بروكسيل تحت ظلال الحداثة
1
جاءت زياراتي إلى بروكسيل تلبية لدعوات متقطعة بين مدة وأخرى. زيارات لأيام معدودات، نشاط شعري أو ثقافي، ثم أغادر المدينة. هذه الزيارات أخذت تمتلئ، شيئًا فشيئًا، بما ألاحظه من حياة الناس والمكتبات، بالاستفسار عن أسماء وأمكنة وقضايا، بزيارة المتاحف، بالسير على الأقدام لساعات.
للمدينة حيويتها؛ ذلك أن الأوربيين اختاروا المدينة لتكون مقرًّا لمؤسسات اتحادهم. إنها العاصمة السياسية لأوربا. هنا البرلمان الأوربي، وهنا يصنع القرار الجماعي بشأن الاقتصاد، عبر مجموع دول الاتحاد الأوربي. وجود مقر الاتحاد والإدارات الملحقة في مركز المدينة لا يروق البروكسيليين دائمًا. العولمة تدخل إلى بروكسيل محفوفة بطبول الاقتصاد. طوابق عمارات يزداد علوها. ازدحام السيارات. والضجيج، الضجيج.
2
كانت زيارتي الأولى إلى بروكسيل في ربيع سنة 1996م، صحبة برنار نويل والموسيقي المغربي أحمد الصياد. كنا جميعًا مدعوين إلى مهرجان الموسيقا أرْس Ars Musica. مع برنار اكتشفت بائعي الكتب المستعملة، وبخاصة الكتب الفنية في رواق بُورتيي Galerie Bortier، الواقع في مركز المدينة. عمارة تعود إلى القرن التاسع عشر. الواجهة من فن الباروك. ندخل إلى مكتبات، نقضي وقتًا طويلًا. وعند المغادرة كان كل واحد منا راكم مجموعة من الكتب النادرة، وبثمن نقدر على أدائه.
هذا الاكتشاف علّمني أن أعود، مع كل زيارة، إلى البحث عن مكتبات الكتب والمطبوعات المستعملة. مكتبات موزعة بين أحياء قديمة. ومنها ما يوجد في السوق الشعبي بساحة جو دي بال Place jeu du bal. أطلب سيارة أجرة. أتوجه إلى السوق. وهناك أقضي ساعات. كتب عن الفنون من جميع الأزمنة، موزعة بين معروضات البائعين أو في متاجر. وقريبًا من وسط المدينة القديمة، مكتبات من الصنف ذاته تفاجئك وأنت تمشي.
3
تشكل الأروقة الملكية سان هوبير تحفة معمارية، من حيث الاتساع ونوعية الرخام المستعمل وأشكال تطويع الحديد وامتداد السقف الزجاجي. ضوء خفيف، كأنه موسيقا تنبعث من كمنجة عتيقة. أروقة من تقاليد الأسواق التجارية الأوربية. من هذه الأروقة كان فرلين اشترى المسدس الذي أطلق منه رصاصتين على رامبو، فأصابت إحداهما معْصم يده اليسرى.
توجد في الأروقة مكتبتان فريدتان. الأولى مكتبة تروبّيزم، العريقة، والثانية مكتبة سان هوبير، المختصة بالكتب الفنية. ثم متحف الآداب والوثائق. تروبيزم. مكتبة – متحف. لا تعرف أتأسرك الكتب في البداية أم جمال معمار المكتبة؟ هما معًا؟ بالتأكيد، هي مكتبة تدل على معنى الكتاب في حياة البروكسيليين، وعلى ما كان لهم من شغف بالتأنق في عرضه على القراء وتقديمه لهم كأرفع ما يمكن أن يحصلوا عليه لأنفسهم وأقربائهم وأصدقائهم. عرض الكتب هنا ينافس عرض القطع الفنية، في أروقة ومتاحف. مساحة العرض. السند. الإضاءة. جسد من ورق وكلمات. تلك متعة العين التي ترى وتعشق ما ترى لتقبل على القراءة.
4
من هذه الأروقة إلى الساحة الكبرى للمدينة. عادتي أن أنوّع الطريق إليها. فالدخول إلى هذه الساحة يمثل، بالنسبة لي، وصولًا إلى ساحة أوبرا مفتوحة. لا أريد أن أقول قاعة، بل ساحة أوبرا. طرق من نواح تحيط بالساحة.
هذا المكان مسكون بأطياف الحداثة وبتاريخ الحرية. في هذا المكان أقام ماركس وصديقه إنغلز، كلاجئين سياسيّيْن، من فبراير 1845م إلى مارس 1848م، وكتبَا أشهر بيان ثوري في تاريخ البشرية؛ البيان الشيوعي. ومن الواجهة اليسرى، في البيت الذي يحمل اليوم اسم «بيت أنطوان»، اختار فيكتور هوغو أن يقيم منفيًّا من تلقاء نفسه سنة 1852م. مسكنان يكادان يحتلان موقعين متقابلين. كل منهما ينظر إلى الآخر، حتى بعد مضيّ أكثر من قرن ونصف. فماذا يقول اليوم كل منهما للآخر وهما يلاحظان ما تؤول إليه في بروكسيل أفكار الحداثة وقيمها؟
زائرو هذا المكان اليوم سياح منهمكون في ارتياد المقاهي وتسوّق الشوكولاته. كوديفا. نيوهاوس. بور روايال. نساء ورجال يغادرون المحلات التجارية وهم يتباهون بعُلب الشوكولاته. السرُّ كله في التعليب والتغليف. إلى جانب السياح، شبان يتكلمون العربية المغربية. يجلسون فوق مقدمة درج البنايات أو يقعدون فوق الأرض مباشرة. يلتقون للّهْو، وربما لتزجية الوقت في مكان يمنح متعة الفرجة للجميع.
5
خلال زيارتي الأخيرة، في 2012م، قدمت يوم 27 نوفمبر محاضرة، بدعوة من جمعية «لقاءات منتصف النهار الشعرية». أقيمت المحاضرة في قاعة متوسطة الحجم بالمتاحف الملكية للفنون الجميلة. جمهور هذا النشاط الشعري وفيٌّ، منضبط، شغوف، يؤدي ثمنًا مقابل المحاضرة، يملأ القاعة بكاملها. يواظب على الحضور كل ثلاثاء من أكتوبر حتى يونيو، منذ 1947م، ابتداءً من الثانية عشرة وأربعين دقيقة حتى الواحدة والنصف، ليتتبع محاضرة عن الشعر، ثم يمضي كل واحد إلى عمله أو إلى سبيله. موعد المحاضرات لا يتبدل. والمكان دائمًا هو نفسه، القاعة الصغرى للمحاضرات، داخل المتاحف.
هذه المتاحف من معالم بروكسيل. لكن إلى جانبها متحف متفرد، من أربعة طوابق، مخصص لأكبر فنان تشكيلي بلجيكي حديث، روني ماغريت. ورغم أن أعمالًا مرجعية لا تتوافر في المتحف، فإن ما هو معروض يعكس ما اتسمت به أعمال ماغريت من تجربة خارجة عن التصنيف المعتاد له ضمن السوريالية. فجرأته الفنية هي التي جعلت ميشيل فوكو يكتب كتيبًا عن لوحته «هذا ليس غليونًا»، أو يكتب برنار نويل كتيبًا أيضًا يحمل عنوان «ماغريت»، يتناول فيه عملًا آخر هو «عطلة هيغل»، أو ديديي أوتانغر «اسم غليون!». إنْ كان ماغريت تقاطع مع السورياليين في مدة محدودة فهو مستقل بذاته. أستمتع بهذا المتحف المصمم وفق جمالية العتمة والضوء، أو الاختفاء والظهور.
6
ثمة مركز فني وحديقة. سهرات وعروض غنائية ومسرحية على امتداد السنة في المركز الفني، الذي لا تعلن عنه أي علامة أو إشارة. الملصقات وحدها تدلك على حركة تتبيّـنها في الداخل. بائعون يبسطون فوق طاولاتهم المشتركة كتبًا أدبية وسياسية ثورية من أوربا وأميركا اللاتينية وإفريقيا. يعرضون أسطوانات الموسيقا وفيديو الأفلام. مطعم في نهاية البناية، يرتاده طلاب وفنانون. مكان للقاء قبل الحفلات الموسيقية أو العروض المسرحية وبعدهما.
ويلي المركز حديقة التجارب الزراعية. تطل من فوق على صفوف من جمال الطبيعة. تصميم الحديقة يراعي مستويات أرضية، في الوسط نافورة، والنباتات موزعة بطريقة هندسية تحترم تقسيم المساحات المزروعة إلى وحدات متساوية ومتقابلة، يحكمها منظور عقلاني. بروكسيل مدينة الحدائق. وهذه الحدائق تجسد رؤية أوربية حديثة إلى مكانة الحديقة في جميع نواحي المدينة.
7
بروكسيل تتفـيأ ظلال الحداثة وتتسرب إلى زمن ما بعد الحداثة. مدينة صغيرة، تجري نحو كل الاتجاهات بقدمين هوائيتين. أجلس في مقهى «خمارة الممر» Taverne du passage، داخل الأروقة الملكية سانت هوبير، أفتح الكتاب وأقرأ المقطع الأول من قصيدة بول فرلين «الخريف وجنيُ العنب»:
أشياءٌ تغنّي في الرّأسِ
فيما الذاكرةُ غابتْ
أنْصتُوا، إنه دمُنا الذي يُغنّي
أيتُها المُوسيقَا البَعيدةُ وَالكتُومَة!