علوي طه الصافي.. جوهرة الفيصل وقلبها النابض
لم أكن أعرف الأستاذ علوي طه الصافي قبل صدور مجلة «الفيصل»، التي صدرت في رجب 1397هـ. حينها كنت طالبًا في السنة الثانية، كلية اللغة العربية بجامعة الإمام، وحفيًّا بمتابعة المجلات الأدبية والثقافية ومراسلتها؛ إما لطلب الاشتراك، فتصلني عن طريق البريد، أو للكتابة فيها كأديب ناشئ. مجلات شهرية كـ«الهلال» و«العربي» و«الدوحة» و«المنهل»، والمجلات الأسبوعية كمجلتي «اليمامة» و«اقرأ»، والملاحق الأدبية الأسبوعية التي تصدر في يوم مخصوص في عدد من الصحف السعودية كـ«الجزيرة» و«الرياض» و«عكاظ» و«التراث» بالمدينة، وفي الصحف العربية كـ«القبس» و«الأنباء» الكويتيتين، و«الراية» القطرية، و«الأهرام» الأسبوعي، وغيرها.
كان صدور مجلة الفيصل حدثًا ثقافيًّا مهمًّا في بلادنا؛ فقد خرجت المجلة رصينة في موادها، متنوعة في القضايا التي تطرحها، متناغمة مع الجديد والقديم، وحديثة في إخراجها. فكأنه أريدَ بها أن تنافس مجلة «العربي» أولًا، وتحتل الرقم الأول في التوزيع على المستوى العربي منذ عام 1958م. ثم بعد سنوات عشر دخلت مجلة «الدوحة» في المنافسة، بصدورها عام 1969م. خرجت المجلتان بالأدب من النطاق الضيق، في النص الأدبي ودراساته، إلى الثقافة بمنظورها الشامل، وتجاوزتا «الهلال» المصرية، التي راوحت مكانها آنذاك في نطاق الدراسات الأدبية والفكرية والتاريخية ولم تفد من مهنية الصحافة والاستطلاعات والترجمات والإبداع الأدبي الجديد إلا في المراحل المتأخرة من تاريخ «الهلال»، بعد عام 2000م تقريبًا.
صراع الأجيال
بقراءتي لأعداد مجلة «الفيصل» من الغلاف إلى الغلاف، وانبهاري بها، ثم دخولي الميدان الصحافي والإذاعي وانطلاقتي في الكتابة في صحيفة «الجزيرة» واكتسابي علاقات طيبة مع الأدباء والصحافيين والأكاديميين وكثيرين من المسؤولين عن الدوائر الحكومية، تعرفت إلى الأستاذ علوي طه الصافي أول مرة في لقاء صحافي طويل نشر على صفحة كاملة في جريدة «المسائية»، عام 1402هـ، وتحدث فيه عن تجربته الصحافية الأولى المبكرة محررًا في مجلة «اليمامة» الأسبوعية، في بداية عهدها بعد صدور نظام المؤسسات الصحافية عام 1383هـ، ثم توليه الإشراف على ملحقها الأدبي الأسبوعي في السنوات بدءًا من عام 1387هـ إلى قرب منتصف التسعينيات الهجرية من القرن الماضي.
في هذه المدة الزمنية بدأ اسم علوي يتلألأ في الصحافة الثقافية ناقدًا باسمه الصريح أو باسمين رمزيين كان يكتب بهما: الأول ذكوري باسم «مسمار»، والثاني أنثوي باسم «ليلى سلمان». وقد استعمل الاسم الأول لنقد أدباء الرعيل الأول وتعرية نتاجهم كما زعم، والثاني خصصه لأدب وقضايا المرأة. لقد كان نقده للطبقة الأولى من الأدباء، الكبار المؤسسين، كما يتهكم، نقدًا موجعًا أقرب إلى التمرد على سلطتهم وإعلانًا للتبرؤ من الأدب القديم، أدب الرواد، واتهامهم بالتخلف عن اللحاق بموجات التجديد في العالم العربي؛ كما فعل مع حمزة شحاتة، ومحمد حسن عواد، وعزيز ضياء، وعبدالسلام الساسي، وأحمد عبدالغفور عطار، وعبدالقدوس الأنصاري، وضياء الدين رجب، وعبدالوهاب آشي، وحمد الجاسر، وعبدالله بن خميس، وعبدالله بن إدريس، وأبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وغيرهم.
وبقراءة نقد «مسمار» -على الرغم من تعجله وانفعاله مدفوعًا بروح الشباب وتوقده وتطلعه إلى التجديد وقراءة الردود العديدة التي نشرها ممن خاصمهم في المجلة- يمكن معرفة مستوى الأدب والثقافة الذي وصفته- في كتابي «المقالة في الأدب السعودي الحديث»- بالركود والحيرة؛ لأسباب عدة، منها ما أحدثه نظام المؤسسات الصحافية الجديد 1383هـ من آثار انعكست على تخلي كثيرين من الرواد، مؤسسي الصحف والمجلات، عن ممارسة أدوارهم الأدبية كردّ فعل على إدخال أعضاء جدد معهم في مؤسساتهم؛ كما السباعي الذي أصدر «قريش» و«حراء»، والعطار الذي أصدر «عكاظ»، والجاسر الذي أصدر «اليمامة»، وابن خميس الذي أصدر «الجزيرة» الشهرية، وشباط الذي أصدر «الخليج العربي»، والبواردي الذي أصدر «الإشعاع»، والجهيمان الذي أصدر «أخبار الظهران». ترك هؤلاء الكبار فراغًا هائلًا في صحافة المؤسسات لم يستطع الأدباء الشبان وصحافيو أواخر الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي وأوائل التسعينيات ملأه، مع غياب الجيل الأكاديمي الجديد عن الساحة في رحلة الابتعاث والاغتراب، إما إلى القاهرة أو أميركا وأوربا.
ومع ما يمكن أن يؤخذ على علوي الصافي، من الناحية النقدية والأدبية، إبان توليه الإشراف على ملحق اليمامة الأدبي، وما أحدثه من ضجيج في آذان الأدباء الرواد، وما وصفه به كثيرون منهم بأن هذا الشاب الجديد النابه المتوقد الموهوب يتطلع إلى الصعود إلى الأضواء على أكتافهم؛ فإن الناقد الذي شق طريقه بصورة سريعة في عالم الصحافة والأدب وجد نفسه مهيأً لأدوار عملية صحافية جديدة بعد نيله شهادة البكالوريوس من الجامعة الأميركية في بيروت في تخصص القانون في زمن كان من يحمل فيه الشهادة الجامعية مهيأ لأعلى المناصب في الدولة، وكانت الفرصة المتاحة الجاهزة هي مجلة «الفيصل» التي استمر رئيسًا لتحريرها ستة عشر عامًا.
جوهرة المجلة
استضفته إذاعيًّا في برنامجي «بعد الإفطار» و«بين ذوقين» وبرامج أخرى، واستمتعت معه بجلسة أدبية فاخرة بصحبة الأديب الفنان المصري كمال ممدوح حمدي في ضيافة الأديب الأستاذ محمد رضا نصرالله، عام 1403هـ، في شقته بشارع العروبة، القريب من مجلة الفيصل. زادت تلك الجلسة من معرفتي، بحضور ما يمكن أن أسميه ندوة ثقافية رفيعة محدودة العدد. انطلق كلٌّ في مجاله متدفقًا بصورة عفوية؛ علوي متحدثًا عن الأدب الجديد، ونصرالله متحدثًا عن تجربته الإعلامية في إعداد وتقديم برنامج «الكلمة تدق ساعة» -الذي كان قد توقف عن البث في القناة الأولى بالتلفزيون السعودي- وكمال متحدثًا عن الفن ومدارسه وأبرز اللوحات الفنية في العالم.
عرض علينا نصرالله، في آخر الجلسة وبعد العشاء، حلقة من برنامجه كان ضيفها الأديب السوري أدونيس (علي أحمد سعيد إسبر)، فكان موضوعًا ساخنًا للحوار وللجدل لما شكله أدبه، بغموضه وباطنيته، من التباسات فكرية وتاريخية وفنية. كان خبر ابتعاد علوي من مجلة الفيصل صادمًا حقًّا، فقد كان جوهرة المجلة وقلبها النابض، وبعده حارت الفيصل في طريقها وفقدت بصمة ربان سفينتها.
أعرف علوي جيدًا؛ لقد كان شديد المزاجية، صريحًا شفافًا عفويًّا رقيقًا مكشوفًا، باطنه كظاهره، وهي صفات قليلة لا تتوافر في كثيرين ممن يحاذرون في آرائهم فيختبئون خلف العبارات الملتبسة والبسمات الغائمة الصفراء. وفي السنوات الأخيرة، ربما عام 1426هـ، هاتفني مرات متقطعة، معاتبًا قصوري في التواصل معه؛ بسبب انشغالاتي العملية، وأسر إليَّ بأنه لا يخرج ولا يرى أحدًا، ويطلب مني إرسال ما أصدرته حديثًا من كتب إليه بواسطة أحد أبنائه، ويريد أن يهديني أيضًا آخر إصداراته، ففعلت وفعل، وكان في طياتها في كل مرة رسالة محبة وعتاب وبسط للمرحلة العمرية التي يعيشها.
رحمه الله وغفر له، فقد كان غيمةَ مطر، وبسمةَ محبة، وحوارَ صدق، وقلمًا مبدعًا أثرى ساحتنا بأدب القصة والرواية والرحلة والسيرة.