من كتاب الصرخة الأولى.. أتذكّر مليًّا أنّي لا أتذكّر شيئًا
أُولَدُ الآن تحت شجرةٍ وارفة، وثمّة مَن يولد معي تحت الشجرة الوارفة تلك. يختلّ نظام الوقوف في متعة الظلّ، يدخل في رحم المتاهة. لن يضيع القارئ، ولا أنا يطيب لي أن أضيّعه. للكلمات معاييرها تُقدّم ما تُقدّم، وتحجب ما تحجب. القارئ المعنيّ بكلّ شيء، شأنه أنْ ينضم إلى جوف المتاهة، متحملًا وزر الإقامة هناك.
المُخِلُّ بنظام الظلّ هو أنا. المتاهة تجعلني في جوفها بسبب الإخلال. كمَن يدخل لا وعي جسمه، كمَن لا يعود في مقدوره أن يخرج. ليس في مستطاع الجسم أنْ يظل أمينًا لِما كانه. كنتُ أقول: إنّي واقفٌ تحت ظل شجرة. سأقول بعد قليل، وأنا لا أقول، إني أقعُ في هوّة الظل. إني هناك طوال ظلالٍ مديدة.
ليس المهم الزمان، ولا المكان. صرختي تدخل جنونها. كلما استيقظتُ في ظلي أحصيتُ النجوم المتقرحة من جراء السهر المستديم. مَن يستطيع أنْ يساهر جسمًا لا ينتبه إلى كونه ساهرًا، من شدة ولعه بكونه جسمًا.
النجوم ومعها القمر، تُصاب بما يُصاب به الولهان بسبب الوله. ليس الوله فحسب، إنما السهر الإضافي في حساب الكواكب والأفلاك. الصياد لا يصطاد إلا جسمه، بعد أنْ يصير ظلًّا. يختلط الظل بالأصل، ومن المستحيل تبيان الفارق الضئيل بينهما.
في الثالثة من كل ليل، ثمة وقت مقتطع من الوقت، جنس مقتطع من الجنس، وعمر مقتطع من العمر. كيف لي أنْ أشرح المعنى، وأنا لا أملك منه إلا ظلاله، ومن الليل إلا الكلمات، ومن الجنس إلا ما يذهب من ماء. كلما اكتشفتُ شيئًا في جسمي، بان لي أن الجسم لا يعرف إلا ما يبدر منه. فكيف لجسم أنْ يؤرّخ، ما دام ليله أكثر من نهاره، وما دام البيّن من الليل ليس سوى الجزء اليسير من النجوم والغيوم والصرخات؟
يؤخَذ عليَّ أني أستجمع أنفاسي. أنفاسي ليست من الأنفاس في شيء. ليس لمَن يزفر أنْ يحصي ما يخرج من رئتيه. ذلك جزءٌ بسيطٌ من خدعة الجسم، التي تصير خدعةً أخرى. إذا كان ثمة تدقيق فيما أصفه، فينبغي لي أنْ أكون دقيقًا في تقريظ الأمكنة التي اختلط زفيرها بزفيري، وماؤها بمائي، ونجومها بنجومي، وجسمها بجسمي. إذا كان ذلك صعبًا، فلأن الوقت ليس للوصف، إنما لاستدراك حجم الاختناق الذي يلم بي، من جراء ما تراكَمَ من زفيري في الأمكنة، وهو ليس بقليل.
أحتج بالزفير، وينبغي لي أنْ أحتج بالجسم الذي هو جسمي، وقد صار دليلي في الآخر الذي هو أيضًا جسمي، وصار المسافة التي تفصلني عنه. لم أكن أرى، لأقول هذا مَن سرقني. لم أكن أحصي، لأقول هذه هي المسروقات التي تَشَكّلَ منها جسمي، ولم تعد هي جسمي. إذا كان لأحدٍ أنْ يزعم أني أتألم الآن، فلأنه يحصي ما يختنق في جسمي، ولأنه يحسد الكلمات على أنفاسها التي لم تعد أنفاسي، ولأنه يغار من أجسادها، وقد كانت فيما مضى هي أجسادي.
تحت جسدٍ غائم أكتب، فكيف لا تكون الكلمات غائمة. قد كنتُ مَن كنتُ، عندما نمتُ على ضفة نهر، فصار جسمي هو النهر. ما أقوله عن ذاك النهر، أقوله عن أكثر من نهر هنا، وأقوله في الآن نفسه عن نهر هناك حيث لا حدود لجموح. يطيب للنهر أنْ يتذكر مراكبه وصياديه، فيحصي ما كان من الأمواج. ثم، إذا كنتُ أستنجد بالأمكنة، وهي البيوت والغابات والعراء والهواء الطلق والاختباءات والعتمة وتحت جنح الشمس والقمر، فلأنها تسألني أن أُدرجها في إحصاء الأمكنة التي تركتُ جسمي فيها، وتركتْ على جسمي ما ينبئ بإضافاته. ليس ثمة شيء يؤكد أني أُحسن الإحصاء، أو أني أفي الأمكنة حقوقها. لا يهمني القعر، إنما شعوري بأني لم أعد أملك زمامي، وبأن الفيزياء التي تتولى إرشاد الجسم إلى بوصلته، لم يعد في مقدورها أنْ تُرشِد شيئًا إلى مينائه. يكتنفني مغزى، هو تنبّه الحواس إلى أغوارها. قد كانت لي أغوار، ثمّ اكتشفتُ أني لا أعرف جيّدًا أغوارها. كقصيدةٍ هذه هي كلماتُها، لكن إشعاعها في الواقع الافتراضي يذهب إلى أبعد من حدودها. أقصد ذهابي إلى أمكنةٍ باتت جزءًا من إدراكي لمعنايَ، وهو ليس من مقتنيات الحواس. كمملكةٍ لا قدرة لخيالٍ على ترسيم أراضيها جيدًا، بحيث بات ما يُعرَف من أراضيها أقل بقليل مما يتضاعف على التوالي من أراضيها. لكن هذا الوصف ليس دقيقًا البتة. لأني إذا افترضتُ أن ذكاءً حسابيًّا فائقًا يتنبه إلى ما يتضاعف داخل جسمي من إشعاع ومشاعر، فإن ذلك مدعاةٌ لعجزٍ مُضاف. ذلك أن التنبه سيغرق خلال البرهة نفسها، في توالي ذهول الإضافات إلى ما لا نهاية؛ حتى لأَقول عن ذلك، إني أنمو نموًّا متواصلًا إلى حد اللّاقدرة على الإحاطة بالمآل، ولا على التدقيق فيه. ذلك شبيه بأحوال الينابيع، تنمو كمَن يقيم في عدم مطلق. ثم تسري سريان الغيبوبة في احتلاماتها، من دون أنْ يسترشد أحدٌ بمشاعر الينابيع ولا محدوديتها.
أهو النبوغ، بحيث يروح الجسم يلفتني إلى هداياه، فأُصاب بالذهول لعدم القدرة على تحديد اللذة، وبالعجز التام عما بي؟ الهدايا لا تُحصى، وليس عندي من الأيدي ما يجعلها في حرزٍ حريز، حتى لَصرتُ أقول كيف يؤتى لهذا الجسم أنْ يكون أكثر، وأنْ يخترع نفسه ويزداد، بحيث لا يعود ثمة نومٌ يتسع لخيالاته وأوهامه.
قد كان لي جسدٌ، ثم صار لي جسدٌ ثانٍ. قد يكون هو الجسد ذاته، لكني لم أعد قادرًا على وصفه بأدواته وأساليبه، ولا على تأريخ لذته ومداركها، من طريق توثيق المعاني المتصلة به. هل يرتبط هذا الشيء بي، أنا المولود لتوّي، أم يرتبط باحتدامات الجسم وقد أخذه النبوغ إلى فتوته؟ لستُ أدري. قد كنتُ أقول من البداية: إني جاهل تمامًا ما أنا فيه، جهلًا لا ريب في أنه يتخطى كل معرفةٍ من طريق العقل وحده. فليس بالعقل يُقارَب هذا الجسم. كما لا يُقارَب بالتشبيهات والأحاسيس. ذلك ما يستشعره الذهول وقد صار شعرًا. بل ما يستشعره الشعر وقد اختلط بفلسفة اللذة. إذا كنتُ أستنجد بالفلسفة، فلأنها تحجم عن التفسير، فتدعو إلى الأخذ بالشيء من خلال تجلياته والدلالات، لا من خلال تفاصيله فحسب. ليس الجسم ما يؤخذ كعينةٍ برهانية. إنما الكائن برمّته وقد بات كينونةً غير قابلة للحصر. كتسرب الهواء من لا شيء. كتسرب الهواء في لا شيء. وهما كل شيء. لا يجوز الوقوع في التعمية؛ لئلا ينحرف التوثيق عن مبتغاه. وإذا كنتُ أستنجد بالشتاء، فلأنه سرعان ما يجعلني قناعَه، عندما يفتضح أمر الجسم وقد أصبح سماءً عارية. ليس الشتاء ما أعنيه، إنما إحساس الأوقات بأنها تدخل تحت الفضيحة، وقد كانت رغبتي في أنْ أسحبها معها إلى المتاهة، مثلما تسحب التيارات البحرية الفرائسَ إلى جوف متاهتها. إنه الجسم الجنسي وقد أصبح آية. وهو الجسم وقد جعلته الصيرورة شبقًا مكتشفًا تاريخه، وهو يولد لتوّه. فكيف يمكنني الآن أنْ أصرخ، في حين أن ما يصرخ فيَّ قد صار جسمًا آخر؟
أتعلّم جسمي رويدًا، وبالتواصل، ولم يسبق أنْ كنتُ جسمًا عالِمًا بحاله. أستخدمُ صيغة الحاضر، في حين أني أروي شيئًا قد تحصّل في أزمنةٍ سحيقة. ليس الماضي ما أرويه، إنّما كوني أُولد لتوّي، ويولد معي هذا الجسم توًّا. قد لا أكون أملك جوابًا يفيد المعنى. لكنّي أملك ما يتبادر إليَّ من غيوم الكلمات حين تنفصل عن هيوليّتها فتصير جسمانيةً. كحال هذا الجسم وقد صار يروي وقائعه.
قد كنتُ في الزمن، ولم يكن ثمّة شيءٌ فيَّ يعي ما يستشعره الجسم من آياته. لقد أخذتني المتاهة مثلما يأخذ البحرُ النهرَ. المتاهة مرآةٌ هي أيضًا، وإنْ بدا أنها مركبة، أو ضدّ ذلك، أو سوى ذلك من احتمالات. لن أجد شيئًا أصف به المتاهة، سوى أنها جسدٌ تحت جسد، ومن جهاته، وبأوصافه، وبأحواله كلها. إذا كنتُ أستعين بالدلائل، فلكي أوحي أن المتاهة ليست كلها عبثًا، إنما هي في الآن نفسه جهدٌ تخييليٌّ شبِقٌ ينزلق إليه العقلُ في حالاته الصافية.
ما أذكره عن العقل الصافي، أعني به أيضًا الجسم الصافي. كنتُ أقول: إن المتاهةَ قد أخذتني مثلما يأخذ البحرُ النهرَ. الآن أيضًا أقول: مثلما يأخذ النهرُ البحرَ، وهما عندي سيّان. فليست المسألة مسألة حجم، وإنْ يكن الفارق في الحجم هائلًا بينهما؛ ذلك أنّ الماء هو المعنى الآخذ بي، لا الشكل ولا الكمّ، حتّى لَصار ممكنًا القول: إنّي أرمق الماء، كما أرمق سيولة الكلمات وقد صارت أجسامًا تستشعر إخلادها إلى الفرار من هيوليّتها. أعاين جسمًا يترك فيَّ الأثرَ الذي يتركه النهم، وقد أدركته صيرورة الخبز.
ينعتني الخيال بأني والغٌ في الحسيّ، وينعتني الحسيّ بأني هاربٌ من ربقته، هروبَ قطّاع الطرق والمرتعبين من احتمال القبض عليهم. لا عدالة فيما أُنعَتُ به. كلّ نعتٍ هو نقصان. لكني والحال هذه، لا أرغب في أنْ أصدق أحدًا القول، ولا أنْ ألفت أحدًا إلى النقصان المريب فيه. وُلدتُ مثلما أُولد الآن. يضعني الجسم في خيال النضح وهجسه، مثلما أضعه على سكّة الجوع والكلمات. كلّما جاع، أو كلّما أدركه عطشٌ شديد، سقطتْ مياهه منه، كنبعٍ يغلب عليه الشعور بالاختناق من جرّاء التخمة وانسداد الآبار. بل كما تتساقط الكلمات سيولًا أو قطراتٍ من فجوات رأسي. يتضح لي أني لا أعرف أنْ أصف الجسم، كما لا أعرف أنْ أصفه بالتماس مع امرأة. كل ما يقال عني في هذا الصدد، هراءٌ وابتعادٌ. فلا الجسد يتنازل لي عن قوانينه، ولا مشاعره تسلس نفسها للكلمات. للاختصار أقول: إني أشعر برأسي يدور بي، وإن شيئًا يخرج مني. أهو رأسي سائلًا أم هي الكلمات تستشعر فرارها، كلما اتخذت شكلًا جسمانيًّا؟ لستُ أدري.
كل ما أعرفه أني عندما استفقتُ، وجدتُني أصرخ صرختي الأولى، مثلما تصرخ الكلمات عربون خروجها من رحم. لكنْ، كيف للجسم أنْ يتذكّر ويشهد ما كان من جنسٍ تحت جنسٍ تحت جنس؟ ليس التذكر هو ما أعنيه، ولكنْ ما يتركه الجسم من كلمات، بعد أنْ يذهب الوقت بأبطاله. لليقظة أنْ تشعر الآن بأني أستيقظ من سباتٍ عميق. إذا كان لا بدّ من أنْ أتدرّج في شيء، ففي متاهة اليقظة. لقد نظرتُ وتدرّجتُ، إلى أنْ صارت الكلمات أعضاءً في جسم المتاهة. ليس عندي الآن ما أقوله سوى أنّي شقيقٌ لجسمي ذاك، وقد صار كائنًا مقيمًا في متاهة الكلمات.
للغابة أنْ تحصي أشجارها، لي أنْ أحصي ضمائرها وأنفاسها، وهي ضمائري وأنفاسي. للجسم ذاك، أنّه فتح ظلًّا وجعلني أشربه. وقد فتح الظلَّ على آخره، وقد عاينتُهُ بعينين لا أملكهما، فكيف لا أُولد توًّا في كينونةٍ هي كينونةُ منطقِ الظلّ! أعني ظلّ الزمن، وظلّ جسده وروايتهما. فأنا أُولد لتوّي، ويصرخني الجسم، كما يكبس أحدهم على طعنة قلبه فتبدر من قلبه صرخةٌ توازي صرخة الولادة تلك وتتلبّسها. لا أملك عينيَّ لكي يقال: إنّ عينيَّ شاهدتان أو مسؤولتان عمّا يكتبه الجسم من أحواله، أو عمّا يجري لي. لا أملك الكلام، لكي يقال في إمكان الراوي أنْ يلجم لغته عن الكلام. يرويني جسمي بقدر ما أنا واسطته لأرويه. لا مسافة تفصلني الآن عمّا أصرخه. حبرٌ يخترقني بجموع حواسي، ويجعلني محبرته وريشته. أهو حبر الجسم أم حبر الكتابة؟ ليس يعنيني الجواب بقدر ما يعنيني أني أعي حال دنيايَ، كمَن يعي جسمه منذ اللحظة الأولى.
هذه ليست ولادةً بالتاريخ. إنها ولادة بالجسم، وقد أدرك الجسم بعض مرامه، مختزلًا ما يكتنفه من عمر. بعد قليل، تعي صرختي الأولى أني أصبحتُ فوق هاوية. وتعي صرختي أني أقع. لن ألجم وعي الصرخة بذاتها. لن ألجم كوني هنا والآن. ليس يعنيني ما أعيه من ارتطامي وكسوري. ولا تبجيل الطيران. ولا تقريظ الخفّة المأخوذة بكونها خفّةً. ولا وصف الجسم مشغولًا ببراهينه المراهقة. ولا تأويل الذهب الذي يشحذ جسمي شحذًا، وفيه من اللمعان ما يُعمي ويردّ البصر كليلًا. قد أُوصَف بما يوصف به المتأخرون عن اللحاق بالركب. لستُ مهمومًا بالانضمام إلى قافلة. كل ما يعنيني أني أكتب غيرَ آخذٍ في الحسبان ما يدهمني من فارقٍ بين زمن الصرخة وزمن تجلياتها في الجسم. وإذا كنتُ أومئ إلى الفارق، فلأني لم أعش عمرًا كان ينبغي لي أن أعيشه بأيامه وبمراتب جسمه. قد أدركني الوقوع؛ لأني لم أعاين ما سبق لي من وقوع. هذا ليس ندمًا إنما سردُ أحوال. لا يفوتني شيءٌ إلا ما يفلت من تأوهات الجسم وقد صارت أشبه بالحواس. هو استشعارُ انتباهِ الحواس وقد صارت شعرًا. وإذا كنتُ أذكر الشعر، فلأنه سيكون هو البطل؛ لهجوعه في الجسم. وها أنا أوثق توثيقًا يجعلني أفرُّ من المواضعات والوقائع. علمًا أني أتذكّر مليًّا أنّي لا أتذكّر شيئًا؛ لأن الوقت الذي أنا فيه يَمْلَؤُني بما به من شعر. بل يجعلني أُولَد توًّا. كل ما عندي، أني أعي صرختي في حين أني أُولد لتوّي. هل كانت لي أعمارٌ سابقة، ومنها هذا العمر الذي يتخذ من الجسم هويته وأيقونته؟ لستُ أدري. لكني أدري جيّدًا أن عمرًا فعل بجسمي ما أنا قائله. للدقة في التأريخ، أتدارك قولي واصفًا أن خيال الجسم هو الذي يفعل بي ما يفعله الوهم وقد تجلبب بحقيقته، ومن حقه على التوثيق أنْ يُذكَر في شهادةٍ كهذه الشهادة.
بعد قليل، سأغلق الصفحة ليستيقظ فيَّ جسمٌ آخر هو جسم الشعر.
بعد قليل، ستنمو صرختي كلها، وقد صارت كائنًا توثقه الكلمات.