موسوعة الشغف بالتوثيق المنهجي في «موسوعة الدنانير والدراهم الأموية العربية» للباحث علي بن إبراهيم العجلان
إعادة كتابة التاريخ المنسي للمسكوكات
تعيش الأمم في كل أزمنتها، وحضاراتها، وفنونها، وثقافتها، على إيقاع الحفاظ على تراثها الثقافي المادي وغير المادي الموروثين من الأزمنة السالفة؛ لأنهما تراثان يشكلان هويتها، ويقدمان عمق الوشائج التي كانت تُوحد بين مختلف مكوناتها متمثلة في كل الأيقونات التي تنطق بعطاءاتها ونتاجاتها المائزة التي شاركت في صناعتها عبقريات فذّة أرّخت لدلالاتها في المدائن، والحواضر، والقلاع، والقصور، والحصون وفي كل المعالم التي تمنحها وجودها المديني الحضاري فجعلتها تنطق بكل مكوناتها البارزة للعيان.
هذه الأمم عندما تريد بفضل العلماء المختصين، والباحثين توكيد هويتها الحضارية الماضية، وتطمح إلى البحث عن تراثها التلد فإنها تعود إلى عملية الحفر في هذا التاريخ المنسي لتعيد إحياءه، وإبانة الملامح ومظاهر الزمن الذي مضى ليكون كل اكتشاف، وكل ترميم للمعطيات التي يوفرها البحث إتمامًا لما نقص من معلومات حول مرحلة من مراحل الأمة.
وفي هذا السياق يكتسب التأريخ للتاريخ العربي الإسلامي بالمسكوكات كتراث ثقافي مادي أهمية كبرى تعيد ما خبأته الأيام والقرون من حقائق حتى تظهر، وتزيل الغشاوة عن الأزمنة التي غطتها المسافات الزمانية المحفورة بين ما مضى والآن، ويعدّ الفعل التوثيقي للمسكوكات العربية الإسلامية مشروعًا مهمًّا اشتغل عليه الباحث علي بن إبراهيم العجلان في مصنّفه الموسوم بـ«موسوعة الدنانير والدراهم الأموية العربية».
منهج تاريخ سك الدنانير والدراهم والنقود في العصر الأموي
وتوضيحًا للغايات الكبرى من إنجاز هذه الموسوعة، فإن الباحث حدد المنطلقات، ووضع نصب عينيه الغايات، مبرزًا العلاقة الوطيدة، المحكمة، والراسخة الموجودة دومًا بين المسكوكات والتاريخ، وهو حين يوضح أكثر هذه العلاقة بينهما فإنه في مدخل الموسوعة يمهد بإهداء للدخول في مراحل بها سيتتبع خطوات التنقيب، والبحث، وكأنه بهذا الإهداء يضع الحجر الأساس الذي سيقوده إلى ضبط منهجية العمل فيقول: «إلى دارسي التاريخ… إذا أردت دراسة تاريخ أمة، فعليك بدراسة مسكوكاتها؛ لأن المسكوكات من الوثائق التاريخية المهمة، التي اجتمعت لها كل مستلزمات الوثائق من تاريخ ومكان، وهدف.. والمسكوكات تعتبر من أهم المصادر التاريخية وليس من السهل الطعن فيها».
إجرائيًّا يحتاج هذا التوثيق إلى الإلمام بالموضوع، كما يحتاج إلى التدقيق في كل المعلومات المحصل عليها، ويتطلب تبني منهج، أو مناهج تساعد التوثيق على بلوغ غاياته، وتعين على ضبط المعلومات التي سيُعتمد عليها لتقديمها خالية من الغموض، أو التسطيح. وتوضيحًا لعملية التوثيق بالوثيقة الصحيحة، وتمتينًا لعلاقته بالأحكام التي سيصدرها، فإنه لا يريد أن يضعف عمله بالادعاء بتملك الحقيقة المطلقة؛ لأنه يريد بشغفه الرحلي أن يكون مؤرخًا وموثقًا دقيقًا لكل معلومة تتعلق بالمسكوكات، وهو ما أبان عنه في المقدمة التي سلط بها الأضواء على مشروعه.
الشغف الرحْلِي الذي يقود إلى التوثيق لسك النقود
يعرض الباحث علي بن إبراهيم العجلان في مقدمة هذا المصنف شغفه بالمسكوكات، كما يعرض رحلاته لدول عدة قادته إلى زيارة الكويت، ومنها إلى البصرة، ثم بغداد، وزيارة إيران، مدينة عبدان، والأهواز، ثم شيراز التي قادته إلى كشف العديد من المسكوكات. وهو بهذه الرحلات وسّع من معرفته بموضوعه، وعمّق نظرته إلى المساقات التاريخية ذات العلاقة بالمسكوكات، فبرزت أهمية هذه الرحلات كالآتي:
– أن الرحلة عنده مفتاحه الحقيقي للمعرفة بقيمة المسكوكات. والحافز على القيام برحلات أخرى تعميقًا لهذه المعرفة.
– أنه كسب طريق قراءة المسكوكات من متحف بغداد.
– أنه كان يقوم برحلات ثقافية سمّاها «رحلات المسكوكات الشاملة».
بهذا يعدّ الرحلة مصدر المعرفة؛ لأن زيارة محلات (الأنتيك) بحثًا عن المسكوكات القديمة كانت تزيده معرفة على معرفة وهو ما قاده إلى البحث عن الجديد في سك الدراهم والدنانير في العصر الأموي.
الجديد في سك الدنانير والدراهم في العصر الأموي
تبقى النقود ذات أغراض سياسية وإعلامية ودعائية واضحة تسجل بسكّها ورواجها في التبادل التجاري أحداثًا تاريخية تكون قد حدثت في زمن معين، فتؤرخ لمناسبة من المناسبات، ويكون النص المكتوب في وجهها وظهرها علامات من علامات تثبيت ظهورها، وشكل التحولات التي طرأت عليها بتوجيه من خليفة المسلمين، أو يكون التحول مرتبطًا بما كان يقوم به كل والٍ من ولاة الدولة الأموية في سك النقود.
بهذه التصورات والقناعات، وما تحصّل عليه من زيارات ورحلاته، اقتنع الباحث أن كل مدينة في العراق وإيران تحتوي على كنوز ثمينة يستوجب الكشف عن خباياها. من هنا وضع منهجيته المضبوطة لمقاربة موضوع المسكوكات، والتأريخ لكل ما طالها من تغير في الشكل والمضمون، وهي عملية غير سهلة، وهذا ما كان يستدعي عنده الإحاطة الشاملة بمكونات الموضوع، والمعرفة بكل المعطيات التاريخية، والمعرفة بكل الملابسات والتحولات التي عرفتها المرحلة المحددة للتوثيق من بداية السك العربي إلى سقوط الدولة الأموية سنة 132 هجرية.
حتى يبرز «دور سك النقود في الدولة الأموية» باستعراض العوامل التي كانت وراء إتقان عملية السك؛ يقول الباحث: «استفادت دولة الخلافة الإسلامية والدولة الأموية من الخبرات الإدارية والتنظيمية لدُور سك النقود في الدولة الفارسية ودولة الروم، بإنشاء دُور سك النقود الإسلامية حيث كانت بداية سك الدراهم الساسانية المعربة. وبعد انتشار الدراهم الساسانية المعربة والتأكد من قدرة الولاة على إدارة دور السك ومراقبتها، أمر الخليفة عبدالملك بن مروان بإقامة دار سك النقود العربية في عدد من المدن، والبدء في سك النقود العربية الصرفة سنة 77».
ولإضفاء الشرعية على دُور السك في العصر الأموي وإثباتًا لسلامة تسييرها وتنظيمها كمؤسسة مالية تُعنى بجودة المنتوج أبرز الباحث علي بن إبراهيم العجلان كيف كانت تُتدبَّر هذه المؤسسة فقدم أجوبته كالآتي:
– أن مهمة ولاة الأقاليم تكمن في مراقبة جودة سك الدراهم حتى تُصدَر بجودة عالية من حيث الألوان والشكل ونقاوة المعدن.
– تعيين قاضي القضاة للإشراف على دُور السك لـ«ضمان النزاهة والحرص على شرعية أوزان الدنانير والدراهم».
– وجود مدير يسمّى متولي دار السك.
– وجود المقدم، النقاش، السباك، والضراب، وهم الذين يسكُّون العملات.
عندما يكون سك الدنانير والدراهم مستوفيًا لكل شروط السكّ والتجويد والإتقان فهذا سيؤهلها كي تكون مقبولة تدفع بها «الزكاة، وتقديم الجزية ودفع التعويضات والديات».
بالتدقيق في صحة النقود، والتأكد من سلامتها من كل تزوير، وخلوها من كل تشويه لتكون مقبولة كحجة ودليل لا تحمل أي عيب أو شك، يستعرض الباحث علي بن إبراهيم العجلان أهم مرحلة من مراحل سكّ النقود وذلك «برفع العارضة الأفقية، ليصبح شكل الصليب أقرب ما يكون إلى حرف الـ (T)» ويذكر الباحث الدور الذي قام به عبدالملك بن مروان في سكّ أول دينار عربي إسلامي، بعد أن «أصدر نقودًا عربية صرفة خالية من كل الصور والرموز والكتابات الأجنبية»، فصارت الكتابة بالخط الكوفي، ويذكر التغيرات التي لحقت بالكتابة على وجه وظهر الدينار الذي سك سنة 78هـ، وكانت كالآتي:
«مركز الوجه: لا إله إلا/ الله وحده/ لا شريك له.
الإطار: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.
مركز الظهر: الله أحد الله/ الصمد لم يلد/ ولم يولد».
ومن تحولات سك النقود يقدم الباحث النماذج الآتية:
١. الوجه: لا إله إلا/ الله وحده/ لا شريك له.
٢. الإطار: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.
٣. الخلف: الله أحد/ الصمد لم يلد/ ولم يولد.
٤. الإطار: بسم الله ضرب هذا الدينار سنة ثمان وثمانين.
وقف الباحث وقفة خاصة أفرد فيها للعصر الأموي دراسات مستفيضة أساسها الإحصاء الموثق، والمعلومة التي لا نقص فيها ولا خلل، وتحدث عن دور خلفاء بني أمية في الارتقاء بالسك إلى درجة المأسسة، فوضع لذلك خطوات وحّدت رؤيته لما قام به كل خليفة أموي في سك النقود.
خلفاء بني أمية وسك النقود
أعطى الباحث «نبذة تعريفية عن مدن ضرب الدراهم الأموية وعددها 150 مدينة سكت فيها الدراهم». أما تفاصيل السك فيقدمها في أثناء عرض دور كل خليفة على حدة بعد أن رتبهم ترتيبًا كرونولوجيًّا يبدأ بتقديم نبذة عن حياة الخليفة، ويتحدث بالاختصار المفيد عن دور خلفاء بني أمية في سك النقود وذلك في الباب السادس من الموسوعة الموسوم بـ«الدنانير والدراهم الأموية التي سكت في عهد الخلفاء». بعد ذلك يذكر بالتفاصيل الواجبة للتوضيح، المدعومة بالصور وبالإحصاء الدقيق في ذكر «عدد مدن السك»، و«عدد المسكوكات»، و«عدد المجموعة الخاصة AJ» ويقدم صور المجموعة الخاصة بهذه الحقبة.
لحظنا أن الباحث سخّر العديد من المناهج في قراءة المسكوكات وذلك بسلاسة، ويسر، فنجح في ترتيب المعلومات الصحيحة المسنودة بالنماذج، وبالقراءات التي فسّرت كل شكل من أشكال الدراهم، والعملات، وتاريخ سكّها قبل الإسلام، ثم في العصر الأموي، ورصد أماكن السك في مدن عربية وغير عربية، وتتبع التحولات الطارئة على إصدار النقود في الرسم، وفي كتابة مضمون إسلامي تحرر من الكتابات السابقة لتحتل العلامات الإسلامية والمقدس موقعها في وجه وظهر هذه النقود.
تعدُ هذه الموسوعة إضافة مهمة للتوثيق؛ لأن صاحبها اشتغل أكثر من أربعين حولًا منقبًا عن الجديد، وباحثًا عن المعلومات التي تساعده على إتمام هذه الموسوعة التي ستكون من دون شك دافعًا موضوعيًّا للباحثين عن الدنانير والدراهم لكي يضعوا إستراتيجية توحد عملهم لكتابة التاريخ العربي الإسلامي المنسي.
هوامش:
(١) علي بن إبراهيم العجلان: موسوعة الدنانير والدراهم الأموية العربية. الرياض. (تصنيف الكتاب التاريخ والجغرافياـ الناشر كتب مؤلفين) المقدمةـ الطبعة الأولى- 2021م.
(٢) المرجع نفسه: ص 32.
(٣) المرجع نفسه: ص 35.
(٤) المرجع نفسه: ص 42.
(٥) المرجع نفسه: ص 43.