صوت عبر الهاتف
قبل الانضمام للجريدة، عملت لستة أشهر في محطة إذاعية مُقدمًا لبرنامج ليليّ مهمته إيناس المسافرين في الليل. كنا نجري مقابلات، ونضع بعض الموسيقا، أو نتحدث عن موضوع محدد ونردُّ على مكالمات المستمعين الذين يريدون إبداء رأيهم حول الموضوع، أو أن يقولوا شيئًا مثيرًا عما يخطر ببالهم. في البداية لم أحب الأمر، كان مملًّا وثقيلًا إلى حد ما، لكن مع الوقت بدأت في اعتياده. أحيانًا يتصل ناس في الحقيقة مثيرون جدًّا، ككاتب اقترح أن يقرأ عشرين سطرًا من عمله الأهم الذي رفضته عشرون دار نشر وتجهله عشرات المسابقات. كان الكاتب يؤكد لي أنه كان كتابًا عظيمًا لكن عدم الفهم كان متفشِّيًا في الوسط الأدبي. الخلاصة أنني تركته يقرأ سطوره العشرين الأولى، التي بدت أسوأ مما تخيلت. تلك الليلة لم أعلِّق عليه بشيء، لكنني كنت مستعدًّا لأن أخبره في الليلة التالية. إلا أنني قبل ذلك تلقيت هرمًا من رسائل البريد وعشرات من المكالمات تهنئني على ذلك التوفيق.
السبب في ذلك أن صوت الكاتب والنصّ الذي قرأه عالجا كثيرًا من الناس من الأرق، فطالبوني من قبيل العمل الخيري أن أتركه يستمر في القراءة كل ليلة. في الحقيقة، لم يكن إنعاس الناس أخلاقيًّا تمامًا إذ كان عملي الإبقاء عليهم مستيقظين بقصص مثيرة. لكن هؤلاء المستمعين أكدوا لي أن أجهزة الراديو ستظل مفتوحة، وهكذا، حتى إن لم يكونوا يستمعون، سترتفع نسب الاستماع.
تلك الليلة قلت للكاتب: إن لدينا قسمًا جديدًا في البرنامج: «عشرون دقيقة للحُلم». كان النجاح قاطعًا. تلقى الكاتب مساعدات من الأشخاص الذين عالجهم من الأرق واستطاع نشر روايته. قصة أخرى من تلك المدة، هي قصة رجل كان قد فقد كلبه وظل على مدار أسابيع يكرر رسالة ليجده. كان مدهشًا عدد الأشياء الجميلة والحنونة التي يقولها ذلك الرجل لكلبه طالبًا منه العودة. وفي إحدى الليالي سمعنا نُباحًا على مدخل المحطة. ذهب مساعدي ليلقي نظرةً، وبالطبع، وجد بيبه؛ كلب من جنس الدوبيرمان، قوي كثور مصارعة وسعيد كفراشة. ما إن فُتح الباب حتى نفذ جاريًا نحو الأستوديو. وضعت الكلب في مكالمة هاتفية مع صاحبه وسمعت كيف كانا يتبادلان النُّباح وعبارات الحنان. جاء الرجل له. أذكر أن زوجة ذلك الرجل أتت لترافقه، لكن لا هو ولا كلبه أعاراها اهتمامًا. كان الرجل يعاملها باحتقار، ولا يتحدث إليها إلا ليعطيها أوامر. وزام الكلب حين حاولتْ أن تربّت على رأسه. شعرت بالأسى من أجلها، وتساءلت ما الذي يجعلها تستمر في مشاركة الحياة مع هذين الحيوانين. لم أعرف حتى اسمها.
أحيانًا كان يتصل أشخاص لإرسال رسائل حب. وفي إحدى الليالي بدأ في الاتصال قاتل يريد أن يرسل تعازيه لأقارب ضحاياه وتحية لمن سيموتون قريبًا على يديه. كانت عبارته المفضلة: «ها أنتم تعرفون، عليكم أن ترفعوا رؤوسكم كيلا تُذبحوا بسوء». حاولت أن أسحب منه بعض الخيوط مع محقق بجواري، لكنه أخبرني أن المحاورين الفضوليين كانوا ضمن ضحاياه المفضلين. كان القاتل يتحدث بأسلوب رفيع لشخص واسع الثقافة: يلقي هنا وهناك جملًا لجورج باتاي، وبشكل أكبر، لجيل دي ريز، صاحب الهولوكوست المشين. كذلك يرمي عالمَ اليومِ بالتهديدات، وأحيانًا يلقي قصيدة لجون كيتس أو لشكسبير.
كان مساعدي يقول: إنه مجرد مجنون، فأر مكتبات وبالتأكيد لم يقتل أحدًا، وإنه يفعل هذه الأشياء في خيالاته وحسب. ألمحت إليه بذلك فأصدر ضحكة عالية. في الليلة التالية وجدوا راهبًا مذبوحًا على بعد عشرين خطوة من المحطة. لكن أكثر القصص إثارة من تلك المدة هي قصة سيدة بدأت في الاتصال كل ليلة لتحدثني عن أزماتها العاطفية، التي كانت كبراها عدم المبالاة التي يقابلها بها رجل كانت مغرمة به بشدة. حاولت نصحها بأن تفكر في شخص آخر، وأنه من الأفضل ألا تؤخذ الأشياء بالقوة في الحب. قلت لها: «الحب أبرد من الموت» مذكّرًا بفاسبيندر، لكن تلك المرأة كانت مهووسة.
محبوبها مساعد طبيب أسنان. شاب سمين قصير القامة له نفس عيون جون فويت الحالمة في فِلْم راعي بقر منتصف الليل حسب قولها. وهي موظفة في مخزن شركة تنفق الجزء الأكبر من راتبها على هدايا محبوبها. كان يقبلها دون وازع من ضمير، لكنه لم يستسلم لمطالب الفتاة، التي كانت تصف نفسها بسمراء مثيرة ذات عجيزة واسعة وصدر متوسط وابتسامة جميلة.
في إحدى الليالي بعد شهر كانت تتصل فيه كل ليلة، لم تحضر. أثار ذلك استغرابي، لكنني كنت أعرف أن الناس هكذا. ربما وجدت فتى أحلام آخر، أو على الأرجح اختارت، مثلي، أن تمضي بقية حياتها في مشاهدة الأفلام الكلاسيكية في التلفزيون. لكنها اتصلت في الليلة التالية وطلبت مني رأيي في حبها ذاك إن كان مستحيلًا أم لا. فكرت في الأمر وقررت أنَّ أكثر ما يناسبها أن تنسى ذلك المستغل. «أظن أنه لن يحبك أو يحترمك أبدًا، عليك أن تنسيه وتنتظري بإيمان وصبر. سيأتي أحد، دائمًا ما يأتي، تأكدي من ذلك». قالت هي: «أصدّقك، حضرتك شخص صادق. سلام». سمعت الطلقة وتخيّلت المشهد.
في اليوم التالي قدمت استقالتي.
القصة من مختارات قصصية بعنوان: أهلًا وسهلًا، بابلو سكوبار جابيريا. ومترجمة بإذن من الكاتب والناشر.