تذكار من عام 2030م
في ذلك الوقت كنتُ أعيش في مارادونا 500، في جرين لاند، بقرب الحدود القديمة للبرازيل، في منطقة كانت ذات يومٍ حيًّا مُسَورًا ثم تحول إلى ما يُسمى حيًّا مُحصَّنًا، وفي النهاية صار حيًّا مفتوحًا في زمن السيطرة الفائقة. كنا جميعًا نتجول بشريحة التتبع مزروعة في عظام الكتف الأيمن وجهاز تحديد المواقع العالمي يحلل التقرير الخاص بك، ويحدد أين يجب أن تقف، يعرف دخلك، عاداتك الاستهلاكية، موقفك الضريبي، مراسلاتك، أصدقاءك، سلوكياتك، روابطك، وجميع تحركاتك على مدار اليوم. كنا ندفع ضريبة تسمى ضريبة الجسد المركزي، لكننا أسميناها ضريبة العين المغلقة؛ لأننا كنا ندفعها شهريًّا مقابل بضع دقائق نقضيها يوميًّا والكاميرا الشخصية مطفأة. كنت أدفع أربعين سوريس(١) شهريًّا، ولم يوفر لي ذلك سوى عشر دقائق من الخصوصية يوميًّا. كان هناك أشخاص يدفعون أكثر من هذا بكثير ويوفر ذلك لهم تعطيل الكاميرا بل حتى مُحدد المواقع.
إن تأخرت في دفع الضرائب فسوف يلغون أنشطتك. من يحِنون إلى الماضي مثلي يذهبون إلى السينما ذات الصالة والشاشة والصوت، أحيانًا يوقفوننا عند بوابة الدخول لأننا لم ندفع ضريبة ما، ولا يدعوننا ندخل حتى ندفعها. سيفعلون ذلك معك عند خروجك من مترو الأنفاق، أو في مطاعم الوجبات السريعة، حيث ستجد الموظف يسألك وهو يناولك علبة الطعام «هل تريد تسوية وضعك؟» ولكنه ليس سؤالًا، بل هو تحذير من أنك إن لم تفعل فلن تتمكن من تناول الطعام هناك. ناهيك عما سيحدث عندما تذهب لزيارة أحد أفراد الأسرة في المركز.
خمسة وأربعون في المئة من السكان يعيشون في المركز، في الواقع هو زنازين، لكنهم يخفون حقيقته بهذا الاسم الفخم (مركز إعادة التأهيل الاجتماعي الثقافي). أخي يعيش هناك وأذهب لزيارته في أول أحدٍ من كل شهر. لا أذهب إن لم أكن قد دفعت كل ضرائبي لأنهم حينها سيحتجزونني لبعض الوقت لإخافتي. نشرب المتَّة(٢) تحت إفريز كوخه ونتأمل الأشجار المزروعة على ضفة المستنقع. كنت أحيانًا أمسح على يده الخشنة من أثر العمل في الحقول عندما يقدم لي المتة، كان فظًّا جدًّا، وأحيانًا كنت أطلب منه أن يتحدث ببطء لأفهمه، كان يسألني كثيرًا عن ابنتيَّ، وكنت أجيبه دومًا بأنهما بخير، وأنهما كما عهدهما.
لم أخبره قط أنهما صارتا مدمنتي «فلوت»، كل واحدة منهما داخل فلوت يطفو فوق الماء المكثف، متصلتان بأنابيب لنقل السوائل والطعام وإخراج الفضلات دون حركة. عاشتا في كبسولتيهما متصلتين باستمرار بالشبكة دون تمييز بين ليل أو نهار. ترسلان رسائل مصورة إليَّ، بصورٍ تظهرهما في أفضلِ حالٍ كانتا عليه، كلتاهما اختارت صورتها في ذلك الصيف الذي قضيناه في سان برناردينو. أتحدث إليهما وتجيبني تلك الصور الظاهرة على الشاشة. تقولان دومًا: إنهما بخير، تتحدثان وفي خلفية الصورة غروب ذلك اليوم من يناير 2015م، التي كانت تتشوش أحيانًا أو تتداخل مع رسائل سابقة. كنت أدفع 600 سوريس شهريًّا لصيانة الفلوت، دون أن تفعلا شيئًا آخر. لم أخبر أخي عن اليوم حين ذهبت لأخرجهما من الفلوت، وتجولي في الأجنحة المظلمة التي تتراص فيها الكبسولات المتجاورة. لم أخبره أنني عندما فتحت الكبسولتين وجدت ابنتي الكبرى تزن مئة وثلاثين كيلوغرامًا والصغرى مئة وأربعين، وكانتا لا تقدران على الحركة تقريبًا. حملتهما إلى مزرعة من مزارع الحركة تلك تعيد تأهيل مدمني الفلوت. وعندما هربتا قالوا لي: إنهما لم تستطيعا إبلاغي بسبب السياسات الداخلية للمزرعة، كنت قد عرفت عندما عادت مصاريف صيانة الفلوت للظهور في كشف نفقاتي.
كان من الصعب التحدث مع أخي، لم أرغب في إخباره عما يحدث خارج المركز، وأن الحياة ليست وردية كما يدعون. لا نقدر على التحدث بالسوء عن سواريز داخل المركز لأنهم يسجلون كل همسة، يمكننا الحديث خارج المركز، بصوتٍ منخفض، عن سواريز والسلطة، ولكن ذلك داخل المركز يعد انتحارًا، خاصة له. سواريز يفوز بالانتخابات كل عامين، دون تزوير، لم يتزعزع طوال عقدين. لا حق لمحتجزي المركز في التصويت، ولكن الأحرار يمكنهم، ولم يتوقفوا عن التصويت له في كل أرجاء «الجسد المركزي» الذي امتد من الحدود القديمة للمكسيك حتى باتاجونيا. كانت المعارضة تُسمى زيراوس، لأنها كانت هي نفسها السلطة ولكن بشكلٍ عكسي.
هربتُ في أثناء ذهابي للتدريس في المدينة الشرقية، حيث يوجد جزء من الحدود ضعيف الحراسة. هربنا مع أستاذ آخر، قُتِل بعدها في سان بومبو. في أثناء الغداء سرقتُ سكينًا ذا نصلٍ مُسَنّن، وقبل دروس المساء سرنا إلى نقطةٍ بعيدةٍ داخل الغابة، أخرج كل منا سكينه وحفر في الكتف الآخر ليخرج شريحة التتبع التي ربما زُرِعت داخل لوح الكتف نفسه. لم أتألم هكذا من قبل، لكن سعادة التخلص منها كانت تستحق. سرنا أسبوعًا داخل الغابة، خائفين من عثور السلطة علينا، ولكننا في النهاية وجدنا بشرًا.
تنقلت بين عدة معسكرات، لم أعد أعرف شيئًا عن أخي، عن ابنتيّ، لا أعرف إن كنت أكثر سعادةً الآن، ولكني على الأقل عندما أحكّ كتفي وألمس الجزء الغائر الذي أخرجت منه الشريحة أشعر بالحرية.
نُشِرت على موقع زِندا في ديسمبر 2021م
هوامش:
(١) عملة من اختراع الكاتب.
(٢) المتة أو شاي الباراجواي: مشروب منبه ساخن منتشر في الجزء الجنوبي من أميركا الجنوبية.