الخط العربي فن في مواجهة التحديات
شكل الخط العربي على مدى قرون طويلة عنوانًا أساسيًّا للحضارة الإسلامية. حمل أفكارها وفلسفاتها ومبادئها في جماليات رسوماته وتعدد مدارسه وخطوطه، عابرًا بها حدود الجغرافيا والتاريخ والأمم. واحتل الخط العربي مكانة أساسية في الفنون الإسلامية التي عكستها جدران المساجد وقصور السلاطين وبيوت الأثرياء، أو متون الكتب وهوامشها وسوى ذلك من فضاءات تجلت فيها فنون الخط العربي.
غير أن هذا الخط بات مهددًا في ظل الضربات المتلاحقة التي توالت عليه؛ بدءًا من ظهور المطبعة، ومرورًا بالتقنية الحديثة التي جعلت برامج الخطوط على الحاسب الآلي تحل محل آلاف فناني الخط. ولم يعد للخط العربي من مكانة إلا في اللوحة التي يرسمها فنان عاشق لتداخل الحروف وسموها. فإلى أي مدى يمكن للخط العربي أن يصمد؟ وكيف يمكن أن يواجه تحديات الرقمنة؟
لا بد للكاتب من دراية بهندسة الحروف
أحمد مصطفى
كان عهد العرب بالخط قصيرًا حين نزل القرآن الكريم، وكانت المصادر التي تعتمد عليها مصادر كلامية غير مكتوبة. هذه العوامل عملت على تحديد الحرف العربي في الحدود الذاتية جدًّا، بمعنى أنه لم يكن هناك توثيق ولا تطبيق. ثم إن العرب لم تكن تعرف أي شيء عن الدور الذي تقوم به عملية الكتابة في المدى الزمني القصير نسبيًّا. ولم يدركوا هذا إلا بعد وفاة الرسول بنحو مئتين وخمسين عامًا أو ثلاث مئة عام. ولم يكونوا على دراية بطول الطريق ولا بمفهوم المعنى، ومن ثم فالتحديات تفرض نفسها في صورة قوالب قانونية.
كل حرف يلزمه توثيق هندسي، والعرب لم تكن تعرف أي شيء عن الهندسة، لكنها بعد عام ثلاث مئة من الهجرة أدركت ما المراد من الهندسة، فالكون الظاهر غير الكون الباطن، وهذا أمر يحتاج إلى نوع من الوعي لإدراكه. وحين وعوا هذا الأمر عرفوا كيف يهندسون هذا الكون. وعملية الكتابة وراءها دراية بهندسة الحروف، والكاتب الذي ليس لديه دراية بهندسة الحرف فإنه يعتمد على أمشاق يساوقها أو يرسم مثلها يمينًا ويسارًا حتى ينبعث الحرف، من دون علم بالمسار والقدر والكمية والعرض والطول وكل هذه الأمور. لكن المهندس الذي فهم هندسة الحروف يمكنه أن يلقي بمعانٍ أعلى من معاني المزاول للأمشاق.
سنة مقدرة
لم أقدم نظرية عن الأسس العلمية للحرف في رسالتي للدكتوراه، وانتساب هذه النظرية لـ«ابن مقلة» انتساب أجمعت عليه المصادر كلها. وليس ضرورة أن يمثل ذلك حقيقة معينة، فما يمثل الحقيقة في هذا المجال هو المسار الذي اتخذته علاقات الحروف بعضها ببعض. فحين نقول: «النون حرف مكن من نصف دائرة، وفيها سنة مقدرة بالفكر». فماذا يريد السياق من هذا الوصف في قوله «بالسنة المقدرة في الفكر»؟ السنة هنا بمعنى القانون، ومن ثم فلا بد أن نعرف القوانين التي قامت عليها أشكال الحروف وعلاقاتها بعضها ببعض. ولعلنا حين نسأل من يسمون أنفسهم بالخطاطين، وهم مجرد مزاولين للأمشاق، عن أيهما أسبق في التعامل مع الكتابة، هل هو القلم أم غير ذلك؟ نجدهم لا يعرفون شيئًا، فهم يعتقدون أنه طالما ليس لديهم قلم فإنهم لا يستطيعون الكتابة. بينما الكاتب الحقيقي فإنه وهو جالس وحده، حسبما نعتقد ذلك، يعيش في عالم الحروف والصياغات الخطية؛ إذ إنه يرتب وينسق فيه حتى من دون أن يطلب منه شيء. هنا ندرك مدى صعوبة الموقف أو المسار الذي يتخذه الرجل الذي لا يعي علاقة الحروف بهذه الأمور، فيكتبها مثل أية كتابة، ولا يعي أن عملية الجمال عملية لها أسباب.
النسبة والتقدير
علاقتي بالخط كانت علاقة مرسومة. هذه العلاقة هي التي أثارت لديّ سؤالًا: لماذا هذا الإنسان بهذا الحجم بالنسبة إلى هذه الشجرة أو غير ذلك من العناصر الأخرى؟ ومن ثم يقول رب العزة «إنا كل شيء خلقناه بقدر»، أي على النسبة والتقدير. والإنسان في واقع الأمر لا يفهم كيف يأتي التقدير وكيف تأتي النسبة، ولا كيف يعود مرة أخرى إلى هذه الماهيات؛ كي يدركها بشكل سليم مهما كان سنه. ومن ثم حين تعاملت مع الخط لم أكن أعي أي شيء عن الكتابة أو القلم، ولا لماذا يجب تحريف القلم، ولا من أين يأتي هذا التحريف. والتحريف يعني أنه غير مستقيم بحيث لا يتوازى الخط الرأسي مع خط الأفق. فلماذا ينحرف وما الأسباب؟ والإجابة عن هذه الأسئلة هي التي تضع الكاتب على الطريق الصحيح. لم أدرك مفهوم الكتابة على النحو السليم إلا بعدما عشت في هذه الصحراء التي يظنها الرعاة جرداء، لكنها غير ذلك، فمرجع الأمر في النهاية هو إدراك الإنسان للماهيات نفسها فيه.
فنان وأكاديمي مصري
التقنية فتحت المجال لـ«الغش» بين الخطاطين
صلاح الدين شرزاد
بدأتُ تعلم الخط العربي منذ أن كنت في المدرسة الثانوية. قبل دخولي الجامعة التقيت الخطاط الأستاذ عبدالغني العاني الذي كان أستاذًا لي في المدرسة، والأستاذ قاسم البغدادي الذي خلفه في مكانه عندما سافر إلى أرمينيا مشرفًا على طباعة مصحف الأوقاف العراقية، والذي تعلمت منه الخط بشكل منهجي بعدما كنت أتعلم وحدي من الكتب واللافتات. وبعد سنة تقريبًا غادر أستاذي عبدالغني إلى باريس لإكمال الدراسات العلمية. انتقلت إلى الأستاذ هاشم البغدادي الذي عاد واستقر في مكتبه ببغداد، وواصلت الدراسة على يده حتى وفاته، على أمل أن يمنحني الإجازة بعد عام من ذلك التاريخ، لكن المنية وافته قبل أن يحقق أمنيتي. بعدها عندما أُوفدت إلى تركيا لإكمال الدراسات العليا في جامعاتها التقيت الأستاذ الكبير حامد الآمدي رحمه الله، وترددت عليه كثيرًا لأزداد تعلمًا منه، ومنحني إجازة الخط. وبقيت ملازمًا له حتى وفاته عام 1982م.
إلى جانب الخط تعلمت الزخرفة من المزخرفين الكبار في إسطنبول. بعدها ذهبت إلى دولة الإمارات العربية، وتحديدًا إلى إمارة الشارقة. وهناك أسهمت في تأسيس أول جماعة للخط في الوطن العربي، وباشرت بإصدار نشرة حول الخط العربي باسم «الخطاط». صدر عدد منها تحت مظلة جمعية الإمارات للفنون التشكيلية. لكن بعد العدد الثاني توقف الإصدار لأسباب فنية. وبعد ذلك بسنوات استطعت أن أجد فرصة لإصدار مجلة جيدة للخط العربي، مجلة متكاملة الأركان. وذلك من خلال ندوة الثقافة والعلوم بدبي تحت عنوان «حروف عربية». كنت مدير تحريرها لمدة ثلاث سنوات. ثم تركت العمل بها وعدت إلى العراق. وبعد ثلاث سنوات ذهبت إلى تركيا حيث عينت مدرسًا في جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول؛ كي أدرّس مادة تاريخ الفنون الإسلامية، وهي تخصصي الذي نلت فيه الدكتوراه، وإلى الآن أنا مقيم في إسطنبول.
التحدي الأكبر
بعد خفوت الحركة الخطية في العالم العربي، في الثلث الأخير من القرن العشرين، دب النشاط مرة أخرى في هذه الحركة. وذلك بسبب بعض المسابقات والملتقيات والفعاليات التي أقيمت في بعض الدول. مثل المسابقة المعروفة التي أقامها مركز «إرسيكا» للأبحاث في إسطنبول. وفي بعض الدول الأخرى كالإمارات، نشط الخط من جديد وظهر خطاطون جدد يقتفون آثار الأساتذة الذين كانوا في تركيا والشام والعراق إبان العصر العثماني. ومؤخرًا ظهرت التقنيات الجديدة، وبخاصة المرتبطة بالحاسوب، وقد حاول بعض الخطاطين الاستفادة من هذه التقنية المتطورة، وهو أمر جميل لو استُخدم بشكل مشروع، ولكن ما حدث أنه فتح مجالًا للغش في الخط من ضعاف النفوس من الخطاطين، عن طريق شف الخطوط عبر الحاسوب. فتصدروا المشهد واحتلوا المراتب الأولى في المسابقات. وهو ما دفع كثيرًا من الخطاطين الآخرين لأنْ يحافظوا على مكانتهم بالطريقة نفسها. فأصبح هذا الاستخدام غير المشروع تحديًا لفن الخط العربي، وإشكالية أمام النقاد والمحكمين الذين يميزون بين المستويات. وما زال هذا التحدي قائمًا ويحتاج إلى وقفة من جهات متعددة كي يجدوا له حلًّا، وكي يستطيعوا أن يقيّموا المستويات بشكل صحيح من دون أن ينخدعوا بما يقوم به بعض من غش. وهذا هو التحدي الأكبر.
يمكن القول: إن توفير المواد الخاصة بكتابة الخط العربي، هو نوع من التحدي الذي يواجه بعض الخطاطين. فالخطاط يحتاج إلى أدوات خاصة مثل الورق المطلي المخصص لرسم الخطوط عليه، فضلًا عن الأقلام المعدة بطرق معينة وخامات معينة. إضافة إلى الأحبار التي لا يستخدمها سواهم. وعلى الرغم من أن هذه المواد يستطيع بعض الخطاطين المهرة والمتمرسين تجهيزها بأنفسهم، وبخاصة الأقلام والأحبار التي يجهزونها من خامات طبيعية، فإن الخطاطين في العموم صاروا يحتاجون إلى التفرغ للعمل، وهو ما يجعلهم يحتاجون لمن يجهز لهم أدواتهم، فيقتنونها جاهزة، من دون أن يهدروا أوقاتهم. وهو ما يجعل من الضرورة وجود مختصين بتحضير أدوات الكتابة، فيوفر على الخطاطين الوقت ويساعدهم على إنجاز فنهم بشكل أكبر، وذلك في وقت لم يعد فيه الكثيرون مهتمين بصناعة أدوات الكتابة.
فن الخط العربي له جمالياته، وارتبط ببعض الفنون الأخرى، كالزخرفة التي رافقت لوحاتها لوحات الخط العربي، كأنهما فنان في ميدان واحد. وكذلك العمارة، وبخاصة العمارة الدينية، كالمدراس والأسبلة وما إلى ذلك، وهو ما أسهم في تنمية الذائقة الدينية لدى الناس، وإثراء الثقافة البصرية لديهم، والتعريف بالخط لدى الكثيرين؛ لأنهم يجدونه في كل ما حولهم.
الدور التركي
كان لتركيا دور مهم في الحفاظ على الخط العربي وانتشاره في العصر العثماني؛ لأن المركز الحضاري والفني في هذا العصر تمركز بالدرجة الأولى في إسطنبول. وإن كانت هناك مراكز أخرى مثل مصر وشمال إفريقيا وإيران، وبخاصة المنطقة الشرقية منها. لكن فن الخط العربي كان يمارس في إسطنبول بتركيز أكبر. وقد استمر الخطاطون العثمانيون بما فيهم العرب المقيمون هناك في الحفاظ على الخط العربي حتى بعد انتهاء السلطنة العثمانية بسنوات. ثم شهد الاهتمام بالخط العربي مرحلة من الضمور؛ نتيجة لاستبدال الحروف اللاتينية بالعربية هناك. وخرج الخطاطون إلى مختلف الدول العربية والإسلامية، واتبعوا من فيها في أساليبهم وطرائقهم. لكن بعد المسابقات التي استمرت كما ذكرنا في مركز «إرسيكا» عاد الخطاطون الأتراك الشباب إلى الظهور مرة أخرى بمستويات عالية جدًّا، ساعدهم في ذلك الإرث الموجود في مباني وعمائر إسطنبول والمدن المتاخمة لها، وما زالوا يعدون في الصدارة من ناحية جودة الإنتاج وعلو المستوى. وأحد الأساليب المهمة هي الآثار الجيدة للأساتذة الكبار، سواء في بطون الكتب مثل كتب الأمشاط والمصاحف أو المساجد واللوحات المعلقة فيها، وفي الأسبلة والمدارس وغيرها.
فنان وأكاديمي عراقي مقيم في تركيا
الخط العربي.. قابل للتشكيل في صور لا نهائية
تاج السر حسن
قصتي مع فن الخط طويلة عمرها ستة عقود.. بدايتها كانت في طفولتي. بداية تعلم الهجاء والكتابة في (الخلوة)، التي هي المدرسة التقليدية للتعليم حيث الكتابة بقلم القصب على لوح من الخشب. قلم القصب هذا الذي يُعدّ بسيطًا، هو أداة الخطاط المحترف، فقد ظل رفيقي ومعيني في التعبير برسوم الحروف والكتابة وتجميلها في لوحات الخط وفنونه إلى يومي هذا.
وقد مثلت (الخلوة) لجيلنا في النصف الثاني من القرن العشرين، نموذجًا للتعليم الناجز، تعليم ما قبل المدرسة، أي قبل أن تتمدد «الروضة» الحديثة بالقمصان والياقات الأنيقة. والخلاوي في السودان التي يعود أوائلها إلى فترة حكم الشيخ عجيب المانجلك ١٥٧٠-١٦١١م، ولا تزال موجودة وملحقة بالمساجد، غير أنها الآن مقتصرة على التعليم القرآني. وبذكر التعليم الناجز للخلوة، تجدني أؤكد أن تحقق المهارات الأولى: الكتابة والقراءة، والجمع والطرح في الحساب، وحسن الخط، كان من الشروط المؤهلة لدخول الأطفال إلى المدرسة النظامية وهم بعمر السابعة.
في «الخلوة» تأسست مهارتي الأولى في الإمساك بقلم الخط، ثم اكتشفت في قلم الرصاص خاصية الرأس المربع عند إحسان بريه وقطه. وفي الصف الثالث من المدرسة الأولية كانت الريشة المعدنية، (السلاية nip pen) إلزامية للكتابة على الورق والاستمداد من المحبرة المثبتة على طاولة الفصل. عرفت التمييز بين أنواع الخطوط وهندستها وجمالياتها البديعة. هكذا استمر بي الحال في استكشاف فن الخط من المحبة والهواية، إلى الاحتراف والتخصص الأكاديمي في الخط والتصميم والفنون الجميلة.
التعاون المؤسسي
نعرف أن الأبجدية العربية مع مطلع الإسلام لم تكن معجمة ولا مشكولة، وقد كان هذا هو التحدي الأول إلى أن أجريت الإصلاحات المتدرجة على يد فقهاء اللغة الأوائل؛ أبي الأسود الدؤلي، ونصر بن عاصم، والخليل بن أحمد الفراهيدي. وبازدياد الاحتياج لِنَسْخ القرآن الكريم، تزايد الاشتغال بالخط والمخطوطات. فتطورت أدوات ومواد الخط، وتحسنت الحروف العربية، من أشكالها البسيطة المحدودة في الخط المكي والخط المدني، إلى أنواع عدة صنفها الباحثون تحت مصطلح الخطوط الموزونة، ومن بينها أساليب الخط الكوفي المتعددة. فالتحديات في السابق كانت في مقابلة احتياجات كل مرحلة حضارية. وجاء ابن مقلة (ت: ٣٢٨هـ)، وابتدع قاعدة الخط المنسوب التي مكنت لظهور الخطوط اللينة، ومنها ما عرف بالأقلام الستة، واستمر منوال الإضافة والإبداع عبر القرون، في رحلة نجاح مشهودة، إلى أن أصبح الخط العربي بمرجعيات فنية، وأدبية، وعلمية ضخمة، ومتحفًا فنيًّا عظيمًا.
كان لا بد من سوق هذه المقدمة للتمهيد للحديث عن التحديات الراهنة، ففن الخط العربي عنوان لموضوع كبير، تندرج تحته تفرعات واختصاصات متعددة، ومنها: الخط الأصيل، ويمثل المرجعية التراثية الهندسية والجمالية الملهمة لحاضر ومستقبل الإبداع. التجارب المعاصرة التي تستلهم الخط والفنون العالمية من تصوير وتجسيم، إلخ. الخط العربي في الاتصال الرقمي. والخط العربي في تحسين الكتابة في تعليم الأساس، وفي البرامج الجامعية في كليات التربية، والفنون والتصميم والطباعة. كل هذه الاختصاصات تواجه تحديات في تطوير وتحديث مناهجها في التعليم وفي التدريب العملي والفني على صعيد التلمذة والاحتراف، وفي التصميم الطباعي والبرمجة الرقمية، وتجاوز هذه التحديات يكون بالعمل المؤسسي بين مؤسسات التعليم والبحث العربية، وبتنشيط التعاون بين المتخصصين من الخطاطين والمبرمجين.
نظام مفتوح
الخط العربي نظام مفتوح، قابل للتشكيل في صور لا نهائية، ويجب ألّا يحصر في تصورات فنية مغلقة. فالحروف العربية، معروف عنها الطواعية والمرونة التي تجعلها مميزة عن حروف الأبجديات الأخرى، وهذا ناتج من عاملين: الأول هو خاصية الوصل والفصل، والثاني هو أن هذا الوصل يكون بطريقتين، أفقية ورأسية، والأخيرة الرأسية، تمكن من الالتفاتات النسيجية للحروف بعضها حول بعض. والشاهد أن الخطاطين المعاصرين استفادوا من هذه الخواص، ومن التقنيات والمواد المختلفة في إنتاج أعمال حديثة ومعاصرة لقيت التقدير والاعتراف العالمييْنِ.
فنان خط سوداني
فنٌّ يطور الزمن ويتطور
حسن آل رضوان
من وجهة نظري كخطاط سعودي أرى أن فن الخط العربي -بالمقارنة مع بقية الفنون البصرية الأخرى كالفن التشكيلي والتصوير الضوئي وكذلك التصميم والنحت- خاضع للمتغيرات الثقافية والمعرفية، مثل التقنية وتطبيقاتها من برامج التصميم مثلًا؛ ولذلك فتطور الخط العربي سابق لعصره بمراحل. والآن هناك عودة لما كان الخط العربي عليه؛ إذ عاد ليستخدم من جديد في مناحي الحياة، مثل تزيين القصور والڤلل، وكذلك استخدام الحروفيات والكتابات بالخط العربي في بعض الدور الثقافية، كما يُستعمل في بعض مناحي الحياة الاعتيادية، مثل: الإكسسوارات والملابس والأثاث والجداريات، وكذلك في الأنفاق والجسور وواجهات المباني والبوابات الضخمة.
وبين فينة وأخرى يُتداوَل كثير من التجارب الفنية والموضوعات الخطية، حتى على مستوى الوسائل الاعتيادية البسيطة، وكذلك بعض وسائل التواصل العامة. والملحوظ أن هناك وجودًا وإن لم يكن بالكمية المُرضية إلا أنه لو قُورن بالخمسة عشر عامًا الماضية لوجدنا أن الخط العربي يعيش في ازدهار الآن، إلى درجة أن هناك برامج للخط العربي للكتابة بالأقلام والألواح الرقمية أو الهواتف الذكية العادية، وهذا ما يسر الخاطر ويفرح المهتمين.
ولعل ذلك ما جعل الخط العربي ملكًا للزخارف حتى في ظل ثورة الأشكال التي تنتجها المصانع الآن. فمنذ بدايات بزوغ الخط العربي وهو ملاصق للعمارة الإسلامية ومتوائم معها، ومع الزخرفة الإسلامية، والمنمنمات والمقرنصات، وهذه كلها بقيت مقترنة فيما بينها بالعمارة الإسلامية.
أعتقد أن أكثر المخاوف التي تواجه كل الفنانين، وليس الخطاطين فقط، هي قلة الاقتناء، وقلة اهتمام الجمهور العام بالخط العربي. هناك حفاوة جميلة بالخط العربي واهتمام به من الناحية الثقافية بشكل عام على المستوى الشعبي، ولكن الخط العربي لن ينتشر إلا بوسائل ملموسة، كأن يجد الفنانون من يقتني أعمالهم. وهذا الأمر سوف يصنع التنافس بين الخطاطين، وهو ما يؤدي إلى تطور المستويات؛ لأن التنافس يصنع التميز والتطور. ومن المخاوف أيضًا هي غياب سوق لفن الخط العربي للاقتناء على المستوى التجاري، وهو ما يؤدي إلى تكدس أعمال الخطاطين، ويؤدي إلى النفور عند بعض الخطاطين الممارسين للخط العربي، وهذا سيجعل من الخط العربي موجة عابرة لا تُستثمَر على المستوى الشعبي عامة.
مفاتيح لتعلم الخط
من خلال عشرات التجارب التي خضتها في مجال تدريس الخط العربي، لحظت أن المشكلة هي في سوء تحصيل المعلومة. فبعض من درس الخط العربي أخذ المعلومات بطريقة خاطئة أو غير علمية، أو بمعنى أدق: بطريقة غير أكاديمية، فلكل فن ولكل علم طريقة لدراسته، ومنه الخط العربي، تكون بالاعتماد على أستاذ. وبطبيعة الحال فإن الأستاذ يتبع منهجًا وكذلك يضع جدولًا يوميًّا للتدريب وتنفيذ دروس الخط العربي وهذا ما يحفظ لليد والخط حرفيتهما في ذهنية الخطاط. وعلى المتدرب عدم الانشغال بمتابعة كل ما هو موجود في وسائل التواصل الاجتماعي؛ لأن الموجود في وسائل التواصل ما بين الغث والسمين قد يضر المتدرب أو الجيل الصاعد من الخطاطين؛ لأنه قد لا يفرق ما بين القوي والضعيف من الكتابات، وهذا الأمر سوف يسبب للخطاط الناشئ خللًا في الذوق. فمن المهم للخطاط المتدرب أن يتميز ذهنيًّا وفنيًّا، فلا يطالع إلا الجميل من الكتابات.
من توصيل المعنى إلى القيمة الجمالية
حسن زكي
أعمل على فكرة العدد الذري للحرف، أو ما يعرف بالقيمة العددية للحروف، التي تكلم عنها كثير من المتصوفة القدامى وغيرهم. وفيها أرى أن الألفي بيت تتكون من ثمانية وعشرين حرفًا. وهذا له علاقة بأوكتاف الموسيقا المكون من رقم سبعة. ورقم سبعة، كما هو معروف، رقم سحري، أو له حضوره في كثير من الأمور. فالأوكتاف الواحد يتكون من سبعة منازل، والأكتافان أربع عشرة منزلة أو حركة. وهو العدد نفسه لمنازل القمر. يقول القرآن: «والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم». ومن ثم فالأوكتافان يساويان العدد 14، وفيه يكون القمر بدرًا، أو بدر التمام. ثم ما يلبث أن يأخذ في منازل النزول حتى يختفي تمامًا، ومن ثم فالعدد 28 هو مجموع أحرف اللغة العربية، وهو مجمل منازل القمر، ويساوي 4 أوكتاف. ويمكن القول: إن أول نظرية موسيقية عرفها التاريخ كانت فرعونية بالأساس. كانت الموسيقا تعزف على آلات فرعونية، من بينها آلة الهارب التي ما زالت موجودة حتى الآن.
في الكتب القديمة، لدى أهل التصوف، نجد محيي الدين بن عربي يقول: «الحرف أمة من الأمم». ويمكننا أن نستدل على ذلك من المساحة الإضافية التي تقابلها الحروف بصوتياتها. ويقال: إن الرقم مهم في علم الحروف؛ لأن الكون مبني على هندسة رقمية في الأساس. ومن ثم فالقيمة الرقمية في «الخط المنسوب» دقيقة جدًّا. وقد قال الإمام علي، رضي الله عنه: «عليكم بحسن الخط فإنه من مفاتيح الرزق».
خط المنسوب
الخط الذي قدمه ابن مقلة اسمه «المنسوب»؛ بسبب دقة النسب التي ينطوي عليها، وعدد النقاط التي يوزن بها الحرف فيه. وكل خط له نسبته المميزة له، وكل خط يشبه البيئة التي ظهر فيها. فالخط الفارسي، وهو في الأصل قادم من لغات وثقافات أخرى، النسب فيه تشبه إيقاع حياتهم. ولنا أن نتصور أن خط كل إنسان يشبه حياته والبيئة التي نشأ فيها. ففي مرحلة التعليم الأولي تتكون لدى المتعلم ما يسمونه بالنسب الخاصة. وهي تدريب العين على الأحجام والأبعاد. أما النسبة الذهبية أو المربع الفاضل، ففي كل لوحة يوجد مربع مثالي يوضع فيه الجزء البطل في البورتريه أو اللوحة أو التكوين الخطي.
والخط العربي يسمى بالخط الحنيف أو الوحيد في العالم؛ لأنه لا يوجد خط ياباني أو إسباني أو غيره مبنى على قواعد كالتي بني عليها الخط العربي. لكن يوجد شخص لديه خط جميل، أما الخط نفسه فليس محققًا ولا مدققًا ولا منسوبًا أو صاحب نسب محددة. وحده الخط العربي هو الذي لديه منسوب، وهو ما يتيح له أن ينتقل من خانة توصيل معنى الكلمة أو الفكرة إلى خانة القيمة الجمالية في حد ذاتها. ومن ثم فأجهزة الحاسوب، التي أحدثت طفرة في كل شيء، كانت ضد كل شيء يدوي، وفي مقدمة ذلك الخط العربي، فمنذ ظهورها تجاهلنا القيمة الجمالية للخط. ونسبة كبيرة ممن لديهم خط جميل ليسوا على ثقافة عالية به؛ لذا يرسمون الكلمات حسب دلالاتها المكانية، فكلمة «أسفل» توضع أسفل كتلة التشكيل، أما كلمة «أعلى» فإنها توضع في أعلى التشكيل، وهكذا؛ لأنهم لا يدركون تشريح الحرف العربي ولا منسوبه. فالخط العربي نسبته في ذاتها مثالية، وهو أحد قنوات التشكيل. فمثلًا، من الممكن أن يكون البورتريه جميلًا، لكن نسبته صغيرة، أو أنه غير متوافق مع الخلفية التي حوله، أو أن لونه غير مناسب. أما الحرف فليست به هذه المشكلات؛ لأن نسبته في ذاتها متزنة ومثالية.
قال بيكاسو في مديح توازن هذه النسب: «إن الحرف العربي أعلى نقطة يمكن أن يصل إليها الفن التشكيلي». ولأن بيكاسو شخص استثنائي فقد وصل بعبارته هذه إلى ما لم تستطع بلاغتنا الوصول إليه. فالحرف في ذاته مثالي النسب، وله علاقة واضحة بالبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها.
فنان مصري
تشدد في عدم الخروج على القواعد
عبدالرحمن السليمان
للخط العربي أكثر من صيغة (الكتابة والحرف والاستلهام). والفنانون والخطاطون حالتان. غالبًا الخطاطون يميلون إلى الحفاظ على قواعد الخط ويتحاشى التقليديون منهم التدخل في ضوابطه ومقاييسه، ولذا فإن كل ما أنجز حول الخط العربي ينساق إليه ويتماشى مع حركته وضوابطه، وهناك من يسعى إلى التجديد، ولكنهم يتحسسون كثيرًا من الدخول في مناطق تغير تلك القواعد التي توارثوها منذ ابن مقلة وابن البواب وغيرهما. بعض الخطاطين المعاصرين يسعون إلى شيء من المغامرة، وأقول مغامرة للتشدد الحاصل في عدم الخروج عن القواعد المتوارثة وبالتالي هناك تحسس كبير من أي تغيير أو تحوير فبقي الخط العربي على مساره المتشدد إلا من اجتهاد بعض أسمائه الكبيرة وعلى نحو مقبول أحيانًا ومختلف عليه أحيانًا أخرى.
وهناك خطاطون يحاولون التشكيل من خلال الخط وفق الحفاظ على قواعده، لكن قدراتهم منضبطة في حدود الحفاظ على تقاليده، فجمعوا بين أشكاله واشتغلوا على التصميم والتشكيل بجانب الحواشي الزخرفية أو التزيينية التي وضع كبارهم لها بعض الضوابط والمقاييس التي لا تخل بالخط وشكله وعلاقاته.
الفنانون التشكيليون، منذ أربعينيات القرن الماضي، اشتغل بعضهم على شكل من التوظيف العفوي، وقد تسابق عدد منهم على ريادة هذا الاستلهام إلا أن العراقية مديحة عمر قدمت أعمالًا في الأربعينيات في أحد المعارض، وتوالى على استلهام الحرف العربي والكتابة أسماء عديدة، مثل: جميل حمودي وحامد عبدالله ووجيه نحله وأسماء أخرى اشتغلت عليه كوحدة تشكيلية وعنصر يُنشأ أو يُؤسس عليه العمل الفني مستلهمين جمالياته وإمكاناته. ربما سبقهم إلى هذا الاستلهام أو الاستعارة بول كلي في بعض أعماله وبعد زيارته لتونس تحديدًا وربما مشاهداته للكتابات العربية في الأبنية أو الجوامع أو غيرها، ثم ظهور جماعة البعد الواحد في العراق 1971م وروادها خاصة شاكر حسن آل سعيد الذي وضع بيان الجماعة.
الحرف العربي والكتابة العربية مصدر إلهام فني اشتغله كثيرون على مستوى الوطن العربي والإسلامي كما كانت الحروف شكلًا جماليًّا لدى فنانين آخرين في دول أخرى. الحرف العربي شكل جمالي تميزت به اللوحة العربية، وهذه اللوحة هي ما لفت انتباه الناقدة الألمانية سيجريد كاله -في كتابة لها- بعد حضور معرض في بغداد في الستينيات.
مخاوف التجديد
إن أهم ما يخشاه الخطاطون في الوطن العربي أو الإسلامي هو تجاوز قواعده والحقيقة إن الآلة الحديثة شوهت كثيرًا في شكله وجمالياته ونسبه؛ بحكم أن الغرض التجاري يتقدم على القواعد والجماليات. وحالة التقريب إلى الخط العربي لم يحكمها أي قواعد والخطاطون محقون في تخوفهم، ولكن مؤسساتهم ومراكز الخط العربي، وهي محدودة، تسهم في شيء من الحفاظ عليه، إما بمسابقاتها أو من خلال الإجازة التي تمنحها للخطاطين بجانب ما يمنحه الخطاطون أنفسهم لبعضهم.
أرى أن التوظيف وفق المعطيات الحديثة والتحولات التقنية تعني أننا أمام مشكلة حقيقية إذا ما أردنا الحفاظ على الخط العربي في قواعده المتوارثة. ثم إنه ليست هناك جهات يمكنها التحكم في مسار الاشتغال عليه بحكم ارتباطه بالكتابة العربية. والكتابة يمكن تحقيق جمالياتها الحديثة من خلال (جماليين) يمكنهم تقييم العمل الفني وتحكيمه وفق خبراتهم وإمكاناتهم وممارساتهم الفنية وأرى من الأهمية أن يكونوا من كتّاب العربية المقتدرين، لأننا أمام ثورة في كثير من المجالات المعرفية والاحتياج للكتابة العربية كأحد الأشكال التأصيلية ضرورة في أن ترسم تأثيرها وحضورها وأثرها في المشهد العام وفي الثقافة البصرية مع الحفاظ على القواعد والأسس في نواحٍ أخرى مقابلة.
فنان تشكيلي وكاتب سعودي.
إسهامات ومخـاوف
إبراهيم العرافي
فن الخط العربي في عصرنا اليوم بات مواكبًا لكل مجالات الحياة، ليس كعنصر للقراءة فقط، وإنما كعنصر جمالي من ناحية المفردة والتكوين الشكلي. وفي مجال التصميم الحاسوبي بات متنوعًا من ناحية الشعارات للشركات بجميع اختصاصاتها، ولا سيّما مع سهولة تناوله من خلال برامج الحاسوب، مثل برامج الأتوكاد والإليستريتور والكوريلدرو والفوتوشوب. ولا شك أن الحرف العربي أصبح حاضرًا كقيمة بصرية جمالية في الديكور والتشكيل والنحت والتصوير وكثير من الفنون، وأصبح منتشرًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة التي تعدّ نافذة لكل الفنون إلى العالم بجميع أطيافه وألوانه، وأصبح بإمكان الجميع الاستفادة من الخط العربي في التعليم والممارسة والتواصل.
مخاوف ومقترحات
يعاني كثير من الخطاطين صعوبةَ التواصلِ مع المجتمع، لفهم هذا الفن وتقديره على الوجه الصحيح. أعتقد أن الخط العربي لغة تواصل لكل العرب ومن لهم علاقة باللغة العربية، وهو وجه اللغة العربية الجميل الذي يجسد روعة مضمونها؛ لذا فإن وجود اللوحات في البيوت والمؤسسات مثل الوزارات والدوائر التي تخدم الدولة يساعد الخطاطين في اقتناء أعمالهم وتقدير جهودهم ورفع الذائقة الفنية لدى مجتمعنا. وأظن أن سبب تأخر الخط العربي كفن في السعودية عن بقية الفنون الأخرى الموجودة في المشهد اليوم، يعود إلى عدم مشاركته في أنشطة الدولة ومناسباتها.
حضور الخط العربي كفن أصيل له جماله البصري الرفيع والمبهج لكل من اقترب منه، ممارسة ومشاهدة، في المناسبات الوطنية والعالمية يجعل هذا النشاط مقدرًا لدى كثير من عشاق ومحبي فن الخط العربي. ومرافقة هذا الفن الأصيل للمناسبات، الداخلية والخارجية، يسهم في رفع الذوق البصري للمجتمع لملامسته هذا الفن من قرب والاستمتاع بمشاهدته. وللأسف فإن صروح التعليم بعيدة من تنشيط المواهب بصفة عامة لكل الطلاب على مر الأجيال؛ فالجهود إذا كانت غير تربوية أو مدروسة لن تحقق أهداف الدولة ولن تفيد المجتمع؛ لذا لا بد أن ننظر بجدية إلى المواهب الموجودة بين الطلاب بعين المستقبل الواعي لتطويرها وتنميتها، مع ضرورة مساهمة الهيئات الحكومية في منح التواصل بين المختصين من أهل هذا الفن. ورسم الخطوط الصحيحة بتوفير منهج سليم لفن الخط العربي، يُقَدَّم تعليميًّا على أيدي المتخصصين فيه والعارفين به لينعم وطننا بمستقبل باهر.
معلم الخط العربي في الحرم المكي