بكائية مالك بن الريب.. من القصيدة إلى الشاشة بين الحقيقة والخيال
منذ أن بدأت صناعة السينما تظهر في العالم العربي، في ثلاثينيات القرن الماضي، وذلك في مصر أساسًا ثم في دول أخرى، مثل العراق والشام، ظهرت معها صناعة تحويل النصوص الأدبية، كالرواية والقصة والمسرحية والحكاية الشعبية، بل الأسطورة، إلى أعمال سينمائية بدأت بالصورة فقط ثم بالصوت والصورة. هذه الأعمال لا تزال تُعرض في القنوات التي تقدم أعمالًا وبرامج ما يسمى بـ«الزمن الجميل» وهي معروفة لمن عاصر ذلك الزمن.
ولكن، حسب علمي، لم أشاهد حتى الآن أعمالًا سينمائية حولت قصائد شعرية إلى مجال الصورة السينمائية، سواء كانت قصائد غنائية أو وصفية أو ملحمية، اللهم إلا ما فعلته هوليوود في الملاحم الإغريقية مثل «إلياذة هوميروس». إذ حولت أشهر أجزائها إلى أعمال سينمائية عظيمة، مثل قصة حصار طروادة وحصانها الخشبي المشهور الذي أصبح أيقونة الخداع الحربي. ولذلك فوجئت عندما وجدت مرثية مالك بن الريب -والمرثية في نظري تمثل قمة التجربة الشعرية الغنائية- وقد حولت إلى مسلسل تلفزيوني من ثلاثين حلقة، من إنتاج تلفزيون قطر عام 2016م، ومن إخراج محمد لطفي، وأدّى دور مالك الممثل ياسر المصري، ودور زوجته الممثلة مارغو حداد، ودور أبيه الممثل نبيل المشيني، ودور أمه الممثلة نادرة عمران.
يصور المسلسل أهم أحداث حياة مالك من الطفولة إلى الصعلكة ثم التوبة والانخراط في الجهاد في سبيل الله تحت إمرة سعيد بن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، في زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه. يهمنا هنا، من سيرة مالك، الحلقة الأخيرة التي تصور وفاة مالك في بلاد الغربة، في خراسان، التي ينشد فيها بكائيته، التي هي مجال الحديث في هذه المقالة.
من الواقع إلى النص
إن مصدر اهتمامي بهذا المسلسل في حلقته الأخيرة هو الطريقة التي صور بها المخرج حادث وفاة مالك وإنشاده القصيدة في أثناء احتضاره، كما يزعم كل من ناقشها أو أشار إليها إشارة سريعة. وقد ناقشت هذا الزعم وأثبت بطلانه في كتابي «حوارات النص: دراسات في الأدب المقارن» ص 111/ 155، دار المفردات للنشر والتوزيع عام 1427هـ/ 2006م. وقد أثبت بالتحليل المنطقي للنص استحالة أن ينشد مالك الشاعر هذه البكائية وهو في حالة احتضار. والسؤال هنا: هل تبنى المخرج ذلك الزعم أم قرأ النص قراءة أخرى تقترب أو تبتعد قليلًا أو كثيرًا من قراءتي؟
إن انتقال النص من فضائه الأصلي إلى فضاء آخر يترتب عليه بعض الاختلافات مثل اختصار النص الجديد لبعض عناصر النص الأصلي أو إضافة عناصر جديدة أو تعديل العناصر الأصلية؛ تبعًا لفنية الفضاء الجديد. لكن التعديل الذي عاناه نص هذه البكائية في فضائه السينمائي الجديد أعمق من مجرد الاختصار أو الإضافة أو تعديل بعض العناصر. إنه يبدأ نصًّا مكتوبًا يحكي سيرة حياة افتراضية لشاعر حقيقي، ثم ينتقل بنا إلى نص سينمائي تختلط فيه الحياة الافتراضية مع الحياة الحقيقة للشاعر نفسه، ويحاول أن يقنعنا بحقيقة تلك الحياة الافتراضية. وربما كانت الإجابة عن السؤال السابق مدخلًا لقراءة هذا النص السينمائي.
الإجابة ببساطة هي أن المخرج اتفق مع الزعم القائل: إن الشاعر أنشد هذا النص في حالة احتضار. فكيف حاول أن يخرج قراءته من هذا المأزق؟ إنه الفن السينمائي الذي يتكفل بإيهام المشاهد أن ما يراه حقيقة. تبدأ الحلقة بمنظر ابن الريب، الشخصية، مريضًا على فراش الموت وصاحباه يقعدانه ثم يوقفانه على رجليه، ثم يخرج من غرفته معتمدًا على ذراعي صاحبيه وقد تجدد له الأمل في الرجوع إلى زوجته وأبويه مما مكنه من امتطاء فرسه بصعوبة وصاحباه يجران الفرس حتى يصلا به إلى منتصف الطريق. وهنا يزداد عليه المرض فيتوقفان به وينزلانه عن فرسه ليستريح قليلًا ويستعيد ما تبقى له من نشاط يمكن أن يبقيه حيًّا إلى أن يصل إلى أهله.
إلى هنا والصورة تقنع المشاهد أن ما يراه قد وقع حقًّا. ولكن في هذا الموقع يبدأ ابن الريب، الشخصية، في إنشاد قصيدته وفي أثناء ذلك تختلط المناظر الحقيقية التاريخية مع الأحداث الافتراضية فنراه يتصور ماضيه مع ابنته ولعبه معها فوق الرمال، مع أنه حقيقة يستريح في مكان جبلي تحيط به الأشجار اليانعة، لا بل يتصور كيف يحفر صاحباه قبره وكيف ينقلانه جرًّا بملابسه لا بأكفانه كما يؤكد ابن الريب الشاعر في القصيدة. ولا يتوقف عند ذلك؛ بل يصور لنا كيف سيستقبل أهله نبأ وفاته وإذا بهم يأتون لزيارة قبره الرابض بين صخور الجبل. ونراه في الصورة متنقلًا بين أبويه وزوجته المكلومة، خلافًا لما يصوره النص المكتوب؛ لأن النص المكتوب لا يشير إلى مجيئهم إلى مكان القبر بل فقط يناشد مالك، الشخصية، أمه أن تأتي إلى قبره وتبكيه.
هنا يختلط الحاضر بالماضي، وتتبخر فيه صورة لعبه مع ابنته، وبالمستقبل الذي تصر الصورة فيه على أن ما يراه المشاهد حقيقي. هذا كله تجسيم لنص افتراضي متخيل في إطار حياة مالك الشاعر.
هناك إذًا ثلاثة مستويات من المفارقة الدرامية في هذه البكائية المصورة: المستوى الأول مالك الشاعر وهو يتبنى تقليد رثاء النفس الشعري المتعارف عليه في زمانه ولكن بأسلوب جديد يمثل نظرته الفنية لهذا الجنس الأدبي. المستوى الثاني نجاح الشاعر في إقناع المشاهد أنه ينشد مرثيته في لحظة الاحتضار وأنه هو المتحدث في القصيدة وتلعب الحيل السينمائية الدور الأبرز في هذا المستوى، وهو ما أثبته في بحثي آنف الذكر. المستوى الثالث تخيل مالك، الشخصية، أنه على وشك الموت وأن ما يقوله لا يعدو أن يكون همهمات روح في لحظاتها الأخيرة.
وأخيرًا، هل من الجائز أن مالكًا الشاعر أراد أن يفرق المشاهد بين التجربة الشعرية الفنية وبين السيرة التي يوثقها التاريخ؟