الأنوثة بوصفها مفهومًا ثقافيًّا.. قراءة ثقافية
تتشكل الأدوار الاجتماعية في جميع المجتمعات الإنسانية ثقافيًّا، ثم تفرض على الأفراد تلقائيًّا، حيث يتوقع المجتمع التزام كل فرد من أفراده تبعًا لجنسه بتلك الأدوار وما تحمله من قيمٍ وسلوكيات. وبشكل غير واعٍ يتبنى الأفراد، عبر التنشئة الاجتماعية، هذه الأدوار وما تفرضه من الحقوق والواجبات والأعراف والممارسات الثقافية أو القانونية التي تضمن لهم -إن امتثلوا لها- مكانتهم وتسمح لهم بأن يكونوا مقبولين في الوسط الاجتماعي. فبحسب دوركايم ينقل كل مجتمع عبر التربية مجموع المعايير الاجتماعية والثقافية التي يجدون أنفسهم ملزمين على تبنيها؛ لكي يحقق التضامن مع أعضاء المجتمع.
الطبيعة وتأنيث الجسد
من جهة، ارتبط دور المرأة الاجتماعي في أحيان كثيرة بالوظائف الطبيعية لجسدها، أي بالحمل والولادة وعملية حفظ النوع والاستمرارية البشرية، وهو ما يجعل الجسد في هذه الحال ظاهرة اجتماعية وثقافية فُرضت عليه حقوق وواجبات مرتبطة بما يتوقعه المجتمع منه، ومن ثم أصبح الجسد للمرأة رأس مالٍ اجتماعيًّا وثقافيًّا؛ لارتباطه بمكانتها الاجتماعية، حيث أصبح الزواج والتناسل طقسًا للعبور إلى ثقافة المجموعة والاندماج بها.
وهكذا لم تعد الأنوثة صفةً طبيعيةً وبيولوجية لجسد المرأة بل مفهومًا وبنية ثقافية شكلتها الثقافة عبر التصورات التي ربطت قيمة الجسد الأنثوي بصفات الخصوبة ومنح الحياة، وهي رواسب المعتقدات الدينية الوثنية القديمة التي ربطت الأنوثة بالطبيعة ووجدت في الأرض تجسيدًا للأنوثة، «فتوحد المرأة مع الطبيعة كان توحدًا شاملًا في عصور ما قبل التاريخ؛ إذ نجد في مجتمعات الصيد أو الزراعة المعتمدة على الطبيعة أن الأنثوية كان محتفى بها وتمجَّد كأساس للخصوبة»، وإذا «كانت الأم الكبرى هي مصدر الأشياء وسند الأحياء، ومالئة الكون بالخصب وأسباب النماء (…) لعل أكثر مظاهر الكون تجسيدًا للأم الكبرى هي الأرض، فالأرض هي الأم الحقيقية للإنسان ولجميع مظاهر الحياة عليها، من بطنها تخرج عشبًا وزرعًا وشجرًا، حياة للإنسان والحيوان (…) ومن هنا كانت تماثيل عشتار توضح صلتها بهذه الأرض (…) تعطي الناظر إحساسًا بالوحدة بين التمثال والأرض، وذوبان الواحد في الآخر».
كما قدّس العرب بعض أنواع الأشجار لمعتقداتهم الأسطورية عنها، ولما ترمز إليه لكونها أنثى الطبيعة التي تدل على النماء والخصب، فخصّوها بجملة من الأعمال الطقوسية مثل تعليق الأسلحة والحليّ عليها، وقد كنّى العرب عن المرأة بالسرحة وهي الشجرة. «قال الأزهري: العربُ تكني عن المرأة بالسرحة النابتة على الماء؛ ومنه قوله:
يَا سَرْحةَ الماءِ قَدْ سُدَّتْ موارِدُه…
أَما إِليكِ طريقٌ غيرُ مسْدُودِ
لحائمٍ حامَ حَتَّى لَا حَراكَ بِهِ…
مُحَلَّإٍ عَنْ طريقِ الوِرْدِ، مَرْدودِ
كنّى بالسرحةِ النابتة على الماء عن المرأة لأنها حينئذ أحسن ما تكون». هكذا لا تُفهم المرأة إلا كرمز تشكّل خارجها، فليس من الغريب إذن أن تعرّف الثقافة التأنيث الحقيقي بالذي: «يلد ويتناسل، ولو من طريق البيض». هكذا تتعقل المفاهيم وتصبح طبيعية وبدهية لِتُشَرعِن الهيمنة الثقافية على الجسد المؤنث بحصر أنوثة المرأة بطبيعتها البيولوجية التي أصبحت مثقلة بالتصورات والتمثيلات حتى غدت بناءً اجتماعيًّا ثقافيًّا مصنوعًا من الثقافة ذاتها.
وهكذا لا يتأنث الجسد لمجرد أن صاحبته أنثى ولا يتحصّل على مكانته في المجتمع إلا عندما يقوم بدوره الاجتماعي المحصور مسبقًا بالوظيفة الإنجابية. فلا يستحق الجسد التأنيث إلا «للكاملة من النساء»، أي حين يتصف بصفات الأنوثة المعتبرة بالثقافة. ولما حُصرت مكانة المرأة بدورها الاجتماعي وقيمة الجسد الأنثوي بوظيفته الإنجابية، كان خروج الجسد من هذا النسق سببًا لفرض العقوبات عليه بالإقصاء أو التهميش أو الانتقاص، فيجرد من أنوثته، ثم يصبح عالةً وعبئًا اجتماعيًّا، «فالعازبون والأزواج الذين لم ينجبوا يُفترضون هامشيين أو عديمي الأهمية». وعندما يصبح الجسد المؤنث جسدًا غير فعّال وغير وظيفي تصبح هناك رغبة ثقافية معلنة للتخلص منه. حيث يرتبط رمزيًّا بالموت والذبول، ففي إفريقيا مثلًا كان السكّان يبعدون المرأة العاقر ظنًّا منهم أن عَدْوَاها تنتقل إلى الحقول فتُصاب هي الأخرى بالعقم، على عكس إذا أنجبت المرأة توأمًا فإنه تُقام لأجلها الطقوس بهدف نقل القدرة الإنتاجية منها للأشجار.
لذا فكون المرأة عاقرًا أو غير متزوجة في سنّ الزواج المتعارف عليه في المجتمع يُعرّضها لأنواع من العنف الرمزي، ابتداءً باللغة حيث توصف بـ«البائرة» و«العانس»، والبائرُ في اللغة: «الفاسد الذي لا خير فيه، وأرضٌ بائرَة: متروكةٌ من أن يُزرع فيها»، فالمتزوجة العاقر الفاسدة التي لا خير فيها، وغير المتزوجة متروكة ومرغوب عنها ولا خير فيها و«عانس».
والعانس تطلق في اللغة على المرأة والرجل، وتعني «الذي يبقى زمانًا بعد أن يُدرك لا يتزوج، وأكثر ما يستعمل في النساء. قال: عنست المرأة، فهي عانس، وعنّست، فهي مُعَنِّسَة إذا كبرت وعجزت في بيت أبويها. قال الجوهري: عنست الجارية تعنس إذا طال مكثها في منزل أهلها بعد إدراكها حتى خرجت من عداد الأبكار، هذا ما لم تتزوج، فإن تزوجت مرة فلا يقال عنست».
الوأد الثقافي
هكذا تكتسب الأنوثة دلالة رمزية تمررها الثقافة عبر اللغة، والفرد إنما يكتسب ثقافة جماعته عبر اللغة، فاللغة بطبيعتها تنتمي إلى مجموعة كبرى من الأنظمة الرمزية التي تتألف منها الثقافة؛ من بينها الفن والأساطير وغير ذلك من الطقوس والمواضعات الاجتماعية. ولأجل هذا يشدد علماء الاجتماع، من أمثال بورديو، على أهمية اللغة ليس كنظامٍ مستقل، بل كنظام تحدده العمليات الاجتماعية والسياسية الناشطة ذلك أن الرؤية المركزية تفرض نفسها عادة على أنها محايدة وأنها ليست بحاجة إلى أن تعلن عن نفسها في خطاب يهدف لشرعنتها، إلا أن النظام الاجتماعي يشتغل بوصفه آلة رمزية هائلة تصادق على الهيمنة المركزية التي يتأسس عليها. هكذا تصوغ الثقافة الوعي الجمعي الذي يتشكل في كل مجتمع من التمثيلات الاجتماعية والمثل والقيم التي تُفرَض على الفرد. فالوعي الفردي مجرد طفل يتلقّى ما تمليه عليه الثقافة ويتفاعل معه تاريخيًّا واجتماعيًّا الأمر الذي يعزز لديه شعور الانتماء للجماعة.
حُصر مفهوم الأنوثة الثقافي في عمر المرأة؛ وذلك لارتباطه بقدرتها على الإنجاب في المحل الأول. وقد جاء في طبائع النساء لابن عبد ربه: «وآخر عمر المرأة شَرّ من أَوله يذهب جمَالها ويذرب لسانها وتعقم رَحمها ويسوء خلقهَا». هكذا تبقى النساء محبوسات داخل هذه الأسوار التي وضعتها الثقافة، «كما لو أن الأنوثة تُقاس بفن أن تجعل من نفسها صغيرة». نتيجة ذلك تصبح قضية العمر هاجسًا للمرأة، عملت الثقافة على تضخيمه وإعادة إنتاجه عبر مؤسساتها المختلفة مثل البيت والمدرسة ووسائل الإعلام وغيرها، وتحويله بجدٍّ إلى «كابوسٍ» حقيقي له وجود ماديّ يؤثر في المرأة في تشكيل ذاتها وهويتها ووعيها، وبخاصة المرأة العزباء، التي تبدأ عمرها صبية يافعة بوصفها كائنًا معروضًا للوأد الجاهلي فإن سلمت منه، تربص بها الوأد الثقافي. والزواج هنا هو الطريقة المثلى لتجنب هذا المصير ولتحقيق مكانة اجتماعية عبر التماهي مع ما تطلبه هذه الثقافة لتعزيز احترامها لنفسها أولًا وبين الجماعة وهو ما يسميه أكسل هونت «الصراع من أجل الاعتراف». فالثقافة تعطي الأم مكانة ممتازة في المجتمع وبخاصة إن كانت أُمًّا لذكور، ويستقر بها المقام في هذه الأمومة المبجلة حتى تدرك أنها بلغت عمرًا لم تعد فيه قادرة على الإنجاب «سن اليأس» أي سن «اللاأنوثة»، لتعود للهامش الذي بدأت منه، هكذا تصبح الأنوثة الثقافية قابلة للمنح والسلب، محصورة في مدة زمنية معينة، قد تطول وقد تقصر اعتمادًا على معطيات الجسد البيولوجية.
الخلاصة: لقد ظلت هذه الأفكار والاعتقادات والأيديولوجيات التي أحاطت بالمرأة مخبوءةً في زوايا الذاكرة الثقافية حيث تمارس هيمنتها وسلطتها على الأفراد، وتتحكم بسلوكياتهم وتنظيم عملياتهم الاجتماعية والنفسية لعقود؛ إلا أنها يمكن أن تُقهر بأسلحة الوعي والإرادة، فإن كان «المجتمع» جماعةً مرجعيَّة معيارية تضع قواعد السلوك فإنها لا تكون كذلك إلا عندما نضفي عليها أهميةً ومعنى.