بواسطة أحمد بوقري - ناقد سعودي | مايو 1, 2024 | قراءات
«جلجامش أين تهيم على وجهك
إن الحياة التي تنشدها لن تجدها
لم يسلك أحد الفانين هذا الطريق
ولن يقتحم الأهوال
ما دامت الريح تعصف بالبحر»
شدّتني هذه الرواية الحيوية الشائقة لأحمد الشويخات من سطرها الأول حتى سطرها الأخير. كأنني كنت أهيم على وجهي فعلًا بين أروقة السرد، أي كنت أتجول في غابة ثلاثية متشابكة من العوالم السردية. يأخذني تجوالي من الوقائعي الساخن (أرض العراق – ديفيد بوكاشيو)، إلى الوقائعي المؤسس البارد والقلق- (سان فرانسيسكو وعالم آل بوكاشيو شبه الأسطوري)، ثمّ ينتهي بي إلى الأسطوري الواقعي المرح (نزل القمر الخجول – رجب سمعان).
حين تنجح الرواية في تحقيق هذا التشويق تكون بذلك قد نجحت أولًا في تفجير متعة النص أو لذته في متلقيها، على حد قول رولان بارت، وفي الوقت ذاته، تلك المتعة ذاتها هي التي تنفتح في فضاء المشهد الروائي برمته في البحث عن المعنى أو اللامعنى، عن دلالاته المضمرة أو مضامينه المتعددة أو سبر حدوسات النص وضبابيته أو غياب دلالته، وتلك قراءة متأملة وبالتأكيد تختلف، أشد ما يكون الاختلاف، من متلقٍّ لآخر حسب ما هي عليه رؤيته أو وعيه الفني المعاصر أو موقفه الأيديولوجي.
في حب ملحمة جلجامش
أكثر ما شدني في الرواية، هو اتكاؤها شكلًا ومضمونًا على ثيمتها المحورية: الفقد بتجلياته المتعددة ومن خلال البحث عن سرّ الخلود، كما رامت إليه «ملحمة جلجامش» السومرية التي أعرف أن الشويخات كان مسكونًا ببعدها الأسطوري وعظمة لغتها ودلالاتها الفلسفية، في أحاديثه القديمة معنا وفي جلساته مع أصدقائه المقربين.
وقد وظفها توظيفًا فنيًّا مرهفًا في روايته هذه من خلال شخصية الرواية المركزية (المترجم والأديب الأميركي ديفيد) الذي ورث عن أمه صوفيا الحكاءة حب الأنهار والأساطير القديمة، والذي لو لم يكن هو أيضًا مسكونًا بها وبأسطوريتها وبحثها الإنساني عن سر الخلود، وينابيعها الشعرية واللغوية الخصبة وأجوائها من منبعها الأساس في أرض السواد، لما التحق بالجيش الأميركي الغازي للعراق «جنديًّا ثقافيًّا» -إذا جاز التعبير- مترجمًا متعاقدًا خائضًا تجربة الكشف عن قرب، مشبِعًا رغائبه المستديمة في الأسفار، ومتعرضًا لكل صنوف الغربة الروحية والمكانية، ومتحملًا على مضض لكل صنوف الصلف والجهل والمكائد الصغيرة من رؤسائه ضباط التحقيق، وموقفه المضمر، غير المعلن، من لا إنسانية الغزو الأميركي وغاياته الاستعمارية واللصوصية وجهله الثقافي.
كان ديفيد الأميركي المغرم بهذه الملحمة يعيد قراءتها كثيرًا، بل إنه وجد فيها «اكتشاف للحكمة وحث على قبول الحياة والعيش السعيد البسيط دون الوقوع في قلق الفناء وخشية الموت، الأمر الذي يعطل الحياة نفسها».
كما لا بد أن أنوه أيضًا بالحنكة الروائية التي كتب بها الشويخات هذا النص الأدبي والتقنية السينمائية التي استخدمها الكاتب في بناء مشاهد الرواية ووحداتها البنائية، والانتقال برشاقة من مشهدٍ لآخر بطريقة الفلاش باك: الاسترجاع، أو التقريب والتبعيد اللتين أجاد الكاتب في استخدامهما بحرفية عالية، وهو ما سنتبينه بالتفصيل في سياق قراءتي النقدية هذه.
معمارية المتن السردي كما في تاريخيته وأسطورته
في هذا العمل الإبداعي، «الأميركي الذي قرأ جلجامش»، لا يمكن الحديث عن معمار روائي متنامٍ ومتماسك وصلب (كتلة واحدة)، ويرتفع كالعمارة الهندسية رأسيًّا. وإنما يمكنني -وأنا أتوسل في هذه القراءة منهجًا قريبًا من التفكيكية، لا يبتعد من ظلال البنيوية التوليدية وبخاصة في تشكيلاتها لرؤية العالم ولرؤية الفن- أن أقول: إن هناك ثلاث وحدات بنائية في النص متنامية أفقيًّا في زمنيتها الفنية وفي زمنها الواقعي والنفسي، وعلى موقعها الجغرافي الثلاثي (العراق، البحرين، وسان فرانسيسكو). بنت الرواية معماريتها الأفقية المتعددة، ومن وشائجها وعلاقاتها المتشابكة تشكّل المكوّن السردي من بدئه إلى منتهاه.. حيث الحديث عن معمار روائي يحيلنا مباشرة إلى تلك الأعمال الروائية الكلاسيكية الكبرى التي يمضي فيها السرد في منطقه التعاقبي صعودًا نحو ذروته أو نهايته، بحيث يشكل كل طبقة في البناء مدماكًا للطبقة التي تليها. نجد ذلك في عمل نجيب محفوظ في الثلاثية أو في «أولاد حارتنا» أو في أعمال روائية عالمية كبرى كـ«الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي أو «آنا كارنينا» لتولستوي وغيرها من الأعمال الروائية الملحمية القديمة والجديدة.
إذًا، المكونات البنيوية السردية في عمل الشويخات تتأسس فنيًّا على ثلاث جغرافيات وأمكنة، أي ثلاثة عوالم سردية/ وحدات بنيوية تستقل وحداتها الزمنية أو المكانية وتستفرد بأجوائها، وتسيطر عليها وشائج تاريخية ووقائعية عابرة تنتجها حركة وديناميات شخصيات الرواية التي أسست فيما بينها علاقات روائية تفاعلية جديدة ذات وشائج وخيوط إنسانية كانت بمنزلة اللُّحْمة لوحدات العمل الروائي البنيوية كله.
بمعنى أن التعاقب المنطقي في هذه العوالم السردية لا يستمر مطردًا كما هو في سياقاته، تخترقه بعض الانزياحات وبعض الاسترجاعات والذكريات والاستقطابات، كأن يتذكر المترجم ديفيد أمام وقفات الموت والأوجاع التي عايشها ما قاله صديقه رجب سمعان ذات مرة: «إن صيحة الولادة وشهقة الموت ترجمات كونية مكتفية بذاتها» لا تنفع معها اللغة. أو ما قاله رجب أيضًا: «الفن كرؤية وسرد هو الجذوة في صقيع الحياة، وهو الفعل الجميل ضد الخراب والخواء والوحدة». هذه الاسترجاعات القولية كمرجعية علائقية، هي بمنزلة تهيئة للكاميرا السردية لأن تنتقل في سياقات متلاحقة إلى وحدة سردية بنيوية أخرى، وعالم سردي قادم مكتمل له خيوطه لم يحن بعد أوانه.
ودائمًا ما يشكل التعاقب السردي المنطقي للحدث معمارية واحدة للنص إلا أننا هنا في هذا العمل الإبداعي نلحظ تشظي هذه التعاقبية في ثلاثية من البناءات أو الوحدات التقنية أعدها مكونات أساسية وعناصر منفصلة ومتصلة جماليًّا لبنية التشكيل السردي في انتظاماته وعلاقاته الروائية المتواشجة.
الوحدات البنيوية الثلاث التي شكلت عوالم الرواية
في العالم السردي الأول يبني السارد وحدة البناء الروائي الأولى فيقدم لنا الشخصية المركزية المترجم الأميركي- الإيطالي ديفيد بوكاشيو حفيد الروائي الإيطالي الكبير جيوفاني بوكاشيو صاحب «الديكاميرون»، كشخصية حيادية غير متورطة في فانتازيا القتل وحماقاته، وغير معنية بمطاردة أفراد المقاومة العراقية، إلا أنه على قدرٍ كبير من وعي المكان ووعي التاريخي، ووعي الإنسان في سياق هذا كله، أي وعي اللحظة المعاصرة المأزومة للعراق وتاريخه الثقافي والأسطوري. غير أن هذا الوعي المركّب يتحول في زمنٍ لاحق إلى وعي شقي، راوَحَ بين معنى تقديم الخدمة الوطنية الواجبة لجيشه الغازي، وبين معنى التعاطف الوجداني والتاريخي الحضاري مع الإنسان العراقي البسيط، الذي غالبًا ما كانت تشكّ فيه الآلة العسكرية الأميركية كفردٍ محتمل من أفراد المقاومة. وهي في ظني إشكالية عنصرية جاهلة وعمياء أثّرت في موقف ديفيد وسبّبت له حيرة تأملية، من اليقين المختلط بين العقلي والشعوري والوجداني والثقافي، وهو ما ترك أثرًا ملحوظًا وعكسيًّا في مواقف رؤسائه ضباط التحقيق، فيقع هو نفسه، ديفيد، تحت عدسة الشكِّ والغيرة والطمع والوهم، ومن ثمّ تحت مطرقة التحقيق الفانتازية نفسها، كما رأينا ذلك خاصة بعدما عاد وظهر حيًّا من رماده بعد هجوم المقاومة المباغت في آخر مهمة عسكرية شارك فيها، ومقتل كل رفاقه العسكريين في الوقت الذي اعتقد رؤساؤه أنه كان من ضمن القتلى.
حدث ظهوره من جديد كان فيه قدر كبير من الغرائبية وذو بعد أسطوري في أرض السواد، وهو ما سبب للضباط الأميركيين إرباكًا عمليًّا وصعودًا أكبر لمنسوب الشك والريبة في شخصية ديفيد وغموضه في التعاطف الوجداني مع المقاومة، فرأيناه يخضع بعد لأي هو ذاته «الجندي الأميركي» لسلسلة من التحقيقات الأولى الكوميدية في الغرفة نفسها رقم (٦) التي كان يحقق فيها أفراد المقاومة، أو المقبوض عليهم من الأفراد العراقيين البسطاء.
عندما نخرج من هذا العالم السردي الأول الساحر، تنقلنا كاميرا السارد بالأسلوب السينمائي الرشيق نفسه لا لندخل العالم السردي اللاحق (وحدة البنية السردية الثانية)، بل لندخل إلى فضاء العالم السردي الثالث (معمارية البنية السردية الثالثة) ذي العلاقة الحياتية العائلية للمترجم ديفيد، هناك في موطنه سان فرانسيسكو؛ كي ترجع ثانية إلى المعمارية الثانية في صورٍ متلاحقة.
ذكريات لا تُمحَى
في هذا العالم نتعرف إلى أسرة ديفيد في بيت آل بوكاشيو المكوّنة من أمه صوفيا، وزوجته لورا وصديقاتها، وعمه ليوناردو، موظف شركة أرامكو القديم، وزوجته مارغريت. ولعمه ذكريات لا تُمحى مع ديفيد عندما استضافه صيف ٧٧ في الظهران في برنامج عمل الطلاب الصيفي تحت إشرافه المباشر، بصفته مديرًا لدائرة الترفيه بالشركة، وتعرف ديفيد أثناءها إلى الشاب السعودي المثقف ذي الشخصية الفانتازية رجب سمعان الذي وجده متقاطعًا معه في اهتمامات متعددة منها (الثقافة والأدب والترجمة والفن)، وفي حب ملحمة جلجامش، ولعلي أؤجل هنا الحديث عن هذه العلاقة؛ لأنها تنتمي إلى عالم سردي ثالث مكونةً الوحدة البنيوية الثالثة للرواية، كما قلت.
وأرجع إلى عالم ديفيد الأسروي المدهش حيث الأم صوفيا قبل إصابتها بجلطة الدماغ وعالمها السحري: غرز التريكو النائمة على الكنبة، وحيث عالم تاريخ آل بوكاشيو الأدبي وعالم القبو أو الصومعة كما كان يسميها التي تحتشد بخزانات الميراث ورفوف الكتب وعالم الأم صوفيا وحكاياتها الليلية وهي تحوك سترات الصوف والجوارب ومفارش الطاولات، وعالم الزوجة الممرضة الصبورة الطيبة لورا، هذا العالم الدافئ المشعّ الذي كان يبتعد منه ديفيد كثيرًا لكثرة أسفاره، ولم تنته حتى بعد أن تزوج لورا فتاته المحبة لآل بوكاشيو حتى النخاع، إلا أن حنينها وشوقها كان يتوقّد لرجوعه حيًّا سالمًا وبخاصةً بعد علمه بمرض أمه. كانت لورا تنتظره عشرين عامًا حيًّا وهو الذي لا تنتهي أسفاره، وها هي تنتظره ميتًا بعد أن علمت بفقدانه في العراق.
كانت تنظر إليه كشاعر عاشق في بداية زواجهما وهو يقرأ لها مقاطع من ملحمة جلجامش، وكان يمتدح قوامها المتناسق، وكانت تشعر بروحه وحبه وتدفقه. كانت فخورة به كمثقف ومتذوق للفنون، وبعد سنواتٍ ست تغيرت طباعه وصار له مزاج صعب كمزاج آل بوكاشيو على حد قول أمه صوفيا، مستغرقًا في القبو ومنغمسًا في عالم الكتب. ومن بعدها بدأت أسفاره التي انتهت به إلى رحلة العراق جنديًّا مترجمًا مثقفًا. برغم كل ذلك كانت راضية مستسلمة بقدر ارتباطها بديفيد وبآل بوكاشيو. إنه نوع جدلي من الاتصال المنفصل في عالم أسرها بكل تناقضاته وغموضه.
في هذه الوحدة السردية تكشف لورا جزءًا كبيرًا من شخصية ديفيد المزاجية، هو مزيج من فلسفته الأحادية وطباعه القاسية الغرائبية، وبخاصة حين صارحها بعدم رغبته في الإنجاب معللًا ذلك برأي هو في قمة الأنانية والطرافة واللامعقول في آنٍ: «لن أنجب طفلًا إلى هذا العالم الشقي دون أن يطلب الطفل نفسه المجيء»!
وعلى الرغم من كل هذه العذابات والأوجاع النفسية وبُعد ديفيد منها نفسيًّا وجسديًّا، فإن لورا كانت متسامحة مع قدرها ولم تكن تحبذ الانفصال، بل كانت تحدث نفسها قبل صديقاتها، وتقول: «إن ديفيد وآل بوكاشيو قد أعادوا تشكيل عقلي وقلبي، وإني خلقت لأكون جزءًا من هذه العائلة إلى الأبد».
وتنتهي هذه الوحدة السردية، بأن كانت لورا تنتظر عودة ديفيد جثمانًا من أشلاء ورماد، لكن القدر أراد أن يرجع إليها حيًّا ميتًا كالفينيق المنبعث من رماده، لكن هل يعود فعلًا؟ هذا السؤال تركه السارد مفتوحًا من دون إجابة!
رجب سمعان حين يحب
في الفصل الخامس «طيور المرافئ»، الذي أعده من أجمل وأمتع فصول الرواية، وهو يشكل وحدة سردية صغيرة مستقلة بذاتها، تلخص الفكرة الفلسفية للعمل الأدبي. يلتقي ديفيد الشابُّ رجبَ سمعان لأول مرة في صيف ٧٧ على وقع أغاني كيني روجرز في مجمع الترفيه في شركة أرامكو بالظهران، ومن بعدها صارت الأحلام وذكرى الطفولة، وعشق البحر والأغاني والأدب والترجمة والشعر وملحمة جلجامش هي أحاديثهم العذبة الشهية المشتركة وما يجذبهما معًا كل يوم.
الشاب السعودي رجب فيلسوف في سمته، حكيم في مقولاته، وفي حركاته زورباوية معجونة من طينة غرائبية هي أقرب إلى رذاذ البحر «وغموض النور المرتعش في الماء العميق»، وضباب الفجر وصياح النوارس. حين يتكلم عن معنى الفقد فإنه غالبًا ما يفلسفه بطريقته الراقصة المدهشة، وحين يعجبه شيء ما يعبّر بصيحاته المرحة العالية:
«حبيبي البحر». «حبيبي الرجل الفلاح» (إشارة إلى أغنية لوسيل، للمغني الأميركي جيني روجرز)
«حبيبي لي باي» (إشارة إلى الشاعر الصيني). «حبيبي ديفيد»! «حبيبي العم ليوناردو».
يقول الراوي: «تلك طريقة رجب حين يعجب بشخص أو موقف أو مكان أو عمل أو طبق طعام أو فكرة فإنه يصيح: حبيبي… حبيبتي»، حتى إن بعضًا يغادر المكان فرارًا من لحظة جنونه. وحين يتفلسف رجب يقول لصديقه ديفيد: «ديفيد، كم مرة ظهر لنا البحر مختلفًا! كم لونًا رأيناه للبحر! وكم مرة خفقت أجنحة طيور المرافئ في أعيننا وأرواحنا!» وربما أعقبها بواحدة من صيحاته الجذلة: «حبيبتي الطيور.. حبيبتي المرافئ».
وفي واحدة من اقتراحات رجب لديفيد يأخذه إلى مغامرة البحث عن مكنزٍ للآثار والتماثيل والمجوهرات في إحدى جزر الخليج المحاطة بغابات النخيل، وهناك يُنصَب عليهما في وسط البحر بعد أن اشترى ديفيد تمثالًا دفع قيمته ألفي دولار من الرخام الأبيض من تاجر آثار. بدا التمثال لديفيد بأكتافه العريضة ولحيته الكثّة المجعّدة وشاربه المفتول والتفاف الأفعى حوله يصارعها للتخلص منها كأنه لـ«جلجامش».
سُرق التمثال منهما، ولكنْ رجب وعد ديفيد باسترجاعه يومًا ما، وهما يسترخيان في «نزل القمر الخجول» بالبحرين. وهو ما حدث بعد ثلاثين عامًا!
بعد ثلاثين عامًا يلوذ رجب إلى نزل القمر الخجول من جديد، بعد أن جرت عليه السنون بمضايقات المتشددين الدينيين المحاربين لأفكاره ولصوصية المستثمرين لأمواله، هاربًا من ديونه وإخفاقاته وزوجته وأولاده أيضًا، يعود إليه وتطول إقامته فيه لسنوات، حتى إنه سكن كل غرفة فيه وأقام علاقة صداقة مع كومار مدير الفندق الذي كان يتعاطف معه.
في الليالي كلها يغرق رجب في النبيذ وقول الشعر، ويطلق صيحات النوارس الغنائية من حنجرته وهو في شرفة غرفته: «حبيبتي الرياض… حبيبتي العلا… حبيبتي الصحراء… حبيبتي الأحساء… حبيبتي القطيف… حبيبتي سان فرانسيسكو…» وهكذا، حتى ظُنّ به الجنون، حين تكررت صيحاته الابتهاجية الليلية مسببةً الإزعاج لقاطني الفندق. وفي ليلة مكتملة الضياء يذهب رجب سمعان إلى البحر، يذهب حيث الضوء المرتعش في عمق الماء ويصبح هو الضوء الهارب إلى الأعماق.
يغرق رجب فهل هي بداية أسطوريته؟
وهنا تتجلى بالفعل هذه الأسطورية ومجازاتها حين يخرج من جوف البحر ناسفًا حقيقة غرقه ليدقّ، في خيالية عجائبية، باب آل بوكاشيو في سان فرانسيسكو معيدًا تمثال جلجامش الأثري الذي فقده ديفيد، قبل أن يعود ديفيد لبيته، وهو يخلق أسطورية الوجود أمام حالة الاندهاش العارمة التي تجتاح عائلة آل بوكاشيو.
تركيب فني غرائبي لا يخلو من الواقعية
إن الروائي هنا في واقع التخييل الضاغط في عالمه السردي، إنما يخلق قوانينه الخاصة المناقضة لقوانين الواقع، في حركية إشارية ذات أبعاد أيديولوجية؛ لاستعادة معنى الحياة، وترميز مفهوم الخلود وسرّه ومجازاته الحياتية التي تضمنتها ملحمة جلجامش، فلم يترك نصه ينساق ويستسلم إلى حقائق التاريخ ووقائعه، بل أقحمه في تخييلات الأسطوري وغير المألوف، وتوكيد مجازات معنى سر الخلود في أسطورة جلجامش من خلال إقدام السارد لهذا التركيب الفني الغرائبي.
تبدو لنا جدلية الغياب والحضور لكل من ديفيد ورجب كما رأينا في متن الرواية؛ الأول ينهض من رماده، والثاني يخرج من البحر. وقد يبدو السرد في هذه الرواية في سماته الواقعية وضمن منطق الأحداث شديد الانتماء إلى وقائعه التاريخية وزمنيته وشخوصه، إلّا أنه ينحو منحى الواقعي السحري في منعطفين سرديين كما رأينا، حين أراد السارد إعادة ديفيد إلى الحياة في لحظةٍ خارقة، لكن في سياق منطقي يبدو مقنعًا للمتلقي، حين برر ذلك بأنه كان في أحضان غابات النخيل بعيدًا من لهب الانفجار، وحين أراد أيضًا خروج رجب من جوف البحر في لحظة أسطورية وذهابه إلى فرانسيسكو ليدق باب آل بوكاشيو حاملًا معه تمثال جلجامش الخالد المسروق، قبل عودة ديفيد الثانية. وهي لحظة سردية أسطورية بامتياز عمّقت فكرة الخلود والانبعاث التي انطوت عليها أسطورة جلجامش ذاتها.
هذان الحدثان في الرواية في ظاهرهما يربكان الإدراك المنطقي للأشياء، ويضادان التصور الواقعي للمدرَكات على حد قول الناقد جابر عصفور، إلا أنهما مزج بين الحقيقي والخيالي. الحقيقي هو غيابهما، والخيالي هو أسطورية انبعاث ديفيد ورجب من جديد؛ لكونهما تمثيلًا دلاليًّا لفكرة جلجامش في سر الخلود.
هو إذًا هنا المتكلم العليم الخالق في الرواية، يدير التشكيل السردي برؤيته وحذقه للعبة الحكائية. إنه الشويخات ذاته كاتب النص منحازًا للفني والأسطوري والتخييلي كمجاز متخطيًا واقعيته حتى لو جاء عمله الإبداعي هذا متماسًّا مع الواقعي والسياسي والحياتي، فهو ينسج خيوطه بدأب ودقة تمامًا كما تفعل صوفيا وهي تغزل على التريكو قطعها الصوفية.. وهو هنا منتج لرؤيا في العالم ورؤيا في الفن ومنتج لخطاب فني موازٍ، كما يقول ميخائيل باختين في كتابه المهم: «الخطاب الروائي».
بواسطة أحمد بوقري - ناقد سعودي | نوفمبر 1, 2023 | قراءات
ثمة تحول سردي لوحظ في تجربة محمد علوان، خصوصًا في كتاباته القصصية الأخيرة. خرج من الزقاق الضيّق للقصة القصيرة ليقترب من أفق القصة القصيرة الطويلة أو (نوفيلا)، فكتب «المرتزقة» ثم «تهلل»، وكتب آخر نص له بعنوان «موز ريدة»، ورحل قبل أن يراه مطبوعًا، ولو طال به العمر لتوقعنا كتابته للرواية أو السيرة الروائية كما كان يُلمِح لي في أحاديثنا المشتركة.
أستدرك هنا لأقول: إن هذا النص الأخير كان يختزن طاقة روائية هائلة، وحشدًا من الحيوات والشخوص وصورًا من تناقضات وخرافات وميتافيزيقيات وكوميديات فكرة (الطرف والأصل) وخبايا الصراع التراتبي الطبقي بين (الزارع والصانع) والمالك للأرض. ولو أن الراحل علوان صبر على تدفق نصه وكان لديه الزمن الكافي لأتحفنا برواية مكتملة الأركان بأحداثها وتركيبها الفني والرؤيوي الخطابي الأكثر إقناعًا، لكنه الزمن الغادر وشبح الموت المتربّص الذي كمن له من قرب فخطفه منا ومن إبداعاته.
هذه النصوص السردية هي من تلك السرديات التي تعدّت في شريطها اللغوي حدود القصة القصيرة التقليدية تلك التي عرفنا من خلالها تجربة علوان الفنية غير التقليدية عبر عقود من إنتاجه، لتصل إلى حدود القصة القصيرة الطويلة كما كتبها يوسف إدريس في «العسكري الأسود» و«الحرام»، أو كتبها تشيكوف في بعضٍ من قصصه القصيرة الطويلة. ولعلني لا أبالغ لو أطلقت تسمية «الميني رواية»؛ لأن لكلٍّ منها وحدة وعي فنية متماسكة، وخطابًا روائيًّا مضمرًا أطلقه الكاتب في فضاء نصه.
من بئر الذاكرة القروية
تبني سردية «موز ريدة» خطابها الفني القصير بتؤدة من خلال الغرف من بئر الذاكرة القروية، والحكي العفوي العذب الأقرب إلى الحديث الشفوي المتعدد الأصوات؛ إذ إن القاص اختزن في وعيه الداخلي وذاكرته المكانية، حكايات طرية طازجة كأنها ما زالت ترعف في شرايينه وخلايا ذاكرته ووجدانه. وحين تنتهي الحكاية كلها هنا فهي لا تنتهي، لكنّ بناءها الخطابي يصل ذروته، فيتركها القاص بنهايتها المفتوحة للمتلقي؛ لأن الخطاب الروائي الذي شيّده هو لُحْمة وسَدَاةُ نصِّهِ، وهو وحدة رؤيته الكلية.
وربما من المفيد في تحليلي لهذا النص العلواني المتميز أن أقول: إن النص قام في الأساس على مرجعيتين اثنتين: مرجعية الحكاية القروية التي تنتسب لمكانها وزمانها وشخوصها، وإلى مرجعية خطابية زمنية تنتسب للدلالة الفنية وقناعات الكاتب ورؤيته المضمرة وأسلوبه في تحريك وضبط تشكيلية النص وتخومه بالصورة التي كتب بها، بعيدًا من أي موقف أيديولوجي له من خارج النسيج الفني. وأنا أعرف محمد علوان جيدًا فهو عندما يكتب نصوصه القصصية يكتبها بفطرية خالصة كما تجيء له، مادة خام من الأطراف البعيدة من الذاكرة ومن قاع اللاوعي، ويترك لها حرية التسرب من بين أصابعه معجونة بمعلّميته. وهي لا شك عند اكتمالها تخلق متخيّلها الفني وزمنيتها الخاصة وموقفها الأيديولوجي بالضرورة من داخل نسيج الحكي لا من خارجه.
في هذا النص نجد علوان، على شفافيته وتلقائيته في الامتياح من أقاصي الذاكرة، لم يبتعد كثيرًا من مهارات وفنيّات القصة القصيرة في حساسيتها المتقدة أو في اقتصاديات لغتها، والتعبير البسيط العفوي عن الحدث في تعاقبيته وانسيابه. أما التعدد الصوتي للحكي وسردية الضمير الغائب المتكلم، فقد منحها هذا البعد الروائي، والخطاب المضمر.
فما الحكاية القروية/ المرجعية، وكيف أعاد صياغتها علوان بطريقته التخييلية؟ وهل هناك مسافة ما بين واقع الحكاية وتخييلها من جديد كواقع افتراضي؟
يجمع كثير من النقاد على أن المسافة بين الواقع والتخييل في إعادة صياغة الحكاية هي مسافة زمنية لها أبعاد خطابية ومسافة نفسية لها أبعاد دلالية، بمعنى أن النص المكتوب ليس له مرجعية واحدة بل مرجعيتان؛ الأولى منهما تنتمي إلى العالم الخارجي، أما الثانية فتنتمي إلى العالم الداخلي للسارد نفسه، إلا أن النص واحدٌ وله هذه الجدلية المثمرة بين المرجعيتين، وهو ما تؤكده الناقدة اللبنانية رفيف رضا صيداوي؛ إذ تقول: «من الضرورة بمكان عدم الخضوع للإيهام الذي يوقعنا فيه النص التخييلي، وهو إيهام بأن هذا النص معزول عن «الواقع»، ولا سيما أن عنصر التخييل هذا يسمو به إلى ما هو فوق الواقع، وذلك على عكس النص التسجيلي الذي يغيب فيه عنصر التخييل وتغيب معه جدلية الداخل والخارج».
ففي نص علوان «موز ريدة» لا يداخلنا هذا الإيهام بأنه نص تسجيلي بالقدر نفسه الذي لا يداخلنا الإيهام الشكّي ذاته بأنه نص فوق واقعي. فحين نقرأ هذه السردية نجدها تمضي رشيقة سلسة بحيث لا يستغرق قراءتها أكثر من عشرين دقيقة. يحكي من خلاله السارد تاريخًا قرويًّا بأبعاده المكانية والنفسية في صفحاتٍ قليلة مكثفة.
والحكاية تبدأ هكذا:
مع البنت الصغيرة المملوحة التي أجمع أهلها على تسميتها «موز ريدة»؛ لأنها أجمل بنات الجبل، والقادمة من تخوم الطرف، من المرتبة الأدنى في المجتمع القروي الذين لا يملكون الأرض كالأصل، بل يعملون إمّا في فلاحة الحقول زرّاعًا أو في أعمال الحدادة صنّاعًا. تكبر الصغيرة ويشتدّ عودها، وتخرج للغابة تحتطب لبيت أهلها أو تغرف الماء من البئر، وهناك تلتقي موز ريدة مصادفةً شابًّا وسيمًا من تخوم الأصل، ومن قرية مجاورة من ملّاك الأرض تبادله شعور الإعجاب والحب وقد نضجت مشاعر أنوثتها بين أضلعها كما تنضج أصابع الموز وتفوح رائحتها الزكية، وعندما تمكّن حبه في قلبها افتضح أمرها، فقال أبوها لأمها ذات مساء في قلقٍ واضح: «منذ شهر لاحظت شابًّا من أهل القرية المجاورة يحاول التقرب من حبيبتنا موز، وأنت تعرفين الأمور التي لا تدركها. أومأت الأم برأسها موافقة، ثم أردفت بسؤال: وما هو الرأي؟».
يوسف إدريس
الأمر الذي لا تدركه موز هنا هو فكرة الأصل والطرف العتيدة التي تكون حائلًا بين تقارب العائلتين من القبيلة نفسها والتزاوج من بعضهما، وهي عادة بالية أدركت موزة كنهها لاحقًا، وضحكت على تناقضاتها، وطرحت السؤال القلق: «أليس الذي يملك صنعة أفضل من الآخر؟». ويلوذ أبوها بالصمت بلا إجابة؛ لأنه يدرك في قرارة نفسه صحة قولها. وتمضي الأيام ويرفض والد الشاب «الأصل» فكرة تزويجه من البنت «الطرف»، ويستنكف بقسوة أن يكون له ذلك. وفي الجانب الآخر، وخوفًا من الظنون والأسرار المتداولة بين نساء القريتين، يقبل والد موز طلب الرجل الكبير الذي تقدم له زوجًا لابنته، كأنها لحظة إنقاذ سانحة ليبعدها من طريق الشاب/ الأصل، وتقبل موز قرار أبيها على مضض تلبيةً لأخلاقياتها القروية وتعيش مع رجلها شهورًا قليلة من دون أن تمنحه جسدها، ويقدر هو بكل نبلٍ وحكمة شعورها المحب للشاب الذي قالت عنه ليلة عرسها: «هذا الجسد لن يناله سوى من أحببت».
وعدها بالانفصال بعد أشهر عدة إكرامًا لمشاعرها الصادقة، وتَتحرَّر منه، وتنفتح من جديد أمام وجهها أبواب الفرح، ويقترب منها الفتى، ويبث في رُوحها شعورًا قلقًا بالأمل والحيوية. ولعل لحظة تقشير الموزة قد أزفت. يلتقيان ذات يوم وتلومه لعدم الإفصاح عما يعتمل في داخله: «لماذا لا تبوح بحبك؟»، وهل ينفع البوح بشيء ووالده مستمر في عناده وموقفه القاسي من فكرة ارتباط الطرف بالأصل، رغم توسطات كبير القوم في القريتين؟
وتشاء الأقدار أن يذهب والده لتفقد شقيقته في مرضها ولم يدرك أن هناك فخًّا قدريًّا يعدّ له وسيُحدث في تفكيره انقلابًا جذريًّا، وأن الزمن كفيل بإحداث هذا التغيير كما تنبأ نائب القريتين. وهناك في بيت شقيقته يتعرف إلى مطلقة اسمها شهرة، محرومة من الإنجاب كانت تأتي لخدمتها وتمريضها. أعجب بها، ودخل حبها قلبه ففاتح أخته برغبته في الزواج منها. ضحكت أخته، ولما سألها: «لمَ هذه الضحكة!» ردّت عليه: «إلا، وبسبب يفاجئك كثيرًا… شهرة طرف».
صُدِم للوهلة الأولى، إلا أنه ضحك كثيرًا لهذه المفارقة، وحين قالت له شقيقته: «يوم زواجك وزواج ولدك في يوم واحد» غرقا في ضحك متواصل.
وهنا وصل التناقض الاجتماعي ذروته فانقطع القوس المشدود بين الأصل والطرف، والسبب هي شهرة. وهنا اكتمل الخطاب الفني للحكاية في تحقيق التوازن النفسي والاجتماعي في الوعي القروي المنقسم، كأن رؤية السارد تقول: إنه من دون هذا التوازن الفكري والأخلاقي والتناغم الاجتماعي، سيظل الوعي منقسمًا متشظّيًا في زمنيته ومؤثرًا سلبًا في سياق تطوره.
وهكذا انتهت الحكاية
وهكذا برع قاصنا الفذّ علوان في كتابة نص الحياة كما هي، ونص الجبل «ريدة» بموزة وأحلامها وأحزانها، ونص الذاكرة القروية بصحوها وضبابها، بغيومها وبروقها ممطرةً على قارئه بفيض من مشاعر البوح والدفء الإنساني الذي يسري على ألسنة شخوصه كلها وهي تحكي على لسان السارد متناغمة متآلفة على قدرٍ كبير من البساطة ونقاء الفطرة الجبلية، كأن أصواتها نسائم رقيقة تنطلق في كل جهات الروح والقلب. في كل جهات المكان وأطرافه.
أنطون تشيكوف
إن علوان في هذا النص القصصي المبدع طوّع لغة القص واقترب بها من اللغة المحكية القروية بتعبيراتها العفوية والإنسانية وتداعيات خواطرها المتدفقة، وعقد قرانًا متوازنًا بين لغة الكتابة الفصحى ولغة الحكي المحلية بما تختزنه من اللطائف في القول والمُلَح والنوادر من الأمثلة الشعبية كنوعٍ من تأصيلٍ للشكل السردي ومحتواه، جسّد ببراعةٍ من خلاله الحياة اليومية في هذه القرية بما كانت تمور به من أحلام وأشواق وصراعات صغيرة وعادات وتقاليد، ومواقف إنسانية نقية. رصد علوان بعينٍ بصيرة التحوّلات الهادئة غير المرئية في مجتمع القرية التي كانت تدفع بها تناقضات وضرورات التوازن الاجتماعي والنفسي، ومتطلبات الموقع التراتبي ومتغيراته، وكيف حُلَّتْ هذه التناقضات البسيطة وغير الصراعية تلقائيًّا تعبيرًا صادقًا فطريًّا للروح القروية لأهل الجبل؛ لكي يُحافَظَ على وَحْدة وتماسُك رُوح العيش المشترك، وبنية الوعي البسيط في المكان والزمان القرويين، فيخلق علوان شكله السردي القصير الخاص به النابض بفكره الجمالي والاجتماعي.
دلالة العنوان
لماذا عنوَن علوان نصه السردي هذا بموز ريدة؟ إن عنوان النص هو العتبة التي نَلِجُ منها إليه. وهو في ظني يبتعد من دائرة التحديد الضيقة أو التسمية ليتجاوز في كثير من النصوص السردية إلى الإشارة الخفية إلى مبناها وخطابها المضمر، وتعين القارئ بنسبية معينة في إنتاج الدلالة، فما دلالة العنوان في نص علوان؟
إن عناوين كثيرة لسرديات تكاد تكون مضللة وربما لا تكون لها أي دلالة تعبيرية عن مضامين النص، وقد يسري هذا التضليل العنواني في بعض النصوص حتى بعد الانتهاء من قراءتها ولا يستطيع القارئ الربط بين المضمون بما يوحيه عنوانه، ومن هنا تنطلق الحيرة التأويلية عند المتلقي.
وبحق، شعرت بدءًا ببعض الحيرة في تأويل عنوان النص «موز ريدة»؛ فهو جاء كعنصرٍ دلالي على مكوناته ونسيجه، فهو الدال والمدلول الرمزي في آن. ولعلي هنا أجتهد وأقول: إن العنونة ذات ملمحٍ كنائي يطابق بين ثمرة الموز وتحولاتها وبين رشاقة وملاحة بنت الجبل وتحولات مشاعرها، حين تنتابها حالات بين الفرح والقلق من وقتٍ لآخر تمر بها من الاخضرار مبتهجة ضاحكة إلى الاصفرار- كما هي حال الموز- حين تكون قلقة مكتئبة من موقع عائلتها الاجتماعي (الطرف)، أو هي في قمة نضجها وأنوثتها، حين بدأ يخفق قلبها لشابٍ وسيم من موقعٍ اجتماعي آخر (الأصل).
هو الموز يؤول إلى معنى للجمال والرشاقة والتحوّل والنضج البطيء وقد عرف أنه ثمرة طيبة جذابة للقرود والإنسان معًا في جبال أبها والجنوب. كادت البنت تُسمى رفعة أو نمشة، ولأنها أجمل بنت في أعالي جبل ريدة، فقد وافق كل الأهالي على تسميتها «موز ريدة»؛ فهو بذلك «علامة ناجزة» على حد قول الناقد الكويتي مرسل العجمي، وهو أيضًا من نمط العتبات المباشرة المطابقة لمضمون السرد وأجوائه وأمكنته، وليس من الأنماط الرمزية التي يتأولها القارئ في أثناء قراءته النص.
بواسطة أحمد بوقري - ناقد سعودي | نوفمبر 1, 2022 | مقالات
لذة الشكل اللغوي ولذة الإحساس الشعري المتوتر والقلق، لذتان تمضيان بنا إلى لذة الرؤية الممتنعة عن الظهور من القراءة الأولى، ما تجعلك تخوض في أرخبيلات لغته الطافحة بماء صافٍ من المعاني وتشربها بكفيك بحيث تحرص على ألا تنسرب من بين أصابعك.
مذاق الشكل الفني متجددًا في لغته وفي تشكيله الفني وشكل الرؤى الحسية والرؤى التعبيرية منصهرة كلها في صياغات التخييل والمجاز غير المؤتلف والمختلف في الآن ذاته. التخييل المختلف والمؤتلف في لحظته الشعرية هو جوهر قوله الشعري، كالمجاز الذي يتخطى تشكيله اللغوي إلى تشكيله الرؤيوي والصوري ويصنع جمالياته الفنية والتعبيرية.
كيف يبدو لنا الشكل الشعري مكتوبًا في شعر علي بافقيه؟ وهو الشكل الذي يبدو في ملامحه الأولى تفعيليًّا لكي يتجاوز ما هو فني لغوي مغاير إلى ما هو ذاتي منحوتًا من أضلعه شقائق من كائنات حية لها دم وروح. شعرية ظمأى لما هو غير موجود وحاضر في اللحظة الشعرية ذاتها. بعض قصائده نجدها قصيرة موجزة رقيقة ومتمردة على مفهومها التفعيلي مقتربة كثيرًا من نثريتها لكنها النثرية التي تكاد تكون هي الشعر كله.
حساسيته الملتحمة بموسيقا شعره، تنبع من داخل النص ذاته رغم أن التشكيل اللغوي موسيقا رهيفة صامتة حتى النخاع. موسيقا تنبع من أدغال بعيدة في أشجارها وغصونها، في عتمتها وضيائها الوجداني.. هو الشعر الباسق في معناه وتشكيلاته حين يقول: «كدت/ ألمس القاع/ هناك حيث الحجارة تقطر لدانة وبهجةً/ …../ صلبة تملأ الكف». وحين نمضي معه في رحلته الشاقّة نحو (النجمة)، تطربنا هذه الموسيقا الكامنة في التشكيل الشعري المتقطّع وفي البوح المتهدّج يتوقف لكي ينهي عزفه اللغوي: «هويت طباقًا عشرًا/ كانت ملونة/ وكان الهواء يهزج/ والشوق يخفر الطريق/…/ الرمل يضاجع الهواء».
السهولة والوضوح الشكلي الممتنع متبديًا في شعر علي ليست بمستوى الغموض الواضح نفسه في اقتفاء المعنى الشعري المنسرب في تضاعيف التشكيل.. في تضاعيف المعاني. المعنى الصعب في نص «النجمة» يتفتت ويتشظى في البوح الصامت حين واقعت الذات الشعرية فوهة البئر في إيماءة حسية كمعادل شعوري عند صعوده للنجمة حيث يزاوج الشاعر بين حالتي الصعود والسقوط في جدلية تشكيلية باهرة تذكرنا بالحالة السيزيفية؛ فكل ما كاد يلمس نجمته سقط عند فوهة البئر ممارسًا عندها فعل الديمومة فتسيل منه غابة من الشجر والطيور. وحين يبدأ الكلام تحضر الدهشة وهنا في نظري يصبح للتشكيل والمعنى سهولة ممتنعة ومضاعفة وتحل الإشارة كدرجة أدنى للبوح: «كدتُ/ أبدأ الكلام/ لكن يديّ أشارتا/ وفمي أطبق على الدهشة/ …/ للحلم/ أن يلمس كالحجر». نظام وبنية القصيدة عنده يعتني كثيرًا بالإيقاع وكما يعتني بالتفعيلة في كثير من نصوصه، وبخاصة في ديوانه الأول «جلال الأشجار»، إلا أنه في ديوانه الثاني «رقيّات» الذي يشفّ بغنائية عالية النغم كان في جُلّه محتفيًا بمركزية المرأة في وجدانه وفكره ومعتمدًا على بنيات نصيّة قصيرة: «سلام عليهنّ/ يهوى الهواء الرشيق عباءاتهن/ فيهفو ويصفو ويعتلّ/ ينضج/ يؤكل بين أناملهنّ/ سلام عليهنّ».
اتسمت قصائد ديوانه الأول «جلال الأشجار» بالطول النسبي وفي بعضٍ منها تمردت على تفعيلاتها، واحتفظت بإيقاعها الداخلي وموسيقاها الكامنة، وكاد أن يقترب من أجواء قصيدة النثر كما في قصيدته المتميزة «أشجار: أوراق الحلاج»، فاختفت التفعيلة وتباطأ الإيقاع وإن ظلّت غنائية البوح مستترة على الرغم من أنه لا يعدّ من شعراء قصيدة النثر: «طالعًا من وجع الخلوة/ مخلوعًا من الجثّةِ/ منزوعًا من الأصوافِ/ مبتلًّا بماء الخلق والألوان/ أندقّ على الساحة/ ظُهْرَ المسجد الأول نصف الليل/ هذا رطب الصبحِ إذًا مفتاحُ هذا الكون». لكنني ومع هذا أعدّه شاعرًا تفعيليًّا بامتياز، وتفعيلاته مبتكرة متجددة في أفقها التجريبي المرهَف.. وتبتكر غنائيتها وشجنها.
نحن أمام شاعر نسيج وحده.. موسيقاه كامنة، تأتي مثل انثيال ماءٍ باردٍ مثلج تترامى نبراتها وأنغامها بمكعبات ثلجها بين الأحجار السوداء الملساء. لكنه «الثلج مشتعلًا» بالمعنى من الداخل، على حد قول الفرنسي ريجيس دوبريه.. مشتعلًا في لحظة شعرية مباغتة وذائبًا في لحظةٍ أخرى. إن قصائد علي بافقيه في ديوانه الأول «جلال الأشجار» -الذي أُعدّه أحد أهم الدواوين الشعرية التي صدرت في ثمانينيات القرن الماضي- من نوع النصوص الشعرية التي قال عنها ت. س. إليوت: «يثيرنا معناها أولًا وتصلنا موسيقاها بطريقة لا شعورية».
خصوصية علي بافقيه التعبيرية
على الرغم من تميّز وخصوصية التشكيل الشعري وخصوبة الرؤية الفنية وحداثتها عند بافقيه فإنه يعدّ من رموز الجيل الشعري المحوريين في تجربتنا الشعرية الذين لم يحظوا كثيرًا بالالتفاتات النقدية اللامعة كما حظي علي الدميني مثلًا أو محمد الثبيتي وعبدالله الصيخان وآخرين. فلكل جيل من الشعراء في ظني ضحايا نالها الإهمال النقدي واختفت ملامحها التجريبية خلف وجوهٍ شعرية بارزة نالت حظوظًا مسغبة من الدرس النقدي رغم أن منجزها الشعري لا يتفوق كثيرًا عنهم.. لأسبابٍ معلومة وغير معلومة، ولعلّ أبرزها دور العلاقات الشخصية البينية، والمحاباة الظرفية بل القدرة المذهلة على تسويق الذات واختراق الأوساط الاجتماعية والإعلامية.
فشاعرنا علي بافقيه من المبدعين الحقيقيين، وأعرفه شخصيًّا زميل دراسة وصديقًا حميميًّا هادئًا في سمته، عازفًا في خلقه عن الأضواء والمباهاة الزائفة، وادعًا حييًّا، وليس عنده ادعاءات كبيرة في تجربته الشعرية الأصيلة، بل كان صاحب تجربة حياتية غنية ومعنية بعذاباتها الخاصة والفردية وتصدّعاتها الروحية والعاطفية التي تركت أثرها الواضح في شعره بخصوصيتها التعبيرية وتوهّجاتها الذاتية. إن المعادل الشعوري الذي تحدث عنه إليوت في نقده لـ«هملت» شكسبير نجده في تجربة علي بافقيه يتحوّل إلى سلسلة من معادلات شعورية يجري تمثيلها في كثير من الرموز والإيماءات والاستعارات والصور.
حين نقرأ قصيدة بافقيه الفذّة «غصن أسود» -التي أُعدّها من عيون نصوص تجربتنا الشعرية الحداثية وقد كتبها الشاعر في الثمانينيات، ذروة النهوض الكتابي الحداثي- نقف عندها بجلال الأشجار ذاته؛ لأن لها وجودًا ذاتيًّا شجريًّا خاصًّا استطاع شاعرنا أن يضعنا بها في قلب العملية الشعرية الثرية بكل تمثيلاتها الواقعية والشعورية والحلمية.. وبكل تدفقاتها اللغوية الجمالية.
يبني علي بافقيه في قصيدته المائزة هذه عمارة شعورية خاصة لها إيقاعاتها المتلاحقة واستعاراتها ودلالاتها البنائية ويعيد فيها تركيب منطق القول الشعري ومنطق المجاز ومنطق التأويل، فيما يتعدى الذاتي الحلمي إلى التاريخي والصيروري والكوني. إنه محتشد بالمرأة/ الأشجار في جلالها وجمالها وغموضها في معادلاتٍ شعورية ناطقة، وإيماءاتها الكثيفة، وصورها الاستعارية المتتابعة تؤول إلى حدّة انفصال الغصن الأسود وعمق اغترابه عن جذعه الرئيس.
«أرى حشدًا/ حشدًا من النحل/ أرى حشدًا من الطلحِ على الحلم/ أرى حافلة الصبح/ أرى أرصفةً بيضاء مثل الكحل/ حشدًا من نساءِ النحل».
والمرأة تبدو هنا كوجود فيزيقي وروحي شديد المحورية لدى علي بافقيه في هذه القصيدة/ اللوحة المتعددة المستويات، وفي غالبية قصائد الديوانين، هي كل الأشجار الواقفة، وهي كل الحشود القادمة، وهي النسغ اللوني والمائي الجذري والشجري.. و(وقت القصيدة)، تسيل في دمه في جلالها وعمق ظلالها، يلتجئ إليها الغصن الأسود ثانيةً بعد أن انفصل عن جذعها فتيبس واسودّ لونه:
«مقطوع من جسدها/ مثل غصنٍ من جذعه/ ونظل/ نقطرُ».
ولهًا يتمنى أن تضحك في مائه المحبوس كي تستعيده من جديد برقًا من بروقها، ومطرًا من أمطارها، يبتهل لها ويخاطبها ويذكرها أنها لم تبرح تسير في جسده.. ولم تزل تتوسد حفافي قلبه:
«تسيرين في جسدي كالمياه السحيقة/ تبنين متكأً في الهواجس/ أو تنصبين بقارعة القلب خيمتك الشجرية». إن الشاعر وهو ينتقل من معادل شعوري إلى آخر لا يعني أنه خرج من حصار اللحظة التعبيرية ذاتها بل يتمادى في استيلاد اللحظات الشعورية الطاغية المنسابة في لغتها الجمالية واستعاراتها القلقة، فبين:
«أرى في المسيل الحصى يتضاحك/ أبيض/ أبيض». وآخر المقطع الشعري: «يقض الهوى مضجعه/ ويرقى معه/ إلى موجةٍ تتلوى/ وتشهق حتى التلاشي/ فيزجي الحصى أدمعه». يختفي الفرح الجمعي بالحياة، ويختزل في فرديته، والماء الذي ينعس على أجساد القرويات تستدعي اللحظة فعل الهوى والأنثى التي تتلوى كموجةٍ حتى التلاشي. إن عمق ودلالة الاستعارة الشعرية وحدوساتها، والصورة الفنية المتخيّلة المذهلة التي جاءت كمعادل شعوري تمثّلت في هذه الجملة الشعرية الباهرة: «فيزجي الحصى أدمعه».
أنسنت الحصى والماء ينحسر عنه، وأدخلته مشاركًا فيزيقيًّا في الحالة الحزينة التي انتابت الذات الشاعرة وهي تبحث بين القرويات الضاحكات عن أنثاها. لنتمعن مرةً أخرى هذا الدفق اللغوي الصافي في المقطع الثامن من النص لنكتشف كيف أن المعنى يراوغ الشكل، كأن النخلة الأنثى تداعب سعفة بنداها فتنتفض من إغفاءتها: «عرِقت نخلة / فاستدارت نداة على عرفها/ أنتفض السعف/ ها إنها تتنفس/ ……/ تكبو على الماء».
الأنثى والحبيبة مهيمنة في شعر علي، إنها لُحْمة النص الشعري في لغته الجمالية وسَدَاهُ في مراوغات المعنى وتموجاته المائية، وهذا ما نلحظه أيضًا في جُلّ قصائد ديوانه الثاني «رقيات». تكتسب غنائية قصائده في هذا الديوان من قِصَر النص وتكثيف الحالة العشقية ومن الموجات الشعرية المتقطعة لهذه القصيدة البارعة.
في مرآة عروة بن الورد
يتحرك نص «عروة بن الورد» لعلي بافقيه طليقًا بين أبعاد وخلفيات مختزلة تُلمح إلى صورٍ أولى لحكايا وسيرة عروة بن الورد/ الشاعر الجاهلي الصعلوك. يستدعي نص بافقيه الزمن في لحظة باهرة من ألف عامٍ متمثلة في حركة عروة القلقة والنائسة بين «القصيدة والسيف».
ما كتبه علي بافقيه هنا ليس نصًّا واحدًا بل نصين كما أرى، النص البكر في معناه وفعله وتاريخيته الموروثة، والنص المتخيّل زمن الشاعر أو ذاتها كما في حضور معناه ولغته ومؤثراته المعاصرة.
وتنويهًا بتجربة علي بافقيه الشعرية تتميز لغته جماليًّا بالتأنق والغموض الشفاف، والرقة التعبيرية-إذا جاز التعبير- بعيدًا من البلاغات المفخّمة، والاستعارات المقحمة، أو المراوغات اللغوية والمفردات المتداخلة، وهو ما انعكس على باقي نصوصه الشعرية في ديوانه الأول: «جلال الأشجار» بل وسمت تجربته الشعرية برمتها حتى اللحظة وهو المُقِلّ في إنتاجه للقول الشعري.
وعلى الرغم من أن هذا النص القصير يعد من بواكير نصوص عليٍّ الشعرية فإن بداياته تشفّ عن حلمه في الكتابة الشعرية الأولى، بما انبثق عنه من دلالة على وعي قَلِقٍ وبِكْرٍ بالمعنى الشعري الحلمي، وموقع الشاعر وفعله المنحاز للفقراء والإنسان بشكل عام. فكان عروة «مثالًا» له في صعلكته ونبله. فعروة لم يكُ صعلوكًا ذاتيًّا وفرديًّا ومنعزلًا يغترف من ملذات الحياة ويقترح الحيلة والمراوغة والمباغتة القولية من أجل تكسبٍ آني. عروة بن الورد في نص علي بافقيه «يسكن بين القصيدة والسيف»، و«يلقي قصائده للنجوم البعيدة» عَلَّها تسمعه، وحين تناديه سلمى امرأته «يسمع خيلًا» و«نخلًا» ويصغي مليًّا لنبض البرّية الشاسعة.
هو عروة بن الورد مجازيًّا في وجهه المعاصر: علي بافقيه، كلاهما في المسافة الزمنية المختزلة بين المعنى والفعل. كأن بافقيه يقول متصاديًا مع مثاله عروة: لا معنى للمعنى الشعري، إلا بمعادله/ الفعل. ولا معنى للفعل إلا بمعادله النظري، اللغة الشاعرة.. حيث يروّض القول والفعل من أجل الإنسان.
كأن النص يُلمح في دلالاته اللغوية ومضامينه كيف كان المثال الشعري معنًى ومبنًى وموقعًا في إهاب شاعرنا المبدع علي بافقيه منذ البدايات مؤتلقًا ومنحازًا للمثال عروة بن الورد، وكيف يبدو الشاعر/ المثال في راهنه قادرًا في آنٍ على فلسفة المعنى والفعل بشفافية ورقة باذخة في تجلياتها الجمالية.
النص:
(١) «كان عروة يسكن بين القصيدة والسيف/ يهجع في لحظة ألف عام/ وألفاظه تتناسل بين الرموش/ وبين المقيمين في الخسف/ عروة يرحل مع خاطف البرق/ يهجع في وهجه ألف عام/…./ وسلمى تناديه يسمع خيلًا/ وسلمى تناديه يسمع نخلًا/ وسلمى تناديه يسمع برية شاسعة».
(٢) «كان عروة يرمي مقاطعه للرياح الطليقة/ عبس تنام وعروة يلقي قصائده/ للنجوم البعيدة/ والليل أطول».
(٣) «عروة يرسم برية/ ويلملمها».
(٤) «رسول الخليفة يهمس في أذن عروة: شيخنا يطلب اليوم سيفك/ حرفك/ هيا معي/ فالجفان/ ممرعة/ والدنان/مترعة/
وعروة حدّق في وجهه ألف عام».