رواية «سَمّ الخِياط».. ملحمة للنضال الفلاحي ضد الاستغلال
رواية «سَمّ الخياط» للروائي عبدالخالق الركابي، الصادرة عام 2022م، من الروايات العراقية المهمة التي صدرت مؤخرًا، والتي عززت رصيد الروائي عبدالخالق الركابي، وبوأته مكانة خاصة بين كبار الروائيين المعاصرين. ويمكن أن نعدّ روايته الجديدة هذه إضافة لرباعيته الروائية التي تضم «الراووق» ١٩٨٦م، و«قبل أن يحلق الباشق» ١٩٩٠م، و«سابع أيام الخلق» ١٩٩٤م، و«سفر السرمدية» ٢٠٠٥م، عن أسرة آل غافل وهجرتهم من الديوانية، هربًا من تسلط العثمانيين، حيث استقر بهم المقام شرقيّ العراق، قريبًا من قضاء (بدرة) في محافظة واسط، وتحديدًا في مدينة «الأسلاف»، التي تذكرنا بقرية (ماكاندو) في رواية ماركيز «مئة عام من العزلة» والتي هي مدينة أو بلدة افتراضية، اجترحها المؤلف، موطنًا لعشيرة (البواشق).
سبق لي أن أشرت في دراسة سابقة، إلى أن روايات عبدالخالق الركابي يمكن أن تُقرأ بوصفها رواية أجيال؛ لأنها تشكل متنًا سرديًّا متصلًا ومترابطًا يجمع بين ما هو واقعي، وما هو تخييلي أو افتراضي، وهي تتمحور حول أسرة آل غافل، وتتحرك بطريقة تاريخية (كرونولوجية)، لا تخلو من بُعد ملحمي، من الماضي إلى الحاضر. ورواية «سَم الخِياط» هذه تواصل هذا السرد الجيلي من خلال التمحور حول شخصية (شبل بن شبيب آل غافل)، أصغر الأبناء، الذي يتحول تدريجيًّا إلى شخصية مركزية وأسطورية من خلال أسطرة شخصيته، وهيمنته على الحدث الروائي، وهو ما جعل رواية «سم الخياط» تتحول إلى رواية شخصية، وتحديدًا إلى شخصية إشكالية.
رمزية الرواية
رواية «سَمّ الخياط»، من الجانب الآخر هي شهادة سردية عن مرحلة دقيقة من تاريخ العراق السياسي والاجتماعي، تعرض فيها العراقيون إلى صنوف الاضطهاد الذي مارسه المحتل العثماني، الذي حكم العراق لمدة أربعة قرون، ومارس سياسة عنصرية مقيتة. وأثناء حركة الأحداث الروائية نكتشف تبلور بواكير الوعي الرافض للاستبداد العثماني، الذي لعب فيه (شبل آل غافل) دورًا مركزيًّا، فضلًا عن نشاط عدد من الناشطين أمثال (ياسر الأبتر) و(جبر) و(مجبل) لتقويض سلطة الأتراك، وانتزاع حقوق الفلاحين من الملاكين والإقطاعيين وأسيادهم العثمانيين.
ويمكن أن نعدّ الرواية كناية رمزية عن الاستبداد العثماني في العراق عمومًا. ويكشف الروائي عبدالخالق الركابي في روايته هذه، كما عوّدنا من قبلُ، عن خبرة دقيقة وواسعة بتقاليد المجتمع الفلاحي، مثل تقاليد الزواج ومراسيم الموت والفواتح والولادة، وجلسات المضايف، فضلًا عن قدرة استثنائية لوصف الأشجار والنباتات والأدغال والطيور والملابس والاشخاص في الهور والدغل، ترقى إلى مستوى الوصف الشيئي في الروائية الفرنسية الجديدة. تتعامل رواية «سَمّ الخياط» مع التاريخ بوصفه بنية سردية وتخلق تاريخًا إنسانيًّا بديلًا يكون فيه دور فاعل للإنسان العادي المهمش والمضطهد، والمُستبعد أساسًا من سجلات التاريخ الرسمي.
يستهل الروائي سرده بمشهد سينمائي مؤثر للرؤوس المقطوعة التي خلفتها حملة الوالي العثماني (مدحت باشا) على الفلاحين المنتفضين في منطقة (الدغارة) في محافظة الديوانية. بدا المشهد، للوهلة الأولى، من الناحية السردية وكأنه سرد غير مبأر مروي عبر «الراوي كلي العلم»، لكننا سرعان ما نكتشف أن هذا السرد مبأر ويتم عبر شاشة وعي (شبل) الذي كان آنذاك طفلًا في السابعة من عمره، يرقب بفزع هذا المشهد الدموي. وندرك أن هذه المجزرة التي ارتكبها الوالي (مدحت باشا) كانت هي السبب المباشر لهجرة (آل غافل) وهربهم من العثمانيين، في تيه استغرق أكثر من ثلاث عشرة سنة، إلى أن وصلوا إلى موطنهم الأخير شرقيّ العراق في مدينة (الأسلاف) أو (البواشق) في محافظة واسط.
تبدو الرواية وكأنها سيرة بيوغرافية لحياة (شبل آل غافل) منذ كان طفلًا في السابعة إلى أن شبّ وأصبح أسطورة حقيقية. وبهذه الصورة أصبحت الرواية تتمحور حول سيرة بطلها الرئيس (شبل) في تعالق عضوي مع الأحداث الساخنة التي شهدها العراق آنذاك، وبخاصة تصاعد وتيرة الاحتجاج والمعارضة للاستبداد العثماني. وكانت مظاهر الاضطهاد التي يمارسها العثمانيون متنوعة؛ منها التجنيد الإجباري وسوق الفلاحين للقيام بأعمال السخرة في مواسم الحصاد. وتتصاعد الأحداث الروائية عندما يلجأ (شبل) في هربه إلى (الدغل) الذي يحتمي فيه الجعيد (مجبل) كبير المهربين الذي يخشاه الجميع لشجاعته، ولاحتمائه بذلك الدغل الكثيف الذي يصعب اختراقه. ويتحول الدغل إلى بؤرة للمقاومة، حيث يلتحق به عدد كبير من المطلوبين من قبل الجندرمة العثمانية. وتفشل محاولات (سليم بيك) وقائد الجندرمة (سامح بيك) لاقتحام الدغل؛ لذا يظل الدغل يقض مضاجع السلطات العثمانية، ورمزًا من رموز المقاومة، حتى نهاية الرواية.
دلالة العنوان
تتخذ الرواية بنية مفتوحة، دونما نهاية واضحة، وإن انطوت على انتصار مؤقت من خلال مقتل السركال (عداي) برصاصة على يدي ولده (هلال)، بعد أن رأى والده يقتل أمه ويتهمها بالخيانة. لكن هذه النهاية توحي، من جهة أخرى، بشكل أو بآخر، بنضج عوامل الوعي المتمرد ضد الاستبداد العثماني، وبداية ظهور تشكيلات معارضة يقودها (ياسر الأبتر) و (شبل) والمغدور (جبر) و(مجبل) وغيرهم، فضلًا عن نشوء حركات مقاومة داخل تركيا، ضد هيمنة السلاطين الأتراك متمثلة بمنظمة «جمعية الاتحاد الشرقي» و«تركيا الفتاة» وغيرهما.
ليس ثمة «كولاج روائي» في هذا النص السردي العضوي المتماسك. ولو شاء الروائي أن يعتمد بنية الكولاج لكان عليه أن يقدم نصين لا نصًّا واحدًا، ثم يوحد بينهما من خلال السرد. ولذا فإن عبارة (كولاج روائي) لا تصمد أمام النقد والقراءة. أما العنوان الرئيس «سَمّ الخِياط» فمأخوذ من سورة الأعراف من القرآن الكريم، وتحديدًا آية: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}. كثيرة هي التفسيرات الرسمية للمفسرين لهذه الآية التي تقدم منظورًا عرفانيًّا لمعاقبة الكافرين الذين لن تفتح لهم أبواب الجنة حتى يلج الجمل في «سمّ الخياط»، وهو أمر تعجيزي. وقد وردت هذه الآية ضمن خطبة، الملا يحيى في الجامع، وكان يهدد فيها الطغاة المستبدين الأتراك ويصفهم بالكافرين الذين لن تفتح لهم أبواب السماء. فما، يا ترى، دلالة العنوان هذا بالنسبة للرواية؟ هل أراد الروائي أن يقدم حلًّا عرفانيًّا لقضية صراع العراقيين مع محتليهم الأتراك، لتسويغ هذا العنوان بوصفه عتبة نصية دالة، كما يذهب إلى ذلك الناقد الفرنسي جيرار جنيت؟
تظل رواية عبدالخالق الركابي هذه إضافة مهمة لسفر الرواية العراقية الحديثة، وللروائي الكبير نفسه، بوصفها ملحمة تدون بوعي صفحات مشرقة من سجل نضال الفلاحين العراقيين ضد سيطرة العثمانيين وسياستهم العنصرية، وبخاصة استغلال الفلاحين وإجبارهم على القيام بأعمال السخرة، وتجنيدهم في حروب الإمبراطورية العثمانية الخارجية، وفرض سياسة التتريك على الشعوب التي حكموها، كما نلحظ نضج شخصية بطلها (شبل آل غافل) وتحوله إلى رمز وطني وفلاحي، وأسطورة مؤثرة. كما أن الرواية، من الناحية الفنية، مكتوبة بسردية فنية عالية، تكشف عن وعي متقدم بأساليب السرد الروائي الحداثي وتقنياته المختلفة.