ديوانان لنجوان درويش فصول من سيرة القصيدة
يتنقل الشاعر بين الأمكنة والفضاءات، مجبرًا أو مخيرًا سيان، في رحلة لا تنتهي يواصل عبرها كتابة قصيدة في اللااكتمال. القصيدة وهي تتشكل، تخط مفارقات الزمن، وسيكولوجية الكينونة المشبعة بالغياب. تكتب القصيدة سيرتها، وهي تتجلى، سواء نصوصًا مفتوحة على أسئلة الذات وشرخ العالم ووجع الفقدان، أو سيرًا بالجمع للأمكنة والخسارات والعوالم والحيوات وكينونات يقظى. في كل مرة يتنقل الشاعر، من لحظة شعرية إلى أخرى، يرقب حركة القصيدة وهي تخطو باتجاه ذاتها. سيرة هذا التشكل، تنحو بالشاعر إلى كتابة سيرة القصيدة التي تخط في النهاية سيرته
الإبداعية الخاصة.
الديوانان «كلما اقتربت من عاصفة» و«تعب المعلقون»، يمثلان معًا بعضًا من تجربة الشاعر الفلسطيني نجوان درويش (1978 في القدس) وصدرا معًا في خريف 2018م) دار الفيل والمؤسسة العربية للنشر والتوزيع K(شاعر قادم من «ذاكرة مقتولين»، الذاكرة التي تفتح اليوم عبر نصوص شعرية متفرقة، هي منجز الديوانين معًا. نستدعي هنا مقولة كيليطو «الحمالون»، قدر الشاعر أن يحمل معه، في ذروة هذا الترحال المرير والصعب، سيرة القصيدة.
فصول من يوميات قصيدة ووجع الشاعر
يبدأ ديوان «كلما اقتربت من عاصفة»، كما ينتهي، ويفيد حرف الواو بهذه الديمومة وهذا اللاتوقف. «وأنت تنتظرين في النهاية»، عنوان القصيدة الأولى، «وأسمع صوتًا يقول لي: اهرب». هذا الديوان يشكل دفتر أفكار الشاعر، كتبها في لندن، طيلة فصل حياتي، بين 2014 و2015م. الديوان يشكل يوميات لتشكل القصيدة، في تساوق واندغام كلي مع ذات شاعر، تكشف وجعها، ورغبتها، وأحيانًا تعلن ببداهة عن مفارقات الكتابة والزمن والحياة نفسها.
قصيدة «في هذه المتاهة» تبدأ بصيغة شعرية: وكنت أجلس في المنعطفات. بعدها قصيدة «اهرب»، وتبدأ بـ«وأسمع صوتًا يقول لي: اهرب». في قصيدة «أغنية إلى الولد السعيد»: «ولم يكن لي أهل أراسلهم». تليها قصيدة «تذكر موعد في حديقة»: ومن أنا في الردهات. وأبعد من هذا التقطيع، والتمثيل والنمذجة المختارة من الديوان، في قصائد «كلما اقتربت من عاصفة»، تسلسل ونفس شعري ممتد، أقرب إلى دفتر أفكار. قصيدة تتشكل في سيرة الزمن، زمن منفي ومنفى، إرادي واختياري، لحامل القول: شاعر لا يرغب أن يتغنى للانتماء نفسه، ولا لوجع الغياب، بل يمزج رغبته في الحياة كما رغبته في الكتابة. «وفي هذه المتاهة/ فيها وحدها/ وجدت طريقي».
داخل هذا النسق الذي يقترحه الشاعر، هنا ديوان صاغه أقرب إلى عاصفة، تتشكل ذات الشاعر وتنتهي. داخل سياق المنفى، والنفي مضاعف هنا، عندما تنحاز القصائد إلى هذا التشذير، وأحيانًا اختيار مقاطع بلغة تكثيف حادة، ومقولات قد لا يوحد بينها سياق الشعري. لغة نثرية تقريرية، إلا أنه في كثير من اللحظات ينبهنا الشاعر إلى أن مرارته، وتيهه ومنفاه واغترابه وتشظيه..، هو الكتابة نفسها، هو ما يخطه كنص شعري، أما هويته الخاصة فيخطها كما يأتي: «ليس لي بلد لأرجع إليها/ ليس لي بلد لأنفى منها/ شجرة جذورها ماء نهر يجري/ إن توقفت تموت/ وإن لم تتوقف تموت…».
مقطع من نص يصل إلى أقسى لحظات المنحى الفجائعي، صوت المفرد الشاعر/ الفلسطيني. صوت الوجع الفلسطيني، وصوت الشاعر في منفاه وفي تهجيره، صوت اللالجوء العدمي. اختيار هذا النص خاصة، لم يكن بمعزل عن تدرج النص الشعري، الذي يسمه الشاعر بـ«كلما اقتربت من عاصفة»، فعل الدنو هو سقوط في العدم. حيث لا أفق للشاعر، لتبقى قصيدته التي هي دفتر أفكاره، وهي شكل هويته المتشظية.
«كان للناس بلد واحدة/ وكانت بلدي تتعدد في الخسارة/ وتتجدد في الفقد».
قصيدة «لم نكن نتوقف»، هي اختصار لصدى هذه الهوية، في تشظيها المضاعف، حيث لا وطن، لا جغرافيا ولا أمل في أن يجد الشاعر سكنه الأنطولوجي. تم محكي ينمو في ديوان «كلما اقتربت من عاصفة»، لا ينتظم وفق منطق نثري وسردي. إذ لسنا هنا أمام شخوص محددة، ولا أمكنة ولا أزمنة، فقط الزمن الشعري الملتبس، هنا الآن. والمكان الذي يلم الفقدان اليوم (لندن)، والمكان الأقرب إلى «الميثولوجي» الوطن، أمسى متشظيًا، بل رهينا بوجع الفقد. القصيدة، سكن الشاعر، ليست إلا مسار تشكل لجزئيات صغيرة تتكرر، حيث يقترب الشاعر في كل مرة، من تفاصيل صغيرة. رهان قصيدة النثر، هي تلك التفاصيل اليومية، التي قد لا ترتبط بأفق القصيدة، بقدر ما ترتبط بسيرة تشكلها. الخطان الموازيان، الشاعر والقصيدة، يتحللان في كل لحظة، ليصبحا ذاتًا مفردة في صيغة الجمع.
«قلت لها اكتبي في كل مكان وفي كل وقت/ وأنت تحققين خسارتك/ اكتبي واخسري/ أريهم كيف يكون الخسران». قصيدة الشاعر تكتب خسارتها وخسارات الشاعر. هذا الفعل، يتجدد كديمومة، ليس لأنه أفق السواد، بل لأن التوصيف المناسب لهذه القصيدة أن تكتب سيرتها بصوت الشاعر، وأن يكتب روحه ودواخله الجوانية، من خلالها. وحين يتكرر فعل الأمر، فشكل الانكتاب، يتحقق في الخسران فقط. لا يختار الشاعر إلا قصيدته؛ لأنها الأمثل لهويته، هوية الشاعر قصيدته. «كلما اقتربت من عاصفة تذكرت بيتنا».
لا أحد يمكنه أن يجتث نفسه من تربته، والوطن لم يتخلف بعيدًا من الشاعر، بل ينتظر. الشاعر «لا بد أن ينهض» (ص55)، كالميت، الذي أمسى قادرًا على أن يتخلص من رقاده الإجباري، ويذهب في اتجاه قدره اليوم. أم إن الشاعر أصبح اليوم «شخصًا آخر» (ص54)؟ أهله في الخارج و«لا يستطيع فتح الباب».
اكتب جملتك.. على جدارية القصيدة
في «تعب المعلقون»، الديوان الثاني للشاعر نجوان درويش، لا نجد اختلافات جوهرية بين المنجزين الشعريين لا في نمط الكتابة، ولا في مجالات التركيب والمعجم. مجال الرؤى المشكلة لقصائد «تعب المعلقون»، قد تجد منطقها الخاص، ونسقها المعرفي في بلورة أفق مختلف لسيرة القصيدة. لا ينأى الشاعر بعيدًا، سواء على حقول ودلالات بعينها، الصرخة نفسها والأسلوب الانتقادي اللاذع نفسه، وروح السخرية السوداء المرة نفسها.
علاقة القصيدة، هنا في سياق هذا الديوان الثاني، تنطلق من معطى أساسي. حالة الاستلاب التي تعانيها هذه الذات، وعبر تاريخ مرير ومتواصل من الخسارات والعذابات والتهويد. وهو ما جعلها كينونة معلقة، لا أفق لها ولا حاضر ولا مستقبل، بل ماضيها أصبح نصًّا لا يكتمل إلا في دفتر خربشات لصديق قديم. حين يقرر الشاعر أن يضع نفسه ذبيحة، مثلها مثل تاريخ طويل من كينونات، وأن الأوان قد جاء للخلاص من هذا العذاب الأبدي، أمام هذا النفس المحكي، من خلال مقاطع شعرية هي على التوالي:
نسيم قديم من وادي الصليب، (11 قصيدة) عامل مياومة ينتظر (7 قصائد) جندي متنكر بعد حرب لم يصله خبر انتهائها، (11 قصيدة) كل كلمة تنظر إليَّ وتقول: أنت طردتني، (10 قصائد) مرارًا عند المنعطفات في الكوابيس. (8 قصائد)، وغيرها.
اختار الشاعر في ديوان «تعب المعلقون»، أن تكون القصيدة أكثر انفتاحًا على سيرتها. تواريخ وأمكنة، وقدرة على صياغة لغة نقدية، ما يشبه النقد الذاتي الذي يتكرر. صور نمطية، تتجاوزها القصائد بصياغات، أحيانًا، أكثر عريًا وأكثر تشريحًا للفقدان. حتى الترحال، سافر الشاعر نجوان درويش، لأمكنة متعددة، بتواريخ مختلفة. بل أحيانًا يُستدعَى التاريخ القديم، والمنسي، بل يكتب الشاعر رسائل إلى الله. في نعيه لنفسه، يكتب الشاعر: إعلان نعي: «ود لو أن نعيه كان كالآتي: قارع الغزاة قدر ما استطاع/ لم ينتصر، لكنه أيضا لم يهزم/ وفي النسيان صنع حياة لألف سنة قادمة/ مات متممًا وجباته الشعرية».
تأبى هذه القصيدة أن تنتهي، وهي تشكل عري الذات التي أنهكها العالم. لكن النعي يرتبط بـ«جثة» ترددها القصائد ولا أحد يكفنها ولا من يدفنها. وهي الجسد المعلق، الذي يطلب الشاعر أن نريحه، سفر ميثولوجي، يأخذنا إلى أمكنة وتواريخ قديمة. تعيد السؤال القدري نفسه، هنا تختلط التفاصيل؛ إذ لا نكون أمام نسق محدد دلالي للقصائد، من الجزائر، إلى أغاني وردة، من شيراز إلى تيمورلنك، ومن مصر إلى مياومي الخليج، ثم في كثير من النصوص، اللجوء نفسه، العودة إلى حيفا والقدس وفلسطين. شاعر لا يتبع سوى نفسه، أنهكه الزمن وأدران وجع الغياب، ووجع الأمل، كلما صاغت القصيدة قدرًا للشاعر، أصرَّ هو أن ينصرف إلى حتفه.
كل انتقال من مجموعة شعرية إلى أخرى يكبر افتنان الشاعر بعريه، عابر سبيل كسر ظهره الفقدان. وقد لا نجد مسوغات لهذه المسافة، التي يضعها الشاعر بينه وبين الوطن. فالوطن لا يتكرر ككيان جغرافي، ولا محكي تاريخي، ولا قضية جوهرية، تؤشر على الهوية والوجود. انتهاك لغوي متجدد، وتركيز على طي صفحة الأصل. كل ما هناك، الموت والفقدان والنعي. رؤية مغايرة تمامًا لمتن شعري، لصوت يأتي من القدس، وظل متفردًا في المنفى، أو المنافي على اختلاف جغرافياتها. «ليس لي بلد/ هذه بالمواربة والشك أصبحت بلادي». «أنا مجرد كلمات/ (…)/ قصتي أنني بلا قصة». هذا المآل القدري، هذا الفقد، هو ما تصدح به قصائد الديوان. حيث الكلمات هي الخلاص، الكلمة تبئير مضاعف، لهذا القدر الشعري لسيرة قصيدة تواصل البحث عن هويتها. الشعر حين يحرر الشاعر من الزمن «سجاننا الكبير»، في عالم من دون عدالة اجتماعية. هذا الاختيار الواعي، في اللجوء إلى القصيدة، كمآل قدري محتوم ونهائي. يوازيه، وبالقدر نفسه، هذا التناغم في أن تشكل الكتابة نفسها: الوطن، الهوية، والكينونة.
من هنا، تنبعث سيرة القصيدة من داخل هذا الفقد، لتصبح جدارية الشاعر هي قصيدته. سيرة القصيدة، ليست طوبوغرافيا للكتابة الشعرية، ولا تشكلها، ولا نسقًا معرفيًّا، بل هي سكن الشاعر، أبعد من السكن الصوفي، هي شكل وجوده المتحقق في اللغة. «أريدك أنت/ يا أرض/ يا رايتي المهزومة». لا شيء يضاهي الوطن، لكنه يتخلف بعيدًا في قصائد الديوانين معًا، رغم أنه الخلفية الأساسية، الجرح الدفين الموارب خلف ما يكتب. تحضر الذات، وهي ترى تلك العجوز في مخيم شاتيلا، حين تلخص كل شيء.. «عايشين بذل هون».
الشعر يحرر أصحابه من الزمن
هكذا اختار الشاعر نجوان درويش، في ديوانيه «كلما اقتربت من عاصفة» و«تعب المعلقون»، أن يتخلص من جل القضايا، النمطية، التي تقيد أفقه وتجربته الشخصية في الكتابة، من خلال قوة الانتماء لجيل، قهرته اليوتوبيات وسقطت كثير من اليقينيات، وفشلت كثير من المشروعات العربية الكبرى، وانتهت الآمال القريبة والمتوسطة المدى، أغلقت الأحلام، وأمسى العالم يوطن سلطة أخرى… والشعر يفتح هذه القدرة على التأويل، بما هو مشترك مفتوح، والشاعر حاملًا لهذا الحس من المغايرة والاختلاف. «كلها أرض/ كله موت…». هذا ما يتركه الشاعر نجوان درويش على جدارية الحياة والقصيدة، ويمضي… لا اتجاه لموته الرمزي، بل اتجاه لسير القصيدة، ضمن تجربة ومشروع شعري، يتبلور بتؤدة، ويكشف عن استعارة لافتة لبلاغة القصيدة، اتجاه الكينونة والهوية والعالم.