم يجب الطفل، وهو أعجز عن الجواب من المرة الأولى، فحمله الأب بين ذراعيه حملًا، وقذف به خارج الغرفة كما يقذف اللاعب بالكرة، وهو يردد بنغمة هادئة: «لن يعيش لي ولد خائب، فإما أن يفلح وإما أن يموت».
الطفل ثم الفيلسوف لم يتمرّدا على الأب الذي ملأ مسرح حوادث طفولته بصفعات على وجهه ووقائع موجعة بقيت في الذاكرة، بل قرّر أن يحظى بعين رضا والده من خلال: «القفز إلى ما يجب أن يتحقق، هذا القفز من الواقع إلى الممكن، من المكسوب إلى المأمول، فهذا التطلع من الإنسان هو الذي يدفع به من حالة النقص إلى حالة الكمال». أرجع الدكتور زكي النقص والأخطاء إلى نفسه، مبررًا لعقله أن لوم الأب له لم يأتِ من فراغ، بل لأنه كان معوجًّا كالأحدب. وهي الشخصية التي تخيلها ورأى أنها تمثل طفولته في سيرته «قصة نفس»، فاهتدى بذكاء ورثه عن أبيه إلى طريقة يتخلص بها من خيباته، بأن سعى جاهدًا وبشكل تصاعدي نحو فهم العالم الكبير وتفكيكه على طريقة الأب الخاوي من العاطفة، والمفرط في إصداره للأحكام وفقًا للظاهر ودون النظر إلى الجانب الوجداني والإحساسات من لذة أو ألم، فجعل العقلَ خصيمًا للقلبِ والعلمَ عدوًّا للدين! فلا سلطان على العقل إلا العقل نفسه، وتيقّن أنه إذا ما تبينت شواهد الصدق في أمر ما وجب على السامع أن يُذعن؛ إذ لا مفر له من برهان يقيمه منطق العقل.
وهو الطفل الذي غابت الأم عن حياته فغابت معها لغة القلب، لم يعثر عليها في ذاكرته، ولم يسمع لها صوتًا ولم يظهر لها أثر؛ لشدة انطوائها وسكونها وإنكارها لوجودها. وقد بلغ حِدّة التباين ما بين الأب والأم وصُورتَيْهما في ذاكرة زكي نجيب محمود، أنْ رأى صورة الأم أقرب إلى الانطفاء، في مقابل سطوع صورة الأب، وطريقة هذا الأخير في النظر إلى صغيره ابنِ الخامسة ككائن مادي محسوس لا أكثر.
تحولات في طريق الحياة
بعد الْتِحاقه بالمدرسة بسنوات قليلة، يتذكر زكي نجيب محمود حادثة صغيرة كانت سببًا في انعزاله عن الناس والاستغناء عن تجارب الحياة، مكتفيًا بالعيش بين الكتب بحثًا عن إجابات لكل الأسئلة الكبيرة، وهي الحادثة التي استهلّ بها سيرته «قصة عقل»: «فرُبّ حادثة تبدو لأعين الناس تافهةً لا تستحقّ الوقوف عندها، فإذا هي عندي نقطة تحول في طريق الحياة بأَسْرها، لما كان لها في نفسي من آثار عميقة… كلمة سمعتها تقال عني، وأنا في نحو الرابعةَ عَشْرةَ تنصح أبي بأن يكفّ عن تعليمي بسبب قِصَر في البصر… كانت هذه إحدى نقاط التحول الرئيسية في مجرى حياتي؛ إذ هي بدل أن تكون عندي عامل تثبيط وإحباط، كانت حافزًا على مضاعفة القراءة لأثير الغيظ في نفس قائلها»، ونفوس كل من حوله، بأن تَعاهَدَ الكُتُبَ التي أسهمتْ في إعلاء عقله على وجدانه، إلى أن تحكّم العقلُ في كل تصرفاته، وانعكس ذلك على سمات شخصيته. لم يكن متساهلًا مع نفسه، يميل إلى التشاؤم والانطواء، وكان في الوقت نفسه يفكّر ويعمل وينتج، على الرغم من أن الحياة في أولها لم تكن مُيَسَّرةً له ولا هينةً. وشبّه حالَه بأبي العلاء المعري الذي أملى عليه عقلُه بأن الحياة عَبَثٌ كلها بقوله:
«تَعَبٌ كُلُّها الحَياةُ فَمَا أَعْــــــــــــ
جَبُ إلَّا مِنْ راغِبٍ في ازْديادِ».
ومع ذلك، «هل كفّ المعرّي نفسه عن الرغبة في الزيادة؟».
المفارقة العجيبة، أن تطورًا هائلًا حصل في المنحى الفكري للدكتور «زكي» بعد تجاوزه الستين من عمره، وإصداره عشرات الكتب والمقالات ملتزمًا فيها بالنظرية الحسية التزامًا صارمًا. نضج وأدرك أن تحيّزه الكبير للثقافة الغربية لم تسعف -في نظره- في تلمس الحلول اللازمة لمشكلات الواقع العربي، وربما لحاجاته الإنسانية هو خلال بحثه عن معنى الأشياء وغاياته. حدث ذلك بعد أن تجاوز الانبهار الشديد بالمادية، وتحرّر من دائرة القلق والخوف من سخط الأب، فراح يفتّش عن الجانب الآخر للحياة، الجانب الوجداني الذي غاب عنه منذ الصغر. تحرك وجدانه وتألم لاستسلام الفكر العربي للغرب وتقليده في كل شيء، وبدأ يقرأ وينقّب عن سمات الهوية العربية التي تجمع بين الشرق والغرب، وبين الحدس والعقل، وبين الروح والمادة، وبين القيم والعلم. امتلك الشجاعة لقراءة التراث بنظرة الباحث عن الحقيقة، وانطبق عليه ما قالته الباحثة والفيلسوفة حنة آرندت: «أحدهم إذا انفصم الحبل الذي يشده إلى التراث، اكتشف الماضي من جديد؛ فاستعاد الفكر حيويته، وتمكن من استنطاق الذخائر الثقافية للماضي، تلك الذخائر التي كنا نعتقد أنها ماتت، وها هي الآن تقدم لنا أشياء تخالف أشد المخالفة ما كنا نعتقده».
اكتشف ثراء التراث العربي والإسلامي وكنوزه الفلسفية والعلمية والمعرفية، ونادى بالمزج بين الاعتزاز والنهل من التراث والاستفادة القصوى من المعاصرة. وقال: «إنّ ترْك التراثِ كله انتحار حضاري؛ لأن التراث به لغتنا وآدابنا وقيمنا وجهود علمائنا وأدبائنا وفلاسفتنا، وإن الإسلام أول مَنْ نادى بالمنهج التجريبي وبإعمال العقل والتفكر في الكون وإعمار الحياة». برز هذا الاتجاه في كتبه التي أصدرها تباعًا: «تجديد الفكر العربي»، و«ثقافتنا في مواجهة العصر»، و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري». وعلى إثر ذلك، دعا لمشروع فكري عربي لنهضة العرب بكل نواحي حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية مع الاحتفاظ بما يميزهم بوصفهم عربًا ويحفظ لهم هويتهم والوعي بالذات وبالعصر وامتلاك الأدوات.
بعد سنوات طويلة تجرأ الدكتور زكي نجيب محمود على أفكاره ومعتقداته، وعاد إلى مرحلة الطفولة الباكرة، إلى جذوره؛ ليخلّص رُوحه من الشوائب، من الشعور بالذنب والتأثيم بسبب غلظة الأب، ليصل إلى فكرة وجود عالم لا ندركه بالحواس، بل نؤمن به، وأن العقل وَحْدَه لا يكفي سندًا للإنسان في حياته، ولا بد أن ينطوي على قلب يُهدئ من اضطرابه وانزلاقاته. وقنع بضرورة أن يعيش المزج؛ مزج النقيضين الأب والأم، العقل والوجدان.
يقول في تكامل هذا المزيج: «إن الذي ينقصك هو الخيال، الخيال الذي يجعل لك من المرأة شيئًا جميلًا، ومن الصورة شيئًا جميلًا، ومن الوردة شيئًا جميلًا، ومن غمام السماء شيئًا جميلًا، ومن ظلمة الليل شيئًا جميلًا، لماذا تنظر إلى الأرض كما تفعل الديدان، ولا تشخص ببصرك إلى السماء؟».