اغتيال اللغة الكردية
خلال مئة عام دأبت الحكومات التركية المتلاحقة على إزالة كل ما له علاقة بالمخزون الثقافي الكردي. عملت على إعادة صياغة الذاكرة الكردية، ونقلت كل شيء إلى صندوق الهوية واللغة التركيتين. طردت اللغة الكردية ليس فقط من المدارس والجامعات والتكايا وحجرات الدين والمعاملات الحكومية والقانونية والإدارية والتجارية والدينية ومستلزمات التكسب والبيع والشراء، بل من مساحة البوح الشخصي بين أفراد العائلة الواحدة. وسُخرت الموارد والإمكانيات لنشر وتعميم اللغة والثقافة التركيتين، داخل البلاد وخارجها (مراكز وبعثات ودورات وإذاعات وصحف ودوريات وكراسات دعاية وترويج) قُمعت بشدة أي بادرة ليس لنشر اللغة الكردية بل لمجرد التكلم بها.
تحقق ذلك بأدوات القهر العسكري والتعبئة الأيديولوجية والاستنفار السياسي. كانت حملة سفربرلك حقيقية، حرب صليبية لاحقت بضراوة أي ملمح من ملامح اليقظة الكردية، أُغرقت في الدم كل التمردات والانتفاضات والثورات الكردية، وسُحِقَ كل مظهر لغوي أو ثقافي من مظاهر تلك اليقظة، حتى لو كان كراسًا صغيرًا عن الأبجدية الكردية أو ديوان شعر أو قصة قصيرة.
في عام 1979م أنهى الكاتب الكيني نغوجي وا ثيونغو، الذي كان مرشحًا لجائزة نوبل، كتابة رواية «تويجات الدم»، ثم قال وداعًا للغة الإنجليزية، وكتب نصوصه اللاحقة بلغة غيكويو، لغته الأم، يقول: «كنا نتكلم لغتنا، لغة غيكويو، في البيت والحقول وعلى الطرقات والدروب. كنا نجتمع في الأمسيات لنروي القصص والحكايات، نصغي إليها بشغف، كلنا. كانت الحكايات تروى بلغتنا، الساكنة في أرواحنا، كانت تلمس وجداننا وتطرب أسماعنا. كان الأرنب، الصغير الجسم ولكن الذكي والرشيق، هو بطلنا المفضل. نتعاطف معه ونتحمس له في ركضه الأبدي للخلاص من الحيوانات المفترسة. كان خلاصه خلاصنا. نجاته نجاتنا. علمنا منه أنه يمكن، بالمناورة، التخلص من مصيدة الموت حتى لو كان المرء ضئيل الجسم والعدو عملاقًا. كنا نتعلم من الحيوانات الصبر والصمود في وجه ظروف الطبيعة القاسية التي تجبرنا على التكاتف».
الأرض تتكلم كردي: لغتنا ولغتهم
هذا كان حالنا، نحن الأكراد. كانت الطاقة الحيوية للغتنا الأم تمد جذورها في أرواحنا. كانت الغذاء الروحي في نفوسنا، عبر الكلام والغناء والألغاز والنكات والحكم والاستعارات والأمثال والرموز والإشارات. في بوتقة هذه اللغة الأولية كنا نبني مخيلتنا وننسج قماشة ذكرياتنا ونوطد العلاقة مع العالم. بهذا المعنى فإن الرقعة التي وجدنا أنفسنا فيها وتشاركنا فيها باللغة مع الأهل والجيران وأصدقاء الطفولة، هي الجامعة الأولى التي تلقينا فيها دروس الحياة. هذه اللغة هي التي وطدت أسس نظرتنا القيمية والأخلاقية والجمالية. هي التي كونتنا. كانت اللغة الأم، الكردية، ملاذًا آمنًا نشعر فيه بالطمأنينة والألفة والارتياح. فحين انتُزِعَت منا هذه اللغة غمرَنا شعور بالخوف والقلق والارتياب. سيطر علينا الإحساس بالضعف والهشاشة وقلة الحيلة.
اللغة، أو اللغات الأخرى التي فُرضت علينا، كانت ضيوفًا غرباء ثقيلي الظل. كنا نشعر أن الآخر، مالك هذه اللغة الأصلي، يحتقرنا لأننا لا نتقن لغته مثله. نحن في عينيه أشخاص غير مرغوب فيهم. كنا نشعر بالارتباك والخجل بل بنوع من احتقار الذات. حين بدأنا الذهاب إلى المدرسة لتعلم اللغة المسيطرة، تحطم ذلك الانسجام الداخلي في أعماقنا. اللغة الجديدة لم تكن لغة تآلف وحنان وهناء بل كائنًا غريبًا، عنيفًا، يجرنا جرًّا إلى أرض غير مألوفة. لكنها تمكنت من حشرنا في بوتقتها. صارت هي الفضاء الذي نقيم فيه. لغتنا الأم، الحنونة، الهادئة، طُرِدَت خارجًا إلى أن أصبحت غريبة، لا نلتفت إليها إلا نادرًا. ومع مرور الوقت غدا التكلم بها أمرًا معيبًا وتعبيرًا عن جهل وقصور.
اللغة الجديدة التي جاءت وصارت صاحبة البيت، باتت محل ترحيب وتقدير واعتزاز. علامة على التفوق والنجاح. بطاقة دخول إلى عالم رحب. كل خطوة نخطوها على طريق إتقانها تقابل بالتصفيق والتقريظ والمدح. إنها بوابة العلم والأدب والطب والفلسفة والهندسة والفنون. إبما أنها كذلك فهي دليل على تفوق الأمة التي تتكلم بها، الأمة التركية. اللغة الكردية التي أُزيحت وأُهملت واستُبعدت واستُعبدت، بقيت مرمية هناك، مُهَمَّشة ومُهَشَّمة، وبما أنها كذلك فهي، إذن، دليل على أن الأمة التي تتكلم بها متخلفة.
دخلنا العالم من أوسع أبوابه باللغة المسيطرة، بهذه اللغة تعرفنا إلى شكسبير وسِرفانتس وموليير وكافكا وجويس وماركيز. قرأنا أرسطو وفيثاغورس وسقراط وماركس وغرامشي وتروتسكي. انخرطنا في السياسة والثقافة والرياضة والفن والسينما والمسرح. بهذه اللغة كتبنا وظائفنا المدرسية والجامعية ومقالاتنا. بهذه اللغة دخلنا في سجالات ونقاشات وحوارات. بهذه اللغة صرنا نفكر ونصوغ هواجسنا وطموحاتنا. باختصار احتلت هذه اللغة كياننا كله: أذهاننا ومشاعرنا وعقولنا بحيث إننا لجأنا طواعية ومن دون أي شعور بالذنب إلى التخلص من لغتنا «القديمة» كمن يتخلص من رداء انقرضت موضته. بل إننا فعلنا ذلك بحماسة، ورحنا نتسابق على من يفعل ذلك بنجاح وسرعة وقدرة أكبر. كلما كان واحدنا متمكنًا من اللغة المسيطرة كان مثار إعجاب أكبر.
كان هذا استعمارًا عجيبًا. كان المسار الأخير في نعش هويتنا اللغوية. خسرنا مخزوننا الذهني والنفسي والروحي وصرنا مثل حصان يجر عربة جديدة.
من نافذة اللغة المسيطرة
في اللحظات المتناثرة التي نلجأ فيها إلى أطلال لغتنا القديمة، هناك حيث ما زالت أمهاتنا وخالاتنا وعماتنا، ترتبن العبارات والأغاني الكردية في أصص تسقينها بماء ذاكرتهن، نتكلم ونحن نشعر بالحرج. نجد صعوبة في التواصل. نستخدم كلمات وجملًا من اللغة التي استعمرتنا، فتبدو نافرة وشاذة في الجو الحميمي مع الأهل. ولكننا لا نحس بتأنيب الضمير، بل يتولد فينا شعور بأننا نخاطب ناسًا بدائيين، جاهلين، أدنى فهمًا وذكاءً وقيمةً منا، نحن الذين بتنا نملك مفاتيح اللغة المسيطرة. تعزز هذا الاغتراب إلى أن تحول إلى قبول تام باللغة المسيطرة.
حين تنقطع العلاقة العاطفية مع اللغة الأم، تتحول إلى نوع من النفور. تنشأ عقدة ستوكهولم مع اللغة المسيطرة. الوقوع في غرام المسيطر نفسه. يتباهى المثقفون الكرد بما يكتبون بالتركية أو العربية أو الفارسية ويترجمون إليها من اللغات الأوربية، وكاتب هذه السطور واحد منهم، ويظهرون ذلك كامتياز. يخجلون من الكتابة بالكردية ويبثون الإيحاء بتميزهم حين يبينون أنهم لا يعرفون القراءة بالكردية. بل إنهم يضحكون ساخرين حين يرددون بعض الكلمات الكردية ثم يتوقفون عن الاستمرار. يمارسون سلوكًا استعلائيًّا على من يكتب بالكردية. يرون الأمر بدائيًّا، تافهًا، سخيفًا. هذه النظرة الدونية تترسخ وتتعمم في الفضاء الثقافي كله فيشعر الكاتب بالكردية بالدونية والحرج. يبدو كما لو أنه ضُبِطَ متلبسًا باقتراف شيء معيب. ينسلخ المثقف الكردي عن نفسه. ينظر في المرآة ويكاد يسأل: أيُعْقَلُ أنه كان ذات يوم واحدًا من هؤلاء؟ أيعقل أنه كان يتكلم بهذه اللغة البدائية؟
لقد تغيرت رؤيته لنفسه وللعالم بشكل كلي. هو الآن ينظر إلى نفسه وإلى الآخرين من نافذة اللغة المسيطرة. يعلقها في ياقته مثل بروش ذهبي ويخاطب الآخرين، من الناطقين بلغته القديمة، بكل الحمولة الأيديولوجية والسياسية للغة المسيطرة.
اللغة المسيطرة تمنحه ما تعجز اللغة الأم عن فعله: المكانة والهيبة والتفوق. هو يضيق ذرعًا بأهله وأبناء قومه لأنهم باتوا في نظره محدودي الأفق، عاجزين عن استيعاب مكانته وإدراك مواهبه. يبدأ بالتغني بجمال اللغة المسيطرة وتعداد فضائلها وتأكيد عظمتها. وهو إذ يفعل ذلك فلِكي يقول بطريقة غير مباشرة: إن لغته الأم بشعة ولا تملك الفضائل. لا يهمه أن اللغة المسيطرة لم تصبح جميلة إلا على حساب اللغات الأخرى بما في ذلك لغته الأم.
يقول نغوجي وا ثيونغو: «حين توقفت عن الكتابة بالإنجليزية هب زملائي الإنجليز وصرخوا: لماذا تركتنا؟ بدا لي وكأن ما أفعله أمر خطير. كأنني ارتكبت الخيانة بحقهم. ولكن يا ناس. غيوكو هي اللغة التي رضعتها مع حليب أمي. تعرفت إلى الدنيا من خلالها. كان المفروض أن يكون السؤال بالعكس. كان ينبغي أن يسألوني: لماذا تركتَ لغتك؟ كان ينبغي أن يسألوا: لماذا جردناكم من لغتكم؟ لماذا اقترفنا هذه الجريمة اللاإنسانية بحقكم؟».
سياسة الصهر والهيمنة والتمييز أدت بنا، نحن الأكراد، إلى أن نكره أنفسنا ولغتنا. أريد أن أقول: إن كان ثمة من يستحق الكره والاستحقار فهو المستعمر (العربي والتركي والفارسي) الذي حشرنا في زاوية ضيقة، ومنع عنا هواء الحرية، وجردنا من لغتنا وتراثنا وأغانينا وحكاياتنا، ودفع بنا إلى الانسلاخ عن المحيط اللغوي الذي وُلِدْنا فيه؛ لكي نتبنى لغة لم نخترها بحريتنا. نحن لم نتعلم في كليات الآداب والطب والهندسة والحقوق باللغات العربية أو التركية أو الفارسية لأن هذه اللغات جميلة. فعلنا ذلك رغمًا عنا؛ لأنه لم يكن أمامنا سبيل آخر. لأن لغتنا كانت ممنوعة من إيصال المعرفة في الأدب والطب والهندسة والحقوق.
على الرغم من كل هذا، على الرغم من الوحشية التي استمرت لعقود، بل قرون، فإن الكردية لم تمت. هناك لغات تأبى أن تموت.