العمارة الخرسانية المتوحشة.. موضوع دائم للنقاش والانتقاد
«العمارة الخرسانية المتوحشة» أحد أهم التيارات المعمارية في العالم، بل أكثرها جدلية وتأثيرًا. فمنذ نشأتها، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وانتشارها في شتى أرجاء المعمورة، حتى يومنا الحالي، ما زالت تشكل موضوعًا للعديد من النقاشات والانتقادات. فما حقيقة هذا التيار؟ وكيف استطاع الانتقال من موطنه الأصلي في أوربا نحو بلدان عربية مثل المغرب؟
يعود أصل تعريف التيار إلى الترجمة الحرفية لمصطلح اللغة الفرنسية (Béton brut)، الذي يصف عملية ترك الخرسانة في شكلها الأصلي والقاسي، من دون إضافة أية صباغة أو صقل. وقد اشتهرت التقنية على يد عراب العمارة الحديثة في القرن العشرين لو كوربيزييه، الذي تحدث في كتابه الشهير «نحو هندسة معمارية» عن أساسيات هذا التيار التصميمي، مؤكدًا أنه يجب على المعمار الحديث أن يتم بمواد خام، وطبيعية، مبتعدًا من زخارف وجماليات العمارة الكلاسيكية.
مما لا شك فيه، أنه لولا الحرب العالمية الثانية لما ظهر هذا التيار الذي قدّم حلًّا لأزمة السكن التي شهدها العالم وبخاصة أوربا. كان لزامًا على الدول الشروع في بناء وحدات سكنية كبرى في أقل مدة زمنية بهدف احتضان الملايين من ضحايا الحرب آنذاك؛ لذا فقد كان من الضروري أن تتخلى العمارة عن الزخارف لتتحدد في الوظيفة فقط. وقد ساعدت الخرسانة على حل الأزمة آنذاك؛ لكونها وفيرة بأثمنة بخسة، وسريعة الاستعمال أيضًا.
في تلك الحقبة، كان أغلبية النقاد يهاجمون التيار، واصفين إياه بالقبيح، والوقح، وأنه بعيد من مقياس الإنسان، مفتقرًا لأدنى معايير الجمال والروح، بل لا ينتمي للمعمار. ليس النقاد وحسب، بل السكان أيضًا عدُّوا هذه الوحوش الخرسانية أقبح مباني المدن، في حين عمد بعضهم إلى تزيين واجهاتها كي تناسب تطلعاتهم، بينما ظل المعماريون المتبنون للتيار متمسكين بأفكارهم، واستطاعوا بث الروح في كتل خرسانية رمادية صامتة، حتى إنهم لُقبوا آنذاك، بالوحوش.
الحقيقة أن هذا التيار الخرساني لم يُعْنَ بالجمال، وإنما بكل ما هو وظيفي وعقلاني. تحول المعماريون من توفير معايير الجمال في الأبنية، إلى البحث الجادّ عن حل لمشكلات حقيقية تخبط فيها العالم آنذاك، ولا تزال تتخبط فيها دول العالم الثالث اليوم، فانصبّ الاهتمام على الإنسان، ومشكلات الصحة والمساواة والعدالة الاجتماعية والحق العادل في التعليم؛ فالعالم لم يكن كما كان عليه قبل الحرب. في هذا الصدد قال الزوجان أليسون وبيتر سميتسون، وهما معماريان بريطانيان من أشهر رواد التيار: إن الوحشية قد حاولت مواكبة التحولات التي شهدها المجتمع آنذاك، ثم أكّدا ردًّا على الانتقادات: « انتُقدت الوحشية من الناحية الجمالية، في حين أن هدفها في الأصل هو أخلاقي».
التكيف والاستمرار
أغلبية التيارات التصميمية تشهد نشأة ومن ثم أفولًا. لكن الشيء الغريب، هو أن العمارة المتوحشة استطاعت التكيف، والاستمرار حتى بعد عقود من نهاية الحرب وأزماتها. حتى اليوم، بعد سبع وسبعين سنة من نهاية الحرب، ما زلنا نرى بنايات تملك خصائص التيار نفسها، فما السبب؟
الحقيقة أن هذا التيار قد شهد فيما بعد شعبية بين المعماريين، حيث اتفق كثيرون على أنه يمثل جوهر العمارة وحقيقتها الخام، فتحول من مجرد نمط للسكن الاجتماعي، إلى تيار فكري قائم بذاته، يدخل ضمن تيارات العمارة الحديثة للقرن العشرين، فانتشر بين مختلف الأبنية من جامعات ومصحات، ومتاحف، ومراكز تسوق،… إلخ.
ابتعدت الوحشية عن الزخارف والجمال، وتعاملت مع الخرسانة المسلحة لِما أضافته للبناء من حرية التحكم في الفراغات في البناية. استوحى المهندسون تصاميمهم من الطبيعة، بجمالها وقسوتها، لتشكيل كتل خرسانية ذات أشكال بدائية. إن بساطة التيار وأصالته، هي نقطة قوته وتميزه. وقد كان هذا الصراع الدائم، بين الآراء المعقودة حوله، أحد أهم ما ميزه من بقية التيارات المعمارية الأخرى، وما زال الجدل حوله مستمرًّا حتى يومنا. تتميز المنشآت الحديثة بالخشونة والعنف؛ بسبب واجهاتها الخرسانية الخالية من أية زخرفة أو تزيين، رمادية عنيدة وتنم عن الصلابة، وذات كتلة ضخمة، منيعة، يتطلع إليها المرء، فيشعر بجرأتها ووَحشيتها. هناك من يقول: إن الحرب قد انتهت، فلماذا يستمر بعض في تبنّيه حتى يومنا هذا؟
التراث الخرساني لكازابلانكا
الدار البيضاء، أو كازابلانكا، هي مدينة حديثة تطورت إبان القرن الماضي من مجموعة أحياء صغيرة لتصير اليوم أحد أكبر عواصم إفريقيا. ازدهرت مع تطور الخرسانة، لتشكل مختبرًا للمعمار وتشكيلاته، وتشهد العديد من التيارات المعمارية، لكن أكثرها شهرة كان هو العمارة المتوحشة. فكيف يمكن لتيار أوربي أن يتجلى في مدينة عربية من دون أن يفقد طابعه الحداثي؟
أعيش في درب السلطان، أحد أقدم أحياء المدينة وأكثرها شهرة. حين أستيقظ صباحًا، أول ما يبادرني من خلال النافذة الضيقة، هو صومعة خرسانية رمادية، رشيقة وفارعة الطول، هي منارة مسجد السُّنة، الذي بُني سنة 1970م على تقاطعي شارع 2 مارس وموديبوكيتا. هو أحد أشهر مساجد درب السلطان والمدينة كلها، حيث يشكل معلمة يسترشد بها أهل المدينة، لكن الأهم أنه المسجد الوحيد من نوعه المشيد بالنمط الخرساني الوحشي. فكيف أمكن تشييد معلمة دينية ذات طابع تقليدي باستعمال مبادئ تيار حديث؟
لقد عمد المعماري إلى الابتعاد من كل أشكال الزخرفة التي عرفتها المساجد منذ الأزل، فجمع بين ما هو حداثي وتقليدي، هذا المزيج أعطى المدينة صرحًا دينيًّا فريدًا من نوعه، يثيرك شكله الخارجي الزاهد، تقترب، تزيل حذاءك وتخطو إلى الداخل، فيفاجئك سقفه المقبب، وكمية الضوء النافذة من الواجهات الزجاجية المقوسة، من دون أن نتجاهل كيف حافظ المعماري على إحدى خواص العمارة العربية التقليدية، ألا وهي الباحة المركزية المفتوحة على السماء، التي ساهمت في تهوية المسجد وإنارته. هذا التناغم المعماري البديع أتاح للسكان مكانًا دينيًّا للصلاة، وللمدينة تحفة معمارية خرسانية فريدة من نوعها.
جون فرانسوا زيفاكو (1916- 2003م)، مصمم المسجد، هو أحد أشهر ملامح المعمار المغربي، والكازاوي خاصة، ذو أصول فرنسية، وُلد في الدار البيضاء، ودرس العمارة في باريس، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه ويفتتح مكتبه. أثّثَ المدينة بمعالم سحرت السكان والسياح، عبقري خالص تفنن في استعمال الخرسانة الخام في معظم مشروعاته. أتى في زمن شهد فيه التيار ذروته في أوربا والعالم بأسره، فوجد ضالّته في الخرسانة، كما وجد بيئة ملائمة لتطلعاته. كانت الدار البيضاء في القرن الماضي مختبرًا لشتى التيارات المعمارية العالمية. في بداية القرن لم تكن تتجاوز سبعة آلاف نسمة، لكنها تطورت بعد الاستعمار الفرنسي وصارت أكبر مدن المغرب، وأحد أقوى اقتصادات شمال إفريقيا، فباتت ورشة مثالية للتجارب المعمارية الفذة، واستمر ذلك حتى بعد الاستقلال، حيث اضطرت إلى الامتداد والتوسع لاحتواء المهاجرين، وكانت الخرسانة الوحشية من التيارات التي نمت وترعرعت على أرضها.
هرم خرساني مقلوب
شيد زيفاكو أيضًا جناح مدخل المعرض الدولي للمدينة سنة 1954م، وهو عبارة عن هرم خرساني مقلوب، منغرس في الأرض، قبل أن يُهدَم في ثمانينيات القرن الماضي. له عدد من المشروعات، نذكر منها مدرسة للأساتذة بورززات، ومبنى القرض الفلاحي بالرباط، ومطار تيط مليل سنة 1951م، إضافة إلى مشروعاته في الدار البيضاء: مجسم الكرة الأرضية، قرب ساحة الأمم المتحدة سنة 1975م، ومجموعة من الفيلات، منها فيلا سويسا وروسيليو، وبعض المدارس، مثل راسين وغوتييه، ومبنى لشركة تأمين في شارع الحسن الثاني، بنوافذه الزجاجية المسننة، المنطلقة بشكل جارح من واجهة المبنى، تشعرك أن البناية هي وحش يكشر عن أنيابه. وفي الشارع نفسه، وقبالة مبنى شركة التأمين، يوجد مبنى سكني شيد سنة 1965م لإيلي أزاغيري، ولد في الدار البيضاء وتوفي فيها، أحد أشهر الوجوه المعمارية البيضاوية، بنى منزله الخاص في الستينيات بآنفا، وهو عبارة عن فيلا بُنيت على النمط الوحشي، مكعب منحوت بخرسانة خشنة.
إضافة إلى زيفاكو وأزاغيري، اشتهر على الساحة كل من عبدالسلام فاراوي وباتريس دو مازيير. افتتحا مقرهما بالرباط، حيث يوجد أحد أشهر مبانيهما الوحشية، وهو مبنى سكني يصفه أهل المدينة بأنه مبنى وحشي وسوداوي، بالعناصر الخرسانية الظاهرة التي تحمل الشرفات، وبلونه القاتم. كما صمما مبنى بريد في الدار البيضاء في السبعينيات، وهو منشأة فارعة الطول، تظهر عناصرها الإنشائية الخرسانية واضحة من أعمدة متقاطعة مع عارضات تستمر حتى خارج المبنى.
غير بعيد من المنشأة الأخيرة، يوجد ملعب العربي بن مبارك ذو الواجهة الخرسانية الذي عُرف قديمًا باسم ملعب فيليب بشارع محمد اسميحة وسط المدينة. بُني لأول مرة سنة 1920م، قبل أن يعيد إصلاحه سنة 1989م دومينيكو باسيانو وعبدالقادر بنسالم. ربما رُمِّم في مدة صارت فيها الوحشية جزءًا من التاريخ، غير أننا نجد تفاصيل عدة في البناء تحيلنا إلى التيار؛ منها العناصر المنقضة من واجهتيه، لكون المعماريين قد عايشوه وهو في أوجه، غير أن المبنى قد تعرض إلى مشكل تقني في بناء مدرجاته على نحو يجعل الجمهور يهوي إلى الأمام نظرًا لانحدارها، إضافة إلى مشكلات أخرى تخللت تصميمه، فصار ملعبًا للتدريب وحسب، لا لاستقبال الجمهور.
العديد من هذه المنشآت يعود عمرها إلى أكثر من خمسين سنة، وهو ما جعلها تعيش بعض التعديلات فيما يخص الشكل. على سبيل المثال، شهد مسجد السنة بعض التغييرات التي طالت مدخل قاعة الصلاة الرئيس، بهدف إضفاء بعض الزينة عليه بالقرميد الأخضر والزليج، وهو ما جعله يفقد طابعه الأصلي. في حين أن بعض المباني الأخرى، مثل ملعب العربي بن مبارك، قد صُبِغ كاملًا حتى اختفى طابعها الخرساني الخالي من الزخارف.
عندما يؤذن لصلاة الجمعة، يخطو الناس بجلابيبهم الرمادية من الأحياء المجاورة صوب مسجد السُّنة تحت قيظ الظهيرة، والطرابيش على رؤوسهم في مشهد بديع. الناس هنا يحبون المسجد، حتى إنهم صاروا يختصرونه باسم «الجامع» فقط، كما لو أنه الوحيد بدرب السلطان، لا أحد ينتقد وحشية معماره، أو انعدام الزخرفة، بل إنه بسبب انفراده أخذ مكانة خاصة في قلوب الناس. وهو الحال بالنسبة لجميع المباني الوحشية بالمدينة، لها مكانة خاصة لدى العامة، عكس ما شهده التيار في بلدان أخرى. والحقيقة أن ما تعرضت إليه الوحشية من انتقادات قد عجل بنهايتها، في حين يراها بعض المختصين أحد أعظم التيارات الحديثة، وأكثرها تراجيدية وقربًا للإنسان، فقد عانت، ككل أبناء الحرب، صراعًا حميميًّا بين الشوق إلى ماضٍ لن يعود، والأمل في ماضٍ قد يعود. أكان علينا أن نبني مثلما فعلنا قبل الحرب، أم إنه عالم جديد، وزمن آخر؟
بإمكان المرء أن يأتي إلى الدار البيضاء، ويزور المباني التي ذكرتها سابقًا، على الأقدام، كما فعلت دومًا، بما في ذلك زمن كتابتي لهذا النص، لتكتشف سحر المدينة، والمباني الخرسانية الكثيرة التي لم أذكرها، وأيضًا التيارات المتعددة التي تؤثث هويتها. وسوف تعلم أيضًا، كيف أن الوحشية قد تناسبت مع المدينة وأهلها في تناغم بديع مع روحها وتاريخها. إنها مدينة الأحلام والمستقبل، وجدت هويتها وروحها في الخرسانة. أتى التيار الوحشي وربض هنا؛ لأنه وجد موطنه. إنه أكبر من أن يكون مجرد تيار معماري، ظهر ثم اختفى، بل هو تصريح معلن، ستظل مبانيه القائمة حتى يومنا هذا، لتذكر العالم بنذير الحرب، إنها أعلام منكسة، حدادًا على عالم لا تتركه حرب إلا وتندلع أخرى.
مراجع:
- https://www.designingbuildings.co.uk/wiki/Brutalism
- https://www.architecture.com/explore-architecture/brutalism
- https://www.archdaily.com/645128/spotlight-alison-and-peter-smithson
- https://www.yabiladi.com/articles/details/89660/brutalisme-architecture-marque-maroc-post-independant.html
- https://mammagroup.org/jean-francois-zevaco