رواية «الحرب» لمحمد اليحيائي مثالًا.. عندما تكون الرواية ذاكرة مفتوحة
بعد مجموعة من الأعمال السردية التي كرّسته من بين أهم الأسماء في المدونة السردية العربية المعاصرة، مثل «خرزة المشي» (1995م)، و«يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها» (1998م)، و«طيور بيضاء، طيور سوداء» (2017م)، و«حوض الشهوات» (2015م)، و«نزهة مارشال» (2016م) و«البيت والنافذة» (2017م)، صدر للكاتب العماني محمد اليحيائي عمل روائي جديد بعنوان «الحرب» (دار عرب، لندن، 2023م)، هو السابع في سجله السردي. تندرج الرواية ضمن الأعمال السردية التي ينهض التخييل فيها على أساس موضوع الذاكرة، في مسعى لإعادة كتابتها من منظور منصف وعادل، وهو ما يكشف المساهمة النوعية التي تضطلع بها الرواية العربية المعاصرة في هذا العصر الذي يعد عصر الرواية بلا منازع، في توسيع المعرفة بظواهر وأحداث كانت حكرًا على الكتابة التاريخية. أما الذاكرة التي تعنى الرواية بالتفكير فيها، فهي الذاكرة المتعلقة بحرب ظفار التي دارت بين الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي والقوات الحكومية على مدى عشر سنوات 1965 – 1975م، وهي تمثل نقطة مفصلية في تاريخ عمان الحديث.
ما يلفت الانتباه للوهلة الأولى في هذا العمل على مستوى الشكل الروائي، هو، من جهة، عالم الحب الذي تتخلّق من رحمه الأسئلة التاريخية والسياسية اللاهبة التي تثيرها الرواية، والمنعطفات والاختبارات التي تواجهها شخصيات شاركت عوائلها في أحداث ومنعطفات سياسية كثيرة، وتكثف مشاريعها السردية تاريخ عمان خلال القرن العشرين. وقد سبق للروائي البريطاني ا.م. فورستر أن تساءل عن الأسباب التي تجعل كل الروايات تحتفي بالحب، وهكذا نبّه في معرض الإجابة إلى أن الحب يقدّم نفسه دائمًا للتأويل كحالة لا يمكن استنفادها، وأنه في حد ذاته يشكل عالمًا قائمًا ومتكاملًا. وهذا التوصيف ينطبق بقوة على رواية اليحيائي التي من منفذ الحب تتوغل عميقًا في الذاكرة السياسية العمانية، فينجلي السرد عن الأسئلة المتوترة المهيكلة للحاضر العربي التي تبرزها صورة عمان في انفتاحها وبهجتها، وفي انغلاقها وانطفائها. وما يثير الانتباه، من جهة أخرى، هو ما تتميز به الرواية من ضروب اللعب بالضمائر في نسج خيوط الحكاية، بين الغائب والمتكلم والمخاطب، من خلال شخصيات تتحدّث بذاتها عن ذاتها، فضلًا عن التداخل بين الشخصية المتخيلة والكاتب الواقعي من حيث الاهتمامات والخبرات والتجارب الحياتية. وهذا الخط الأسلوبي يتعين بوصفه أحد المقترحات الجمالية التي يبلورها اليحيائي في هذه الرواية لإضفاء التخييل على ما قد يبدو واقعيًّا أو شديد الارتباط بالعالم الاجتماعي، وهو ما يتيح على مستوى التلقي قراءة رواية «الحرب» بوصفها كتابة أقرب إلى التخييل الذاتي منه إلى الرواية. ألا تشكّل النصوص الروائية العربية المعاصرة في معظمها أعمالًا في التخييل الذاتي؟
ستة أصوات
من خلال ستة أصوات تتناوب على حكي أحداث ووقائع لعوائل عمانية شارك أفرادها في ثورة ظفار، وهي: عيسى صالح، وسعيد قيصر، وكريستينا سعيد ووالداها سعيد علي، وجوسلين سعيد، وخليل زاهر، تنتسج خيوط رواية «الحرب» التي تنطلق مما هو ذاتي لتلامس قضايا عامة مرتبطة أشد ما يكون الارتباط بتاريخ عمان الحديث. وإذا كان السرد يستهل بمونولوج داخلي ينجزه عيسى صالح المأزوم والمطارد بالأشباح والهلوسات، فإن القصة تتفرع إلى محكيات أخرى ينهض فعل التذكر بدور محوري في نموها ونسج خيوطها. وفي هذا السياق، تطالعنا شخصية سعيد قيصر الذي يستعيد محطات مفصلية من حياته بعد أن تقاعد عن العمل في التليفزيون، وبعد الخيبة التي شعر بها بسبب رفض التلفزيون مقترحه إنتاج فِلْم عن حرب ظفار، وهي الفكرة التي عدّها مشروع حياته. ومثلما يلحظ القارئ لهذه الرواية، فعلى الرغم من الحضور الذي يتمتع به سعيد قيصر بوصفه شخصية مركزية تنهض بوظيفة السرد من منظور يتسم بالتذويت، أي النظرة إلى العالم من خلال مرايا الذات، فإن العالم الروائي الذي يبنيه اليحيائي أوسع من أن يختزل في ملفوظات هذه الشخصية، أو في الأفعال التي تنجزها، وعلى الرغم من أن كلّ المسارات التي تفترعها القصة بواسطة الانشطار السردي Mise en abime، فيظل حضور سعيد قيصر فيها مركزيًّا، وكل تطور في القصة يتصل أشد ما يكون الاتصال بكينونته.
بهذا الشكل، يتعين عالم الرواية بوصفه عالمًا متعدد الأصوات، يضيء على حيوات كثيرة بما في ذلك حياة سعيد قيصر ورؤيته لذاته وللعالم الذي يعيش فيه أو لما يحلم بإنجازه، وصديقته العمانية كريستينا سعيد الأستاذة بجامعة جورج تاون، التي تعرّف إليها خلال إقامته بواشنطن حيث كان في دورة دراسية بمعهد واشنطن للأفلام، أو سعيد علي والد كريستينا الذي كان فاعلًا في الثورة وكتب شهادة عنها، أو سارة جوسلين زوجته البولندية، أو خليل ظاهر العماني الذي تعرّف إليه سعيد عبر كريستينا أو بعيسى صالح الذي يحمل ثقل ذاكرة تعمّق جراحها قصّة الحرب التي كتبها والده صالح ناجم من دون أن تكتمل، وتعرّف إلى فصولها من خلال ما رواه له سعيد علي صديق والده.
لوحات سير ذاتية موسعة
من خلال سرد غير خطي يُداخلُ بين الأزمنة، وينفتح على سجلات وخطابات مختلفة يتقاطع فيها الفردي والجماعي، التاريخي والأسطوري، النثري والشعري، الفني الخالد واليومي العابر، ترسم رواية «الحرب» لوحات سِيَر ذاتية موسعة لشخصياتها الأساسية، ولا تختزل وظيفة هذه اللوحات في نقش المعرفة الاجتماعية والتاريخية والأنثروبولوجية والفنية في عالم الرواية وحسب، بل تتعدى ذلك إلى أن تكون أحد المفاتيح الرئيسة التي يتعذر تأويل الرواية في غيابها.
من بين هذه المكونات السير ذاتية، سواء فكرنا فيما يتعلق بنشأة سعيد قيصر وطفولته في بلدة السكيكرة التي وصفها السارد بأنها بلدة الصيادين والمزارعين، والعلائق التي ربطها بالعالم الذي يعيش فيه، بما في ذلك علاقة الحب بابنة خالته صفية التي أحبته وكتبت إليه الرسائل تلو الرسائل قبل أن يغادر إلى عمان تاركًا إياها لمصيرها، أو فكّرنا بالفِلْم الوثائقي رحلة الأميرة الأخيرة الذي يتناول حياة الأميرة سالمة من خلال ما سجلته الأميرة في مذكراتها، أو بما عاشه في الولايات المتحدة الأميركية عندما كان يدرس في معهد واشنطن للأفلام، أو بصديقته كريستينا سعيد، أو برسالة والدها الذي شارك في حرب ظفار مع الثورة وصار جزءًا من السلطة فيما بعد، الرسالة التي سلمته نسخة منها تعبيرًا عن دعمها لمشروع الفِلْم الذي يود إخراجه عن الحرب، ومن خلالها تعرّف إلى تفاصيل أخرى تتعلق بالثورة، أو بالسرديات الخاصة بوالدي خالد زاهر وعيسى صالح، فإن مفاعيل هذه المكونات تمتد ليس فقط إلى ترسيخ العقد الواقعي الذي يربط القارئ بالمؤلف، وإنما أيضًا إلى تقوية القوة المرجعية للرواية. ومن المعروف أن هذه السمة الفنية تميز الرواية العربية في مطلع الألفية الثالثة، بعد أن هيمن عليها في سنوات السبعينيات والثمانينيات، وبتأثير من موجة الرواية الجديدة، التمركز حول شعرية السرد، والاهتمام بالشكل على حساب قوة المرجع.
إذا كانت رسالة سعيد علي بمضمونها الاجتماعي والتاريخي والإنساني المتعلق بمدة حكم السلطان سعيد، تفتح الرواية على الميتا سرد أو الميتا تخييل من خلال التأمل الانعكاسي بالفِلْم الشهادة، ودور الرسالة في إعطاء القصة البعد الدرامي، فإن المحكيات الذاتية تتيح للقارئ أن يتعرّف إلى حياة سعيد قيصر المسكونة بروح المغامرة بوصفه مثقفًا وذواقة، ومنتج أفلام يتميز بالاطلاع الواسع على الأدب العالمي، وبمفهوم مميز عن الفِلْم الوثائقي وما ينبغي أن يتوافر فيه من حياد وموضوعية، ومناقشة القضايا من زواياها المختلفة، كما يتميز برؤية للعالم مسكونة بالأسئلة الحارقة التي تواجه الأفراد والجماعات في الأزمنة المعاصرة، كسؤال المواطنية والمنفى والذاكرة والهوية والتعايش.
يمثل سعيد قيصر، شأنه في ذلك شأن خليل زاهر وعيسى صالح، نموذجًا للبطل الإشكالي الذي أبصر لوكاش في مغامرته بحثًا عن القيم الإيجابية، جوهر الرواية وأصالتها الفنية. يكثف البطل الإشكالي، من جهة، في مسيرته أخلاق الرواية التي ليست سوى النزوع إلى الكشف والفضح والتعرية لمواجهة عالم بات من الصعب على الإنسان أن يسكن فيه من شدة ما يكتنفه من ضروب الغرابة المقلقة، ويضيء، من جهة أخرى، على مستويات اللعب التي يختبر بها الروائي في علاقته بالشخصيات. يحيلنا اسم سعيد قيصر على مؤلف كلاسيكي هو يوليوس قيصر القائد السياسي والكاتب الروماني الشهير بمؤلفه «الحرب الغالية» الذي ضمنه شهادته عن المعارك التي خاضها في محاربة الجيوش المحلية في بلاد الغال التي عارضت الهيمنة الرومانية، كما يتصل اسم البطل في رواية هاروكي موراكومي «كافكا على الشاطئ» بالروائي التشيكي فرانز كافكا. وعلى الرغم من أنه قد لا يكون لرواية الحرب، أو رواية كافكا أي علاقة بهذا القدر أو ذاك سواء بمؤلف الحرب الغالية أو بكافكا وشخصياته، فإن هذا لا يمنع القارئ، مثلما لا يمنع الناقد، من أن يتلقاهما على أساس أنهما يستمدان القوة الإلهامية من تَيْنِكَ العَمَلَيْنِ.
الفضاء الروائي
تنطوي الرواية على نقد عميق للمجتمع العماني وما شهده من تحولات خلال الألفية الثالثة، وهو نقد ينطبق على المنطقة العربية برمتها في مرحلة يطبعها تواري الثقافة الحداثية، واشتداد النزوع نحو الانغلاق والمحافظة والتقليد. يتولد هذا النقد من خلال الفضاء الروائي الذي يعد أحد المكونات السردية ذات الدينامية الخاصة في هذه الرواية، فبقدر ما تتجذر الشخصيات في الأرض، تتميز مساراتها الوجودية وتأخذ أبعادًا أكثر فرادة. في الفضاء الروائي تلتقي الشخصيات، وتتبلور العلائق البَيْنذاتِيّة، وتتقاطع التجارب والمصاير الفردية والجماعية. وفضلًا عن فضاء عمان المرئي والمخفي الذي تقصّاه الكاتب في الجغرافيا والبحر واللغة والأسواق والعطور والدكاكين والعلاقات الاجتماعية، والمدن العربية التي تحركت فيها شخصيات الرواية كاليمن والبحرين والكويت والسعودية ومصر والعراق، ثمة فضاءات تخييلية أخرى تعد مركزية في هذا النص الروائي.
أولًا، مقهى إيميسري حيث كان اللقاء بين كريستينا وسعيد، والصور المعلقة على الجدران، بما في ذلك صورة الشاعر آلان غيسنبرغ الذي، وفقًا لسعيد قيصر، ظهرت الترجمة العربية لقصيدته «عواء» في صحيفة عمان أواخر ثمانينيات القرن الماضي. يعد اللقاء فرصة ملائمة لانجلاء القوة التكلّمية للرواية، سواء من خلال تكثيف المعاناة التي اختبرها البطل مع جيله ممن لم يتمكنوا من قطف ثمار الكتب التي كانت سببًا أساسيًّا في المصاير التي انفتحت أمامه، أو من خلال تذكر ما كان يردده أستاذه أحمد بلال الذي دلّه على طريق الأدب، مقارنًا بين الآخرين الذين كلما ازدادوا انفتاحًا، أمعن العرب في الانكفاء والانطواء.
وهناك، ثانيًا، فضاء مطعم الفناء المختص في الوجبات الكامبانية والمطبخ النابولي. وهناك، ثالثًا، الشقة حيث يقيم سعيد قيصر، وانطلاقًا منها، وعبر الحلم، تتفرّع دروب القصة وتتراءى الشخصيات في مرايا غيرها، والعوالم تتلاقي وتتفارق من خلال تقنية الانشطار السردي التي تتيح إدخال محكيات جديدة، بما في ذلك قصة الأخوين ستيفانون ورفائيل «اللذين وطأت أقدامهما جزيرة أليس خريف 1930م ضمن أكبر موجة من المهاجرين الطليان تصل نيويورك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية»، وهي القصة التي يتعرف إليها سعيد بلسان كريستينا في قراءة مستفيضة لمقال شهير عن المطعم حمل عنوان: «الفناء: بيت النجوم والأقمار».
ليست هذه القصة مجرد مكون إضافي يبتغي منه السارد توسيع الحكاية وفتحها على ممكنات جديدة، بل هي مكون أساس بقدر ما يشخص ما هو جوهري في التجربة الإنسانية، التي لا تكون أصيلة، بالمعنى الهايدغري، إلا في اختبار المعركة مع المصير، فإنه يضيء أيضًا المدى الذي تتعين فيه الهجرة والارتحال والمنفى والنزوح والقلق الوجودي بوصفها ما يرسم قدر الإنسان المعاصر. تشتغل قصة الأخوين الإيطاليين بمنزلة المرآة التي تنعكس عليها قصة كريستينا، وقصة والديها والظروف التي هيأت اللقاء بينهما، والمناخ الذي تربت فيه، وأسهم في تحديد اختياراتها الحياتية. هذا ما يتيح للرواية أن تقول: إن المنفى حتى وإن كان يدل على تلك الحالة التي يشعر فيها الفرد بالحرمان من الوطن، فإنه في الأزمنة المعاصرة ينطوي على وجه آخر يتعين فيه كأحد الإمكانات لفتح الطريق نحو الكونية التي من أقوى محصلاتها طمس الحدود التي باتت بالية، وتأسيس وطنية أعم وأوسع.
لا شك أن محمد اليحيائي تمكن في هذه الرواية التي يصعب اختزال كثافتها في هذه المقالة، من أن يجرب عناصر بنائية وشكلية أظهرت من خلال المحكيات الذاتية قدرة على تقديم نوع من الشهادة عن فئات واسعة من المجتمع العماني، كما أظهرت من خلال التعدد اللغوي والتناص قدرة على استكشاف ما هو مطموس في ثنايا ذاكرة شخصيات مصادرة الصوت والحقوق.