الانتصار على المسافة والزمن.. كيف اندلعت الحرب ضد أعمدة الهاتف؟
«ما فائدة هذا الاختراع؟»، تساءلت جريدة (نيويورك وورلد) بعد وقت قصير من قيام «ألكسندر غراهام بِل» بعرض هاتفه لأول مرة في عام 1876م. لم يكن العالم ينتظر الهاتف. والداعمون الماليون لمشروع السيد بِل طالبوه بعدم العمل على اختراعه الجديد؛ لأنه بدا استثمارًا مشكوكًا فيه. فالفكرة التي يعتمد عليها هذا الاختراع (الهاتف) –وهي أن كل منزل في الدولة يمكن توصيله بشبكة واسعة من الأسلاك المعلقة على أعمدة يبعد كل منها من الآخر نحو مئة قدم- بدت أقلّ احتمالًا بمراحل من فكرة أن الصوت البشري يمكن أن ينتقل عبر سلك ما. ومع ذلك فهي فكرة مستحيلة، أن نكون جميعًا متصلين، كل واحد منا.
كتب «بِل» لشركائه التجاريين دفاعًا عن فكرته: «في الوقت الحالي لدينا شبكة رائعة من أنابيب الغاز وأنابيب المياه في جميع أنحاء مدننا الكبيرة، ولدينا أنابيب رئيسية ممدودة تحت الشوارع متصلة بأنابيب جانبية مع مختلف المساكن. وبطريقة مماثلة، فإنه من الممكن أن تمد كابلات أسلاك الهاتف تحت الأرض، أو تعلق فوق الأرض لتتصل بوساطة أسلاك فرعية مع المساكن الشخصية، ومكاتب المحاسبة، والمتاجر، والمصانع، وما إلى ذلك… لتربط بعضها مع بعض عبر الكابل الرئيس».
تخيل هذا العقل الذي يمكن أن يتصور هذا. ذلك العقل استطاع بالفعل أن يرانا مرتبطين بوساطة كابل واحد متفرع. كان هذا عقل رجل أراد أن يخترع، زيادة على الهاتف، آلة تمكن الأصم من أن يسمع.
الحرب على الهاتف!
لمدة قصيرة، لم يكن الهاتف أكثر من مجرد بدعة جديدة. فمقابل خمسة وعشرين سنتًا يمكنك أن ترى عرضًا من جانب غراهام بِل نفسه بصحبة المواهب المحلية في الكنيسة، وهم يؤدون تلاواتهم وأناشيدهم. وعلى بعد مسافة، يستقبل بِل مكالمةً من السيد واتسون المختبئ في مكان ما. ثم أصبح الهاتف لعبة للأثرياء؛ حتى إن مصرفيًّا من بوسطن دفع نفقات خط خاص بين مكتبه ومنزله فقط ليتمكن من إخبار عائلته خاصة متى سيكون في المنزل لتناول العشاء.
كان الكاتب «مارك توين» من بين أوائل الأميركيين الذين امتلكوا هاتفًا، لكنه لم يكن مأخوذًا بهذا الاختراع، وكان رأيه أن «الصوت البشري، كما هو، يمكنه أن يصل إلى مسافة أبعد مما نحتاج». بحلول عام 1889م، كانت صحيفة (نيويورك تايمز) تتحدث عن «حرب على أعمدة الهاتف». فحيثما كانت شركات الهاتف تنصب أعمدة، كان أصحاب المنازل وأصحاب الأعمال يقطعونها بالمناشير أو يدافعون عن أرصفتهم بالبنادق.
هدد مالكو العقارات في مدينة (ريد بنك، نيو جيرسي) بتلطيخ العمال الذين يقومون بنصب أعمدة الهاتف بالقطران والريش! كما منح قاضٍ مجموعةً من أصحاب المنازل أمرًا قضائيًّا بمنع شركة الهاتف من إقامة أي أعمدة جديدة. ورأى قاضٍ آخرُ أن الرجل الذي يقطع أو ينشر عمودًا بحجة أنه «بغيض الشكل» لم يكن مذنبًا بارتكاب أي ضرر.
امتعضت مجموعة من الصحف في افتتاحياتها مؤكدة أن أعمدة الهاتف آفة حضارية؛ حيث كانت الأعمدة تحمل سلكًا لكل هاتف– وفي بعض الأحيان مئات من الأسلاك، وإضافة إلى ذلك، فإن في بعض الأماكن كانت تنتشر أيضًا أسلاك تلغراف وخطوط كهرباء وكابلات الحافلات الكهربائية، وهو الأمر الذي جعل السماء تبدو مشبكة بالأسلاك. الذي كان يساهم في تغذية الحرب على أعمدة الهاتف القلق الأميركي الرهيب على الممتلكات الخاصة، والتردد في تسليمها إلى مرفق مشترك، ثم كان هناك شعور شرس بجماليات المكان، وهوس بنقاء البيئة وطهارتها، وكراهية للطريقة التي شوهت بها الأعمدة والأسلاك المناظر الطبيعية، التي كانت تلك الاختراعات الحديثة وناطحات السحاب والأسلاك الشائكة قد بدأت للتو في تشويهها. إضافة إلى الخوف من أن مفهوم المسافة -كما كان يُعرف دائمًا ويقاس- قد بدأ ينهار!
أمر مجلس المدينة في (سيوكس فولز بولاية ساوث داكوتا) رجال الشرطة بقطع جميع أعمدة الهاتف في المدينة. كما أمر عمدة (أوشكوش بولاية ويسكونسن) رئيس الشرطة وإدارة الإطفاء بقطع أعمدة الهاتف هناك. قُطع عمود واحد فقط قبل أن يتسلق رجال الهاتف جميع الأعمدة على طول الخط، ليمنعوا ويوقفوا المزيد من عمليات التقطيع. وسرعان ما بدأت شركة «بِل للهاتف» بوضع رجل في أعلى كل عمود ما إن ينتهي من نصبه، حتى تُوضَع أعمدةٌ كافية لربط سلك بينها. عند هذه النقطة أصبح التدخل في شأن الأعمدة جنحة. وعلى الرغم من ذلك، فقد قطع شرطي عمودين كانا يحملان أربعين أو خمسين سلكًا. كما قطع صاحب منزل عمودًا زُوِّدَ بأسلاك مؤخرًا، ثم فَرَّ من الشرطة. وفي حادثة أخرى أمر صاحب مصنع تعليب عماله بإلقاء الأوساخ مرارًا في الحفرة التي كانت شركة الهاتف تحفرها أمام مبناه. فما إن ينتهي عمال الهاتف من أعمال الحفر حتى أعاد رجاله التراب إلى الحفرة. بعدها أرسل فريقًا مع حمولة من الحجارة لإلقائها في الحفرة. في آخر الأمر، نُصِبَ العمودُ على الجانب الآخر من الشارع.
على الرغم من الحرب على أعمدة الهاتف، فلم يكن الأمر ليستغرق أكثر من أربع سنوات، بعد أول عرض علنيّ عام قام به «بل» للهاتف، لِتُزَوَّدَ كل مدينة، يبلغ عدد سكانها أكثر من عشرة آلاف مواطن، بأسلاك الهاتف، غير أن التوصيل في العديد من هذه المدن كان مقتصرًا على داخلها. وبحلول مطلع القرن، كانت أعداد الهواتف أكبر من عدد أحواض الاستحمام في أميركا.
طالعْنا إعلانًا مبكرًا يُبشّر بالهاتف بعنوان «الانتصار على المسافة والزمن». أعلن «رذرفورد ب. هايز» بدوره عن تركيب هاتف في البيت الأبيض قائلًا: «إن تركيب هاتف في البيت الأبيض يُعَدّ أحد أعظم حدث منذ بداية الخلق!» كما أعلن توماس إديسون: «أن الهاتف قضى على الزمان والمكان، وجعل الأسرة البشرية أقرب إلى بعضها من أي وقت مضى».
كانت المكالمات الهاتفية المبكرة الأولى مليئة بالضوضاء. وصفها هربرت كاسون في كتابه «تاريخ الهاتف» عام 1910م، بقوله: «لم تسمع الأذن البشرية مثل هذه الضوضاء التي لا معنى لها من قبل. كان هناك خليط من أصوات تشبه حفيف أوراق الشجر ونقيق الضفادع، أصوات خرير مياه ورفرفة أجنحة الطيور».
أعمدة للهاتف ولشنق السود!
في عام 1898م، شُنِق رجل أسود على عمود للهاتف في مدينتي (ليك كومو رانت بولاية مسيسيبي)، وكذلك في (وير سيتي بولاية كانساس). وتكرر الحدث في (بروكهافن، ولاية مسيسيبي). وفي مدينة (تولسا، في ولاية أوكلاهوما) حيث كانت جثة الرجل المشنوق مخرمة بالرصاص. في (بتسبيرغ بولاية كانسناس) قُطِعَتْ رقبة رجل أسود وعُلِّقت جثته على عمود هاتف، كما شُنق رجلان أسودان على عمود هاتف في (لويسبورغ، فيرجينيا الغربية)، واثنان في (هيمبستيد بولاية تكساس)، حيث جُرّ رجُل أسود من قاعة المحكمة بواسطة حشد من الناس، وآخر سُحب للخارج من السجن. وفي مدينة (بيلفيل في ولاية إلينوي) شُنق رجل أسود على عمود هاتف، حيث أُشعلت نار في قاعدة عمود الهاتف، ثم أُنزِل وبه رمق حياة وطُلِي بزيت الفحم وأُحرِق، وبينما كان جسده يحترق، أخذ الغوغاء في ضربه بالهراوات حتى قطعوه إربًا.
أكد جيمس كوتلر، وهو أحد الباحثين الأوائل في هذا المجال، قائلًا: «بشكل لا يقبل الجدل، إن الإعدام خارج نطاق القانون (بالشنق) ومن دون محاكمة هو اختراع أميركي». الشنق كان يتم بوساطة الجسور المعلقة، والقناطر، والأشجار التي تقف بمفردها في الحقول، والأشجار المزروعة أمام محكمة المقاطعة، والأشجار المستخدمة كلوحات إعلانية عامة، والأشجار التي بالكاد تستطيع تحمل وزن الرجل، وكذلك أعمدة الهاتف، وأعمدة مصابيح الشوارع، وأعمدة أقيمت لهذا الغرض خاصة. منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، كان الرجال السود يُعدمون من دون محاكمة لارتكابهم جرائم حقيقية أو متخيلة، كالتصفير لفتاة بيضاء أو لشائعة ما، أو لمجرد الجدل مع رجل أبيض، أو لعدم تقبله في المجتمع، أو لطلبه يد امرأة بيضاء للزواج، أو بسبب اختلاسه النظر من خلال نافذة.
أكثر من مئتي مذكرة احتجاج مناهضة لعمليات الشنق غير القانونية قدمت إلى الكونغرس الأميركي في القرن العشرين، ولكن أيًّا منها لم يصادق عليه. سبعة من الرؤساء تكاتفوا للضغط على الحكومة من أجل استصدار تشريع مناهض لعمليات الشنق، ونجحوا في إقناع مجلس النواب بالموافقة على إمضاء ثلاثة إجراءات مختلفة، غير أن مجلس الشيوخ أجهضها.
في مدينة (باين بلاف بولاية أركنساس) اتُّهم رجل أسود بركل فتاة بيضاء فشنق على أحد أعمدة الهاتف. وفي (لونغفيو بولاية تكساس) رجل أسود آخر اتُّهم بمهاجمة امرأة بيضاء، أعدم على عمود هاتف آخر.
في مدينة (غرين فيل بولاية ميسيسبي) أيضا اتُّهم رجل أسود بمهاجمة أحد عمال الهاتف البيض فشُنق على عمود هاتف. وكل ما طلبه الرجل الأسود قبل الشنق أن يُمنح وقتًا كافيًا للصلاة وحسب. وفي مدينة (بورسيل، أوكلاهوما) رُبط رجل أسود اتُّهم بمهاجمة امرأة بيضاء بعمود هاتف، ثم أُحرق. العديد من الرجال والنساء ترجلوا من سياراتهم لمشاهدته وهو يموت.
في مدينة (شريفيبورت بولاية لويزيانا)، شُنق رجل أسود متهم بمهاجمة فتاة بيضاء على أحد أعمدة الهاتف، وتُركت سكين مغروزة في جسده. في مدينة (كومينغ، جورجيا) أطلقت النار بشكل متكرر على رجل أسود اتُّهم بالاعتداء على فتاة بيضاء، ثم شُنق على عمود هاتف. وفي مدينة (واكو بولاية تكساس) جَرَّ حشدٌ من الرجال البيض رجلًا أسودَ أُدِينَ بقتل امرأة بيضاء من قاعة المحكمة وأُحرق، ثم شنقت جثته المتفحمة وعُلِّقت على عمود هاتف.
في تكساس طبعت بطاقة بريدية رُسمت عليها صورة رجل محترق يتدلى من عمود هاتف، وقد كُسرت ساقاه من تحت الركبة وذراعاه ملتفتان على جسده ومتفحمتان. «هذا هو حفل الشواء الذي أقمناه الليلة الماضية». تلك هي إحدى العبارات التي كانت مكتوبة على بطاقات البريد. كانت تُرسل بطاقات البريد لعمليات الشنق كنوع من كروت المعايدة والترحيب، كما كانت تُستخدم كبطاقات تحذير حتى عام 1908م عندما أعلن مدير مكتب البريد أن هذه البطاقات غير قابلة للاستخدام في المراسلات.
كتب وليم إدوارد دبوا عام 1911م: «إذا كنا سنموت، فليكن فناؤنا كرجال باسم الإله، وليس كرزم من التبن». وكتب كلود مكاي، بعد عشر سنوات: «إذا كان يتوجب علينا أن نموت، فليكن، لكن ليس مثل ميتة الخنازير». في مدينة (دانفيل بولاية الينوي) شُنق رجل أسود أعلى عمود هاتف، وأُنزِل وأُحرِق، ثم أُطلق عليه النار، ثم رُجِم بالطوب. ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن (الزنجي) قاوم في البداية، دفاعًا عن نفسه، ولكن قبل شنقه بقليل تَوسَّل بإلحاح من أجل الإبقاء على حياته.
في الصور الفوتوغرافية كانت تبدو جثث الرجال الذين شُنقوا خارج نطاق القانون على أعمدة الهاتف على شكل ظل في السماء، أحيانًا يقف ظل رجلين معلقين على عمود فوق مباني إحدى المدن، وفي بعضها الآخر عُلق ثلاثة رجال، وكأن جثثهم أعلام معلقة في الهواء الساكن. في مدينة (كمبرلاند بولاية ماريلاند) استخدم حشد من الغوغاء عمود هاتف كأداة هجوم لدك باب السجن واقتحامه، حيث كان يرقد رجل أسود محتجز ومتهم بقتل شرطي أبيض. أخذوا في ركله حتى الموت، ثم أطلقوا عليه عشرين رصاصة في رأسه. بعد ذلك أرادوا حرق جسده، لكن أحد الكهنة طلب منهم عدم القيام بذلك.
كانت عمليات الشنق خارج نطاق القانون تمارس في كل مكان من الولايات المتحدة، باستثناء أربع ولايات، منذ قبيل اختراع الهاتف حتى بعد أول مكالمة أجريت عبر المحيط الأطلسي بمدة طويلة، بوتيرة أكثر في الجنوب، وأكثر في مناطق الريف. في المدن وفي الشمال كانت تسود أعمال شغب عنصرية في (سينسيناتي، ونيو أورلينز، وممفيس، ونيويورك، وأتلانتا، وفيلادلفيا وهيوستن وفي غيرها).
في أثناء أعمال الشغب العِرْقية التي دمرت الجزء الذي يقطنه السود في مدينة (سبرينغفيلد بولاية أوهايو)، أُطلق النار على رجل أسود وشُنق على عمود هاتف. كما تكرر الأمر في أثناء أعمال الشغب العرقية التي نتج عنها إضرام النار في مدينة (إيست سانت لويس)، حيث أُجبِر خمس مئة من السود على الفرار من منازلهم، وشُنق رجل أسود على أحد أعمدة الهاتف، وعندما انقطع الحبل سقط جسده في مجرى للصرف الصحي. كتبت إحدى الصحف، حسب روايتها للأحداث: «في بعض الأماكن يتناثر الزنوج كل بضع أقدام في بالوعات التصريف».
في عام 1921م، أي قبل وفاة غراهام بِل بعام، استُدعيت أربع سرايا من الحرس الوطني لإنهاء حرب عِرقية في (تولسا)، بدأت عندما اتهمت امرأة بيضاء رجلًا أسود باغتصابها. بطبيعة الحال لم تكن الأعمدة لتلام، لكن من قبيل المصادفة أنها كانت وسيلة شنق ملائمة ومريحة؛ لكونها طويلة ومستقيمة، ومزودة بعارضة، ولأنها منصوبة في الأماكن العامة. ومن قبيل المصادفة أيضًا أنها تشبه الصلبان إلى حد كبير.
عاش ألكسندر غراهام بِل حتى أجرى مكالمته الأولى من نيويورك إلى سان فرانسيسكو، التي تطلبت 14000 ميل من الأسلاك النحاسية و130 ألفًا من الأعمدة الهاتفية.
عندما كنت صغيرة كنت أحسب أن شكل أسلاك الهاتف المقوسة وتأرجحها في الرياح على امتداد الطريق منظرًا خلابًا. كنت أرى أعمدة الهاتف، وهي مزودة بمحولاتها وقد التقطت أشعة شمس المساء، رائعة المنظر. صدقت أبي حينما أخبرني ذات مرة قائلًا: «كان أبي قادرًا على نصب عمود هاتف بنفسه». كما آمنت أنا شخصيًّا أن الهاتف نفسه كان معجزة.
الآن أقول لأختي: إن هذه الأعمدة وهذه الأسلاك لا تبدو لي كما كانت، وتذكرني أختي معقبة: «لا شيء يبدو بريئًا». لكني أميل إلى الاعتقاد أن لا شيء يبقى دون شعور بالندم. ذات صيف، هطلت أمطار غزيرة في ولاية (نبراسكا)، وفي بعض أعمدة الهاتف الخضراء نمت أغصان صغيرة مورقة.