آني إرنو الفائزة بنوبل للآداب هذا العام.. ساردةُ الذاكرة الحميمية والجماعية لفرنسا
نكتب هذه المقالة بمقتضى مناسبة كبيرة هي الكبرى في تقدير وتبجيل الأدباء، جائزة نوبل، وتستمر الأفخمَ بعد مرور أكثر من قرن على إعلانها (1901م). فيما نبغي تجاوز لحظة الإثارة والانبهار اللذين يرافقان مناسبات من هذا النوع، لنقف على الجوهري في موضوع واسم الفائز ونحدد أنه المتن، أساسًا. كما عُلم، الفائزة في عامنا هي الكاتبة الفرنسية آني إرنو (1940م). يمتد عمرها الإبداعي من روايتها الأولى «الخزائن الفارغة» (1974م) وانتهاءً بـ«Le Jeune Homme» (الفتى) (2022م)، أي أن لها مسيرة كتابة تقترب من نصف قرن، باثنين وعشرين عملًا سرديًّا من طراز فني اختصت به تدريجيًّا وأصبح علمًا عليها وهو ما يعنينا أكثر من غيره.
وهذا ما يضيع غالبًا في بهرجة المناسبات وجعجعة الجوائز أيًّا بلغت قيمتها، ومع إرنو التي تُعدّ الآن كاتبة كلاسيكية، بما أن لها نصوصًا مقررة في المدارس وأطاريحَ وُضعت عن أعمالها؛ لذا ينبغي التأنّي وتوخّي الحذر في التقويم وإصدار الأحكام الفضفاضة، التي تضطر أن تلجأ إليها الأكاديمية السويدية نفسها بعبارات شعارية لتسويغ التتويج «لشجاعتها والرهافة الفائقة، ولحسِّها في كشف جذور الذاكرة الشخصية والقيود الجماعية المفروضة عليها». وأفضل منها، عجبًا، التقريظ الذي خصّها بها الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، وعباراته لا شك كتبها مستشار نابه في قصر الإليزيه حين أوجز مشروعها بشكل جامع: «تكتب آني إرنو منذ خمسين عامًا رواية الذاكرة الجماعية والحميمية لبلادنا. إن صوتها لهو صوت حرية النساء ومنسيّي القرن…». ونصرف النظر عن الحفاوة الإعلامية ونفاد كتبها من أدراج المكتبات بعد ساعات من إعلان فوزها، على الرغم من أنها ليست مغمورة، وإنما هو مزيد اعتزاز بكاتبة البلاد كما يليق بالشعوب القارئة المتمدنة حيث للكاتب فيها وضع اعتباري، وهو ممثل رفيع للقيم الرمزية.
ذاكرة الأدب
أقول، نحتاج إلى التأنّي في قراءة حدث الفوز بنوبل، وإلى قدر لا بأس به من التبصّر لقراءة المتن مناط الاهتمام، أوله أن ننتبه إلى أن للأدب ذاكرة فلا يوجد نصٌّ أدبيٌّ مفردٌ ومقطوعُ الجذور، مهما بلغ تفوقُه ونبوغُ مُنشئِه، له شجرة أنساب ينتمي إليها وباتصاله مع جذورها تتحدد خصائصه ونوع من يتميز به غصنًا وورقة وزهرة وثمرة ورائحة. نعني أن إرنو -بالرؤية والمحتوى المكوّنين لسردها الذاتي الذي سنشرح مضماره، وباللون الغالب عليه، الصانع لنسيجه- هي بنت تقاليد أدبية تليدة لها آباءٌ وجدات، هم وهن من وضَع اللبنات الأولى لما غدا صرحًا عالي البنيان، ينبغي أن نستحضر فيه من كتابة الوجدان النسائي أسماء لا غنى عنها: مدام لافاييت مؤلفة «أميرة كليف»(1678م)، وجورج ساند (1804- 1876م) صاحبة «أنديانا» (1839م)، و«قصة حياتي» (1855م)، وخصوصًا كوليت (1873- 1954م) في سلسلة «كلودين» (1900- 1903م)، و«ولادة النهار» (1928م)، ونقفز إلى سيمون دوبوفوار (1908- 1986م) التي أطلقت فلسفيًّا من باريس موجةً تحرر بكتابها «الجنس الثاني» (1949م) صوت تفتح المرأة وكيانيتها المستقلة، وعززته بـ«قوة العمر» (1960م). ونضيف إلى هذا السرب مغردتين قويتين هما فرنسواز ساغان (1935- 2004م) بالذات في باكورتها «صباح الخير أيها الحزن» (1954م) والأقوى منها إبداعًا والتزامًا مارغريت دوراس (1914- 1996م) لرواياتها الذاتية ونموذجها النقدي المعتمد «العشيق» (1984م) التي تُوِّجت سنتها بجائزة الغونكور المرموقة.
هذه بعض أغصان شجرة الأنساب الباسقة التي تنتمي إليها إرنو في نسغ ونهج كتابتها الروائية والأتوبيوغرافية. نسمّي نسقَها نقديًّا (سرد الحميمي موضوعيًّا)، تتميز به في النسق العام للسيرة الذاتية كما كتبها أسلافُها وفجّرن فيها خطاب المرأة وأذَعْن بوحَها ضمن شروط سوسيوتاريخية محددة أخذت منحى تصاعديًّا لترجمة مشاعرهنّ وفرضِ وجودهن في محيط هيمنة مجتمع الرجال، ولانتزاع حقوقٍ حُرمن منها طويلًا، بدءًا من القرن التاسع عشر وانتهاءً بما تشهده الحركات النسائية الراهنة في نضالها الأقصى # me too المناهض لسطوة الذكورية، وليست الفائزة غريبة عنها وإن لم تنخرط في دعاواها مباشرة. يبقى الأهم أن نتعرف عن هذا الشيء أو المَعلَم الذي استطاعت النوبلية الفرنسية الجديدة التفرّد به، وقد شرّفت الأدب الفرنسي بعد آخر تتويج نوبلي له عرفه وناله وحظِي به باتريك موديانو (2014م).
سيرة ذاتية
لا بأس من التذكير هنا بما تعنيه السيرة الذاتية بوصفها نوعًا متفرّعًا عن جنس الرواية الأدبي، بما أنها تعتمد فنّ السرد وتستخدم أغلب أدواته وتفترق عنه في عدم تبنّيها علنًا على الأقل لمفهوم وخطة التخييل، الذي يعني في الحد الأدنى نقلَ الواقع أو تصوّره على صعيدي الممكن والمحتمل، ويمكن صُنعه وتدبيرُه وفق ما يتخيله الكاتب لحدث ما ومسار حكاية وشخصيات بما يناسب الرؤية البانية لعمله. بينما السيرة الذاتية هي سردٌ بطله كاتبها الذي تروي حياته، وبذا فهي حقيقية. وبحسب مُنظِّرها الأدبي الأول فيليب لوجون، الدارس المعتمد لها، في كتابه الشهير «الميثاق الأوتوبيوغرافي» (1975م) وأبحاث أخرى، عرّفها بأنها «محكيٌّ استرجاعي بالنثر ينجزه شخص حقيقي عن وجوده الشخصي، عندما يعالج حياته الفردية، والشخصية خاصة»، وشرطها «ميثاقٌ يُبرمه كاتبٌ مع قرائه يصرّح فيه بهويته في الغلاف وداخل الكتاب، وبأنه يستعرض حياته مفصلةً وحياته فقط». وإذا كان ضمير المتكلم هو اللسان الأول لصدقية وتوثيق العَقد، فإن التفاوت ممكنٌ في استعمال الضمائر، وكذلك في مقدرة الذاكرة على استرجاع الماضي، وفي درجة صدق المَروي وطريقته ومثله مما وجدنا أبا الرواية الجديدة الفرنسية آلان روب غريي (1922- 2004م) يجادل فيه لوجون بناءً على تجربته هو في سيرته الثلاثية بعنوان «روائيات» Romanesques (من 1985 إلى 1994م) (انظر كتابي: «كيف نفهم الرواية الجديدة» (مفترق الطرق، الدار البيضاء، 2021م).
لم تبدأ آني إرنو بهذا النوع وإنما استخدمته بعد عشر سنوات في روايتها «(la Place) (1983م)- تُرجمت إلى العربية بعنوان «المكان» (ترجمة: أمينة رشيد وسيد البحراوي، شرقيات، 1994م)- فشعّ بها اسمها، إذ فازت بجائزة رونودو (1984م)، وفيها تستعيد مقاطع بارزة وشاقة من حياة أبيها بما عاشه من ضنك وتقلّب فيه من مهن بين الفلاحة والبقالة وتتابع مساره إلى أن وافته المنية. في كنَفه وتحت ظلال هذه الحياة صور وملامح عن طفولتها في ظروف العوز، وتحاول أن تموّه البون الذي بات يفصل بين ارتقائها للسُّلَّم الاجتماعي وما كانت عليه وضعية الشقاء العائلي الأول. بذا تطرح البند الأول لخطتها في كتابة السيرة الذاتية، أن تبدأ من خارج، ومن آخَر، لتصل إلى داخل، أو إليها، عكس ما يفعل الآخرون الذين ينطلقون من أناهم، وهي بؤرة السرد، ومن وما حولهم إنما هو امتداد لهم ومحيط، لا أكثر.
من الأب انتقلت إلى سرد قصة بطلتها، أمها، في رواية «Femme» (امرأة) (1987م) التي تستعيد فيها أيضًا مراحل من حياة امرأة عانت كثيرًا من أجل أسرتها، وأسهمت في رفعها من وهدة الفقر، فنقلتها من شقاء العمل الزراعي إلى تجارة متوسطة بين مقهى ومحل بقالة، وحرصت وهي على قدر متواضع من التعليم على أن تكفل دراسة لائقة لابنتها لتهيئها لمستقبل أفضل. وتبرز آني في سلسلة محكيات سرد ذكريات الأم المتفانية التي شقيت حتى احتضارها الطويل بمرض الزهايمر. ثم من الأمّ إلى أختٍ ماتت جنينًا في بطن الأم، باحت لها هذه الأخيرة بقصتها غفلة، فصوّرتها، مثّلتها، كائنًا حيًّا وسكبت حزنها عليها، وقدمتها فداءً لها لمّا أخبرتها أمُّها أن قرار الأسرة كان إنجاب طفل واحد، وقد ماتت لها أختٌ أخرى بالدفتيريا فعاشت مدينة للبنت الجنين بحياتها.
ذات في ذهاب وإياب
هكذا، ثمة آخرُ دائمًا يقابلها تروي قصته ليرتدّ إليها السهم أفقيًّا، ثم ينقلب عموديًّا يغوص حادًّا فيها وفي الوقت هو مرآة لها. فبين الأب والأم والأخت الركائزُ والأبعادُ والامتدادات، تنعكس صورتها وتنطِق سيرتُها. حيواتُ الآخرين وأوضاعُهم ولغتُهم قطعة منها، وهي إذ تسرد حكاياهم وتكتبهم إنما تسرد ذاتَها التي توجد في حركة ذهاب وإياب بينهم وبينها، مرئيةً وخفيةً، جهيرةً ومضمرة، على الرغم من أن بطل السيرة الذاتية تقليديًّا هو (أنا) صاحبها، مؤلفها، مبررُها ومشروعُها نوعًا؛ لكونها تروي حياته (لوجون).
لكن إرنو تصنع معادلة مختلفة لأداء النوع الأدبي من داخله؛ إذ تقلّص أدبيته بصنع بنيته من عناصر حددتها في مركّب مثلث «شيء من الأدب والاجتماع والتاريخ»، وكل عنصر منها يصلح مدخلًا لدراسة متن هذه الكاتبة المخلخِلة والمكدِّرة لصفاءِ النوع وهي تنقله من نرجسية البطولة الفردية والتاريخ الشخصي المحض، لتلقي به في معترك اليومي من أجل العيش، وتجاعيد المجتمع والصراع الطبقي، في صيرورة تاريخية منطلقُها زمن الطفولة ومسارُها في سلسلة من المشاهد والأحداث والذكريات والمشاعر، تلاحقها ذاكرةٌ ملحاح، تقبض صاحبتُها على زمامها قبضها: «على الرغبة الجنسية، فالذاكرة لا تتوقف، إنها تلقّح الكلمات بالأحياء، الكائنات الحقيقية بالخيالية، الحلم بالتاريخ»، كما جاء في إحدى شذرات استهلال كتابها الجامع «Les années» (السنوات) (2008م) الذي سيضمن لها شهرة واسعة وسيرسّخها كاتبةَ سيرة ذاتية لزمنها ضمن قوسٍ قُزحي يكتبن النوع ذاتَه وتحولن إلى ظاهرة أدبية فرنسية مع تعدد وتباين تجاربهن وأساليبهن.
أبرزهن ماري داريوسيك، وفيرجيني ديمبانتي التي سارت على نهج مغاير تمامًا لنزوات الاستعراء ومركزية الأنا لتتحول إلى «سُرّة» العالم، أو ما يسميه النقد الإعلامي الفرنسي بالنزعة السُّرَرية (le nombrilisme) وهي ظاهرة مستفحلةٌ راهنًا. اختلفت فاعتنقت خط الأيديولوجيا الثقافية لأسلافها الملتزمين في الأربعينيات والخمسينيات، وهو التزام ولد معها في تربة الطفولة والفتوة، وترعرعت به مبادئ تعززت طوال مسيرة حياتها طالبة ومدرّسة مبرّزة ومناضلة في واجهات ومواقف سياسية مباشرة في صف قوى اليسار الفرنسي وإن لم تنتمِ إلى حزب. تخوض المعارك وتوقع البيانات من أجل المضطهدين وذوي الدخل المحدود، والشعوب والأوطان المغتصبة (منها قضية فلسطين). أقول جاء كتابها «السنوات» فسيفساء مركبة استدعت فيه -انطلاقًا من طفولتها حول مائدة العائلة- الحكاياتِ، صنيع الجدات قديمًا حول المدفأة ما جرى في سالف العصر والأوان، إنما بوعي وحذق فني.
ترجيح موضوعية الخطاب
أكتفي به مثالًا نموذجيًّا، فليس غرضي تتبع مجموع أعمالها، التي تمضي كلها طرديًّا في تزويج الذاتي بالجماعي. لا بد سينتبه القارئ إلى نقل التلفّظ من ضمير المتكلم (Je) إلى ضمير الجمع المتكلم (On و Nous) وإحالة الحديث عن الذات إلى سارد مرجعُه ضميرُ الغائب وهو ما يلجِم العاطفة ويُرجّح موضوعية الخطاب، خاصيةٌ نقيض تمامًا لتلقائية وانسيابية البوح الحميمي الدامغ للسيرة الذاتية منذ دشنها في شكلها الحديث جان جاك روسو (1712- 1778م) في «الاعترافات» (نشرت من 1765 إلى1770م) وحَبْك المصير الشخصي بالمسار العام، لا انفصال تزكّيه بقولها: «الحكيُ العائلي والحكيُ الاجتماعي عندي واحد».
اقتناعٌ مرصودٌ ومُرسَلٌ من منظور فلسفي وطبقي شبه أيديولوجي يخصّها من وحي إرادة تريد تصفية حساب مع ماضٍ تعيس وظالم من حيث تستعرض في «السنوات» صورَه وصورَها تباعًا، من سنوات الحرب العالمية الثانية إلى مطلع القرن الجديد. يا لها من بانوراما حافلة بالأحداث، حاشدة بالخلائق، مضطرمة بالمعارك، بِرقّة شفافة وتصوير دقيق ولاذع واحتجاج هامس تكتفي بتوجيه أصبع الاتهام بلا إدانة صريحة وبحياد ماكر. موقع ضمير المتكلم وفاعليته أن يتحول إلى رهان بين العمل والقارئ لتحدد أمامه هويتها إنسانًا وكاتبة، شخصيتها المركبة، همّها كما تُفصح عنها صراحة، «الانتقام» للشقاء المادي والمستوى الطبقي الوضيع الذي عاشته عائلتها.
في مؤلفها: «الكتابة مثل سكين» (2003م) دوّنت: «أكتب من أجل الانتقام لسلالتي (…) أردت أن أقول الطبقة الاجتماعية التي خرجت منها». هذا المبرّر الأول، ويأتي المبرّر الثاني الجارحُ، كما حملته منذ صارت في الوضع الاعتباري للكاتبة، وهو وضع محترم في المجتمعات الغربية، أن تقلّص المسافة بين انتقالها إلى موقع طبقي مرتفع قياسًا بالموقع الدوني لسلالتها المهانة؛ لذلك ليس عندها رأس مال أقوى من الكلمات، لتقول ما لا بد وما لا ينبغي أن يفلت وسيزول حتمًا. والصور التي ستزول حتمًا، الجناز الرهيب الذي تستهل به كتاب «السنوات»، مرثية للعالم والوجود. وهكذا من قلب الحميمي والاجتماعي والتاريخي ترتمي صريعة للتراجيدي.
إنما حذار، فهي ليست شكّاءةً، خَنسائيةَ الطبع، نوّاحة. سنرى كيف تطوّق الحميمي وترميه في حمأة المبتذل، بالكتابة عن العَرضي، التالف، العابر والزائل، بدقة في الفرنسية ephémère (قصير الأمد). تَنقّل البشر في المواصلات، الأسواق العامة، النسيان، الذاكرة، الإجهاض، إلخ.. كل ما ينتسب إلى زماننا الاستهلاكي اللاهث المتسارع والمتبدل، وما اختصر وصفه دومنيك فال، من بين أهم من درس أعمال النوبلية الجديدة، جاء في كتابه: «le temps des mémoires» (زمن الذاكرات) (2014م): [إنها] في قلب هموم العقود الأخيرة. وهي منتبهة سواء للإشكاليات الاجتماعية الكبرى -اختلاف الطبقات، التمايزات السوسيوثقافية، والمطالبات النسائية- وصولًا إلى قضايا حملها الفن والفكر أخيرًا إلى الواجهة من قبيل مسائل الذاكرة واليومي، الإرث والنسب، وهذا بقدر ما هي منخرطة بعمق في مناقشة الظواهر الأدبية الحاسمة مثل العودة إلى الذات، إلى التخييل الذاتي، أو المشاركة في المناقشات التي تربط الأدب الآن بالعلوم الإنسانية.
روح حيادية نابذة
قلت في مطلع هذه المقالة: إن للأدب شجرة أنساب؛ وأزيد شرحًا: إن الفنون الأدبية تتناسل من بعضها، ونصٌّ بلا ذاكرة، أي لم يتشرب تراث سابقيه ويتمثلها، ليس أدبيًّا أو هو لقيط. لذلك حين نلصق الصفات ونسقط الخصائص على النصوص ينبغي أن نعرف صلة النسب. فإذا قلنا: إن كتابة آني إرنو السِّيَر ذاتية متقشفةٌ ونابذةٌ للغنائية، متحفظةٌ من العاطفية، منخولةٌ من النعوت، مصبوبةٌ بروح حيادية متباعدة، مراقبة فاترة أكثر منها حامية في فرن الاستعارات، علينا هنا أن نستحضر بوعي ثقافي التراث السردي الغربي ابتداءً على الأقل من بلزاك الذي زرع أرض الواقعية، وفلوبير من أخصب تربتها بسماد دقة المفردة، ومنهما نصل إلى إميل زولا بنزعته التجريبية الطبيعية، وأندريه جيد في بيانه الباهر عن تداخل الأجناس في «مزيفو النقود» (1925م). هؤلاء جميعًا ومن في جِبِلّتهم، صنعوا القالب المتماسك للسرد الحديث تخييليًّا وأوتوبيوغرافيًّا بلغة وأساليب محكمة منزوعة الدسم، كذلك برؤية معبرة بعمق عن الانقلابات الحاسمة للزمن الصناعي والرأسمالي وديمومة حركة الأنوار بأشكال متطورة. بصماتُهم مطبوعةٌ في نصوص إرنو -لا ننسى أنها مُبرّزة في الأدب الحديث- وهي تلميذة نجيبة في مدرسة بروست الذي دشن ثورة الذاكرة في الرواية الحديثة بداية القرن العشرين. ما تشغيل التذكر عندها قياسًا بطوفانه في «البحث عن الزمن الضائع» إلا نقطة في بحره، ناهيك عن ناتالي ساروت، بدفق تيار الوعي، بعده.
ولكي نجزم في البنية الكلاسيكية المتوارثة للشكل الآرني والمنظور المادي الواقعي المحزوز كحدّ السكين لأعمالها، من الضروري استحضار متنين هما عماد الرواية الفرنسية خلال وبعد الحرب العالمية الثانية: «الغريب» لألبير كامو (1942م) و«المماحي» (1953م) لألان روب غرييه عرّاب مدرسة الرواية الجديدة. هذا النص الأخير نفسه الذي بنى عليه رولان بارت بدايات نقده الأدبي والسيميائي، واشتق منه مصطلح (الكتابة في درجة الصفر)، الواصفة الشيئية العينية المادية صرفًا اللاأدبية، المعادية للنزعة السيكولوجية. هذا كله يطبع أعمال إيرنو، وأقول، بالاحتكام إلى النصوص دائمًا: إنها دون ما أنجزه المعلمون الرواد في هذا الفن، سواء روائيًّا أو مزجًا بين الرواية وسيرة الذات، وهي ابنة شرعية في آن لمنجزهم، وإن لي أن أحتفظ لها بامتيازين:
أولًا- أنها كتبت ما عاشت ووعت بحسّية وذاكرة خصبة ووعي فنّي حاذق وبلغة مسكوكة، أيضًا، بلا قلق من ضوابط الجنس الأدبي وحدوده، فجاء سردها متراوحًا بين النوع الروائي والنوع السير ذاتي ونوع التخييل الذاتي (أنا عبر آخر) السائد حاليًّا، على الرغم من رفضها الانتساب إليه، وأساليب التقرير واليوميات والانطباعات والمَحاضر. استخدمت هذه الطرائق جميعها لتسُنّ طريقتها لها اسم: نسق الحميمي والجماعي كلٌّ واحد.
ثانيًا- جعلت حميميتها المسرودة في خدمة جماعة ولدت فيها وأخلصت لها، وواظبت منتمية لهمومها ومعضلات عيشها مناهضة للظلم والتفاوت الطبقي الفاحش ومناضلة من أجل قيم منبتها يعود إلى الثورة الفرنسية وعهد الأنوار وامتدت في الالتزام السارتري بمسؤولية الإنسان في الوجود، وهي كاتبة ملتزمة، شعلةٌ تكاد تأفل عند كتاب وكاتبات زمانها وزماننا.