سيرة الأمة: من الأمة الخالدة إلى الجماعات المتخيّلة
لرابندرانات طاغور (1861-1941م)، الشاعر والكاتب الهندي المعروف، رواية بعنوان «غورا». كتب طاغور هذه الرواية باللغة البنغالية، ونشرها متسلسلة في مجلة شهرية منذ عام 1907م حتى عام 1910م. وهي واحدة من أطول روايات طاغور الاثنتي عشرة، وتقع، في الترجمة الإنجليزية (طبعة بنغوين 2009م)، في (544 صفحة)، فيما تقع، في الترجمة العربية، في (630 صفحة). تدور أحداث الرواية في كلكتا في ثمانينيات القرن التاسع عشر إبان الحكم البريطاني للهند. و«غورا» هو اسم بطل الرواية (وهو اختصار لاسم البطل الأصلي، غورمهان، ويعني باللغة البنغالية الأشقر). كان غورا أشقر بالفعل، لكنه كان هندوسيًّا شديد التديّن، ويؤمن بنظام الطبقات الاجتماعية والأوامر والنواهي الهندوسية التقليدية بصورة صارمة. لم يكن غورا يأكل من الطعام التي تعدّه خادمة منزلهم لأنها مسيحية وهو هندوسي من عائلة برهمانية. وبلغ تشدّد غورا الديني إلى حدّ أنه لم يكن متردّدًا في قطع علاقته بصديق طفولته القريب، بينوي، لا لشيء سوى أن هذا الأخير، وهو هندوسي برهماني أيضًا، قرّر الزواج من فتاة من طائفة أخرى مخالفًا بذلك التقاليد الهندوسية. كان غورا، كذلك، هنديًّا قوميًّا متعصبًا ومعاديًا لـكل ما هو إنجليزي، وكان ينتهز الفرص ليتشاجر مع أي إنجليزي يراه في الشارع، كما أنه أسّس «جمعية الوطنيين الهندوس» في تعبير واضح عن قوميته الهندوسية التي كان يؤمن بها.
يمثّل غورا مثال الهندوسي القومي المتشدد الذي يؤمن بأن الهند هندوسية، وأن «الهندوس يشكّلون أمة، بل أمة ممتدة». ومثل أي قومي شديد التدين، كان غورا مقتنعًا أشد الاقتناع بأن انتماء المرء إلى أمةٍ ما، هو أمرٌ مقرّر سلفًا قبل الولادة بزمن طويل. إلا أن كل هذه التصوّرات انقلبت رأسًا على عقب في نهاية الرواية؛ إذ تبيّن أن غورا لم يكن هندوسيًّا بالولادة، بل كان ابن عائلة بريطانية (إيرلندية الأصل)، وأن والده الإيرلندي قُتل في تمرّد عام 1857م، ولجأت والدته إلى بيت كريشنادايال وآنانداموا لتموت بعد ولادته بوقت قصير. كان غورا ينوي الذهاب بعيدًا في تطبيق الطقوس الهندوسية البرهمانية، لكن أباه بالتبني، كريشنادايال، شعر بخطورة الأمر، فاضطر إلى مصارحته بالحقيقة؛ لأن هذا الأب الذي كان متحرّرًا يوم تبنّى غورا الرضيع، صار هندوسيًّا متشدّدًا في آخر أيامه. ويعرف الأب أن بعض الطقوس الهندوسية محرّمة على غير الهندوس البرهمانيين بالولادة. وبناءً على هذا التحريم، ليس لغورا الحق في الدخول إلى قلب الديانة الهندوسية؛ لأن «كل قطرة دم في عروقك»، كما قال له كريشنادايال، «وكل جسدك من رأسك إلى أخمص قدميك يقاومها. لا تستطيع فجأة أن تصبح هندوسيًّا ولو كانت عندك الرغبة في ذلك، فالموضوع غير قابل للتحقّق، ينبغي أن تستحقّ ذلك خلال حيوات عديدة سابقة لولادتك».
ابن الهند كلها
وفجأة بدا لغورا أن كل ماضيه لم يكن سوى «حلم خارق وخرافي، فجأة تحوّلت الأسس التي كان يشعر أن حياته تستند إليها منذ الطفولة إلى غبار، فلم يعد يعرف أين هو ولا ما هي حقيقته». هل من المعقول أن يكون البريطانيون الاستعماريون الذين كان يكرههم من صميم قلبه هم أمته وأقرب الناس إليه بحكم الأصل وقرابة الدم البادية بجلاء في شقرته؟! شعر غورا، في البداية، بأن الأرض التي يقف عليها قد انهارت، وأن الأسس التي بنى كامل حياته عليها قد تهاوت، وأصبح فجأة في المهبّ، ومعلّقًا في الهواء، أو ساقطًا في هاوية سحيقة.
لكن غورا شعر، في الوقت ذاته، بشيء من الارتياح كما لو أنه أُلقِي عن كاهله عبء ثقيل، فصار حرًّا بعد اكتشاف الحقيقة المُرّة. أصبح غورا يرى نفسه ابن الهند كلها، ابن «الهندوسيّ والمسلم والمسيحيّ»، وكأن حياته بدأت من جديد. في خاتمة الرواية يخاطب غورا آنانداموا، أمه التي تبنّته وربّته بعد وفاة والدته الإيرلندية: «أنتِ أمي، أيتها الأم، الأم المتخيّلة التي كنت أبحث عنها في
رحلاتي وتطوافي».
يذكّر ما يقوله غورا عن الأم المتخيّلة بما سيقوله بندكت أندرسون في عام 1983م عن الجماعة أو الأمة المتخيلة، كما يذكّر بما قاله إرنست رينان في عام 1882م عن الأمة التي لا ننتمي إليها بحكم الولادة بالضرورة، والأمة التي لا توجد في دم عروقنا ولون بشرتنا بالضرورة، بل الأمة بما هي فكرة في الرأس، ورغبة في العيش المشترك، وإرادة تقاسم الذاكرة والنسيان معًا.
إن غورا إيرلندي (بريطاني) من حيث الدم لكنه كان يكره البريطانيين الاستعماريين، وكان يعتقد أنه هندوسي برهماني، لكن هذا الاعتقاد برمته لم يكن سوى وهم. ما الأمة إذن في نظر غورا بعد أن تحرّر من هذا الوهم؟ وماذا عساه يكون بعد اكتشاف الحقيقة؟ هل يكون إيرلنديًّا بما أن الدم الإيرلنديّ يجري في عروقه؟ هل يستمرّ هندوسيًّا شديد التديّن بحكم التنشئة الهندوسيّة التقليدية؟ هل الأمة مسألة اختيار، وأن على غورا، بعد أن أصبح متحرّرًا من الانتماء لأية أمة أصليّة، أن يختار ماذا يريد أن يكون؟ حسم طاغور هذه المسألة عندما جعل غورا يختار، في نهاية الرواية، أن يكون إنسانًا فقط، ووطنيًّا ينتمي إلى كل الهند بهندوسها ومسلميها ومسيحيّيها ومختلف دياناتها، هكذا ضاربًا عرض الحائط بالدم الإيرلنديّ الذي يجري في عروقه، وبالأصل الهندوسيّ المتوهّم الذي تنشّأ عليه.
خلاصة الجدل حول الأمة
يقدّم طاغور، في هذه الرواية، خلاصة الجدل الذي دار ولا يزال يدور حول الأمة والإشكاليات الكثيرة المتصلّة بها. ما الأمة؟ هل يُولَد الناسُ أُمّةً بحيث ينتمون إلى الجماعة العرقية والدينية واللغوية واللونية الأصلية بحكم الولادة أم إنهم يصيرون أُمّة بحكم التنشئة والتكوين؟ وهل الأمة مسألة اختيار أم إنها مسألة مقرّرة سلفًا؟ لهذه الأسئلة التي تناولها طاغور روائيًّا إجابتان أساسيتان في التفكير النظري الذي دار حول مسألة الأمة منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم. وتنتمي الإجابتان إلى نموذجين أوربيين متعارضين بتعارض تاريخ الأمتين الألمانية والفرنسية على وجه الخصوص. يمثّل يوهان فيخته النموذج الألماني خير تمثيل، فيما يُعَدّ إرنست رينان أبرز ممثّل للنموذج الفرنسي.
ويُعَدّ يوهان فيخته أبرز مفكر ألماني قدّم صياغة مكتملة للتصور الألماني عن الأمّة كظاهرة أو حقيقة طبيعية، وذلك في خطاباته الشهيرة إلى الأمّة الألمانية في العامين 1807م و1808م. ألقى فيخته هذه الخطابات في أكاديمية العلوم في برلين تحت وقع الهزيمة الألمانية المُرة، وإبان خضوع العديد من الولايات الألمانية تحت الاحتلال الفرنسي المباشر وغير المباشر. كان ثمة إحساس عام بالهزيمة القاسية والخسارة الفادحة للوطن وللاستقلال. وكان على فيخته، الفيلسوف القومي الألماني المتحمس، أن يستنهض، في نفوس الألمان، روح الحماسة والشجاعة والفخر بالعظمة الألمانيّة للارتقاء فوق الإحساس المشلّ بسبب الهزيمة والاحتلال. وبالنسبة لفيخته، فإن انتظار الإنقاذ من الخارج يعني فقدان الثقة بالذات، وأن الشعب لا يفعل شيئًا بذلك سوى أنه يستبدل احتلالًا مكان آخر. وعلى هذا، ينبغي على فيخته أن يبتكر طريقة إنقاذ ذاتية، نابعة من «الذات الألمانية». وحتى يصل فيخته إلى هذه الطريقة، كان عليه أن يقدّم تفسيرًا للهزيمة، لماذا سقطت الولايات والمقاطعات الألمانية واحدة تلو الأخرى تحت نير الاحتلال الفرنسي؟
يقع مفهوم الأمّة، لدى إرنست رينان (1823– 1892م)، على الضد من الفهم التأليهي المتعالي للأمة الذي قدّمه يوهان فيخته إبان الاحتلال الفرنسي لألمانيا. يقطع رينان الرابط الذي أقامه الألمان بين الأمة والكائن العضوي، فالأمة، عنده، ليست كائنًا عضويًّا، بل هي بناء يُبنى ويُصنع بإرادة البشر وقرارهم، وينهار، كذلك، بإرادة البشر وقرارهم. وهذا قلب جذري للنموذج الألماني عن الأمة. وعلى غرار فيخته، قدّم رينان تصوره عن الأمة في محاضرة ألقاها في جامعة السوربون في 11 مارس 1882م، أي بعد سبعة عقود من خطابات فيخته إلى الأمة الألمانية في أكاديمية العلوم في برلين، وبعد سنوات قليلة من هزيمة فرنسا المذلة أمام الألمان في حرب عام 1870م.
فك الارتباط بين الأمة والكائن العضوي
إلا أن التشابه بين الاثنين، خطابات فيخته ومحاضرة رينان لا يتعدّى هذه الظروف والمعطيات الخارجية. فقد قدّم رينان، في محاضرته، مفهومًا للأمة يقع على الضد من مفهوم فيخته، وعلى كل المستويات ومن جميع النواحي. يبدأ رينان محاضرته بفك الارتباط المفترض بين الأمة والكائن العضوي، فالأمة بناء بشري كما الدولة. يترتّب على هذا نتيجة أخرى، وهي قطع الصلة المفترضة أيضًا بين الأمة والعرق، فالأمة لا تتطابق مع العرق على الضد من النموذج الألمانيّ. وعلى هذا لا ينبغي سحب تصوّراتنا عن العرق على الأمة، فالأمة شيء، والعرق شيء آخر، وهي مسألة سيعود رينان إلى التفصيل فيها. وعلى الضد من مفهوم فيخته عن الأمة كجوهر ضارب في عمق التاريخ، فإن رينان يعمد إلى قلب هذا التصوّر رأسًا على عقب، حيث الأمة، عنده، مفهوم حديث إلى حد كبير، وأن العصور القديمة لم تعرف هذا النوع من الأمم، فلم تكن مصر والصين والكلدانيون والآشوريون القدماء وفارس وأثينا وإسبرطة وصيدا وصور والغاليين والرومان وغيرهم، لم تكن كل هذه التكوينات أممًا بأي حال من الأحوال.
نعم كانت تتبنّى نوعًا من التنظيم الإداري الذي يصغر ليكون بحجم الدول-المدن أو يكبر ليكون بحكم الإمبراطوريات الضخمة، إلا أن كل هذه التنظيمات الإدارية لم تكوّن ما يسميه رينان بـ«الأمة». وسيعمد رينان إلى عملية يشبّهها بعملية التشريح، إلا أنها ليست تشريحًا لجسم الكائن الحي، بل لحزمة المفاهيم المتداخلة (الأمّة، الشعب، العرق، الجماعة الدينيّة، الجماعة اللغوية…) حتى يستخلص، من بين أنسجة هذه المفاهيم المتداخلة، المفهوم الصحيح الذي يتبنّاه للأمة.
ينتمي فيخته ورينان إلى عصر علماني حلّت فيه أفعال البشر ومبادراتهم محل تدخلات الآلهة المعجزة والخارقة. إلا أن هذا العصر العلماني لم يكن يخلو من التقديس، لكنه تقديس انزاح من مجال الدين إلى مجال آخر، وهو مجال الأمم والقوميات والدول التي أصبحت مصادر الشرعية المعتبرة في العصر الحديث. إن تقديس الأمة (العرق) الموزعة على أكثر من دولة لدى فيخته يقابله تقديس الدولة صانعة الأمة الموحدة، أو الأمة صاحبة إرادة العيش المشترك لدى رينان. إلا أن الدراسة العلمية للأمة والقومية والدولة تتطلب نزع هالة القداسة التي ميّزت خطابات فيخته ومحاضرة رينان. وإذا تجاوزنا طابع التقديس، تقديس الأمة وتقديس الدولة، في هذين الخطابين، سيتبيّن لنا أن المسألة تكمن، لدى الاثنين، في الحدود: حدود الأمّة وحدود الدولة. هل حدود الأمة هي الأولى بالاعتبار، حتى لو امتدت على أكثر من دولة من الدول كما لدى فيخته، أم حدود الدولة الواحدة التي تصنع أمتها الخاصة بإرادتها المستقلة كما لدى رينان؟ اكتسبت هذه المسألة اهتمامًا أكبر بعد محاضرة رينان بقرن كامل، وتحديدًا في عام 1983م مع كتابين أساسيين مثّلا تحولًا جذريًّا في دراسات القومية على ما بينهما من اختلافات طفيفة: الكتاب الأول هو كتاب «الأمم والقومية» لإرنست غلنر (1925- 1995م)، الأنثروبولوجي البريطاني/التشيكي الذي قدّم أشهر نظرية حداثية في تفسير القومية، والكتاب الثاني هو كتاب «جماعات متخيلة» لبندكت أندرسون (1936- 2015م)، المؤرّخ وعالم السياسة الإيرلندي الذي قدّم أشهر صياغة في تعريف الأمة أي الأمة بما هي «جماعة متخيلة»، وهي الصياغة التي ستكتب لهذا الكتاب انتشارًا واسعًا، وستجعله مرجعًا أساسيًّا في مجال دراسات القومية حول العالم.
هوامش:
(١) جزء من كتاب جديد لنادر كاظم بعنوان «أمة لا اسم لها».
(٢) رابندرانات طاغور، غورا، ترجمة: ماري شهرستان، (دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، ط:1، 2015م)، ص462.
(٣) المرجع نفسه، ص603.
(٤) المرجع نفسه، ص622.
(٥) المرجع نفسه، ص630.