في تجربة جديدة لها، بعد أربع مجموعات شعرية ترتاد المصرية جيهان عمر حقل النوع القصصي، بإصدار مجموعتها القصصية الأولى، «قبل أن يرتد إليك طرفك» (دار العين، 2024م). ضمت المجموعة ثلاثة وأربعين نصًّا أغلبها قصير؛ كل نص لا يتجاوز الصفحتين. مثل هذه التجارب الإبداعية دومًا ما تفتح أبواب التساؤل حول انتقال الشعراء لكتابة السرد، وبخاصة الروائي: هل هي بأثر غواية السرد؛ لأن الرواية نوع إبداعي يستوعب من الأحداث والحكايات كثيرًا مما لا يتحمله الشعر القائم على التكثيف القولي؟ أم بأثر جماهيرية الرواية؛ لأنَّ الشعر فن أكثر نخبوية من الرواية وجمهور النوع الروائي أكبر من جمهور الشعر؟
الأمر قد يختلف في حالة النوع القصصي؛ حيث إنَّ النوع القصصي يجمع بين سمات النوع الروائي بالطبع، حيث النثرية والاعتماد على الحكي المؤسس على دراما الشخوص وتطور الأحداث، وإن كانت القصة أكثر تكثيفًا في محتواها من هذه المكوِّنات، كما تقترب القصة من النوع الشعري في تكثيفه وأحيانًا رمزيته ولغته الاستعارية وتشكيلاته المجازية، وهو ما يتبدى جليًّا في مجموعة جيهان عمر هذه؛ إذنجدنا إزاء سرد «عابر للنوع»، يجمع بين مكونات النوع القصصي، فالحكي عن حدث أو موقف لشخصية أو أكثر يأخذ في التنامي، وتكون اللغة الساردة محمَّلة بالاستعارات التي ترفع الكثافة الشعرية في جسد النص؛ ليمسي السرد عابرًا للنوع، جامعًا بين الهيكل القصصي ممثلًا في الاعتماد على «الحكاية» بسرد موقف أو حدث، وروح الشعر الممثلة في الغنائية والتشكيل المجازي والتكثيف الاستعاري.
في مجموعة جيهان عمر يغلب عليها سرد مواقف مرت بها الذات الساردة أو حالات تتأملها الذات، وفي أغلب الأحوال تتبدى عناية السرد بجلاء الأثر النفسي للموقف المحكي من خلال القص على الذات، فتتجلى الظلال الشعورية للأحداث على مرايا وعي الذات المعاينة للأحداث والمعايشة للمواقف أو المتأملة للحالات التي تسردها.
فلسفة العابر وتشعير العادي
من ملامح السرد في قصص جيهان عمر التقاط ما هو عابر وما يجمع بين سمتي الطرافة مع إمكانية الحدوث في آنٍ وتشعيره باستخلاص ما فيه من حكمة وفلسفة، وإعادة إنتاج الحدث وبث الموقف مشمولًا بتأمل يُفلسِفه، كما في نص بعنوان «طابور من التماثيل»: «خدعتني اليوم صورة فوتوغرافية لامرأة تنتظر دورها في طابور بأحدِ المَحالِّ التجارية بفرنسا وأمامها ثلاثة رجال. يرتدي أحدهم نظارة شمسية وينظر إلى المنتجات المكدسة دون اهتمام. المرأة يبدو عليها السأم.. ربما لم تدرك أنَّ الطابور لا يتحرك ولن يتحرك أبدًا. أمهلها حارس الأمن الذي يحدق بالكاميرات ربع الساعة فقط قبل أن يقرر الذهاب إليها… ليخبرها بأن من تقف خلفهم لتدفع ثمن مشترياتها، ليسوا سوى ثلاثة تماثيل تقف تباعًا لعرض ملابس الرجال». (ص71). يعتمد سرد الموقف، في قص جيهان عمر، أحيانًا، على دراما «المفارقة»، باختيار موقف نادر الحدوث لكنه وارد أن يتعرض له شخصٌ ما، ليجمع بين سمتي الطريف والمحتمل حدوثه، فيحدث أثرًا فنيًّا، حيث يكون للقص منطقه الفني وأيضًا تميُّزه في الحدث المحكي؛ كما في توهم تلك السيدة بأنَّ التماثيل التي تنتظر خلفها هم بشر ما عطلها عن الحركة والفعل.
لكنَّ حدقة السرد عند جيهان عمر لا تكتفي بمجرد سرد الحدث بتفاصيله المشهدية، وإنَّما يحدث انتقال إلى مستوى آخر في الخطاب السردي:
«على أية حال نحن نصطفُّ مثلها في الطابور، يملؤنا هذا الشعور الغامض بأنَّ هناك شيئًا سوف يتحرك أمامنا كي نصل لما نريد، صَفٌّ مبهم من التماثيل على هيئة بشر، صف آخر من البشر على هيئة تماثيل. فكرت: كم انتظرتْ أن يمر الوقت وتتحرك التماثيل أمامها قبل أن تحصل على أشيائها البسيطة. كم تمنينا أن تتحرك الأحجار وتشعر بنا، كم أهدرنا من الوقت في الانتظار الخطأ، كم مرة خجلت من حارس الأمن الذي يدق على كتفك برِقَّة لينقذك من عالمك المزيف». (ص72).
ثمة جسر فني تقيمه الكاتبة في صياغتها النصية بالانتقال من سرد الحدث ووصف الموقف إلى التعليق عليه، فهو انتقال من الجزئي، الممثل في الواقعة التي حصلت، إلى الكلي، الممثل في الحكمة المستخلصة من ذلك الموقف، وهو ما يجعل للقص في سرد جيهان عمر تمدُّدًا أمثوليًّا. ثمة انتقال من السرد بضمير الغائب المفرد، الـ(هي)، إلى ضميري المتكلم، الـ(نحن)، والمخاطَب، الـ(أنت)، وهذا التعليق الأمثولي في مختتم النص القصصي هو تكثيف شعري، بالانتقال من مشهد السيدة التي تعطلت عن دفع ثمن مشترياتها لتوهمها بأنَّ التماثيل التي تقف أمامها هم بشر، إلى الذات الإنسانية التي تنتظر مضيِّعة بعض وقتها توهمًا بحركة بشر أمامها، وهم في الحقيقة ليسوا كذلك كما تصورت، هم تماثيل على هيئة بشر أو بشر على هيئة تماثيل، وفي النهاية النتيجة هي إهدار الوقت في الانتظار الخطأ، وهو ما يصيب الذات الإنسانية بالخجل ممن ينبهها لينقذها من عالمها المزيف. إن آليات التعليق والتكثيف الأمثولي والأحكام العامة هي آليات أقرب إلى الشعر، ليبدو هذا التمدُّد التمثيلي تحليقًا بجسد النص القصصي من أرض الحدث إلى سماء الرمزية وعبورًا إلى فضاء الأمثولي.
القص البورتريهي
من أساليب السرد القصصي عند جيهان عمر، القص «البورتريهي»؛ أن ترسم بورتريهًا لشخصية ما، استلهامًا لتاريخ الشخصية وإبرازًا لجوهر تكوينها وفلسفتها في الحياة، مثلما يتبدى في نص بعنوان «كل ما أراده هرمان هسه». يكثِّف السرد التحول الفارق في حياة معقَّدة لشخصية باهرة مثل «هرمان هسه» في حدث قد يبدو عاديًّا وهو إلحاقه للعمل بمحل ساعات بعد معاناته في بواكير مراهقته من مشكلات نفسية تمثلت في عدم تكيفه الاجتماعي، ويقوم السرد عند جيهان عمر بتقطير الأحداث المحكية عبر القص؛ استخلاصًا لعصارتها الفلسفية، فيُعنى السرد بجلاء التحولات النفسية الناجمة عن التحولات الموقفية، بلغة تتعدد في طبقاتها بين الوصفية الموضوعية والاستعارية الشعرية.وعبر القص البورتريهي يراوح السرد عند جيهان عمر بين الوصف لأفعال الشخصية الخارجية واستجلاء دواخلها الشعورية وتمثُّل خطها النفسي.
الإفراز السوريالي والتكوين الأليغوري
في بعض نصوص مجموعة «قبل أن يرتد إليك طرفك»، ثمة تداعٍ نفسي لصوت الذات الساردة، فتدور الحكاية المسرودة عبر القص في رؤى تعاينها الذات هي إفراز لنشاط لاوعيها، وتكون عناصر الحكاية كشخوصها وأشيائها كما في نص بعنوان «حفيدات القمر»: «يمر القطار في تلافيف رأسي بينما أجلس في مكاني أتفقَّد القضبان. تمنيت أن ينزل الركاب في محطة أخرى غير التي يرغبون بها، ويتجولون على المائدة أمامي بانتظار أوامري. السيدة التي تراقبني في إجازاتها الأسبوعية كانت تجلس على المحطة لتشرب قهوتها السوداء، ثم همست فجأةً أن الشِّعْر لن يأتي من الفراغ، بعد أن لمحت لعبة القطار الأصفر في يدي. من شكل أظفارها نستطيع أن نخمن أنها تقرضها في الليل لو لم تجد ما تفعله. في كل يوم تنظر في مرآتها كعمياء، وحين انهمر النور من سماء مربعة في سقف حجرتها. قالت: إنَّها ستكتب قصيدة عن اللمبات الصغيرة في السقف سيكون اسمها «حفيدات القمر».
«هذه الأشياء تسعدني جدًّا» قالت.
أخذتُ قطاري الأصفر من يدها ومشيت… لم أشرح لها ما معنى الثبات مطمئنةً بينما عوالم تنهار حولي… السكون يعني أن أكون هنا ولا يُعثر عليَّ…» (ص93- 94).
يراوح السرد بين الغنائية والدرامية؛ غنائية البوح ودرامية الجدل والتوتر بين الشخوص، غير أنَّ ثمة أحداثًا هي تمثلات سوريالية تبدو خارجة من مسام لا وعي الذات الساردة، فيبدو الحدث المسرود مراوحًا بين الواقع والتمثُّل التهويمي. ثمة صراع يلوح ظاهريًّا بين شخصيتين هما سيدتان تجلس إحداهما قبالة الأخرى وتحكي إحداهما، الصوت السارد، عن نفسها وعن تلك السيدة الأخرى، ويبدو موضوع ذلك الصراع الخفي هو «القطار» الذي يبدو تارةً قطارًا تخيليًّا: «يمر القطار في تلافيف رأسي»، وتارةً أخرى هو لعبة تمسكها الذات الساردة في يدها، محيلًا كموضوع إلى محمولاته الرمزية والدلالية، كرمزية الانتقال المكاني والزمني. هو رمز لارتحالات الذات عبر الزمن والمكان، أما رغبة الذات وتمنيها نزول ركاب القطار في محطة أخرى غير التي يرغبون فيها، فترمز لوضع الذوات في اختبار مخالفة الأقدار لما كانوا يخططون إليه. أما نزول الركاب ليتجولوا على المائدة قبالة الذات انتظارًا لأوامر الذات، فيبدو تجسيدًا لرغبة الذات في السيطرة على حركة هؤلاء الركاب. فهل يكون هؤلاء الركاب رمزًا للآخر الوجودي أم هم رمز لأفكار وشواغل وهواجس في لا وعي الذات، تسافر عبر هذا القطار وتريد لها الذاتُ التجسُّدَ المادي بالنزول أمامها على المائدة لإحكام سيطرتها على حركتهم، أو على الأقل الإلمام بتحركاتهم ورصدها بدقة؟
أما السيدة الأخرى التي تجلس قبالة الذات وتقول عنها: إنَّها تراقبها في إجازاتها الأسبوعية وتتحدث عن أنَّ «الشعر لن يأتي من الفراغ»، فقد تكون رمزًا مجسدًا للذات الأخرى الشبحية المضادة، التي تمارس دور الرقيب على الذات الموضوعية، وينشأ بينهما حالة من الجدل والتوتر والصراع. هذه الذات الأخرى هي كذلك تمثيل للذات المبدعة في الشخصية التي تخطط لمشاريع إبداعية، ككتابة قصيدة عن «اللمبات الصغيرة في السقف» وتسميتها «حفيدات القمر» في تمثُّل إنساني حميم للأشياء، أما أخذ الذات الساردة قطارها «اللعبة» من يد تلك السيدة/ الذات الأخرى المضادة، فهو إشارة رمزية لصراع على حيازة الأشياء بينهما وبالتالي توجيهها، وربما يحمل لون القطار الأصفر دلالة رمزية وسيكولوجية؛ فالأصفر لون أشعة الشمس المتوهجة ويرمز إلى السعادة والأمل والتفاؤل، وتلون القطار، في تمثُّل الذات له بهذا اللون، قد يعكس شعورًا إيجابيًّا برحلته وانتقالاته.
وتأخذ العلاقة بين الذات الموضوعية، الذات المتلفظة الساردة، والذات الأخرى الشبحية المضادة قالبًا أليغوريًّا وتكوينًا أمثوليًّا؛ إذ تبدو هاتان السيدتان: الذات المتلفظة الساردة (الذات الموضوعية) في مقابل الذات المضادة الشبحية كشطرين لشخصية واحدة يدور بينهما صراع وجدل، يُمَثَّل في تكوين أليغوري بهذه المواجهة بين السيدتين اللتين تبدوان على خط توتر وقلق كتجسيد لتوترات الذات النفسية وقلقها الوجودي وترددها الرؤيوي في رؤية العالم والأشياء، فتمسي هذه القصة بمنزلة استعارة كبرى لحالة الذات الشعورية وانشطاراتها النفسية وتذبذباتها الوجدانية، ومراوحتها بين شعورها ولا شعورها في تمثُّلها لنفسها وإدراكها لعالمها وأشيائه.
في إصدار جديد عن مؤسسة «أروقة» للدراسات والترجمة والنشر بالقاهرة، قدَّم الشاعر والمترجم العراقي منعم الفقير «أنطولوجيا الشاعرات الدنماركيات»، في استعراض للتجارب المهمة التي خاضتها شاعرات دنماركيات يمثلن حركة الحداثة في جانب رئيس من الشعر الدنماركي. جمعت هذه الأنطولوجيا تنوعًا كبيرًا في الشاعرات اللائي تمايزت تجاربهن وتنوعت خطاباتهن الشعرية. سعت هذه الأنطولوجيا لأن تكون تمثيلًا بانوراميًّا للمشهد الشعري الدنماركي وتعبيرًا عن الحداثة الإسكندنافية لدى شاعرات من أجيال مختلفة ومدارس جمالية متمايزة.
تُراوِح الموضوعات التي تُشاغل الشاعرات الدنماركيات بين ما هو شخصي؛ باستكناه الأغوار النفسية للذات، وما هو وجودي بإعمال التأمل الفلسفي الساعي إلى استخلاص جوهر الوجود وفلسفته. كما أنَّ ثمة سعيًا نحو الانفتاح على الآخر لدى بعض الشاعرات. ويتبدى أنَّ أكثر الثيمات حضورًا لدى الشاعرات الدنماركيات هي موضوعات الذات والآخر والوجود والعلاقة باللغة.
تمثُّل الذات لنفسها وعلاقتها بالآخر
يبرز في الخطاب الشعري لدى شاعرات الدنمارك تمثُّل الذات لنفسها والاستجلاء المرآوي لأناها، في محاولة لتحديد هويتها الشخصية وبلورة كينونتها الوجودية، سواء على مستوى جسداني أو مستوى آخر نفسي. يبدو وعي الذات بنفسها قلقًا لدى بعض الشاعرات الدنماركيات، كما هو عند الشاعرة «ديتيه ستينسباليه» (1971م-):
«حطام طائرة في قدمي/ جسم طائرة مفكك/ ولا أعرف منْ هم الركاب/ وماذا يحملون في حقائبهم/ تحكني قدماي/ أذهب إلى غرفة الفندق في مدينتي/ أحمل حقيبة/ وأطلس العام الجاري/ لا أستطيع بلع السفن المبحرة/ أتنفّس أعمدة الدخان المتصاعد من السفن/ أبصق كل شيء ثانية/ نزلاء الفندق يتكلمون لغات/ جئت لكي أسمع/ ما لا أفهمه/ أنام مع أطلسي المفتوح على الوجه».
يلوِّح الخطاب الشعري بعلاقة مضطربة للذات مع نفسها ومع عالمها أيضًا، عبر نسق من الاستعارات المنتظمة في تتابع يبرز تواترات الأفكار وتوترات الرؤى التي تشاغل الوعي، في تمثُّل الذات لنفسها وعالمها المحيط بها، كما في استعارة «حطام طائرة في قدمي». فإذا كانت القدم هي عضو الجسد الذي تلامس به الذات الأرض التي تعني مجال سيرها وحركتها في العالم، فثمة شعور بالتهشُّم يستبد بالذات وإحساس بالتعثُّر في الخوض في غمار عالمها، كما يعمل الترشيح الاستعاري: «ولا أعرف منْ هم الركاب/ وماذا يحملون في حقائبهم» على تأكيد حالة الاغتراب النفسي والتشظي الهوياتي التي تحسُّ الذات به. وتُوَظَّفُ ثيمةُ الجسد المضطرب كاستعارة دالة على تمزُّقات
الذات واضطراباتها.
ويبدو لواذ الذات بالفندق محاولة منها من أجل التأقلم مع عالمها والتآلف مع الآخر، غير أنَّ تلك المحاولة تبوء بالفشل وتنتهي بالإخفاق، كما في الاستعارة المُرشَّحة: «لا أستطيع بلع السفن المبحرة/ أتنفّس أعمدة الدخان المتصاعد من السفن/ أبصق كل شيء ثانية» التي تُعبِّر عن لفظ الذات لمعطيات عالمها، حتى تنجلي هذه الاستعارة أكثر، عبر بنية التناظر الاستعاري، باستعارة مكمِّلة لها: «نزلاء الفندق يتكلمون لغات/ جئت لكي أسمع/ ما لا أفهمه»، فيبدو دخان السفن الذي تبصقه الذات بعد تنفُّسها له نظيرًا استعاريًّا لنزلاء الفندق/ الآخر الغريب، الذي لا تفهمه ولا تتوافق معه. وعبر صياغة مثل هذه المتوازيات الاستعارية يُعاد إنتاج المقولات المركزية للخطاب الشعري في القصيدة، تأكيدًا لإلحاحها كهمٍّ مطبق يثقل الذات ويلازمها.
في نص للشاعرة «أنجر كريستنسين» المولودة عام 1935م، تتجلى علاقة الذات بجسدها من خلال الكلمات التي هي المكوِّن الرئيسي للنص الشعري: «أرى أنّي مرَّنت كلماتي/ على نقل جسدي/ نقلًا آمنًا/ عبر العالم/ بينما الجسد هاجع ويقظ/ تائه/ فيَّ». إذا كان الجسد وعلاقة الذات به هو موضوعة حاضرة في فلسفة الحداثة العليا وما بعد الحداثة أيضًا، فإنَّ الكلمات/ الشعر هي الجسر أو الوسيلة التي تستخدمها الذات في تقديم جسدها/ نفسها إلى العالم، في الوقت الذي تحسُّ فيه بقلق الجسد وتوهانه فيها، كأنَّ الجسد مصدر للهوية القلقة، والكينونة التي لم تُحسَم بعد، أي أنَّه في حالة تشكُّل مستديم وتحول لا ينتهي.
ومما يلوح في خطاب الشاعرات الدنماركيات في تمثُّلهن لذواتهن الشعورُ بحالة انشطار نفسي، كما عند الشاعرة «ميته تينه بروون»، كما في نص بعنوان «انفصال»: «برد الشتاء/ يربطنا/ أحمل/ أختي السمراء/ حتى تلوي الأرض/ وتنغلق حول/ قدمي/ ربيع يرفعني/ فوق التراب/ رائحة صيف/ تفرِّقنا/ في ضوء/ نجمة واحدة/ أترك/ امرأة غامضة/ خيال حزين».
تستعمل الصياغة الشعرية استعارة تحولات الفصول والآخر/ الأخت السمراء، تمثيلًا لتجليات القرين الشبحي وحضورات الذات البديلة، تعبيرًا عن تحولات الذات وانقساماتها الوجودية وانشطاراتها النفسية. فما زالت الذات تشعر بغموض هويتها ما يبقي خيالها حزينًا، فتبدو استعارة «امرأة غامضة» أنَّها تشير إلى الذات في تجليها الشبحي عبر إدراك وعيها الشقي لماهيتها. ويهيمن الفعل المضارع الدال على الاستمرارية على أبنية الجمل، وكأنَّ الشاعرة تنقل مشهدًا مستمرًّا أو حالًا لا يتغير.
فلسفة الوجود
من الموضوعات الحاضرة بكثافة في خطاب الشاعرات الدنماركيات محاولة استكشاف العالم بجوهره المادي والميتافيزيقي وتأمل الوجود في أحواله وصيرورته، فيصبح الشعر إدراكًا فلسفيًّا للوجود ورؤية جمالية وفعلًا تأويليًّا للعالم. في قصيدة «الضوء يعبأ أكثر» للشاعرة «ديتيه ستينسباليه»، تتمثل حدقة الشعر الأرض: «هنا الأرض بضوئها وظلالها/ الضوء يعبأ أكثر ويقف بحرف كبير/ هي كرة مهترئة/ لكنها ضرورية للبقاء، على الرغم أنَّ/ في هذا الوقت يهيأ لي/ يمكن أن نحيا دون الأرض».
يسفر التمثُّل الشعري للأرض بأنَّها «كرة مهترئة» عن شعور اغترابي إزاء العالم، كما يبين التقابل في مواقف الذات منه: «لكنها ضرورية للبقاء، على الرغم أنَّ/ في هذا الوقت يهيأ لي/ يمكن أن نحيا دون الأرض» عن حالة التردد الوجودي والمراوحة بين شعور انتمائي وآخر لا انتمائي إزاء العالم.
ثمة حضور طاغٍ للطبيعة في نصوص الشاعرات الدنماركيات سواء كموضوع تأمُّل أو كعنصر محال إليه في تصوير الأفكار والحالات، كما عند الشاعرة «ماريانه لارسن»: «العالم/ يجسُّ النبض/ عبر ورقة زهرة/ يأخذ السماء/ كإبهام/ ويتخذ الأرض كسبابة».
الغالب على تشكيل الصورة في تمثُّل الوجود ورسم العالم في النص الشعري الدنماركي استخدام «الاستعارة التشخيصية» التي تذهب إلى تذويت العالم وكذلك «التكثيف» التصويري، كما تشبيه «السماء كإبهام» و«الأرض كسبابة»، كما تبدو اللوحات التي ترسمها الشاعرة أقرب إلى الأسلوب «السوريالي» في الرسم، وإن كان السائد في أنماط الصور وتكوينات الاستعارات لدى الشاعرات الدنماركيات التناسب المنطقي بين المُشبَّه والمحال إليه أو المُشبَّه به، فلا شطط ولا غرابة في معظم الصور لديهن.
العلاقة مع اللغة
تأتي اللغة كموضوعة لدى بعض الشاعرات الدنماركيات، حيث اللغة هي وسيلة استيعاب الذات للعالم وأداة تعبيرها عن نفسها وعالمها جماليًّا وفلسفيًّا، حيث السعي إلى فض أسرار اللغة، بوصفها الوسيط المعبِّر عن الذات وأفكارها عن العالم. في قصيدة للشاعرة «بيا تافتروب» (1952-) بعنوان «كلمات السفر» تتناول الشاعرة علاقتها باللغة: بغض النظر عن المكان على هذا الكوكب/ أغلقتُ نفسي،/ لأعيش في اللغة،/ وأولد من جديد./ لا عاصفة من اللغات الأخرى/ أطاح بي بالإطاحة./ أنا أنا/ في لغتي الخاصة-/ ذلك الحلو العشوائي/ أصبحت لي لغتي الأم.
تبدو اللغة عند الشاعرة، كما ذهب «هايدغر»، هي «بيت الوجود»؛ إذ تستبدل اللغة بالمكان، لتعيش في لغتها الخاصة، التي هي عالمها الخاص الذي تستغني بالسكنى فيه عن العالم. وتبرز الاستعارة الواصفة لحال الذات بعد اكتفائها بلغتها الخاصة عن العالم: «وأولد من جديد» عن منح لغة الشعر للذات هوية خاصة وكينونة جديدة. كما تكشف الاستعارة المُعبِّرة عن تَمثُّل الذات للغتها الخاصة بـ«ذلك الحلو العشوائي» عن وعيها بتمايز لغة الشعر واختلافاتها؛ إذ يشي اسم الإشارة للبعيد (ذلك) ببعد لغة الشعر/ لغة الذات عن اللغة الموضوعية، بما أنَّ لغة الشعر متجاوزة المواضعات، أما وسم هذه اللغة بـ«الحلو» فيبرز الأثر الجمالي لتلك اللغة. في حين يكشف وصفها بـ«العشوائي» عن خروج لغة الشعر عن تقييدات العلاقات اللغوية وثبوتية الإحالات من الدال إلى المدلول. أما تكرار ضمير الـ(أنا) كمسند في تعبير الشاعرة عن نفسها بعد اكتفائها باللغة كعالم خاص بها: (أنا أنا) فيُعبِّر عن شعور الذات بتحقُّقها في لغتها الخاصة وتأكيد فرادتها الوجودية.
وفي قصيدة للشاعرة «أنيته ترانس» (1937-) بعنوان «قصيدة» يتبدى انشغالات الذات الشاعرة بتوليد قصيدتها من رحم الوجود: «أبحث عن القصيدة/ في كلّ الاتجاهات حيث/ يتألق العالم بالثلج والنجوم./ أصغي إلى كلمات/ تسقط من اللغة/ كقطرات على زهر الجليد/ على ورق جدران الليل الشتائي الأزرق».
تعلن الذات الشاعرة عن موقفها من القصيدة التي تبدو هدفًا مستديمًا للبحث في العالم والاستغراق في الوجود وتأمل حركته، وبالتوازي تكون علاقات الذات مع اللغة التي هي وسيلتها ومادة التشكيل الشعري؛ إذ تبقى في حالة إصغاء لما تمليه عليها لغتها في تشكيل العالم جماليًّا. ويتبدَّى من التشكيل الصوري بنية التناظر التشبيهي تمثيلًا لموقف الذات الشاعرة من لغتها: «أصغي إلى كلمات/ تسقط من اللغة/ كقطرات على زهر الجليد/ على ورق جدران الليل الشتائي الأزرق» طغيان الطبيعية الفيزيقية في تمثُّلات الوعي الشعري للتصورات الكلية المجرَّدة، كتصوُّر فاعلية اللغة في الوعي المبدع، بمشابهتها بقطرات على زهر الجليد. وهو ما يكشف عن تصوُّرات الشعر بخصوص اللغة بوصفها مكوِّنًا فاعلًا في الوجدان الإبداعي، فكأنَّ اللغة هي التي تقود الشاعر في صياغته للعالم.
يبدو إبراهيم داود الذي ينتمي لجيل التسعينيات من القرن الماضي وهو من شعراء قصيدة النثر المصريين، شاعرًا مهمومًا بالمكان، وبتاريخ المكان وعلاقة الذات بهذا المكان وتاريخها فيه. فيمسي الخطاب الشعري لإبراهيم داود بحثًا متجددًا وتأملاً متعمقًا في هوية المكان وكذلك هوية الذات. في ديوانه الأحدث «كن شجاعًا هذه المرة» يأتي النص الشعري كدفقات اعترافية، أو كمحاولات بوحية من ناحية إذ تسعى الذات لمواجهة شعورها الاغترابي بالتسامي عليه بالاعتراف به، وكمساعٍ تأملية من ناحية أخرى، إذ تبحر الذات متأملة شخصية المكان والتغيُّرات التي طرأت على هويته. فثمة تعالق مصائري بين الذات والمكان في الخطاب الشعري لداود إلى حد يداني التماهي بينهما.
يأتي النص الشعري لإبراهم داود، كما في هذا الديوان موجزًا في تكوينه التلفظي ومكثفًا في مقولاته الخطابية، وغير مسرف في أساليبه البلاغية وطرائقه التعبيرية في استعمال الأدوات التصويرية والمجازية، هادئ النبرة في بثه الخطابي، كأنّه يُقطِّر خلاصات رؤاه للعالم في تكوينات شعرية بالغة الكثافة والوجازة والاكتناز في تشكيلات الجمل ومساحات القول النصي.
تتبدى مجاهدات الذات في شعر داود من أجل أن تمارس البوح والاعتراف بما يشاغلها ويضغطها وما يساكنها من هواجس، فتدخل الذات في حالة مكاشفة ومواجهة مع نفسها، كما في قصيدة بعنوان «شجاعة»: توجدُ حواجزُ بداخلِك/ وبنادقُ مصوبةٌ من مكانٍ ما/ ولا يوجد زيتٌ في البيت! الكواكبُ القريبة اقتربت من الأرض/ واحتشدت الأمراضُ على أول الشارع أنت في غرفتك/ تشتاق إلى بلادك في النهار/وتدعو لها بالليل ولا تصنع شيئًا آخر. (ص22).
تتكاثر اغترابات الذات بين ما تشعر به من حواجز نفسية بالداخل وتربُّصات الخارج بها، ثمة شعور بموبوئية العالم الخارجي المحيط بالذات: «احتشدت الأمراضُ على أول الشارع»، ما يضاعف الإحساس بالحصار الذي يقابله انكماش الذات في الداخل/ الغرفة، ما يعني الانعزال الوجودي بالتزامن مع الشعور بالاشتياق إلى البلاد في النهار بما يعكس الجدل العنيف الذي يعتمل في دواخل الذات بين الرغبة في الانخراط في العالم الخارجي والإحجام عن ذلك.
إبراهيم داود
وبتأمل البنية الصورية لدى إبراهيم داود نجد تتابعًا من الصور ذات المرجعية النفسية في تشكيلاتها، كما في: «توجدُ حواجزُ بداخلِك» التي تعكس حالة من انعدام التوافق النفسي بين رغبات الذات أو ما تريده، وما يعترضها من حوائل أو إحجامات وموانع نفسية، كذلك تشبيه شعور الذات بموقف العالم إزاءها: «بنادقُ مصوبةٌ من مكانٍ ما» وكأنّ العالم صار مجالاً للقنص والانتهاك، بما يجسِّد شعورًا نفسيًّا بتربص العالم، أما الصورة : «ولا يوجد زيتٌ في البيت!/ الكواكبُ القريبة اقتربت من الأرض» فتعكس شعورًا بوحشة الداخل «البيت» الذي قد يرمز إلى الذات نفسها، كما أنّه يعيد تناصيًّا، استثمار المعجم القرآني في مفردتي (الزيت والكواكب) بالتناص مع الآية القرآنية: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النور35)، فيبدو هنا تناص مغايرة أو تناص تخالف، حيث تحس الزيت بخواء بيتها من الزيت الذي هو مادة للإضاءة وإيقاد ذبالة المصباح، في شعور بانطفاء الداخل وعتمته، وإذا كان حضور الكوكب في الآية القرآنية مشبهًا به لتعاظم آثار مصدر الإنارة، في تمثيل أثر النور الإلهي، فإنّ استعماله، هنا، جاء جمعًا وبالمغايرة تمثيلاً لشعور الذات بمداهمة الأخطار للعالم.
لكن هل تبقى الذات في حالة استسلام لمصيرها؟ نجد أنَّ ثمة محاولات للخروج عن حالة الجمود: اخرجْ/تكلَّم مع المحيطات عن الطيور/عن الأحزان التي تتدفق تحت البيوت/ عن الربيع/ عن إحساسك القديم بالفقد/ عن الرقص/ عن الحب الذي جاء بعد هذا العمر/ عن العمر/ اترك خيالك للرياح/ وطمئن الغرقى على الحياة/ الكواكبُ القريبة اقتربت/ وأنت تتوارى خلف النشيج/ لن تنفعك النيازك/ لن يقفَ الماضي إلى جوارِك/
.. كُن شجاعًا هذه المرة. (ص22- 23).
ثمة التفاتة موقفية ببزوغ نبرة التحول الاستنهاضي، بدعوة الذات نفسها إلى الخروج من عزلتها والنهوض من سكونها ونفض ثبوتيتها مع الانفتاح على العالم في تحول درامي من حالة إلى ما يشبه نقيضها. وكأنّ الذات تمارس فعلاً تطهُّريًّا بالكلام عن أزماتها، وكأنَّ الحب هو دافع قوي لمقاومة الانكسارات والاغترابات. ثمة إيقاع في القصيدة بالمراوحة بين الدفقات التلفظية وأطوال الأسطر الشعرية، كما في الاكتناز في السطر الذي تأتي فيه لفظة واحدة (اخرج) إبرازًا لمفتاحية الكلمة دلاليًّا ثم يأتي السطران التاليان لها أطول من خمس كلمات: «تكلَّم مع المحيطات عن الطيور»، ثم ست كلمات: «عن الأحزان التي تتدفق تحت البيوت»، بما يبرز الأثر الفاعل لفعل الخروج، وما ينبغي أن يستتبعه من إجراءات تساعد الذات في الخروج من أزمتها.
كما يبدو تكرارية جملة «الكواكبُ القريبة اقتربت» كناقوس يدق تنبيهًا بتحديق الخطر ومداهمته للذات، كما تبدو العنعنات المكرورة كإيقاع يبرز ما يجب على الذات التحدث عنه لكي تخرج من أزمتها.
ويأتي استعمال ضمير المخاطب، هنا، تعبيرًا عن المونولوجية النفسية وحالة الحوار الموجّه بالنسبة للذات المنشطرة، مناسبًا لحالة الاعتراف والتدفق البوحي والانهمار الاعترافي والتدبر، كأنّ الذات تمارس تعرية لنفسها عبر ضمير المخاطب.
التحولات الهوياتية للمدينة
في الخطاب الشعري لإبراهيم داود تحضر إشكالية العلاقة بين الفرد والمدينة، تلك الموضوعة التي برزت في الشعر العربي خصوصًا في الربع الثالث من القرن العشرين، وإن كان إبراهيم داود ينتمي إلى خطاب شعري مغاير للخطابات الكلاسيكية التي تمثِّل لاغترابات الفرد في المدينة بنبرات عالية في أدلجتها وفي تصوير قسوة المدينة ووحشيتها إزاء الأفراد. فلم تعد هناك الثنائية التقابلية التي كانت بين الريف والمدينة حيث كان النظر إليهما كضدين في جدل حضاري وثقافي بعد تقلّص الفوارق بينهما.
يتعرّض الخطاب الشعري لإبراهيم دواد للتحولات الفادحة في هوية المدينة كما في قصيدة «رائحة جديدة»: استيقظ الناس ذات صباح على رائحة جديدة/ قيل لهم: المدينة أصبحت قديمة/ وأنَّ الطلاء الجديد ضروريٌّ/.. لأنَّنا في انتظار زائرين/ مياسر الناس خرجوا إلى المدن الجديدة/ وأخذوا معهم الماءَ والشجرَ/ وتركوا الآخرين يقاومون الرائحة/ ذهبوا إلى النهر/ فلم يجدوا نهرًا/ الرائحة جلست/ ولم يأتِ أحد/
بعد سنوات../ صار للرائحة صوت/ ولَم يعد هناك من يُصغي إلى أحد. (ص8).
ثمة مدينتان تتأرجح بينهما الذات؛ المدينة القديمة التي ألِفها الفرد في مقابل المدينة الجديدة، المتحولة. كما يرصد الخطاب الشعري لداود في غير ديوان له إشكاليات التحول الهوياتي والنسخ الكينوني للمدينة التي ألفها واعتاد العيش فيها.
ثمة تياران متصارعان: من يريد نسخ الهوية الأصلية للمدينة بزعم قِدمها، في مقابل أهلها الذين اعتادوا على نسقها الهوياتي المستقر، مع رحيل «مياسر الناس» الذين يمثلون شريحة الرأسمالية الجديدة إلى «المدن الجديدة» في تشكيل لجيتوهات عمرانية جديدة، وتكريس لأماكن عازلة في المجتمع. تخص شرائح اجتماعية وطبقات جديدة تنتمي إلى قوى اقتصادية صاعدة في المجتمع.
عوالم وسط المدينة والمقهى
يرسم نص إبراهيم داود الشعري عوالم وسط المدينة وعالم المقهى لكونها بؤرة للمثقفين ومراكز لتجمعات الفنانين والأدباء وكذلك الجماعات الثقافية والمهتمين بالسياسة والأدب، فتتبدى مركزية وسط المدينة لكونه قلب النابض بالحياة فيها.
وغالبًا ما يقترن وسط المدينة عند جماعة المثقفين والأدباء والفنانين بالزمن الليلي، كما يبرز ذلك الصوت الشعري في قصيدة «رفق»:
الليل.. إلى وقتٍ قريبٍ
كان شاعرًا
له رائحةٌ غامضةٌ
.. غامضةٌ
وطازجةٌ
.. كانت تأخذنا إلى وسط المدينةِ
وسط المدينةِ…
كان رسامًا وموسيقيًّا
وشاعرًا
.. وتجري من تحته الأنهار
تعامل مع حماقاتنا برفقٍ..
برفقٍ
لا يليقْ
حماقاتنا كانت ناصعةً. (ص9).
يستحيل الخطاب الشعري إلى مرثية واستعادات نوستالجية تمارسها الذات التي يشتد تحنانها إلى الملامح الأثيرة لمدينتها ومركزها، وسط المدينة، الذي تحس الذات بشحوب حضوره، وتراجع دوره، وأفول وهجه الإلهامي.
تؤسس الصياغة الشعرية لإبراهيم داود بنية إيقاعية عبر ترديدات بعض التلفظات وتكرارات مختتمات بعض الأسطر الشعرية كمفتتحات الأسطر التالية لها، فيما يُعرف بتقنية التدوير التي تعمل على إحداث توقيع بالتكرارت التلفظية، وتبرز التمركُّز الدلالي لبعض الكلمات، كـ«غامضة» في وسم الليل بالغموض، أو بالأحرى أثره في النفس بما يعني، هنا، كثافته الإلهامية وشحنه بوفرة من المعاني والسمات، ويبدو تكرار «وسط المدينة» للإشارة إلى مركزيته وقوة ارتباط الذات به، وتكرار «برفق» للدلالة على علوق الأثر النفسي الطيب لوسط المدينة في مرتاديه من الفنانين والمبدعين.
استشراف المستقبل والتمسُّك بالأمل
على الرغم مما قد يبدو من ارتفاع نبرات الحزن على أحوال الواقع غير المواتية، والتشوه الذي طال هوية المدينة، والتبدُّل الذي تلمسه الذات في طبائع الناس، فإنَّ ثمة رؤية استشرافية لا تخلو من أمل كما لا تخلو من قلق بالطبع.
يبدو المستقبل أمام الذات غائمًا ومجهولاً، تختلط تجاهه المشاعر كما في قصيدة بعنوان «الصمت»:
لا يوجد شيء مؤكَّد
يوجد كلامٌ
وخوف
وبالطبع أمل.
يعتقدُ العابرُ أنّه اقترب
والعاشق أنَّه وصل
ولا توجدُ رائحة للطعام. (ص17).
مع عدم امتلاك الذات يقينًا ما، أو معرفة ما بخصوص المستقبل ما يجعل الكلام حوله غير محسوم، مع المراوحة الشعورية بين الخوف والأمل، في ظل إحساس بادٍ بالعابرية التي تعني حالة البحث الدائم والترحال الوجودي المستمر في تجل لحس صوفي يمزج حالة العبور المستدام برغبة العاشق في الوصول وبلوغ مقصده وهو ما لا يتحقق في الواقع، حيث لا يبلغ العاشق العابر مقصده.
ويعمل الأداء التعبيري في صياغته الفنية في السطر الشعري الأخير: «ولا توجدُ رائحة للطعام» على استثمار بلاغة الكناية، في كناية عن الخواء الوجودي، وخلو المكان من الطعام بما يشي ضمنًا بخلوه من الناس، ما ينتج منه من استمرارية حالة العبور، ونقض ظن العاشق بالوصول. هذا الأسلوب الذي لا يحضر كثيرًا في القصيدة الحديثة، ليعيد إبراهيم داود استثمار بعض الأساليب والصور التراثية في قصيدته، بسلاسة وتوافق تشكيلي، حيث كان يستخدم الشاعر العربي القديم النار أو الرماد كناية عن عمران المكان، وكذلك طهي الطعام في البادية كناية عن وجود البشر أو كرمهم في ضيافة العابر، فتعتصر الصياغة التصويرية لدى إبراهيم داود رحيق الصورة التراثية القديمة، وتعيد ضخها في شرايين قصيدته الحداثية.
وعلى الرغم من حالة الإرجائية البادية في رؤية الذات للعالم من حيث بلوغ مناشدها، فإنّها تتمسك بالأمل، كما في قصيدة «فراغ»:
ستشرق لا شكَّ
ولكن.. ليس غدًا
النوافذ جفونٌ متعبة
ولا توجد بيارق
بقجةُ السماء فارغة
وأعمدة الإنارة متعبة
ولا يوجدُ ضوءٌ عطوفٌ في الأفق
ستشرق في يومٍ ما
ستشرق ونحن في الطريق
خلفنا ليلٌ ثقيل
وبيننا الأيام. (ص58).
ثمة إسقاط نفساني في تصوير العالم وأشيائه بإلباس الوجود هوية إنسانية؛ كما في التشبيه: «النوافذ جفونٌ متعبة» الذي يحيل كذلك إلى نسق استعاري إذ تصير البنايات كأوجه، ما يبرز خصوصية العلاقة بين الذات والمكان الذي تُسقِط عليه إحساسها بالتعب، وكذلك في الاستعارة: «أعمدة الإنارة متعبة»، التي تعكس إحساسًا نفسيًّا بالخفوت الوجودي، لكون أعمدة الإنارة هي مصدر الإضاءة في الليل، ووسيلة مقاومة الظلمة، فتُجسِّد الصور في الخطاب الشعري لإبراهيم داود حالة التوتر والجدل الوجودي بين القوى المتصارعة في علاقة الذات بالعالم، كالصراع بين اليأس والأمل، والتحدي بمقاومة الإخفاق بالرهان على المستقبل البعيد.
في ديوانه الجديد «لا أراني» يضعنا الشاعر المصري أحمد الشهاوي أمام ذات تحدّق كثيرًا في مراياها ومرايا الوجود بحثًا عن نفسها، واستكشافًا لأناها، ذات تريد أن ترى نفسها، بما يحمله فعل الرؤية من ظلال صوفية كعملية «الكشف» الذي يعني إزالة الحُجُب، وبما يحمله معنى الرؤية من دلالة تتجاوز فعل المشاهَدة البسيطة وبما يتشارك به فعل «أراني» مع معنى «الرؤيا» بدلالاته المفارقة. وتتبدى في خطاب الشهاوي الشعري مركزية الذات، لا في تَمثُّلها نفسها فحسب، إنّما -أيضًا- في تمثلها العالم والوجود. فالذات أمستْ قطبَيِ العملية الفعلية، هي الفاعل والمفعول معًا، الرائي والمرئي في آنٍ. وإذا كان الديوان الموسوم بعنوان «لا أراني» يتكون من أربع وخمسين قصيدة تمثِّل محاولات الذات في الرؤية، فإنّه بملاحظة أنّ أيًّا من عناوين القصائد الأربع والخمسين لا يحمل هذا العنوان «لا أراني»، فبإمكاننا أن نستنتج أنَّ حاصل مساعي الذات في رؤية نفسها واستكشاف أناها هو اللا-رؤية.
ولكن هل يعني هذا العنوان، «لا أراني» نفي الرؤية بمعنى انعدامها؟ أم يعني أنّ الذات لا ترى أو بالأحرى لم تجد نفسها التي تنشد بعد؟ ومن هنا، تأتي مراوغة النفي المستعمل في عنوان ديوان أحمد الشهاوي، كما في متن نصوصه؛ فليس النفي -عند الشهاوي- بريئًا من عمدية المراوغة، فالنفي لا يعني فقد الذات للرؤية بقدر ما يعني حالة عدم رضا لها عن رؤيتها لأناها في وجودها المحايث وكينونتها الآنية.
الاستكشاف المرآوي
تدخل الذات في خطاب أحمد الشهاوي في ديوان «لا أراني» في حالة من الاستكشاف المرآوي، بعد أن استحالت الذات نفسها موضوعًا لتفحصها وتأملها الوجودي الموغل في استكناه أغوارها وتَبصُّر ماهيتها واستشراف مصيرها الوجودي.
وفي علاقة الذات بالمرايا يتبدى إقرار الذات واعترافها بحضور قوي للمرايا في عوالمها الوجودية: مثْلمَا أنا مَدِينٌ لأبي باسمي/ فلأعترف بأنَّني مَدِينٌ/ للمرايا/ بوجهيَ../ عَاريًا من الزَّيفِ. (ص79).
هل تشعر الذات بأُبوَّةٍ ما للمرايا لها؟ هل ترى الذات أن المرايا تمنحها هويتها الحقيقية؟ الواضح أنّ الذات تعيش حالة من الاستكشاف المرآوي، وكما يتبدى من الحضور الجمعي للمرايا، فإنّ ثمة غير وجه للذات، وجوه عديدة تكثر بتعدد تلك المرايا. وإذا كانت الذات، كما من عنوان الديوان، تنفي رؤيتها نفسَها، فإنّ هذا النفي يبدو رغبة تُراوِد الذات وتسعى إليها: أحب مِنَ النحوِ/ ما يُثْبِتُ النونَ في نقطة الصدرِ/ ومن المرايا/ ما لا أرَاني فيها. (ص13). إذا كان النحو هو آجُرُّومِيَّة اللغة، فإنّ علاقة الذات في تمثلها اللغة وحروفها، وحداتها الأولى البنائية تقرنها بالجسد أو بالأحرى بالذات نفسها بما يعنيه «الصدر» من مركز الأحاسيس والمشاعر النفسية. ولكن ما علاقة المرايا بالنحو؟ هل تكون المرايا «نحوًا» للذات والأنا؟ ولماذا تريد الذات الغياب عن المرايا وعدم التمرئي فيها؟ هل هي خشية من الذات -كما في الأساطير- من أنّ تمرئيها عبر المرايا قد يدنو بعمرها من أجله؟ أم هي رغبة في عدم التحدد أو التقيد بتمرئي ما عبر المرايا؟
إيثار التخفي والوحدة
أحمد الشهاوي
تبدو علاقة الذات بنفسها -عبر فعل الرؤية- قلقة، كأنّ اضطرابًا ما يداهم الذات في معاينتِها نفسَها؛ لذا تؤثر الذات -في النهاية- التخفي: أحيانًا أراني/ وأَحايِين كثيرةٌ لا أعثرُ عليَّ/ أُحبُّ أن أبقى مخفيًّا عنّي/ وعن أعينٍ تثقبني عبرَ الحوائطِ والسقُوف».
يبدو فعل انعدام رؤية الذات لنفسها كرغبة نفسية من الذات في التخفي عن نفسها وعن الآخر، غير أنّ الغالب هو تخفي الذات وانمحاؤها، فيبدو تحصن الذات بالتخفي من الآخر الذي تخشاه وتخشى اختراقه لها وانتهاكه خصوصيَّتَها، فكأنّ «الآخر هو الجحيم» بالنسبة للذات التي تنأى بوَحْدتها بعيدًا من هذا الآخر الذي ترتاب فيه: أحبُّ كثيرًا أن أُغَلِّقَ أيَّ باب عليَّ/ رغمَ أنَّ الوَحدة تشاركُني المَبيتَ/
-سمِّها الوحدةَ لا العُزْلةَ- / فأنا اعتدت العددَ المفردَ والحروفَ اليتيمةَ/ التي ماتت نقاطُها في السديم/ كأنَّ الآخر يعُدُّ أنفاسي علَيَّ.
تُؤْثِر الذات مفهوم «الوحدة» على «العزلة» اعتدادًا بنفسها، رُبما لأنّ الوَحْدة تعكس إرادةً ما فرديةً، بينما تشفُّ «العزلة» عن نقص ما وفقد ما للآخر، فقد صارت الوحدة شريكًا للذات في المبيت أي بديلًا عن الآخر الذي يغيب أو بالأحرى تُغَيّبه الذات. ومما يتبدى من الجملة الاعتراضية (-سمِّها الوحدةَ لا العُزْلةَ-) التي ينتقل فيها الخطاب الشعري من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب أنّ ثمة انشطارًا ما يقسم الذات التي تعاين وحدتها في وعيها الشقي؛ فتمثل عملية المراوحة الضمائرية الالتفاتية لإيقاع الذات النفسي في تردداته، لتمثل المسافة بين ضميري المتكلم والمخاطب المسافة بين الذات الموضوعية والذات الجَوَّانِيَّة.
الفقدان والسلب
المعاين لأحوال الذات في الخطاب الشعري بديوان «لا أراني» لأحمد الشهاوي يجدها في حالة شعور ضاغط بالفقدان والسلب والغياب، وهو ما يتبدى في شيوع «اللاءات» بهذا الديوان، فتقول الذات الشاعرة عن فقدها: لا اسمَ لي/ ولا نهرَ يطل بيتي عليه/ لا منفى يلم عظامي/ ولا وطنَ يُدفِئُ تربتي. (ص36).
تشعر الذات بفقدان متعدد؛ إذ تفقد الاسم أي الهوية والخصوصية، والنهر بما يعنيه من امتداد حيوي وبما يحمله النهر في الوعي الجمعي ولا سيما للمصريين وغيرهم من أصحاب الحضارات القديمة من قداسة خاصة واعتقاد بكونه مصدرًا للحياة، كما تفتقد الذات الشعور بالاحتواء سواء في منفاها أو وطنها، إحساس اغترابي سواء في غربتها أو موطنها. وأحيانًا ما تعبر لاءات الشاعر عن افتقاد الذات أدواتها ووسائلها في مقابل ما عليها من استحقاقات وأدوار يجب أن تؤديها؛ كما في قصيدة بعنوان «ليس في البيت سوى لا»: لا حبر في القلم/ وعليَّ أن أكمل هذي القصيدة/ لأروي عطش هدهدي اليتيم./ لا عودَ ثقابٍ في جيب المجاز/ وعليَّ أن أشعل النار في اللغة». (ص103).
ثمة شعور ما يراود الشاعر بجسامة الأدوار و«الواجب» الذي عليه أن يؤديه في مقابل افتقاده أدواته وأسلحته، إحساس بعدم مواتاة العالم لطموحات الشاعر وأحلامه. شعور بمحدودية الوسائل إزاء اتساع وعي الشاعر بعالمه الوسيع اللامتناهي. وفي تمثل علاقة المجاز باللغة يرى الشاعر أنّ المجاز هو ما يشعل اللغة لا العكس، وكأنّ الشعر هو وقود اللغة ومؤجج حرائقها الجمالية، وكأن الشاعر هو المشعل لثورات اللغة، فيبدو الشاعر في صراع وجودي مع اللغة ومن أجلها:
«تعبتُ من الرتابة/ وليس في البيت سوى لا/ وعليَّ أن أقتفي أثر الظلال/ أو أتبع القلب حيث تكون الفريسة/ قد نضجت شمسُها». (ص ص104- 105).
يتضاعف شعور الذات بالفقد والسلب بوجودها في البيت لإحساسها برتابته، وضرورة الخروج لاقتفاء أثر الظلال، ولكن هل تكون الظلال هي ذوات أخرى شبحية للذات؟ ذوات فائضة بديلة؟ ثمة شعور يسكن الذات بكونها حبيسة الداخل: لا أبواب لي أو نوافذ/ وإن كان فهي عمياء لا ترى». (ص95).
إذا كان الباب أو النافذة هما وسيلتا الذات للانفتاح على الخارج والتخفيف من حدة الشعور بالاحتباس في الداخل؛ فإنَّ الذات تشعر بقطيعة ما وانفصال إزاء الخارج، لكنّ المفارقة تتبدى في أنّ حالة الفقد والسلب هذه هي التي تخلق الشعر، فمن رحم المعاناة تولد القصيدة: «لا مدَّ في البحرِ أو في النهرِ/ سِوى مدٍّ لأذقان السواحل./ بين جزر لا يجيء مُصَادفةً/ يُصبح الإيقاع عبدًا للقصيدةِ/ وتأتمرُ الشموسُ بأمر مرشدها/ ولا ترتاح إلا على حبر يمينه». (ص39).
ثمة شعور ما يداخل الذات بالجزر والانحسار الكوني، وفي المقابل يعلن الشاعر تبعيةَ الإيقاع للقصيدة وخضوعه لها لا العكس، وكأنّ الفن يخلق وسائله ويطوعها لأغراضه واستخداماته لا العكس، وتقوم الصورة الشعرية -لدى أحمد الشهاوي- على ما يمكن أن نسميه بالتناظر الصوري؛ فخضوعُ الإيقاعِ للقصيدة يناظره ويوازيه صوريًّا خضوعُ الشموس لأمر مرشدها، وهو ما يرفد شبكة الصور الشعرية بمنابع متعددة للتدفق التصويري.
تثير مجموعة «إيقاعات الجوع.. موسيقا العطش» للكاتب والقاص السعودي أحمد بوقري، أول ما تثير، عند قراءتها، سؤالًا حول «النوع الأدبي»، فعلى الرغم من تصنيف الكتاب وفقًا لغلافه بوصفه «مجموعة قصصية» فإننا نجدنا إزاء قصٍّ يتجاوز سمات النوع القصصي بمفهومه التقليدي في كثير من نصوصه مقتربًا من النوع الشعري مع احتفاظه ببنية القص في آنٍ. في قصِّ أحمد بوقري نعاين ذاتًا تسافر في الوجود في رحلة بحث ممتد في «المكان»، ثم ما تلبث أن تتجاوز هذا المكان الذي تبحث فيه وتستكشفه، لتُوغِلَ فيما هو أعمق، لتدخل في حالة بحث وتأمل وجودي ممتدّ، بما يسفر عن طموح جامح للذات في أن تمتلك شفرات هذا الوجود وتسبح في أعماق العالم.
تتجاوز نصوص أحمد بوقري الاعتماد على «الحدث» أو تصاعدية الأحداث أساسًا للبناء العضوي للقص، رغم وجود هذا الحدث، إلى الاعتماد على «الموقف»، فكأنّ الذات تعلن عن موقف وجودي ينطلق من مرتكز فلسفي إزاء العالم الذي تعيش فيه والوجود بمعناه الفلسفي الرحب. تبدو الذات في الخطاب القصصي لبوقري في حالة تجوال دائم، كما في النص الذي منح المجموعة عنوانها، «إيقاعات الجوع.. موسيقا العطش»، الذي تبدو الذات فيه في طور قلق وجودي، عَوَزٌ ما واحتياج ما، كما يتبدَّى من مفهومي «الجوع» و«العطش»، غير أنّ تعبيري «إيقاعات» و«موسيقا» يجعل من حالة العَوَز والشعور بالاحتياج هذه أداءً جماليًّا دافقًا بالجمل والأفكار المتفاعلة كما لجمل الموسيقا وإيقاعاتها من «هارمونية» وتفاعلية. تبدو الذات في حالة تأمل دائم لعلاقتها بالمكان وتساؤل مستمر عن مصيرها فيه وشعورها نحوه: وعندما كنت أجول في تلك المدينة المكومة عند البحر، شعرت أنني منفصلٌ عن وجوه كائناتها.. يمشي الجوع في سحناتهم كالدود.
فأنْ تجوعَ في هذه المدينة المنخورة بالعطش معناه أنك شريان آخر ينزف في أحشائها وعليك أن تداري نَزْفَك؛ كي لا تموت صريعًا على الشاطئ المتواري خلف تلالٍ من أعشاب البحر… (ص45).
ثمة وحشة ما وشعور آسيان بالاغتراب تعايشه الذات في العالم المديني، ولنا أن نلاحظ أن المدينة التي تتحدث عنها الذات الساردة تأتي من دون تسمية، بما يتسم مع إستراتيجية أحمد بوقري السردية في اعتماد «الموقف» بدلًا من الحدث، ثمة نزوع، في أغلب نصوص أحمد بوقري، نحو «التجريد»، تجريد المكان والزمان من أية تعينات بالتسمية. ثمة شعوران متآنيان يلازمان الذات في تجوالها بالمدينة: الانفصال عن كائناتها، وتبدي الجوع، بما يعنيه من العَوَز والاحتياج، على وجوه كائنات المدينة. إذن يمتزج شعور الاغتراب بالعوز والنقص، ليؤكد إحساسًا بلفظ المدينة لكائناتها وعدائيتها لهم.
وبمتابعة حركة الضمائر في النص السابق نجد التفاتية من ضمير المتكلم الفردي إلى ضمير المخاطب الفردي، كأنّ الذات تستحضر مُخَاطَبًا آخرَ افتراضيًّا، أو كأنها تُحادِث نفسَها، في مناجاةٍ ذاتيةٍ تُجرِّدُ الذاتُ فيها من نفسِها آخَرَ تبوح له بما يُداخِلها من مشاعرَ وتمثلات نفسية، فيما يمثل حالةً انشطارية تعيشها الذات تدخل فيها في مداولة ذاتية. وتبدو الذات في الخطاب السردي لأحمد بوقري في حالة حركة دائمة وسير مستمر بالمكان، كما في نص بعنوان: «سقراط في الشوارع».
تبدو الذات في فيضها التأملي في حال ما بَيْنَ بَيْنَ، بين الغفو والصحو، أي تكاد تكون في منطقة برزخية بين الوعي واللاوعي، فنجد الصوت السارد قد دخل في طور مما يمكن أن نسميه «سَقْرَطَة» الذات أو «التماهي السقراطي» الذي تتخذ فيه الذات هيئة سقراط في هيامه على وجهه وتجواله بشوارع مدينته أثينا محاولًا هدم الأفكار البالية في عقول الناس والشباب وتأسيس وعي جدلي لديهم، كأنّ الذات تشعر بفساد أَثِينيٍّ يُهيمِن على مكانها. أما تمثلُ الذاتِ نفسَها تسير محنيةَ الظهرِ وتخوض الشارع عاريةً، فيؤكِّد حالة التماهي السقراطي والشعور برغبة عارمة في تطهير المدينة ومقاومة الفساد الفكري. كأنّ الذات تريد أن تعيد تشكيل الوجود باحثةً عن يُوتُوبْيَاها المثالية.
في نصوص أحمد بوقري القصصية نجد حضورًا متمددًا للذات ومتعدد الهيئات، كما في نص «ظلام في الظهيرة». يبدو أنّ للذات، في تمثلها نفسها وفي معاينتها حضورها، ذاتًا فائضة، هي ذات شَبَحيَّة، ذات حضور ظِلِّيّ تراود الذات الموضوعية من حين لآخر، ولكن لِمَ تبدو تلك الذات الظِّلِّيَّة برائحة الأدغال والفيافي؟ هل هي رغبة من الذات في العودة للطبيعة الأولى في بكارتها ونقائها وصفائها؟ هل هو سعي للوجود في مكان رحب يشعر الذات بالفساحة ولا تناهي الوجود؟
ومما يتبدى من استعمال ضمائر الغائب، هنا، أو في استعمال ضميرَيِ المتكلم الفردي أو المخاطب الفردي أحيانًا، في تعبير الذات عن نفسها، أنّ الذات تعاين نفسها من زوايا متعددة، كما يشي استعمال ضمير الغائب بأنّ ثمة رغبة من الذات في أن تعاين نفسها من على بعد ومسافة تسمح لها بتأمل أناها. ويسمح ضمير الغائب للذات أن تعاين نفسها بقدر ما من الموضوعية في علاقتها بأناها وبالعالم: يأتيه النادل بكأس مترعة بالشاي، ينبعث دخانها ممزوجًا برائحة النعناع.. يرتشف منه ببطء وينظر ساهمًا إلى اللاشيء. الحركة والضجيج البشري الذي يخبط الرصيف أمامه لا يلتفت إليه بل يستغرق ناظرًا إلى السماء الفارغة بتجريدية مطلقة. تتقد عيناه كجمرتين، ثم فجأة ينتزع ورقة بيضاء من حقيبته المهترئة بين قدميه. تمتطي أصابعه قلمًا متآكلًا ويأخذ بتدوين سطور متشابكة بادئًا من منتصف الورقة.. تاركًا النصف الأعلى كسحابة بيضاء تظلل كائنات الحروف المتلاصقة. (ص49).
في خطاب أحمد بوقري القصصي تتوازى علاقة الذات بالعالم مع علاقة الذات بالكتابة، فيبدو التطلع إلى «اللاشيء»، الذي قد يعني تأمل العدم بمثل ما قد يعني تأملًا منفتحَ الأفقِ. أما الكتابة بدءًا من منتصف الصفحة وتَرْك النصف الأول فارغًا فيعكس أنّ الخطاب المبثوث هو خطاب استئنافي، كأنّه «عَوْد على بَدْء»، كأنّ ثمة خطابًا سابقًا أو قولًا مطمورًا لم يُقَلْ بعد. كما تبدو علاقة الأصابع بالقلم، «حالة الكتابة»، كعلاقة الفارس بجواده، كأنّ الذات تُروِّض القلم وتمتطيه ليدوِّن لها مشاعرها وتأملاتها وتمثلها العالم الذي تعيد صياغته وتدوينه عبر فعل «الكتابة».