رئيس المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر صالح بلعيد: يجب نزع القدسية عن اللغة العربية وتطويرها بمشروعات كبرى
يُدير الدكتور صالح بلعيد، منذ سنوات طويلة، المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر، وهو هيئة استشارية تتبعُ رئاسة الجمهورية، من مهامها ترقية اللغة العربية واستعمالاتها. ودأب هذا المجلس على تنويع نشاطه وتوسيعه ليشمل كل ما من شأنه الدفع بلغة الضاد لتكون صاحبة صوت مسموع في الخريطة اللغوية في الجزائر التي تعرضت لمسخ هويتها عبر التاريخ الطويل للاستعمار الفرنسي (1830/1962م) بهدف اقتلاع الجزائر من امتدادها العربي الإسلامي، وتوجيه بوصلتها إلى الغرب لتكون تابعة لفرنسا؛ وهو ما دفع أحد رجالات الإصلاح الجزائريين، وهو العلّامة الشيخ عبدالحميد بن باديس (1889/ 1940م)، ليقول مدافعًا عن الهوية الجزائرية: «إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة من فرنسا كل البعد؛ في لغتها، وفي أخلاقها، وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج ولها وطن معيّن هو الوطن الجزائري».
في هذا الحوار، الذي خصّ به مجلة «الفيصل»، يعود الدكتور صالح بلعيد إلى جملة من القضايا ذات العلاقة بواقع اللغة العربية في الوطن العربي، وفي الجزائر، على وجه التحديد.
العربية في عالم متغير
● تعرف الخريطة اللغوية عبر العالم تغيُّرات ملحوظة ومحسوسة، واللغة العربية، ليست في منأى عن أن تكون واحدة من اللغات التي وجب عليها التكيُّف مع هذه المتغيرات، كيف تنظرون إلى واقع اللغة العربية في الوطن العربي، وفي المشهد اللغوي العالمي؟
■ الدساتير العربية كلها تعطي اللغة العربية أهمية كبرى، وتضعها، لغة وطنية ورسمية، ضمن المواد الأولى من نصوص تلك الدساتير؛ بما في ذلك الدول التي لها لغات محلية، على غرار الجزائر، والصومال، وتشاد، والمغرب، وسوريا. ولهذا، لا مشكلة من ناحية النصوص. كما أن القرآن الكريم أعلى من مقام اللغة العربية.
ومع دول الاستقلال، عرفت اللغة العربية تطوُّرًا؛ لأنها عاشت خمسة قرون من البيات والكمون، وذلك منذ 1798م، تاريخ ظهور الحضارة الغربية، مع ثورة البخار، فكان أن ارتفع، في كل الدول العربية تقريبًا، الاهتمامُ بالتعريب، والمصطلح، وتعميم استعمال اللُّغة العربية. ومع ظهور العولمة، (1980- 2010م)، عرفت اللغة العربية انتكاسة لاستقواء اللغات الأجنبية بالتقانات المعاصرة، والحوامل التقنية (الإعلام الآلي، وشبكة الإنترنت)، التي أسهمت في تعطيل العربية إلى حدٍّ ما.
وبقيت اللغة العربية تعرف الانتعاش على مستوى غير دولها (الدول غير الناطقة بالعربية)، مثل بنغلاديش، وماليزيا؛ لكونها تنظر إلى العربية على أساس ارتباطها بالدين، استنادًا إلى مقولة ابن القيم: «ما لا يُفهَمُ الواجبُ إلا به، فهو واجبٌ». وقد عملت جامعة الدول العربية على أن تنال اللغة العربية مقامها العالي؛ لأنها الماضي، والحاضر، والمستقبل، وأيضًا لأنه لا توجد أمة ارتقت بلغة أجنبية عنها. من هذا المنظور، ظهر التخطيط اللغوي الذي يتضمن السياسة التربوية، ووقع الاهتمام بها على مستوى التعليم، والإعلام. أما البحث العلمي فتُرك المجال فيه للغات الأجنبية (المشرق والخليج العربي، أنغلوفوني، والمغرب العربي، فرانكفوني).
ومنذ ظهور حقوق الإنسان، ظهر مصطلح الحق اللغوي ليُعزّز الاهتمام باللغة الأم، وهذا بقرار من الأمم المتحدة التي اعتمدت 21 فبراير يومًا عالميًّا للغة الأم؛ وهي اللُّغة التي يتكلّمُها الإنسان منذ الطفولة، ثم خصّصت الأمم المتحدة للغات الأممية الست (الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والروسية، والعربية، والصينية)، أيامًا عالمية. وفي عهد الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بان كي مون (2007-2016م)، خُصِّصَ تاريخ 18 ديسمبر يومًا للغة العربية، فعرفت لغة الضاد تقدُّمًا لم تعرفه لغةٌ أخرى، أدّى إلى ارتفاع عدد الدول التي تستعملها لغةً رسميةً (63 دولة)، كما اعتُمِدَت اللغة العربية في كل الوكالات التابعة للأمم المتحدة (21 وكالة)، ودخلت في الشبكة (الإنترنت)، وأيضًا في التطبيقات المعاصرة.
ومع كل هذا التطور، عرفت العربية بعض المضايقات والتحديات؛ من أهمها خصوصية العربية من حيث الكتابة من اليمين إلى اليسار، وتعدد الخطوط، وعدم وجود قاعدة رقمية (الذكاء الاصطناعي لا يفهم المخطوط لأن لديه كتابة مختلفة وليست آلية)، وخصوصية فقه اللغة، والإعراب، والشكل.
● يبدو أن هذه كلها معضلات وجب تجاوزها، ما الحل في رأيك؟
■ لا بد أن ينصبّ التفكير العربي على مجموعة من النقاط؛ أهمها الأخذ بالمبدأ العام الذي أخذت به كل الدول الناهضة (لم تتقدم أمة بلغة أجنبية)، والاستثمار في منظومة التربية والتعليم، والتعريب المرحلي عبر اعتماد مشروعات ترعاها الدول والمنظمات ذات العلاقة، مثل جامعة الدول العربية. وثانيًا، إيجاد حلول لمشكلة إنتاج المصطلح، والرفع من كفاءة العربية في التقانات المعاصرة. وثالثًا، التماهي مع المشروعات متوسطة وطويلة المدى التي تستند إلى مؤسسات وأفراد، وتحديد المدة الزمنية، والكلفة، والمراجعة، والتقويم، والنظر في كيفية التخلص من المشروعات الغربية في التعليم العالي التي فُرِضَتْ بدعوى العولمة، بما يكفل الحفاظ على الخصوصية.
مستقبل العربية في الجزائر
● تسعى الجزائر من خلال سن القوانين والتشريعات للحفاظ على مكانة اللغة العربية، وإعطائها المكانة اللائقة بها لغة رسمية أولى، كيف تقيّمون الجهود التي تقوم بها الجزائر في دعم اللغة العربية، وأيضًا في رسم خريطة لغوية نموذجية صالحة لاعتمادها في التعليم، وفي شؤون الحياة الاجتماعية المختلفة؟
■ الجزائر البلد الوحيد الذي تميّز ببعض الخصوصية؛ لأن نسبة الأمية وصلت في عهد الاحتلال الفرنسي إلى 97%، وهذا ما استدعى من السلطات أن تنطلق، مباشرة عند الاستقلال عام 1962م، من العدم. وقد عرف التعليم في الجزائر، في تلك المدة، تنوعًا في المعلمين، من مصريين، وسوريين، وفلسطينيين، حتى من بعض الدول الإفريقية، والآسيوية.
ومع ذلك، نجحت الجزائر في القضاء على الأمية، وإرساء قواعد منظومة تعليمية، على الرغم من كل العثرات، حيث حققت جملة من الأهداف الرئيسة؛ أهمها: التعريب التدريجي في المدرسة الجزائرية، ووصلت إلى نسبة جيدة في التحكم باللغة العربية. كما نصّت إصلاحات سنة 1971م على أن تكون للغة العربية قيمة كبيرة في التعليم، مع التركيز عليها في فرع الآداب في الجامعة. وأسّست أمرية 1976م للمدرسة الأساسية التي كانت ناجحة بنسبة كبيرة، كتابًا ومنهجًا.
الإصلاحات التي تمّت في تسعينيات القرن الماضي كانت مجزّأة، ولم تكن ناجحة بنسبة كبيرة. ثم جاءت مرحلة إصلاحات المجلس الأعلى للتربية، التي لم تر النور. وإصلاحات بن زاغو (2003- 2004م)، أعطت ضربة قوية للمنظومة التربوية في تدنّي المستوى. وإصلاحات الجيل الأول والثاني للمنظومة التربوية بداية من 2014م، صاحبها نظام (ليسانس، ماستر، دكتوراه) في الجامعة، لم تكن موفّقة.
● الملحوظ أن اللغة العربية كانت بخير في الجزائر، وأُصيبت في الظهر منذ عام 2003م. فما الحل أمام هذه الوضعية؟
■ المعاينة الأولية للواقع تؤكد أن إصلاحات 2003م، حملت بعض الإيجابيات، لكنها انطوت على كثير من الثغرات، ونحن بحاجة إلى منظومة تربوية علمية تكوينية بنظرة جديدة تتطلب سكة جديدة. والجزائر الجديدة التي يحاول الرئيس عبدالمجيد تبون إرساء دعائمها من خلال تعهداته الـ54 التي حملها برنامجه الانتخابي، تتضمن 11 تعهُّدًا لتحسين المنظومة التربوية، وذلك ببناء منظومة قيم، كما لا بدّ أن تهتم المنظومة التربوية بجوانب التكوين المهني والتمهين؛ إذ ليس من الضروري توجيه كل الطلبة إلى الجامعة، والتركيز على توجيه الطلبة بناءً على الرغبة، وليس على العلامات التي يتحصلون عليها.
ومن الأمور الإيجابية فرضُ اللغة الإنجليزية في مرحلة التعليم الابتدائي، وهو القرار الذي اتُّخِذَ هذا العام. كما على المشرّع في قطاع التربية أن يهتم بخلق أقطاب ومدارس الامتياز، بناءً على معايير دولية، وعلى الجامعة أن تنال فيها اللغة العربية نصيب الأسد في كل العلوم، من دون الانغلاق على الذات طبعًا، ويجب الخروج من مسألة «الوسيط اللغوي» الذي أدّى بنا إلى «القهر اللغوي» و«الخيانة اللغوية». كما على المخابر الجامعية أن تنفتح على اللغات، وأن تستثمر في اللغة العربية التي هي الأساس.
ونحن من موقعنا، كمجلس أعلى للغة العربية، نعمل على توفير الحرية في سوق اللغات بنزع القدسية عن اللغة العربية، والتفكير في تطويرها بمشروعات كبرى طويلة المدى في الرقمنة والذكاء الاصطناعي. نحن نحتاج إلى (إمام فعّال لا إمام قوّال)؛ أي أننا بحاجة إلى منتجي الأفكار من النخبة، وتفعيل النخبة الجزائرية التي غابت عن القيام بالمبادرة بسبب بعض الظروف؛ أهمها عدم وجود الدافعية للعمل. وبإمكاننا القضاء على ذلك الكسل أيضًا بإلقاء اللغة العربية إلى الشباب للنهوض بها وتطويرها.
لديّ كتابٌ تحت عنوان: «هكذا رقّى الفرنسيون لغتهم فهل نعتبر؟»، حاولتُ فيه مقاربة جهود الفرنسيين في تطوير لغتهم، حيث استمرُّوا في تطوير اللغة الفرنسية الفصيحة (لغة موليير)، وهم يُغدقون الأموال على الفرانكفونية، ويؤسّسون المدارس، ويبذلون المنح للطلبة لتنال اللغة الفرنسية الإشعاع خارج بلدها فرنسا. ونحن من جهتنا علينا النظر بعين التأمل في كل التجارب اللغوية الناجحة مثل تجارب فرنسا، وكوريا، وجنوب إفريقيا، وماليزيا.