بواسطة تركي الحمد - كاتب سعودي | مارس 3, 2019 | الملف
في عام 1971م، وصلتُ إلى الرياض قادمًا من الدمام للالتحاق بجامعة الرياض، الملك سعود حاليًّا، بعد أن أنهيت الثانوية العامة بشق الأنفس، فلم تكن الدراسة هي همنا الأكبر آنذاك، فقد كنا غارقين بالكامل بالسياسة وقضية «النضال» والعمل الوطني والتنظيمات السرية وغير ذلك من أمور كانت هي المسيطرة على عقول الشباب في ذلك الوقت. جئت إلى الرياض مُثقَلا بأيديولوجيا عميقة تراكمت خلال سنوات الدراسة الثانوية في الدمام، ما بين أفكار قومية ويسارية، لدرجة أن معظم طلاب المدرسة كانوا يتوزعون ما بين هذين التيارين، فمن لم يكن يساريًّا فهو بالضرورة قومي، مع عدد لا يتجاوز أصابع اليد من المتأثرين بأفكار حسن البنا وسيد قطب. كان والدي يرغب في أن ألتحق بكلية البترول والمعادن، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن حاليًّا، ولكني كنت أريد دراسة الاقتصاد والسياسة، ولم يكن هذا التخصص متوافرًا في كلية البترول، فقررت شدّ الرحال إلى الرياض، رغم حبي للمنطقة الشرقية العابقة برائحة وذكريات الطفولة.
غازي القصيبي
والتحقت بكلية التجارة في جامعة الرياض، حيث وجدت عالمًا يختلف عن عالم المدرسة في الدمام، لا من حيث المستوى التعليمي بطبيعة الحال، ولكن من حيث مستوى «الأدلجة» إن صح التعبير، لم يكن هنالك استقطاب أيديولوجي أو حزبي كما في ثانوية الدمام، بل في المنطقة الشرقية بشكل عام مقارنة بالرياض، بل كانت هناك مجرد أهواء سياسية لا تصل إلى مستوى الحدية الأيديولوجية والخصام الحزبي. ولكن الأهم من كل ذلك، وهذا هو محور الحديث هنا، كانت الجامعة حاضنًا بل بوتقة لأفكار شتى تتلاقح داخل الحرم الجامعي، ليست بالضرورة أن تكون سياسية، بل كانت تشمل التيارات الفكرية والفلسفية والأدبية، وكانت أسماء مثل هيغل وكانط ونيتشه وسلامة موسى وغيرهم غير مستغربة على طلبة الجامعة تلك الأيام. بل إن روايات الأدب الروسي والفرنسي والإنجليزي الكلاسيكي، كانت مما يتداوله الطلبة كثيرًا، وينقسم الطلبة ما بين مؤيد لتولستوي ودوستويفسكي، أو تشارلز ديكنز وديفيد لورانس، أو فيكتور هوغو وأونوريه بلزاك، وتعقد جلسات نقاش طويلة حول هذه الأعمال.
عالَم بذاته
والحقيقة أن البيئة الجامعية كانت تساعد على مثل هذا النشاط الفكري والثقافي، فقد كانت الجامعة عالمًا بذاته، بطلبته وأساتذته وأنظمته، وكانت مؤسسة تعليمية مستقلة غير تابعة لأي جهاز حكومي بيروقراطي يعيد حركتها ويقيّد حريتها، كما أصبح الوضع لاحقًا. وكان هذا النشاط مشجعًا من قبل أساتذة ما زالت أسماؤهم خالدة في سجل الثقافة السعودية بصفة عامة: الدكتور غازي القصيبي، والدكتور سليمان السليم، والدكتور محسون جلال، والدكتور أسامة عبدالرحمن، وغيرهم من نجوم لامعة في عالم الفكر والثقافة، رحم الله الأموات منهم، ومتع الأحياء منهم بالصحة والعافية. كانت العلاقة بين الطالب وأستاذه علاقة صداقة في المقام الأول وليست علاقة أعلى بأدنى، لدرجة أنني أذكر مقولة للدكتور غازي القصيبي، حين درسنا مادة العلاقات الدولية بأنه يتعلم منا بقدر ما أننا نتعلم منه، أو طريقة الدكتور أسامة عبدالرحمن في التدريس وذلك بإثارة الأسئلة لا بالتلقين، أو الدكتور محسون جلال الذي كان يضيق بالغرف المغلقة فنخرج إلى حديقة الكلية، التي كان مقرها حي عليشة، فنتناقش ومن خلال ذلك يعرفنا بدهاليز الاقتصاد بيسر ودون عناء، ويتخلل هذا النقاش إلقاء الطرائف والنكت. وأذكر في هذا المجال أننا تذوقنا «الهامبرغر» عن طريق الدكتور محسون، فقد دعانا إلى حفلة مسائية في حديقة الكلية لإعداد الهامبرغر، وهرعنا إلى هذه الحفلة للتعرف على هذا الشيء الغامض، أي الهامبرغر. كانت الأجواء الجامعية، بوجود هؤلاء النجوم، تدفعك دفعًا إلى مختلف أنواع النشاط، فكري أو ثقافي أو اجتماعي، ولم تكن قاعة المحاضرات هي البداية والنهاية. كانت الجرائد الحائطية منتشرة في كل مكان في الكلية، ولا يمر أسبوع دون محاضرة عامة لهذا الأستاذ أو ذاك، أو مسرحية على مسرح الجامعة، أو نزهة اجتماعية ثقافية. أما الجمعيات الثقافية والفكرية والسياسية فكانت كثيرة جدًّا، وقد كنت عضوًا في جمعية العلاقات الدولية التي كان يشرف عليها الدكتور سليمان السليم، وكان الدكتور غازي القصيبي أحد أعضائها، يجلس معنا كأي عضو آخر، لا فرق بين أستاذ وطالب، حتى بعد أن أصبح عميدًا للكلية.
حقيقة، وفي ظل هذا الجو، تشكلت شخصيتي من جديد، وبدأت في الخروج من شرنقة الأيديولوجيا التي كنت حبيسها أيام المنطقة الشرقية، ولكن هذا الخروج لم يكتمل إلا في أميركا، ولكن هذه قصة مختلفة. المهم، مرت أربعة أعوام من أجمل أيام حياتي، وتخرجت بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، فعُيِّنت معيدًا في الكلية، وبعد سنة سافرت إلى أميركا للحصول على الماجستير والدكتوراه.
أسامة عبدالرحمن
التحرر من الأيديولجيا
قضيت في أميركا أكثر من تسع سنوات بقليل. تسع سنوات أثرتني فكريًّا وثقافيًّا بشكل لا يقارن بما اكتسبته خلال سنوات عمري كله، والأهم من كل ذلك، تحررت من أسر الأيديولوجيا إلى حد بعيد، ولا أقول كليًّا؛ إذ إن التحرر كليًّا أمر مستحيل. عُدت بعد هذه السنوات التسع إلى أرض الوطن، وعُيِّنت أستاذًا مساعدًا في كلية العلوم الإدارية، كلية التجارة سابقًا، في قسم العلوم السياسية. عندما غادرت المملكة عام 1976م، كانت الطفرة التي قلبت المجتمع السعودي رأسًا على عقب قد بدأت، وكانت كلية التجارة تقبع في قصر فخم في عليشة، وعندما عدت عام 1985م، كان البلد كله عبارة عن ورشة عمل، وكل شيء قد بدا كأنه انتقل من حال إلى حال، فلم يعد أي شيء كما كان. كلية التجارة أصبحت كلية العلوم الإدارية، وجامعة الرياض أصبحت جامعة الملك سعود، وجميع كليات الجامعة أصبحت مجتمعة في مبنى واحد جميل وأنيق وفخم غير بعيد من بلدتي عرقة والدرعية التاريخيتين. ولكني اكتشفت أن أناقة وفخامة مبنى الجامعة والكلية كان يخفي قبحًا شنيعًا؛ إذ لم تعد الكلية هي تلك التي درست بها وكنت فيها معيدًا: كلية غازي القصيبي ومحسون وأسامة، فخلال الفترة التي ذهبت فيها إلى أميركا، كان ما يسمى بالصحوة الإسلامية قد فرد رداءه على البلد، وصبغ كل شيء بصبغته. كان البلد يتحول ماديًّا واجتماعيًّا بوتيرة سريعة، إيجابًا أو سلبًا هذه مسألة أخرى وقصة أخرى ليس هذا مجالها.
نيتشه
الموضوع هنا هو أن «الصحوة» أو الغفوة كما أحب أن أسميها، اختطفت الجامعة بمثل ما اختطفت الوطن، فغاب ذاك التنوع الثقافي والنشاط الفركي الذي كان سائدًا أيام كنت طالبًا ومعيدًا فيها، لم يعد هناك إلا خط واحد لا خطَّ غيره؛ مَنْ يَنحرفْ يُوصَمْ بالزندقة العلمانية وأمور لم نكن نعرفها في الأيام الذهبية للجامعة. هَيْمَنَ الإسلاميون على كل مرافق الجامعة وإدارتها ومناهجها، وحددوا ما يجوز وما لا يجوز تدريسه بحيث تحولت الجامعة، ومن ضمنها الكلية بطبيعة الحال، إلى حاضنة لفكر واحد مغال في تطرُّفه، ولم يعد هنالك من نشاط ثقافي إلا من خلال رعاة هذا الفكر الذي تغلغل في مسام الجامعة التي تحولت إلى مجرد منشور يُبشِّر بفكر هؤلاء. إضافة إلى الانحدار الثقافي الذي آلت إليه الجامعة، فقدت استقلاليتها بعد أن أصبحت تابعة لوزارة حكومية، فتحولت بدورها إلى مؤسسة بيروقراطية بعد أن كانت مؤسسة أكاديمية حقيقية.
سلامة موسى
حتى المناهج، وبعد أن كان الأستاذ يختار ما يدرسه ضمن المنهج المقرر، أصبح المرجع خاضعًا للتمحيص والتدقيق وفق معيار ما يجوز وما لا يجوز. لم تعد هذه هي الجامعة التي أعرف، إن كان لها أن تسمى جامعة. في مثل هذا الجو، الذي حوربت فيه كثيرًا، حاولت أن أقاوم حتى أكمل عشرين عامًا من التدريس كي أحصل على تقاعد مبكر، ولذا ما إن حل عام 1990م، حتى طلبت إحالتي إلى التقاعد المبكر، فغادرت محبوبتي التي كانت غير آسف.
بواسطة تركي الحمد - كاتب سعودي | يناير 1, 2019 | مقالات
تركي الحمد – كاتب سعودي
«عندما يقال كلمة مثقف، أتحسس مسدسي»، تنسب هذه العبارة لجوزيف غوبلز، وزير الدعاية في ألمانيا النازية، وهي تعبر عن العلاقة المتوترة، أو المفترض أن تكون متوترة، بين المثقف والسلطة. ففضاء المثقف هو الحرية والنقد المفتوح، أو كما قال جورج طرابيشي: إن «مهمة المثقف أشبه ما تكون بذبابة سقراط: أن يوقظ لا أن ينيم، وأن يلسع لا أن يخدر»، وذبابة سقراط هي وصف أفلاطون لأستاذه بأنه كذبابة الخيل التي تستحثها على الحركة، وهذا هو حال المثقف في المجتمع؛ وُجِدَ لينتقد. أما فضاء السلطة، وفق هذه المقولة، فهو فضاء السمع والطاعة المطلقين دون إبداء أي رأي، فالرأي هو شق للصف وخروج على الجماعة، كما هو مألوف في كل تاريخنا العربي الإسلامي. المثقف هو اصطلاح أوربي نما وترعرع بعد قضية درايفوس في فرنسا، وكان رائده الروائي إميل زولا في أعقاب الحرب الكونية الأولى، ولكننا نستخدمه مجازًا في تاريخنا المظلم في العلاقة بين المثقف الناقد والسلطة، وما زال الحال كما هو إلا في حالات نادرة. من ناحية أخرى، نجد أن هنالك حالات تمازجت فيها السلطة والثقافة على نحو ما. فأندريه مارلو أصبح وزيرًا للثقافة في فرنسا، وطه حسين أصبح وزيرًا للمعارف في مصر، وليوبولد سنغور أصبح رئيسًا لجمهورية السنغال، وفاتسلاف هافيل أصبح رئيسًا لجمهورية تشيكوسلوفاكيا السابقة، وغازي القصيبي كان وزيرًا مهمًّا في حكومات عدة سعودية متعاقبة، والأمثلة كثيرة في هذا الشأن.
وفي العلاقة بين المثقف والسلطة، يجب أن نفرق بين السلطة المطلقة، وبين السلطة المقيدة. ففي حالة السلطة المطلقة، كما الحال في معظم فترات التاريخ العربي والإسلامي، وتاريخ أوربا قبل الحداثة المعاصرة، فإن العلاقة كانت دائمًا متوترة، بل علاقة عدائية في جوهرها، كما كان الأمر في العلاقة بين فلاسفة التنوير والسلطات السياسية والدينية في أوربا، حين كان تضافر الديني والسياسي هو المحدد لحركة المجتمع وثقافته. أما في حالة السلطة المقيدة، وهذا أمر لم يتحقق إلا مع دخول عصر الحداثة في أوربا، فإن العلاقة بين المثقف والسلطة لم تعد بتلك العدائية، فالمثقف ينتقد والسلطة تستفيد، حتى إن لم تستفد فإنها لا تستطيع كتم فمه أو كسر قلمه، طالما كانت السلطة مقيَّدة بقيد القانون.
في الحالة العربية المعاصرة، فإن العلاقة بين المثقف والسلطة هي ذاتها تقريبًا التي كانت طوال التاريخ العربي الإسلامي، مهما كان الشكل الحداثي أو المعاصر الذي تتخذه الدولة؛ إذ يتغير الشكل ويبقى المضمون ذاته، إلا في لحظات نادرة، كاللحظة الليبرالية المصرية قبل حركة يوليو عام 1952م، حين استطاع مثقف ضرير من الأرياف أن يصبح من الوزراء، أو حين استطاع فلاح آخر أن يصبح من الباشوات ورئيسًا للوزراء، هو سعد زغلول، زعيم حزب الوفد. في غير تلك اللحظات التاريخية النادرة، فإن السلطة السياسية تتحسس مسدسها حين يكون الحديث عن المثقف، إلا في حالة أن يتحول المثقف إلى مؤدلج بأيديولوجيا السلطة، ولا يعود النقد أحد مكونات فكره. ونحن هنا نتحدث عن المؤدلج الذي فقد حسه النقدي تمامًا، وليس عن ذاك الذي يحاول إيجاد جسر بين السلطة والمثقف حين لا يكون الحال يسمح بأكثر من ذلك. والحقيقة أنه إذا كانت السلطة تتحسس مسدسها حين يأتي ذكر المثقف، والحديث هنا عن الحالة العربية المعاصرة، فإن المثقف العربي يتحمل جزءًا من المسؤولية هنا، فهو جادّ في موقفه مع السلطة السياسية، إلا ما ندر، بحيث إنه لا يختلف مع المثقف المؤدلج الذي يبرِّر للسلطة مواقفها مهما كانت هذه المواقف بحيث يمكن القول: إن كليهما مؤدلج حتى النخاع، فهذا مع السلطة قطعيًّا، وذاك ضد السلطة قطعيًّا، بحيث إن مثقف السلطة يصنف المواقف وفق قاعدة الفسطاطين: إما أن تكون معي بشكل مطلق وهنا تستحق شرف الوطنية، وما عدا ذلك فهي الخيانة ولا شيء غيرها. أما المثقف الرافض للسلطة السياسية على وجه الإطلاق فلديه الموقف ذاته وإن كان العكس: فلن تكون وطنيًّا وتستحق صفة المثقف ما لم تكن من الرافضين، وإلا فأنت إلى الخيانة وتبرير أفعال الحاكم أقرب. كلا «المثقفين» يتبع النهج ذاته الذي هو أيديولوجيًّا في نهاية المطاف؛ وجهان لعملة واحدة، والسؤال الذي يثور هنا هو: طالما أن كليهما مؤدلج، فما هو الموقف الذي يفترض أن يتخذه المثقف كي لا يقع في دوامة الأيديولوجيا؟
كلا المثقفين يسعى إلى السلطة، أو هو مبرر لها، وهذا أمر لا خلاف عليه فيما أظن، فالسلطة هي الحسناء التي يَكثُر خطابها، هذا متشبث بالسلطة، وذاك يريد أن يتخذ سلطة، وفي النهاية فإن جوهر السلطة واحد، سواء القائمة أو تلك المراد إحلالها بديلًا عن السلطة القائمة، فما هو الحل والحالة هذه؟
يفرق أنطونيو غرامشي (1891- 1937م) بين المثقف العضوي والمثقف التقليدي أو العادي. المثقف العضوي هو المنغمس في مشاكل المجتمع ومعضلات الجماهير، في حين التقليدي هو المتمحور حول ذاته، أو ذاك الذي يعيش في برجه العاجي، منعزلًا عن الجماهير وعن المجتمع الذي يعيش فيه ولا يعيش فيه في الوقت ذاته. بإيجاز العبارة، هو ذاك الذي يعيش لنفسه وبنفسه. أما بالنسبة للكاتب هنا، فإنه من الضروري التفرقة بين المثقف المعرفي والمثقف المؤدلج. أما المثقف المؤدلج فقد عرفناه من خلال السطور السابقة، سواء كان مؤيدًا للسلطة أو رافضًا لها. أما المثقف المعرفي فهو ذاك المنطلق في مواقفه من معرفة تحاول أن تكون موضوعية للواقع وحركته قدر الإمكان، وليس من مواقف دوغمائية لا تكترث بالواقع وحركته، فهو يريد إعادة تشكيل الواقع وفق قناعاته المطلقة التي تشكل ثوابت لديه، حتى لو اصطدمت بمتغيرات الواقع. قد يرى البعض أن هذه مواقف مبدئية وليست دوغمائية، ولكنْ فرق بين المبدأ أو الدوغما. فالمبدأ مَرِن، ويمكن أن يتكيف مع، مثل أن تؤمن بالديمقراطية، ولكن ليس من الضروري أن تكون وفق نموذج واحد، ولنقل النموذج البريطاني مثلًا، بل يتغير شكلها وفق متغيرات الواقع المعيش. أما الدوغما فهي القول بنموذج واحد غير قابل للتغير، وذلك كما تفعل السلفية حين لا تعترف بمتغيرات الزمان والمكان، وتتخذ من لحظة تاريخية معينة نموذجًا لها غير قابل لأي تغيير أو تحوير.
المثقف المعرفي يحاول قراءة الواقع وفق متغيرات الزمان والمكان، فلا يعادي السلطة لمجرد أنها سلطة، ولا يهادنها فيفقد حسه النقدي ولا يعود مثقفًا معرفيًّا، ولعل أبرز مثال على هذا المثقف يرد على الذهن في هذه اللحظة هو الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770- 1831م). عاصر هيغل نابليون بونابارت وفتوحاته الأوربية لتوسيع إمبراطوريته، ورغم أن نابليون كان حاكمًا مستبدًّا في النهاية، ساعيًا إلى مجده الشخصي، فإن هيغل كان من المؤيدين له والمعجبين به؛ إذ إن فتوحات نابليون في القارة الأوربية سوف تؤدي في النهاية إلى انتشار مبادئ الثورة الفرنسية في كل أوربا. كان هيغل ينظر إلى صورة ما يجري وفق نظرة شمولية، وتحليل قائم على حركة التاريخ وإلى أين يسير، ولا تعنيه التفاصيل الصغيرة وفق فلسفته للتاريخ، ولا يدع تلك التفاصيل تلهيه عن الصورة الكبرى لمسار التاريخ والمجتمع. فوفقًا لهيغل، فإن الخط البياني لحركة التاريخ دائمًا في حالة تصاعدية، وفق نظرة شمولية أو كلية لا تتوقف عند التفاصيل كثيرًا. قد تحصل نكسات في هذا الخط البياني، ولكن حركة التاريخ تتجاوزها في النهاية ليعود للصعود من جديد، وهي الفكرة ذاتها تقريبًا التي تبناها كارل ماركس في مقاله: «الثامن عشر من برومير لويس نابليون». هذه النكسات، كما تبدو للغارق في التفاصيل، هي نوع من مكر التاريخ، أو مكر العقل، الذي يدفع الفرد للقيام بأفعال هو صانعها، ولكنه في الحقيقة يحقق غاية التاريخ التصاعدية دون أن يعي، وغاية التاريخ النهائية هي تجسد المطلق في النهاية، هكذا كان هيغل ينظر إلى نابليون وفتوحاته ضمن الصورة الكلية لصيرورة المطلق وحركته في التاريخ.
لم يكن هيغل إلا مثالًا ضربناه للدلالة على المثقف المعرفي؛ إذ إن الشيء ذاته، يمكن قوله عن كارل ماركس (1818– 1883م)، قبل أن تتحول فلسفته إلى أيديولوجيا على يد فلاديمير لينين (1870- 1924م)، أو أرنولد توينبي (1889- 1975م). خلاصة القول هي أن المثقف المعرفي، خلافًا للمثقف الأيديولوجي، هو ذاك الذي لا يقطع الحبال مع السلطة؛ إذ إن التاريخ يعلمنا أن الفكرة، أو الحركة الفكرية، لا يمكن أن تُؤتِي أُكُلَها وتتجسد واقعًا دون أن تدعمها سلطة ما، سواء كنا نتحدث عن مذاهب دينية أو دنيوية، فلولا الدولة البروسية مثلًا، ما كان للوثرية أن تتجسد واقعًا، ولولا الدولة السعودية ما كان للوهابية أن تنجح، وعلى ذلك يمكن القياس.
بواسطة تركي الحمد - كاتب سعودي | نوفمبر 1, 2018 | مقالات
من الانتقادات التي توجه إلى برنامج الأمير محمد بن سلمان الإصلاحي هو خلو هذا البرنامج أو المشروع من أي بعد سياسي. بمعنى، أين الحديث عن المأسسة السياسية والديمقراطية في هذا المشروع، والتركيز خاصة على قضية الديمقراطية، وهذا صحيح إلى حد بعيد، فرؤية 2030، جل تركيزها على جوانب الاقتصاد والثقافة والمجتمع، ولا حديث عن الجانب السياسي، وأنا أرى أن ذلك أمر طبيعي في هذه المرحلة، فالمأسسة السياسية، وخاصة الديمقراطية، تحتاج إلى أسس اقتصادية واجتماعية وثقافية غير متوافرة في بلادنا، وأظن هذا ما يفعله محمد بن سلمان: إرساء هذه الأسس، ومن ثم تأتي المرحلة الثانية من المشروع الإصلاحي وهي الرؤية السياسية، وفق وجهة نظري بطبيعة الحال.
فإعادة بناء الدولة سياسيًّا، بل لنقل دمقرطتها، لن تكون ناجحة إن كانت مجرد مظهر لا يقوم على أسس ثابتة، وذلك مثل أي بناء يحتاج إلى حفر أساس عميق في الأرض كي يثبت هذا البناء، والشواهد كثيرة. لم تنجح الديمقراطية في بلاد كثيرة، ومنها دول العرب؛ لأن الثقافة الديمقراطية التي أصبحت مرتبطة بالثقافة الليبرالية، معدومة في تلك البلاد، وبدل أن تؤدي الديمقراطية القائمة على صندوق الاقتراع فقط، دون سيادة ثقافة ديمقراطية– ليبرالية، إلى الاستقرار والازدهار، أدت إلى الشحن الاجتماعي والسياسي، وانقسام المجتمع إلى جماعات متناحرة، في ظل ثقافة العنف والكراهية والطائفية والقبلية وغيرها. فالديمقراطية للمجتمع مثل كأس زجاجية شفافة تعكس نوع السائل الذي بداخلها وتتلون بلونه. وكذلك الديمقراطية، حين تطبق في مجتمع تنقصه أبجديات الثقافة الفردية والتسامح والنسبية وسيادة القانون المدني والمساواة المطلقة أمامه تحت مظلة المواطنة، فإنها تعكس ما يدور في المجتمع من صراعات وخصومات.
لذلك أظن، وبعض الظن ليس إثمًا، أن هذا ما يدور في ذهن الأمير الشاب: إصلاح اقتصادي واجتماعي وثقافي، ثم تكون الخطوات السياسية. وبلادنا اليوم تعيش في ظل ثقافة متناقضة تمامًا مع القيم الديمقراطية ومبادئ الليبرالية، وإذ لا يمكن الفصل بينهما، فلا ديمقراطية من دون ليبرالية، ولكن العكس ممكن أي ليبرالية من دون ديمقراطية، بل إنه من الضروري وجود الليبرالية أولًا لتحقيق الديمقراطية، وهذا ما يحدث بالفعل في التجربة التاريخية للمجتمعات الأوربية حيث تَلَبْلَرَتْ أولًا ثم تحوَّلت إلى الديمقراطية، بتمهيد من أفكار توماس هوبز في إنجلترا، وجون لوك، ومونتسكيو وتوكفيل في فرنسا وغيرهم. المراد قوله هو أنه لا ديمقراطية سياسية ناجحة من دون قيم ليبرالية سائدة. يناقش البعض بالقول بأنه لا يمكن نشوء ثقافة ديمقراطية من دون تجربة ديمقراطية من خلال الممارسة الفعلية، وكنت ضمن القائلين بمثل هذا القول، ولكن من خلال متابعة ومراقبة التجارب الديمقراطية في الدول العربية، وهي تجارب سطحية وناقصة على أية حال، تبيَّنَ لي أن تطبيق ديمقراطية صندوق الاقتراع في بيئة ثقافية واجتماعية غير ديمقراطية في ثقافتها المهيمنة هو أمر مصيره الفشل، وانظر إلى دول الجوار من حولنا التي اكتفت بصندوق الاقتراع دون قيمه، فتحوَّلت إلى ساحة صراع أيديولوجي ونزاعات طائفية وقبلية، مع أن الديمقراطية إنما انبثقت من الحاجة إلى السلم الاجتماعي، وتداول السلطة بسلاسة، ولكن الديمقراطية العربية تحاول أن تجمع النقائض: ديمقراطية في بيئة غير ديمقراطية، وهذا أمر محال، فالديمقراطية إما أن تؤخذ كلًّا واحدًا بكل قيمه الليبرالية، وإما أن تترك جملة وتفضيلًا.
تركي الحمد
ينسى البعض في ظل النقاش حول الديمقراطية أنها في النهاية وسيلة لا غاية، وأما الغاية فهي تحقيق السلم الاجتماعي من خلال منح الفرصة لكل أطياف المجتمع وتياراته لممارسة السلطة من خلال آلية تحقق ذلك، ومن خلال اتفاق هذه الأطياف وتلك التيارات على قواعد اللعبة السياسية الديمقراطية، وهذا هو ما يحدث في تلك الديمقراطيات العريقة. أما حين لا تنجح الديمقراطية في تحقيق الغاية منها، فإنها تتحول إلى مجرد مظهر لا معنى له، وبناء هشّ لا قيمة له لا يلبث أن ينهار عند أول صدمة، وأبرز مثال على ذلك هو جمهورية «فيمار» التي قامت في ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، التي ما لبثت أن هوت مع مجيء أدولف هتلر إلى الحكم عام 1933م، وبداية نشوء الرايخ الثالث. لقد كانت ألمانيا في ذلك الوقت مأزومة من حيث جرح الذات الذي خلفته الهزيمة، ومن حيث جنوح الجو العام في أوربا إلى الأيديولوجيات الشمولية، من شيوعية وفاشية، وكانت ألمانيا محتقنة تبحث عن منقذ.
في مثل هذا الجو، وفي مثل هذه البيئة، لا يمكن للديمقراطية أن تنجح، فالكل يبحث عن منقذ، والكل يظن أنه المنقذ، وبالتالي فإن قواعد اللعبة الديمقراطية لن تكون ذات فاعلية حتى إن نصَّ عليها الدستور، فالكل يحاول الوصول إلى السلطة عن طريق هذه اللعبة للاستئثار بها في النهاية، وهذا ما فعله هتلر وحزبه النازي، بل هذا هو ما يحدث في «الديمقراطيات» العربية وغيرها من ديمقراطيات سطحية، من قبل أحزاب وتيارات لا تؤمن بالديمقراطية وفلسفتها من الأساس، ولكنها تمارسها من أجل غايات لا علاقة لها بتداول السلطة، ولنا في تجربة الإخوان المسلمين في مصر خير برهان.
هل يعني ذلك أن الديمقراطية نظام سياسي فاشل، ويجب التخلي عنه؟ بالطبع لا، فهي أنجح نظام سياسي عملي بشرط توافر ظروفها وبيئتها المناسبة. فلا ديمقراطية من دون حريات عامة. ولا ديمقراطية من دون حقوق أساسية للفرد والجماعة غير قابلة للمس والتغيير. مشكلتنا في عالم العرب هي هيمنة ثقافة التقديس التي تسربت إلى المفاهيم الحديثة التي لا علاقة لها بتراثنا، فإذا آمنا بشيء رفعنا من شأنه إلى درجة القداسة أحيانًا، وهذا هو حالنا مع الديمقراطية، وقبل ذلك الاشتراكية والقومية وغيرها، ناسين أنها مجرد وسائل لا قداسة فيها ولا معنى حين فصلها عن غايتها، والغاية في النهاية هي الاستقرار والازدهار والسلام الاجتماعي. الاستبداد مرفوض بكل أشكاله، ولكن ذلك لا يعني أن الديمقراطية على إطلاق العبارة، أي دون توافر شروطها وبيئتها الثقافية، هي عصا موسى التي تفلق البحر، أو مصباح علاء الدين الذي يحقق المعجزات.
المملكة العربية السعودية دولة مترامية الأطراف، وذات مجتمع متنوع عرقيًّا وقبليًّا وطائفيًّا ومناطقيًّا. وفي ذات الوقت هو مجتمع تقليدي، تحكمه ثقافة تقليدية هي مزيج من العادات والتقاليد والأعراف والقيم الدينية. وهو مجتمع لم يمر بأي تجربة ديمقراطية أو ليبرالية حقيقية. أما المجتمعات العربية الأخرى، وبخاصة مصر والعراق وسوريا، فمرت بلحظات ليبرالية عابرة، ولكنها لم تستمر طويلًا؛ إذ أجهضت بالعسكر. أما لبنان فقد كان دومًا ديمقراطية سطحية، وليبرالية ظاهرية، أما في عمقه فهو كيان طائفي سواء كان الحديث سياسيًّا أو اجتماعيًّا. أما المملكة، فإن مثل هذه الثقافة التقليدية لا يمكن أن تكون حاضنًا مناسبًا لديمقراطية ناجحة؛ إذ إن مثل هذه الثقافة التقليدية تقف على طرفي نقيض مع الثقافة الديمقراطية والقيم الليبرالية المؤطرة لمثل هذه الثقافة، وبالتالي فإن تطبيق مجرد ديمقراطية صندوق الاقتراع سيعزز من انقسام المجتمع، وسيكون السلم الاجتماعي آخر ما يمكن أن يتحقق، ولنا في تجربة الانتخابات البلدية خير برهان؛ إذ تحوَّلت إلى ساحة صراع، ولا أقول تنافس، بين مختلف الأطياف. ومن هذا المنطق وجب الحديث عن دعوة البعض إلى أن يكون مجلس الشورى منتخبًا، وأنا لا أحبذ هذا الأمر حاليًّا، إذ في ظل هذه الثقافة التقليدية، فإن النتيجة ستكون تكتلات فئوية (قبلية وطائفية… إلخ) لا علاقة لها بالعمل السياسي الحقيقي، أي العمل السياسي المنضوي تحت مظلة مفهوم المواطنة الشامل، وإن تعددت الأحزاب والتيارات. بإيجاز العبارة، بيئتنا الثقافية والاجتماعية الحالية غير ملائمة لاحتضان الديمقراطية وقيمها، ناهيك عن الليبرالية ومنطلقاتها الفكرية والسلوكية.
لذالك فإنه من أجل حداثة سياسية ناجحة في السعودية الجديدة، لا بد في هذه المرحلة من التركيز على نشوء ثقافة جديدة ومجتمع جديد، والبعد من التقديس الأيديولوجي للمفاهيم والأشياء. ثقافة جديدة تقوم على فهم غير منغلق على نفسه، ومنفتح على العالم وما يجري فيه. ومجتمع جديد يقوم على مفهوم المواطنة من دون عصبيات فرعية. نعم للثقافات والانتماءات الفرعية، فذلك أمر طبيعي فالتنوع جوهر الحياة، ولكن كل ذلك في إطار المواطنة الواحدة. البعد من المهاترات الأيديولوجية هو المطلوب في هذه المرحلة، والتركيز على كيفية بناء مجتمع مدني قوي، واقتصاد قوي، وثقافة متقبلة لكل الثقافات، ومجتمع مفتوح. أما الحداثة السياسية بكل أشكالها فإنها قادمة لا شك في ذلك حين تتهيأ بيئتها، وأظن أن رؤية 2030 هي الخطوة الأولى نحو كل ذلك.
بواسطة تركي الحمد - كاتب سعودي | سبتمبر 1, 2018 | الملف
في كتابه الكلاسيكي «الديمقراطية في أميركا» يرى المنظر السياسي الفرنسي أليكس دي توكفيل (1805 – 1859م)، أن العظمة الأميركية لا تكمن في اقتصادها أو نظامها السياسي فقط، بل في مجتمعها المدني الحر، فالأميركيون يُنشِئون الجمعيات لكل شأن من شؤون حياتهم بكل حرية ودون تدخل من السلطة السياسية، التي تبقى مجرد مؤطر للحياة السياسية والقانونية في البلد، أما المجتمع فهو مقود «بروح المبادرة»، في مجتمع يتمتع بحرية هذه المبادرة، وحرية التعبير عن الذات، سواء من قبل الفرد أو الجماعة، على عكس الوضع في فرنسا، في ذلك الوقت بالطبع، حيث تكون الدولة– السلطة راعية لكل شأن من شؤون الحياة وتقف بالضرورة على رأس كل مؤسسة أو جمعية جديدة، كما يقف الإقطاعي على رأس كل مؤسسة أو جمعية أو نشاط يريد التعبير عن نفسه مؤسسيًّا في إنجلترا، وفي ذلك الزمان بالطبع.
وصف توكفيل للمجتمع الأميركي في بدايات نشوء القوة الأميركية وهو يشكل روح المجتمع المدني وبعيدًا من التعريفات المتضاربة لهذا المفهوم. وبذلك يكون مفهوم «المجتمع المدني» مرتبطًا أشد الارتباط بمفهوم آخر هو مفهوم الحرية، وتحديدًا حرية المبادرة الاجتماعية للجماعات المختلفة في المجتمع، من خلال التعبير عن ذاتها ومصالحها وتوجهاتها، الفكرية والسياسية والثقافية، مؤسسيًّا. والتعددية بكل أنواعها موجودة في كل مجتمع وأي مجتمع، وكلما زاد المجتمع تعقيدًا نتيجة مدنيته والتوغل في مسار الحداثة، زادت هذه التعددية وتنوعت كمًّا وكيفًا. والحقيقة أن القضية ليست وجود التعددية بقدر ما هي تتعلق بتنظيم هذه التعددية مؤسسيًّا، كما لا تتحول إلى برميل بارود يهدد السلم الاجتماعي، بل يهدد وجود الدولة والمجتمع معًا، وهنا يأتي دور السلطة السياسية، أو الدولة بهذا المعنى؛ كي تضع الأطر المؤسسية والقانونية لتنظيم هذه التعددية الموجودة. دون أن تحاول الدولة التكيف مع المتغيرات كافة، ومن ضمنها المتغيرات الاجتماعية، فإنها تهدِّد وجودها ذاته، وأهم هذه المتغيرات الاجتماعية هو تنامي التعددية مع كل خطوة تخطوها الدولة والمجتمع من البساطة إلى التعقيد. حاولت الأنظمة الشمولية والشخصانية أن تقيم مجتمعات ذات نكهة واحدة، أي حاولت كبت التعددية الاجتماعية والسياسية ولكنها في النهاية فشلت وانهارت، وأبرز مثال على تلك الأنظمة ذات البعد الواحد، الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، بوصفهما أنظمة شمولية لا وجود حقيقي للمجتمع الحر في ظلالهما، ولا وجود لمجتمع مدني خارج السلطة المهيمنة على كل شيء، بمعنى أنه لا وجود لمجتمع مدني حقيقي حيث إن الحرية وروح المبادرة هي جوهر ذلك المجتمع، أما الأنظمة الشخصانية، فيمثلها قول الملك الفرنسي لويس الرابع عشر «أنا الدولة، والدولة أنا»، حيث تتركز الدولة، بل الدولة والمجتمع، في شخص واحد وهو رئيس الدولة، سواء كان ملكًا أو غيره. والحقيقة أن الأنظمة الشخصانية هي من مخلفات الماضي حيث كانت معظم تلك الأنظمة شخصانية المحتوى، سواء كنا نتحدث عن دول قديمة مثل الدولة الساسانية أو الرومانية المتأخرة أو الدولة الإسلامية في مختلف عهودها، والأمثلة عديدة في هذا المجال.
أسس ثابتة من المأسسة والقانون
أما الدولة الحديثة اليوم، أو تلك التي تطرق باب الحداثة، فإنها تحقيقًا للسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي في النهاية، فيجب أن تتمتع بمجتمع مدني قوي، قائم على أسس ثابتة من المأسسة والقانون. وفي هذا المجال، يجب أن تتمتع الدولة باستقلالية فضاءاتها المختلفة، بحيث لا تذوب الفواصل بين هذه الفضاءات، فلا يعرف ما هو خاص أو عام، وهنا تنشأ بيئة الفساد الممنهج، ولا ما هو متعلق بالسلطة أو ما هو متعلق بالمجتمع أو الاقتصاد مثلًا. هذه الفواصل ضرورية كي يمارس كل قضاء من هذه القضاءات دوره في الدولة، ومن ثم يكون التوازن ونتائجه من سلم اجتماعي واستقرار سياسي.
فقضاء السلطة السياسية الأساسي هو تنظيم وإدارة المجتمع بما يكفل حرية العلاقة بين وحدات هذا المجتمع وسلاستها عن طريق المأسسة. ووضع إطار قانوني تتحرك هذه الوحدات ضمن دائرته، سواء كنا نتحدث عن وحدات اجتماعية أو ثقافية أو فكرية أو اقتصادية. صحيح أن السلطة السياسية قد تمارس دورًا اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا أو فكريًّا في لحظة من اللحظات، وبخاصة في لحظات التأسيس حيث إنه من الضروري وضع أسس وأطر للدولة الناشئة، كما حدث في اليابان مثلًا خلال حقبة المييجي، ولكن ذلك يبقى مؤقتًا حيث تعود السلطة السياسية إلى وظيفتها الأساسية حيث تترسخ الدولة من إدارة وتنظيم وتدخل في حالة الطوارئ والأزمات، كما حدث في الولايات المتحدة لإنهاء الكساد الكبير في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن العشرين. بغير ذلك، فإن الشمولية هي المآل، وما أن تهيمن الشمولية بنظرتها الأحادية حتى تختفي الفواصل كافة بين فضاءات وقطاعات الدولة، ويكون السقوط هو النتيجة في النهاية، وما التجربة السوفييتية منا ببعيدة.
أما بقية الفضاءات، من اجتماعية وثقافية واقتصادية، فجوهر وجودها هو الحرية في ظل الأطر والقوانين التي تحددها السلطة السياسية، وإلا فهي فوضوية الحركة. من دون سلطة سياسية فإنه لا وجود لمجتمع بصفة عامة، ونحن نتحدث عن المجتمعات الحديثة وليست تلك الموغلة في بدائيتها… كما أن السلطة السياسية لا استقرار لها من دون مجتمع قائم على المأسسة، وليس مجتمعًا مجبرًا على النهج الواحد والطريق الواحد، فيما هو تعددي بالضرورة. المهم في الموضوع أن المجتمع والسلطة كليهما ضروري للآخر في علاقة جدلية معينة، من يدرك أبعادها فإنه يمسك بمفاصل الاستقرار والسلم الاجتماعي بين يديه. وحين نتحدث عن المجتمع فإننا حقيقة نتحدث عن كتلة هلامية لا شكل محدد لها. هذا الشكل لا يتكون، ويكون ذا أثر إلا حين تنظيم حركة هذا المجتمع، وذلك لا يتأتى إلا من خلال مجتمع مدني فاعل، يسمح فيه لمكونات المجتمع المختلفة للتعبير عن ذاتها من خلال مؤسسات وقنوات كاملة الحرية، في ظل الأطر القانونية بطبيعة الحال.
في الحالة السعودية
مر على السعودية حين من الدهر كانت فيه أقرب إلى الشمولية منها إلى المجتمع المفتوح، وبخاصة في حقبة الطفرة الاقتصادية التي بدأت في السبعينيات من القرن العشرين. بطبيعة الحال نحن لا نتحدث عن الحقب الأولى للدولة السعودية، حيث كان المجتمع من البساطة بحيث لا مجال لقيام مجتمع مدني فيه، وكانت الأحادية الثقافية والاجتماعية هي الأساس، ولكننا نتحدث عن سعودية ما بعد اكتشاف النفط، حيث بدأت الدولة تسير بخطى ثابتة نحو التحديث، وبذلك اتسعت القاعدة للتعددية، وبدأ المجتمع يصبح أكثر تعقيدًا ويسير نحو مزيد من التعددية. في هذه الحقبة، أي بعد اكتشاف النفط وقبل مجيء الطفرة، كان المجتمع السعودي منفتحًا نسبيًّا، رغم قيام الدولة على أيديولوجيا دينية، وفي ظل هذا المجتمع بدأت البراعم الأولى لمؤسسات مجتمع مدني حر الحركة إلى حد كبير، ونحن هنا نتحدث عن العهد الأخير للملك المؤسس عبدالعزيز، ثم عهد الملك سعود والسنوات الأولى من عهد الملك فيصل، رحم الله الجميع. مجيء الطفرة، وتمتع الدولة بمداخيل النفط الضخمة، بدأ ما يمكن أن نسميه مرحلة «الأبوة» الشاملة للسلطة السياسية، حيث أصبح كل شيء، سواء كان اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا، معتمدًا على السلطة وإنفاقها الضخم على مشاريع التنمية وغيرها، مما شجع السلطة السياسية على رعاية كل شأن من شؤون الاقتصاد، والمجتمع فاندثرت روح المبادرة التي كانت سائدة قبل ذلك، وبالتالي اضمحل المجتمع المدني ومؤسساته طالما غابت روح المبادرة، والاستقلالية التي يجب أن تتمتع بها كي تكون مؤسسات مجتمع مدني حقيقية، فأصبحت الدولة– السلطة على رأس كل مؤسسة جديدة، بحيث انضوى الجميع تحت عباءة «الأب» الفضفاضة، وتحول المجتمع السعودي إلى عالة على الدولة حقيقة الأمر، برضا من الدولة ذاتها التي كانت سياستها تقوم على إحكام الرقابة على المجتمع من حيث ربطه بالسلطة طالما كانت مداخيل الدولة تسمح بذلك، وهي سياسة مبررة حقيقة في وقتها، ولكن آثارها بعيدة المدى مدمرة، من حيث ارتباط كل شأن من شؤون الدولة والمجتمع بعامل واحد هو الثروة النفطية، فكما أن هذه الثروة حققت الازدهار ودولة رفاهية سعودية، فإنها قضت على روح المبادرة الاجتماعية من ناحية، وحين تنضب فإنها تؤدي إلى توتر المجتمع الذي اعتاد على رعاية أبوية من دولة لم تعد قادرة على الرعاية، وهذا ما كان يقلق الدولة في السنوات الأخيرة، فقد أصبحت أُبوَّتها للمجتمع والاقتصاد عبئًا عليها.
ومن هنا ندرك أيضًا الحافزات الأساسية لبرنامج الأمير محمد بن سلمان الإصلاحي. فقبل سنتين تقريبًا، كان واضحًا أن المملكة تعيش في أزمة حقيقية، أو لنقل عنق زجاجة. فبصفتها دولة تنتمي إلى عالم اليوم، لا تستطيع إلا أن تكون حديثة المعالم في كل الجوانب. فهي لا تستطيع البقاء من دون تحديث للثقافة التقليدية والتفسير الأوحد لنصوص الدين الثابتة، التي تشكل بدورها العائق الرئيسي لتحديث بقية الجوانب من اجتماعية واقتصادية، وهي لا تستطيع البقاء في عالم اليوم والانتماء إليه من دون وجود مجتمع مفتوح قادر على التفاعل مع بقية مجتمعات العالم. وهي لا تستطيع البقاء والمنافسة في عالم اليوم من دون اقتصاد لديه روح المبادرة وليس الاعتماد على ما تنفقه الدولة، كما كانت الحال في زمن الطفرة. وهي لا تستطيع البقاء والاستمرار بوجود بيروقراطية حكومية واسعة تشكل البيئة المثلى للفساد، الذي كاد، بل أصبح في حقب من الحقب جزءًا من النسيج المكون للبيروقراطية الحكومية، بل جزءًا من نسيج المجتمع ككل حيث ينظر إليه كأمر طبيعي وليس اعتداء الخاص على العام. الرؤية التي طرحها وينفذها الأمير محمد بن سلمان «رؤية 2030»، تسعى لجعل المملكة دولة حديثة بكل المعاني وكل الجوانب، ولخلق مجتمع مدني حقيقي، وليس مجرد مشروع ديني بتفسير أوحد لا مهمة له إلا حماية العقيدة، التي هي تصور البعض لمعنى الدين حتى إن تعارض مع روح الدين وقيمه السامية التي لا تتعارض مع الحداثة بأي حال من الأحوال. رؤية الأمير تسعى لتنقية الاقتصاد وأجهزة الدولة ومؤسساتها من الفساد المستشري كالسرطان في عروقها. وتسعى هذه الرؤية إلى تحديث ثقافة جامدة، أو أريد لها أن تكون جامدة من بعض الفئات المتغلغلة في بيروقراطية الدولة ومؤسسات المجتمع من مساجد ومدارس وجامعات. ولكن في ظني أن هذه المبادرة ينقصها نوع من التركيز على مؤسسات المجتمع المدني، أو لنقُلِ الحث على تكوين مثل هذه المؤسسات لاستيعاب تعددية المجتمع السعودي، فدور هذه المؤسسات كبير في الربط بين الفضاءين السياسي والاجتماعي، وهو ما يسهل مهمة السياسي ويحفز الاجتماعي على الحركة المستقلة التي تشكل رافدًا لتحديث المجتمع والثقافة ككل.
التركيز الحالي في رؤية 2030 هو على الاقتصاد، وهذا شيء مهم لا شك في ذلك، ولكن نجاح تحديث الاقتصاد لا يتحقق من دون نجاح التحديث في المجالات الأخرى، ومن أهم هذه المجالات حفز مؤسسات المجتمع المدني على استيعاب التعددية الاجتماعية والثقافية بشكل مؤسسي، التي من دون استيعابها فإنها تتحول إلى قوة مدمرة للمجتمع والاقتصاد بل الدولة ذاتها، مثل تحوُّل مياه النهر المتدفقة إلى فيضانات مدمرة إن لم تُنَظَّم بالسدود والقنوات. الحديث يطول حقيقة ولا يتسع هذا المقال للتشعب فيه، ولكن لنا وقفات أخرى في المستقبل إن شاء الله.
بواسطة تركي الحمد - كاتب سعودي | يناير 28, 2018 | مقالات
تعيش السعودية هذه الأيام تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية جذرية، لدرجة أننا يمكن أن نسميها «ثورة» من الأعلى تقوم بها القيادة السعودية من أجل التجديد. بل يمكن القول إعادة التأسيس. بإيجاز، إن السعودية اليوم تغير جلدها الذي ضاق عليها فلم يعد يستوعب تغيرات العالم المتسارعة، سواء في مجال التكنولوجيا، أو الاقتصاد، أو الثقافة الحديثة. وحين نتحدث عن التحولات فإننا في الوقت ذاته نتحدث عن الأزمات. فالأزمة وفق التعريف التقليدي، هي تغير مفاجئ سواء نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، وكلاهما أمر نسبي، أي أنها نوع من عنق الزجاجة الذي لا بد أن تمر به المجتمعات التي تشهد تحولات كبرى، كالتي تشهدها السعودية هذه الأيام. ومن هنا يبرز السؤال: ما دور المثقف أو المفكر في مثل هذه التحولات أو لنقل الثورات التي تنقل المجتمعات من حالة إلى حالة تكاد تكون نقيضة لها إن لم تكن في تناقض تام معها؟
الأزمات والتحولات الكبرى في التاريخ تفرز مثقفها أو مفكرها، سواء مع بداية التحول أو قبيل التحول حين يكون المجتمع في أزمة حقيقية. فقبل مجموعة الإصلاحات التي قدمها الأمير محمد بن سلمان في الرؤية، كان المجتمع يعيش أزمة حقيقية نتيجة هيمنة أيديولوجيا أدت دورها التاريخي؛ لكنها لم تعد قادرة على استيعاب التغيرات الاجتماعية والثقافية ناهيك عن الاقتصادية على مر تاريخها منذ لحظات التأسيس، وبخاصة في أثناء العقود الثلاثة من الصحوة. أيديولوجيا ألبست السعودية ثوبًا أصبح خانقًا لها ولتطورها لضيقه، وهو الذي كان مناسبًا لعقود خلت. ومن هنا بدأت أصوات تعلو بضرورة التغيير وأنه لم يعد مجرد خيار، بل هو حتم إذا كان بقاء الدولة وتماسك المجتمع وازدهار الاقتصاد هو الغاية. وكانت هذه الأصوات، مثقفون ومفكرون، تحذر من المآل إذا استمرت الحال على ذات الحال، وفي ذات الوقت تصف، أو تحاول أن تصف وتنظر بكيفية الخروج من عنق الزجاجة وتداعيات الأزمة بطرح حلول تختلف من مفكر لآخر، ومن مثقف لآخر، لكنها تتفق في النهاية على أن هنالك أزمة، أو أننا في الطريق إلى أزمة، وعلى ضرورة التغيير وكيف يكون ذلك، وهنا يكمن دور المثقف والمفكر في حالة التحولات الكبرى وما يسبقها من أزمات: قرع الجرس للتنبيه إلى أزمة، ومحاولة طرح الحلول لأزمة قائمة أو أزمة قادمة.
أثينا وسقراط
عندما كانت أثينا، أو دولة المدينة آنذاك، تعاني أزمةً في وجودها، من حيث تحول من حولها إلى النمط الإمبراطوري للدولة ممثلًا في الدولتين الفارسية والرومانية، وأزمةً في ثقافتها ونظامها الاجتماعي والسياسي، ظهر سقراط مشككًا في عقائد أثينا من خلال أسئلته المحرجة، وظهر أفلاطون وجمهوريته الفاضلة القائمة على حكم الملك الفيلسوف المالك للحقيقة المطلقة، كبديل لنظام أثينا الديمقراطي المهترئ، وظهر أرسطو مناقشًا علاقة الأخلاق بالسياسة وصفات المواطن الصالح والفرد الصالح، وظهرت الرواقية المبشرة بالصبر على الألم، والأبيقورية المبشرة بالمتعة والمتعة فقط، وغيرها من مدارس أقل شأنًا. كل هذه المدارس وأولئك المفكرين كانوا إفرازًا لأزمة أثينا سواء الداخلية أو الخارجية، وكل يصف الأزمة وفق تصوره، ويطرح حلًّا لها وفق رؤيته بطبيعة الحال.
وعندما بدأت أوربا تخرج من النظام الإقطاعي في بداية الطريق إلى العصور الحديثة، وظهور طبقات جديدة على حساب الطبقات الآيلة للسقوط، وأهم هذه الطبقات الجديدة هي الطبقة البرجوازية، بدأ ظهور مفكرين يفسرون ما يجري من ناحية، وينظرون لما سيأتي من ناحية أخرى. فرينيه ديكارت مثلًا بدأ مشروعه في الاستهلال بنقد أسس المعرفة التقليدية القائمة على الثقافة الدينية وتغيراتها للكون والحياة، ممزوجة بنظريات أرسطو وإقليدس وبطليموس وغيرهم. بدأ ديكارت مشروعه من الصفر حيث نفى كل معرفة، وشك فيها ولم يبق إلا الذات المفكرة التي لا شك فيها، ويلخصها الكوجيتو الشهير له: «أنا أفكر إذًا أنا موجود»، ومن هذه البديهة البسيطة بنى ديكارت نظامًا معرفيًّا متكاملًا كان أحد الأسس التي قامت عليها المعرفة الحديثة. هذا من الناحية المعرفية، ومن الناحية الاجتماعية والسياسية، ظهر مفكرون لعل أبرزهم فيما يتعلق بموضوعنا مفكرو العقد الاجتماعي (توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو)، الذين شخّصوا أزمة المجتمع القديم وجموده، وقدموا حلولهم لكيفية المجتمع الجديد، على اختلاف بينهم في البنية الضرورية للمجتمع الجديد.
وعندما تنمرت الرأسمالية في القرن التاسع عشر، وأظهرت وحشيتها حين لا تكون مقيدة ومقننة، وهو ما أدى إلى تفاقم تناقضاتها وازدياد قسوتها تجاه القوة العاملة (البروليتاريا)، سواء فيما يتعلق بالأجور المدنية أو تشغيل الأطفال، ظهر المفكرون والمنظرون الاشتراكيون على اختلاف اتجاهاتهم، سواء الثوري منهم مثل: كارل ماركس، وفريدريك إنجلز، أو الطوباويون منهم مثل: شارل فورييه، وروبرت أوين، وسان سيمون وغيرهم.
وفي روسيا، وقبل انهيار النظام القيصري بسنوات طويلة نتيجة تعنت هذا النظام لمتغيرات الداخل والخارج، وتحكم المصالح الخاصة وانتشار الفساد وتحكم الإكليروس بالدولة واستبداد القيصر، تكاثرت الأصوات التي كانت تنادي بالتغيير وتصف حال المجتمع في ظل القيصرية الجامدة آنذاك، لعل من أبرزها الروائي الروسي ليو تولستوي، وكذلك فيودور دوستويفسكي، حتى سقط النظام في النهاية على يد البلشفي فلاديمير إيلتش لينين في ثورة دموية نتيجة عدم قابلية النظام للتغيير، وهو ذاته ما حدث للاتحاد السوفييتي لاحقًا، حين صارت الأيديولوجيا الشيوعية المؤسسة للاتحاد، هي ذاتها المعوِّقة لتغير وتطور هذا الاتحاد، وهو ذاته ما حدث في الصين حين تحولت الأيديولوجيا الشيوعية، أيديولوجيا الثورة الصينية بقيادة ماو تسي تونغ، إلى عائق يقف في طريق تطور الصين ونموها، حتى جاء دنغ شياو بنغ وشرع أبواب الصين للاقتصاد الحر.
العرب يكتشفون تكلسهم
وفي عالمنا العربي، أدى اكتشاف هذا العالم للغرب الحديث في أواخر القرن الثامن عشر إلى صدمة حضارية، حيث اكتشف العرب أن الغرب المتخلف الذي عرفوه قبل قرون من الزمان، لم يعد ذلك الكيان المتكلس بل اكتشفوا فجأة أنهم هم المتكلسون وبدأت الأسئلة الوجودية الكبرى في الظهور: لماذا تقدم الغرب وتخلفنا؟ كيف يمكن اللحاق بركب الحضارة؟ هل يتوافق الإسلام مع الحضارة الحديثة؟ وغيرها من أسئلة وجودية كبرى كلها يدور حول هذه الأزمة؛ أزمة اكتشاف تخلف الأمة وتقدم العدو التقليدي لهذه الأمة. تعددت الإجابات عن هذه الأسئلة بطبيعة الحال، وصفًا لهذه الأزمة وأسبابها، وحلًّا لهذه المعضلة التاريخية على اختلاف مضمون هذا الحل، فمن قائل: إن الإسلام هو الحل، وما تخلفنا إلا نتيجة الابتعاد عن جوهر الإسلام، والعودة إليه هي الحل الأوحد، وذلك ما تمثله دعوة صاحب المنار محمد رشيد رضا، المتأثر كل التأثر بالدعوة الوهابية في نجد، ومن قائل بضرورة التوفيق بين الإسلام وحضارة الغرب وعلومه. كما عبر عن ذلك فكر الشيخ محمد عبده مثلًا، ومن قائل: إن الحل لا يكمن في هذا ولا في ذاك، بل هو في اعتناق فكر الغرب وتشرب حضارته بالكامل من دون محاولات توفيق أو تلفيق، وهذا ما تمثله تجربة محمد علي باشا الكبير في مصر ومن جاء بعده، وكذلك طه حسين مثلًا في بداياته حين حاول أن يطبق مبدأ الشك الديكارتي لنقد التراث في كتابه: «في الشعر الجاهلي»، ونادى باعتناق الحضارة المعاصرة بكل أبعادها في كتاب: «مستقبل الثقافة في مصر». والحقيقة أن عالم العرب لم يخرج من أسئلته الوجودية الكبرى حتى هذه اللحظة، وما زالت الإجابات تُراوِح بين عودة غير مقيدة للإسلام وتراثه، وبين الاعتناق الكامل لحضارة العصر كما فعلت اليابان وغيرها للّحاق بهذه الحضارة والإسهام فيها، وبينهما محاولات التوفيق والتلفيق، ويبدو أن مقولة محمد عابد الجابري صادقة حين وصف الزمن العربي بأنه زمن ميت.
نعود الآن إلى السؤال الرئيس في هذه العجالة: ما دور المثقف والمفكر في ظل التحولات الكبرى والأزمات التي تسبقها، أو ترافقها أو تعقبها؟
بكل بساطة دوره هو الوصف والتقرير واقتراح الحل، لكن في النهاية إن كل ما يفعله المثقف لن يكون له ذلك التأثير من دون سلطة تسانده، ومن هنا يأتي دور السلطة السياسية في إحداث التغيير حين تكون مقتنعة بضرورة التغيير، وأنها مسألة حياة أو موت. السلطة السياسية هي في النهاية من يقرر الحل الأمثل لاستمرارية الدولة والمجتمع في حالة الأزمة، وهذا لا يتأتى من دون نوع من التناغم بين المثقف والسلطة: فالمثقف هو عقل المجتمع، والسلطة هي اليد المنفذة. لقد مر حين من الدهر كانت فيه العلاقة بين المثقف والسلطة متوترة، بل عدائية، نتيجة أدلجة المثقف واستبداد السلطة وتعنتها، وأظن أنه قد آن الأوان لمد خيوط الثقة بينهما، فالمصير واحد، والهدف في النهاية واحد.