كيف قتلنا الأب حتى وهو حاضر؟
لنفترض أولًا أن هناك تقسيمات جذرية وحدية لأدوار الأمومة والأبوة (البيولوجية والثقافية). ولنفترض أن هذه التقسيمات واضحة تمامًا في أذهاننا ونحن نطرح هذه التساؤلات حول دور الأم المنتزع، أو دور الأب المهدد بمهمات الأمومة. ثم لنفترض أن هناك اتفاقًا تاريخيًّا وعالميًّا على هذه الأدوار، وأن أي تداخل بينها يهدد هوية الآخر. وأنه ليس هناك خصوصية للمجتمعات ولا اختلافات ثقافية واقتصادية تطرح أدوارًا متباينة للأفراد بشكل متواتر ومستمر… ولنفترض أنه لا يمكن أن تتغير حاجات الأسر وتوزيع المسؤوليات فيها حسب ظروفها وطبيعتها.
لنفترض أن هذا كله صحيح، لكن هل يمكننا حقًّا أن نفترض أن كل الآباء متشابهون، وأن الأمهات كلهن كذلك؟ هل يمكن أن نزعم أن جميع الأمهات قادرات على الالتزام بالقالب المجتمعي والأخلاقي لدور الأم الافتراضي، وأن جميع الآباء قادرون على أداء الدور الافتراضي للأب؟ وأن هذه الأدوار الاجتماعية محكومة بالعامل البيولوجي ولا يمكن أن يكون لها مرجع آخر سوى الجندر؟ أم إنها القوالب الثقافية والتوقعات الاجتماعية والسرديات الهووية التي تزعم الثبات والرسوخ وسط نهر الحياة الجاري؟
هل يمكن، بعد كل التحولات التي تشهدها مجتمعاتنا، أن نزعم أن دور الأم محصور في توفير الرعاية المنزلية والاعتناء بالجوانب العاطفية للأبناء، وأن دور الأب محصور في الإنفاق وتوفير الحماية الخارجية؟ ماذا عن التحولات الاقتصادية والمتطلبات الوظيفية والاعتماد على دخل الأمهات في كثير من الأسر؟ ماذا عن الأمهات الدارسات والموظفات وصاحبات الأعمال في أسرة يكون فيها الأب أقل دخلًا أو حتى عاطلًا عن العمل؟ هل يمكن، مثلًا، أن نطالب النساء العائلات لأسرهن بالتخلي عن أعمالهن لأن ذلك يهدد دور الآباء؟ هل تنتفي هوية الأب لأنه لم يعد العائل الوحيد للأسرة؟ ماذا عن الأمهات العزبات والآباء العزاب؟ هل هناك خطر يتربص بهوية الآباء أو الأمهات إذا أعيد توزيع المهمات داخل الأسرة بما يضمن الاستفادة من قدرات وإمكانيات جميع أفرادها دون مراعاة لفكرة الأدوار التقليدية؟ هل الأولوية لدينا هي للدور الافتراضي أم للكفاية والكفاءة؟
تبادل الأدوار
مثل كثير من الأمهات اللواتي يفقدن أزواجهن بالانفصال أو الموت، أرعبني بداية سؤال الأدوار: كيف سأقوم الآن بدورَيِ الأم والأب معًا؟ تصورت الأمر مستحيلًا؛ وبدا لي دور الأب عصيًّا وغامضًا.. كيف سأقوم به وأنا لا أعرف ما يعني أن يكون المرء (أو المرأة) أبًا؟ بدا لي أنه دور يحتاج مني إمكانيات خارقة وقدرات لا أمتلكها. بدا أن هويتي الأمومية مهددة؛ لأني سأضطر إلى أن أكون اثنين في واحد.. ومع الوقت تأكد لي أن مخاوفي كانت في محلها، وأني لن أتمكن أبدًا من القيام بدور الأب، لكن ليس للأسباب التي تخيلتها في بداية تجربتي كأم عازبة، وإنما لأني فهمت بالتجربة أنه ليس هناك شيء جوهري وثابت يمكن أن يحدد دور الأب، ولا دور الأم بالضرورة.
وجدت أولادي يكبرون بشكل طبيعي وأنا مانحة الرعاية الوحيدة في حياتهم. وجدتني أعتني بهم من دون أن يشغلني سؤال الدور.. لم أكن أسأل نفسي أمام موقف معين إن كان يجب أن أكون أمام هذه الموقف أمًّا أو أبًا. كنت أرعاهم من دون دور.. كنت قد بدأت أركز أكثر على الحالات المشابهة حولي؛ أسأل الأمهات العازبات كيف تَمَكَّنَّ من عبور مسار الحياة وتحمَّلْنَ الأعباءَ وحيدات؟ الاستفاقة من رعب دور الأم العازبة حدثت حين تنبّهت إلى أن كثيرًا من الأمهات المتزوجات أيضًا يتحملن أعباء رعاية الأبناء وتربيتهن وحيدات..
وفيما عدا الإنفاق والإشراف من علياء، لا يبدو حقًّا أن للآباء (حسب القوالب الثقافية الافتراضية) دورًا واضحًا في الرعاية.. ولا يتوقع منهم أو ينتظر دور فاعل في العناية المباشرة بالأبناء.. بدأت تلفتني المساحة الضيقة للأب في حياة الأبناء حتى وهو حاضر. كل هذا جعلني أعيد ترتيب الأسئلة بداخلي: ما دور الأب؟ وكيف أمكن تقليصه حتى بدا أن غيابه لا يشكل أزمة تعادل أزمة غياب الأم.. كيف تملّص الآباء من حصّتهم في رعاية الأبناء حتى صارت النساء الأكبر مني سنًّا وخبرة يعلقن وأنا أحدثهن عن تجربتي كأم عازبة بعبارات من قبيل: حتى لو كان والدهما موجودًا، ستتحملين عناء التربية وحدك أيضًا! ربما لم تكن تفاجئني هذه التعليقات أكثر من أنها كانت تدفعني للتساؤل: كيف قتلنا الأب حتى وهو حاضر؟