التصويرات البشرية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام
في تاريخ الفن الشرقي، يعزو بعض الكتاب منع كل تمثيل تصويري إلى ظهور الإسلام، أي يميلون إلى تقديم هذا المنع على أنه انقطاع جذري. إلا أن انتشار الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية، باتجاه مناطق أخرى ذات مناخات سياسية وفكرية مختلفة، أتاح إنتاج أعمال فنية مفعمة بالجرأة، ولا سيما في الأردن وسوريا. مع ذلك، كان حذر الإسلام تجاه الصور، في شبه الجزيرة العربية، إبان القرن السابع، يندرج ضمن ثقافة خاصة، مرتبطة بشروط حياتية صعبة، وضمن تقاليد محلية متحفظة أصلًا إزاء تمثيلات أشياء السماء والأرض، لكن ما عثر عليه من تصويرات هنا يشير إلى أنها لم تخلُ من خصوصيات وجوانب فنية فريدة.
منشأ الصور
عثر في شبه الجزيرة العربية الجنوبية، على نُصَيْبات عالية (بارتفاع 0,70 – 0,90 م) تعود في تاريخها إلى الألفية الثالثة. كانت قد صنعت من الحجر الكلسي، وتمثل شخصيات، تنتصب حول بعض القبور، وقد اشتمل وجه كل منها على عينين واسعتين مستديرتين، وأنف طويل جدًّا، وفم متغضن، ولحية مخططة عموديًّا، مع يدين تحيطان بالوجه، وخنجر محمول بشكل مائل أو أفقي. بعد ذلك بألف عام، ظهرت أوثان غريبة في اليمن؛ أحدها نوع من الألوهة الأنثوية (؟) بارتفاع 17 سم، برأس مخروطي الشكل وجسم بدين تستره ثنيات ثوب بلا زخارف؛ وآخر ذكوري الهيئة (؟)، وصغير الرأس مع عينين مجوفتين وذراعين طويلتين، وقد ألبس ثوبًا طويلًا منتصب المظهر مع طيات سفلية، وبدا مرتديًا حزامًا على نحو مائل. وربما تكون هذه التماثيل الصغيرة قد جاءت ضمن سياق أول الإنشاءات الزراعية في وديان حضرموت وجبال اليمن. ليس المهم كثيرًا ما هو نمط السكان الذين عاشوا هناك، فالجوهري في عملنا يكمن في ظهور هذا النحت، هذه المجسمات بشرية الصفات. في الواقع، هنا نلمس التقاليد الفنية الأعمق جذورًا لشبه الجزيرة العربية الجنوبية، قبل الميلاد بألفي سنة.
في بداية الألفية الثانية، سعت شبه الجزيرة العربية الشرقية، هي أيضًا، إلى تمثيل أشخاص، على شكل تماثيل صغيرة من البرونز أو من الطين المشوي. لنشر مثلًا إلى ذاك التمثال البرونزي الصغير الذي يصور رجلًا مجردًا من الثياب وقد استوى على قاعدة مقوسة، أو إلى تمثال الطين المشوي الذي يمثل امرأة مجردة من الثياب وقد ضمت يديها إلى حضنها. إلا أنه من الصعب الاعتقاد بوجود تراث محلي بدقيق العبارة، ويمكن تفسير تنوع النماذج، إيراني ورافديني على التوالي، على أنه ناتج من امتداد الآفاق التجارية لتجار «دلمون»، الجزيرة البحرينية وشاطئها المجاور، ووادي الرافدين ووادي نهر السند. تؤكد هذه النماذج القليلة أن مختلف ثقافات شبه الجزيرة العربية، في كل الأزمان، قد أعطت تمثيلات تصويرية، ومن شأن متابعة الأبحاث الأركيولوجية أن تتيح مستقبلًا، من دون شك، الإحاطة بسياقات الموضوع على نحو أفضل.
التقاليد الأقاليمية (القرن الثامن– القرن الثالث ق. م)
نسجت قبائل شبه الجزيرة العربية المختلفة، في الألفية الأولى قبل الميلاد، شبكة اجتماعية معقدة، كانت متغيرة وفقًا للأقاليم، وأساليب الحياة، واللغات. ولم يكن هؤلاء السكان جميعًا يتكلمون اللغة نفسها: في شمال الحجاز وشبه الجزيرة العربية الشرقية، سادت لهجات «عربية» أو شبيهة جدًّا بالعربية؛ وفي شرق الأردن وحول الحجاز، كانوا يتكلمون لغات عربية شمالية (اللهجة الحسائية مثلًا)، وفي الجنوب، تكلموا لغات كتابية منقوشة أشهرها السبئية. كيف أمكن لهذه الشعوب أن تتميز بتقاليد معمارية وتصويرية متشابهة، إن لم يكن بالتحديد من خلال علاقات نشاطات القوافل؟ وهكذا، فقد انطوت شبه الجزيرة العربية على عدد من الثقافات المتنوعة، ثقافات تميزت باستقلال ذاتي إلى حد كبير، لكن من المتعذر اليوم أن نحيط بها كلها.
المناطق السبئية
يقع مركز هذه المناطق شرق صنعاء، عند منفذ «وادي أذنة». هنا، في هذا الموطن الملامس للصحراء، أينعت واحة كبيرة، وتطورت معها مدينتها الكبيرة، «مأرب». وعلى الرغم من العديد من الاكتشافات العرضية، فقد بقي فن التصوير السبئي القديم غير معروف جيدًا. مئات من النُّصَيْبات المصوغة من المرمر -على شكل نحت بارز ونحت نافر مرتفع، التي تصور وجوهًا تخطيطية، ورؤوسًا، ووجوهًا مُرْدًا أو ذات لِحًى، مع عيون مرصعة تبدو لامعة بنظرات غريبة، وبتسريحات شعر من الجص الزائل- قد تكون جاءت من هذه المناطق. مع ذلك، أتاحت تنقيبات حديثة إيضاح نقطة مهمة: تكشف الأحرام عن زخرفة معمارية محدودة جدًّا. في معبد «برآن» الكبير مثلًا، ليست الأعمدة مزينة إلا بتيجان على شكل أطراف لبنات غير حقيقية (كاذبة)، بينما لم تزدن اللوحات المنقوشة إلا بصور تيوس جالسة. من المؤكد أن العناصر المشكلة من الجير الأبيض، والمرمر المعرق، والبازلت، والحجر الرملي صحراوي اللون، قد زادت اللوحات تنوعًا، كما أن التسجيلات، الملونة بالأحمر غالبًا، واللوحات ذات النوافذ المعشّقة قد أسهمت في تجميل الصرح، غير أن الوحدة المعمارية بمجملها تبقى أكثر ميلًا إلى البساطة… وثمة شيء مميز أيضًا في الأحرام والقصور: وجود تماثيل برونزية، ومن بينها تمثال «معدي كرب» الذي اكتشف خلال التنقيبات التي جرت في حرم «مأرب» الكبير، ويتسم بوجهه الدقيق المحاط بشعر مرتب جيدًا وكتفه المغطى بجلد أسد، وقد حمل خنجرًا مثبتًا خلف حزام.
شبه الجزيرة العربية الشمالية والشرقية
في الشمال الغربي، في واحة «تيماء»، وأبعد إلى الجنوب، في واحات «مدائن صالح» و «العلا»، التصويرات البشرية الوحيدة هي نُصَيْبات جنائزية ذات وجوه تخطيطية، وعيون بيضوية أو مربعة الشكل، عليها اسم المتوفى أحيانًا. وفضلًا عن هذه النُّصَيْبات، أعطى المعبد البابلي الحديث القائم في قصر الحمراء، غير بعيد من «تيماء»، مذبحًا صغيرًا (كانت تقدم فيه القرابين والهبات الدينية)، ذا سطوح مزدانة بشخصيات محجبة ورموز دينية مختلفة (قرص مجنح، ونجمة…). في الطرف الشرقي من شبه الجزيرة العربية، شهد العصر الحديدي (النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد) بعض التمثيلات البشرية: تماثيل وجوهها صغيرة مشكلة من الطين المحروق وأختام. فيما بعد، بدءًا من القرن الرابع قبل الميلاد، وجدت تماثيل مصغرة أخرى تصور فرسانًا أو نساء في وضعية الجلوس، بعضها بأسلوب غير متقن إلى حد ما، وأخرى عبارة عن قولبات أو حتى مصنوعات إغريقية الإيحاءات.
في نهاية الأمر، تنزع التمثيلات البشرية، في شبه الجزيرة العربية كلها، نحو التبسيط العام. وتبدو الوجوه المصورة، كما الثياب، بعيدة من أن تكون طبق الأصل عن النموذج، كما لو أن الملامح العادية كانت كافية لتحديد جوهر الكائن، وكما لو أن القيمة الدينية أو الجنائزية تعلو على واقعية الشخصيات. مع ذلك، يبقى هذا الفن مقتصرًا على المنحوتات الجنائزية وتماثيل الطين المشوي الصغيرة أو البرونزية.
التأثيرات الخارجية (القرن الثاني قبل الميلاد– القرن الميلادي الثالث)
عند منعطف التاريخ الميلادي، بدا أن شبه الجزيرة العربية قد دخلتها تيارات جديدة. في الغرب، أتاحت الملاحة في البحر الأحمر، التي سرعان ما نمت وتطورت، دخول منتجات أجنبية ومن ثم أذواق جديدة. كان الرومان قد وسعوا سيطرتهم، إلى حد أنهم حاولوا عام 24 ق. م. الاستيلاء على «العربية السعيدة»، الجنوبية، المنتجة للبخور. وفي الشرق، كان بحارة الإسكندر، والتجار الفرثيون، ثم التدمريون يترددون إلى مرافئ الخليج العربي. وفي الوسط، كانت طرق القوافل الكبرى تعبر الصحارى من الشرق إلى الغرب، عبر قرية «الفاو»، و«ليلى» و«السليل» و«الخرج»… كان ثمة فنانون يرتحلون في شبه الجزيرة هذه كلها، ويضعون أنفسهم بعض الوقت في خدمة أمراء محليين، ويدربون تلامذة. وفي الوقت نفسه، راحت قوالب التماثيل، والأشياء الصغيرة، والحُلُيّ تُتداول من ورشة إلى ورشة، والنقود من مدينة إلى أخرى. وأخذت قواعد الأساليب تتجدد بعمق، وازدهرت أشكال فنية جديدة. إلا أن هذه الأشكال بدت محصورة جغرافيًّا بأطراف شبه الجزيرة العربية، بالمعنى الأوسع للعبارة؛ ولم يبد وسطها، المعزول، أنه قد شهد كثيرًا من هذا الفيض الفني. وكان التنقيب في قرية «الفاو»، على مسافة 280 كم شمال «نجران»، قد بدأ يكشف عن تلك التيارات الكبرى.
نحت التماثيل البرونزية واحد من أشكال الفن التقليدية التي تطورت على نحو أسرع من الأخرى؛ كميًّا في البداية، على ما يبدو. عمل صانعو البرونزيات العرب الجنوبيون على تقليد ما أنتجته الإمبراطورية الرومانية، بأعداد كبيرة، تماثيل نُصُبية، وأخرى صغيرة. ويبدو هذا الازدياد في الإنتاج مؤكدًا اليوم بنتيجة التنقيبات. وترافق هذا التنامي في الكم بتطور في المستوى. لقد أراد أولئك الفنانون، الذين افتقروا إلى تقاليد فنية عميقة الجذور، «مجاراة أذواق العصر»، حتى إنهم ألبسوا شخصياتهم ثيابًا «غربية» الطراز أحيانًا، جلابيبَ إغريقية– رومانية أو أردية ذات طيات، عريضة بهذا القدر أو ذاك. وعلى العكس، لم يشهد النحت الحجري كثيرًا من التجديد، ولم يصل مطلقًا إلى إتقان ورشاقة حركات التماثيل الإغريقية، سوى تماثيل ملوك مملكة «أوسان» (في الجنوب) الثلاثة المتعاقبين على حكمها، التي تنم عن بعض التطور.
مشاهد الصيد
إن كان الصيادون شبه نادرين في التصويرات القديمة لشبه الجزيرة العربية الجنوبية، في مأرب أم في الجوف على حد سواء، فإننا نجدهم أكثر عددًا في شبه الجزيرة كلها منذ القرن الثاني– القرن الأول قبل الميلاد، لكن لا بد أن نرى أن ذلك كان نتيجة مباشرة لازدهار الفكر والعادات والأساليب الإغريقية في ذلك الزمن.
وهكذا، نجد تمثيلًا لصيادين يزينون قصعتين برونزيتين، إحداهما من «مليحة» (شبه الجزيرة العمانية) وأخرى من «ضُراء» (اليمن)، وينسب تاريخهما، على التوالي، إلى القرن الثاني– القرن الأول قبل الميلاد (؟) والقرن الثاني– القرن الثالث بعد الميلاد. تُظهر القصعة الأولى شخصين، أحدهما على حصان، مسلحًا برمح ويرتدي جلبابًا مموَّجًا، ويمتطي الآخر جملًا، وغير مسلح، ويرتدي سروالًا (؟). وتزدان القصعة اليمنية بصورة نبّاليْنِ يحيطان بجمل مبردع، ضمن زخرفة نباتية غنية. وتجدر الإشارة إلى أن التصويرات لم تقتصر على الجمال، بل كان هناك وجود مشترك لخيول وجمال، وكان هذا شائعًا في شبه الجزيرة العربية حتى عند بداية العصر الميلادي. لكن في المقابل نلحظ وجود تصوير لنوعين من التجهيزات والأعتدة والأزياء، ويمكن تفسير ذلك على أنه نتيجة لتقاليد محلية مختلفة.
ليس من السهل كثيرًا تحديد أصل الأشياء التي عرضناها آنفًا: هنالك نتاجات هامشية (أو محلية أخرى) لا تشبه أعمالًا أكثر كلاسيكية، وحرفيون من مقاطعات محلية، غير «أجانب»، أبدعوا، ونسخوا قطعًا فنية مستوردة.
التماثيل الصغيرة
تنطوي بعض التماثيل البرونزية الصغيرة لشبه الجزيرة العربية الجنوبية، كما الشرقية، على ملامح مشتركة. تذكر أولًا تماثيل الفرسان، ذات الأحجام المتباينة جدًّا، وكذلك رؤوس الخيل والأكباش كلها، المجردة من الآذان، التي وُجِدَت في «دورا» كما في «الدور». وتذكرنا تماثيل نصفية أنثوية اكتُشفت في عُمان، عبر تشكيلات محلية احتمالًا لكن بتأثيرات هلنستية غير مؤكدة، بمثيلاتها الأنثوية ذات الجلابيب الفضفاضة المزينة بالثنيات التي اكتشفت في اليمن. ومن دون الدخول في تحليل هذه القطع كلها، لا بد من النظر إليها هي أيضًا على أنها نتاجات مصاغية محلية جاءت تقليدًا لنماذج سادت في هذه البقعة كلها من أرض شبه الجزيرة العربية. لنشر أخيرًا إلى تلك القطع النقدية المزينة التي تميزت بالعديد من أنماط التمثيلات والملابس، والتي راجت في كل أنحاء تلك المناطق.
في الختام، تكفي قائمة نتاجات شبه الجزيرة العربية هذه، التي لا يتسع هذا الحيز الضيق هنا لتبيانها كلها، لرسم لوحة عامة حول التصويرات البشرية فيها. إلا أنها لوحة بالغة التنوع والتباين.
عن كتاب «الصورة في العالم العربي» لجان فرانسوا كليمان وجيلبرت بوجي.
- L`Image dans le monde arabe
- Sous la direction de G. Beaugé et de J.- F. Clément
- CNRS Éditions, Paris – France, 1995