أفلام الزومبي بوصفها كناية عن مخاوف الإنسان وآماله
في ملاحم الزومبي التي تواصل هوليود تقديم سردياتها المفزعة، وإن بتنويعات طفيفة لا تمس جوهر حكاية الرعب المكرورة الأكثر شهرة، يُدرك الإنسان، الناجي من ملاحم الموت في هذه النوعية من الأفلام، الأهمية المضاعفة لاستنشاق الهواء النقي الذي لم يعد متاحًا بسهولة لسكان الأرض التي تلوثت ودُمرت بفعل صراع المصالح الكبرى، فيما يكافح العقلاء حول العالم، بعد انتهاء نزاع البشر والمسوخ، للبقاء على قيد الحياة والحفاظ على ما تبقى من سلام كوكبنا.
ليس غريبًا هاهنا أن جذور الزومبي -بوصفه رمزية عن وباء مدمر- تظهر غالبًا كنوع من العدوى التي لا يمكن السيطرة عليها، مثل الأوبئة المتنوعة التي تضرب عالمنا من حين إلى آخر على نحو يعزز مخاوف الناس من مستقبل مجهول، ويكرس في الوقت عينه الاعتقاد بوجود مؤامرة عالمية سرية تتحكم بمصاير البشر. من هذه الزاوية نرى أحيانًا أن هذه النوعية من القصص السينمائية تُقدم كديستوبيا (Dystopia) مقبضة مع أمل طفيف بالنجاة من نهاية العالم أو تصحيح مسار الكارثة. أفلام من قبيل: «The Road» 2009م، وفِلم «2012» لرونالد إيمريش، إنتاج 2009م، وقبل ذلك فِلم المخرج جورج لوكاس الموسوم «THX- 1138»، إنتاج 1971م.
تلك الأفلام تقارب، بدرجة أو بأخرى، فرضية تحذيرية مفادها أن الحياة البشرية ستنتهي إذا استمرت المسارات الدرامية المفجعة ذاتها -التي شهدها التاريخ الإنساني طوال قرون مضت- على منوالها الحالي المشفوع بالهدر والنزاعات والجشع القاري. وربما لهذا السبب نجد أن شعبية هذه الأفلام الخيالية التي تعود إلى بدايات السينما ما زالت قائمة ومتطلبة لكونها تعكس حالة من الاستئناس بالموت الافتراضي الذي تعرضه الشاشة للجمهور.
لا شك أن أفلام الكوارث والأوبئة والحروب النووية والأزمات الاقتصادية وكذا أفلام الخيال العلمي والرعب والفانتازيا ليست جديدة على متابعي السينما، بل يمكن القول: إنها البضاعة التجارية الرائجة والمفضلة لشركات الإنتاج منذ بدايات السينما حتى يومنا هذا؛ لكونها تمثل نقطة جذب لجمهور واسع ينشد التشويق والمتعة العابرة، إلا أن تزايد الطلب على هذه الأفلام، في ظل الأوضاع الاستثنائية التي فرضها وباء كورونا مؤخرًا، يؤشر بشكل من الأشكال إلى رغبة قارة في فهم ما تتعرض له حياة البشر من تحديات خطيرة مع انحياز عاطفي وعقائدي ضمني لإعادة قراءة وصفات «نهاية العالم» التي تنتعش مع كل أزمة كبيرة يمر بها الإنسان، لتتركه تلك الأفكار المتشائمة رهينة كل ما هو غير معقول؛ لسبب قد يراه بعضٌ ماثلًا للعيان، هو أن العالم في حدّ ذاته لم يعد معقولًا في مجرياته وأحداثه المفزعة، وأن الجوائح المتتالية كمعطى واقعيّ خطر باتت بدرجة أو بأخرى موجهًا لاختيارات المشاهدين وهوسهم المتنامي.
صورة سينمائية واحدة
يومًا ما قال المخرج الكبير «ألفريد هيتشكوك»: إن أفلام الرعب والتشويق التي يصنعها هي الشيء الوحيد الذي ساعده على التخلص من مخاوفه. هذا الانحياز العاطفي للجمهور لأفلام يندر، خلال مشاهدتها، الحصول على استراحة قصيرة بعيدًا من مشاهد نافورات الدم والرؤوس المقطوعة والجثث المتفحمة، ربما يعبر عن رغبة الإنسان في التحرر من مخاوفه بأشد الصور السينمائية ترويعًا وأكثرها بشاعة.
لنعد لتأمل فرضية أن المشاهد السينمائي -أيًّا كان- هو بطبيعته شخص متلصص ينعم بطقس المراقبة عن بعد ويتقمص من دون وعي الشخصية التي تستهويه بغض النظر عن طبيعتها الخيرة أو الشريرة. فمنذ رواية ماري شيلي الموسومة «فرانكشتاين» عام 1818م توالت صور الكائن المسخ الذي يظهر بوصفه حصيلة مشوهة لإجراء طبي أو تقني غير طبيعي، أو لنقل إنه حصيلة تجربة مغامرة خرجت عن مسارها المرسوم. بمعنى آخر، أن الحياة تعود إلى كائنات ميتة بطرق خيالية ما. في المحصلة سينفلت هذا الكائن المخيف من إساره ليتحول إلى وحش دموي مثلما يتحول الإنسان العادي -رغمًا عنه- إلى زومبي مفترس تتقاطر الدماء من أسنانه تحت وقع تعرضه لعضة من كائن آخر متحول؛ لتمتد وتتفشى سلسلة المتحولين الزومبيين على نحو لا يمكن السيطرة عليه.
هل ثمة رغبات دفينة تتمنى لو أصبحنا لمرة واحدة كائنات شبه منومة تجوب الطرقات بتكاسل ملحوظ وتلتهم كل ما يعترضها في سياق صورة مؤثرة سترسخ في أذهان المشاهدين لأنها تمثل جزءًا من مخاوفنا البشرية. فهي والحال كذلك كابوس محتمل ينذر بمخاطر صراع الإنسان مع ذاته وقد تحول الأخير مرغمًا إلى وحش جائع لا يعرف الرحمة، تقوده غرائزه وخوفه من الآخر. في تلك الغضون يلحظ أن أفلام الزومبي غالبًا ما تبتعد من تقديم إجابة شافية حول سؤال مفاده: لماذا نثور على طبيعتنا الإنسانية، ما الذي أُفسِدَ هنا على وجه التحديد لتتحول حقائق الموت الصغيرة إلى فوضى عارمة؟
نحن هنا أمام حالة من الاستحواذ البيولوجي على الإنسان وانقياد أعمى لعوالم الزومبي الغريبة التي لا تفرق بين طبيعة خيرة وأخرى شريرة، حيث تنعدم القيم الإنسانية ويسود الشر بشكل وبائي لا فرار منه، حتى إن أحد الأفلام الأميركية الجديدة جعل مرضى كورونا يتحولون إلى زومبيات مؤذية. وهو أمر ليس غريبًا؛ فأي وباء يمكن أن ينحدر دراميًّا لعوالم أفلام الرعب والفانتازيا الأكثر شهرة، فنبصر حينها كيف أن الواقع يتشبه بالسينما وتنداح الفروق بينه وبين الخيال. كما أن الجمهور بوصفه نقطة الوصل بين عالمين أدمن على نحو ما هذا النمط من الأفكار بعد أن التذّ بها واعتاد على وصفاتها. في نهاية الأمر نحن إزاء وباء متفشٍّ يلفّه الغموض وتصعب السيطرة عليه، وينذر بمستقبل مشؤوم للبشرية.
عالم موحش أفسده البشر
في معظم أفلام الزومبي منذ كلاسيكياتها «الزومبي الأبيض 1932م» و «أنا مشيت مع زومبي 1943م»، و «آخر رجل على الأرض 1964م»، للمخرج يوبالدو راجونا، مرورًا بفِلم جورج روميرو الموسوم «ليلة الموتى الأحياء 1968م» الذي يعد محاولة سينمائية رائدة أرست تقاليد خاصة بأفلام الزومبي ستعزف على منوالها العشرات من أفلام الرعب اللاحقة. ليس واضحًا لدينا إن كانت سلسلة التحولات التي تغير طبيعة البشر ليصبحوا زومبيات مفترسة تقتضي في جوهرها استعدادًا نفسيًّا أو مرضيًّا يخلص المرء من عنائه وتجعله شخصًا مهابًا ينخرط طوعًا في قطيع من المتحولين الدمويين الأحرار. حرية الزومبي تتأتى من أنه يفعل أي شيء من دون عوائق أخلاقية أو قيمية، فهو سليل رغبات العنف الدفين وثمرة الفوضى المدمرة التي ستعيد الإنسان إلى بدائيته. الملحوظ في هذه الأفلام أن السؤال حول ما إذا كانت البشرية، في نهاية الأمر، سيقضى عليها بفعل هذه الهستيريا الجماعية أم إنّ ثمة مخلصًا سيعيد البشر إلى رشدهم لينعم الجميع بحياة مسالمة؟ هو دومًا سؤال غائب.
أغلب هذه الأفلام تنطلق من معطيات درامية تكاد تكون ثابتة في سياقاتها الحكائية مع توظيف متفاوت الجودة لعناصر تقنية ووسائل إبهار وإثارة تهدف إلى جذب الجمهور إلى عوالمها، وهو الذي أدمن، بفعل الدعاية، هذه الأفلام على الرغم من دمويتها المفرطة. لكن في المقابل هذه الجثة التي تمشي بتكاسل والتي تخرج أحيانًا من المقابر كجثة هامدة بلا روح قد تمثل أقلية منبوذة اجتماعيًّا قبل أن تشرع في القيام بأفعال شريرة غايتها الثأر من المجتمع، وكأنها، والحال كذلك، تحذير استباقي من طبيعة وحشية أصيلة في البشر جرى التستر عليها.
وفي صورة نمطية، دشنتها سينما هوليود، تنطلق الحكاية من مختبرات علمية شديدة السرية لتطوير فيروسات أو أمراض معدية تديرها أجهزة عسكرية أو مخابراتية تجرى فيها تجارب هندسة وراثية بهدف صنع مخلوق هجين وغريب، فضلًا عن العمل على بحوث سرية حول كائنات فضائية تُفحَصُ في منطقة (Area 51) التي يتكرر ذكرها في العديد من الأفلام. ما يرتبط بهذه الفكرة هو أن حدثًا طارئًا سيقع ليلحق ضررًا مقصودًا أو غير مقصود بالمختبر السري، فتفرّ على إثره بعض الحيوانات أو الكائنات الغريبة المتوحشة ومن ثم تتسبب في إصابة أشخاص معينين بعدوى أمراض فيروسية أو وبائية خطيرة سرعان ما تنتشر بين الناس الذين قد يتحولون تدريجيًّا إلى جيش من الزومبي المتوحش.
في فِلم «I Am Legend»، 2007م، الذي يصنف ضمن أفلام الزومبي، للمخرج فرانسيس لورانس، بطولة النجم ويل سميث، نرى قضية مشابهة تتمثل في وقوع خطأ غير مقصود في أحد المختبرات السرية يتسبب لاحقًا في انتشار فيروس معدٍ يحول جموع البشر المصابين إلى مسوخ خطيرة «زومبيات». سبق للرواية، التي استند إليها هذا الفِلم، أن عولجت في فِلمين سابقين هما: «آخر رجل على الأرض» عام 1964م، و«رجل أوميغا» عام 1971م. وكما درجت العادة في أفلام هوليود فإن الصراع حينما يصل إلى ذروته ستخرج الأمور عن السيطرة تدريجيًّا وتتفاقم الأزمة، ولن يعود ممكنًا في خضم تلك الفوضى معرفة طبيعة مسبباتها ونتائجها، لندخل في عالم فاسد ومخيف يمرر نوعًا من الموعظة الأخلاقية والدينية عن عالم أفسده البشر بإرادتهم.