أخلاقيات عصر التقنية والخيال الأمني
إذا صحت مقولة: إن المجتمع يعيد إنتاج ذاته في كل عصر، مع تغير الأدوات وثبات الجوهر، فإن المجتمع البشري الآن يشترك مع المجتمع القديم في أنه يعيد إنتاج آلهته، وتُعَدّ التقنية آلهة جديدة؛ حيث إنها كلما تطورت بيد البشر زادت هيمنتُها عليهم، فالتقنية أسهمت في جودة الحياة وتحسين مستويات الصحة والتعليم والترفيه، وفي الوقت نفسه فإن الوجود البشري يمكن أن ينتهي بضغطة زر نووي تقني أو فيروس فتاك مصنع معمليًّا، وتتسع المهددات بقدر زيادة التقنية على تبسيط حياة البشر ومنحهم زيادة في فرص الغذاء والدواء والصحة والمرض.
الجانب الثقافي والأمني الآخر يكمن في أن الحياة بدأت نحو توجس الإنسان من مستقبله وغموض واقعه وجهله بما يدور حوله، ثم بعدما ظهرت عصور الاكتشافات، وظن الإنسان أنه سيطر على الأرض عادت به التقنية وتسارع تقدم العالم الرقمي إلى الغموض مرة أخرى، والتوجس من المستقبل والجهل بما يدور حوله، إلا أنه جهل بسبب تدفق المعلومات وتناقضاتها وتنوع مصادرها، وليس بسبب ندرتها، ويؤكد القرآن هذه الظاهرة بقوله: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾، وهو ما يعني استمرار العجز البشري عن السيطرة على الأرض مع كل اكتشاف يجعل من السيطرة عليها أمرًا ممكنًا.
لقد مر العالم بموجات من التصنيع التي مكّنت الآلة من أن تقوم بعمل الإنسان، وبدأت بعصر المكائن «الميكنة»، ثم عصر التكنولوجيا الأوتوماتيكية «الأتمتة»، ثم برز عصر التقنية، والعصر الرقمي، وهي الموجة التي ألغت كثيرًا من مهام الميكنة والأتمتة، وسوف تصنع مستقبل البشرية، وتعيد تشكيل واقعه في جميع المجالات، ولن تنتهي حتى تكون نهاية البشرية معها أو بيديها.
إن هذه الورقة لا تهدف إلى مناقشة خطر مشكلة محددة، ولا لتلفت الانتباه إلى خطر التقدم التقني، ولكنها تدعو إلى تكثيف الاهتمام بأخلاقيات استخدام التقنية المستعرة، وثقافة الحياة اليومية المتعلقة بها، ورؤية الإنسان للعالم من حوله على مختلف المستويات وفي جميع الاتجاهات، وما تحمله من مهددات بنفس قوة قدرتها على حل المشكلات وتبسيط الحياة، ولا يمكن التعبير عنها إلا بمقولة فرانسيس فوكوياما: إن الإنسان سوف يُقتل، ولكنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كان قد قُتل بسبب المعرفة التي اكتسبها أم بسبب المعرفة التي لم يكتسبها والتي كانت ستنقذه لو أنه عرفها.
إن كل ما نشاهده أو نسمع عنه أو نتوقع إنتاجه مستقبلًا، كلها لا تمثل سوى رأس الجليد الضخم الذي لم يأتِ بعد، ولا أحد يعرف كيف سيأتي ولا أين يتجه، بما في ذلك علماء التقنية وشركاتها، ومن أجمل العبارات التي شخَّصت واقع التقنية بدقة مقولة أريك شميدت في مقدمة كتاب «العصر الرقمي الجديد»، حيث وصف الإنترنت بأنه من الأشياء التي بناها البشر من دون أن يفهموها حق الفهم، حيث بدأ كوسيلة لنقل المعلومات إلكترونيًّا، ثم تحول بسرعة إلى منفذ متعدد الوجوه للطاقة البشرية، وأنها تجربة فوضوية لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، ومع ذلك فإن ما ظهر من التقنية ما يزال يمثل رأس الجليد وأول الطريق.
فلسفة التقنية
أصبحت منجزات التقنية في مجالات البيولوجيا والطب والمحاصيل الزراعية المعدلة وراثيًّا ومجالات الاقتصاد والعسكرية…، من أهم موضوعات الفلسفة وعلم الاجتماع الآن؛ وذلك بسبب الانقسامات حول مسائل الأخلاق والقانون الناتجة عن استخدام التقنية، وصدرت تحذيرات كثيرة، مثل: «نهاية الإنسان وعواقب الثورة البيوتكنولوجية» لفرانسيس فوكوياما، و«القضية المتعلقة بالتكنولوجيا» لمارتن هايدغر، وهي تبرز مواقف آخر جيل الفلاسفة القدامى الذين عاصروا التكنولوجيا ولم يعاصروا التقنية الرقمية، كما برز جيل جديد من فلاسفة التقنية، استطاعوا تحديد موقف الفلسفة منها، وأصدروا كتابا جماعيًّا بعنوان «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، وهي بحوث في مخاطر التقنية، وتلفت الانتباه إلى المهددات الأخلاقية الناتجة من فرط تطور المعرفة التقنية، وبدأت البحوث الجديدة لتأسيس «علم اجتماع الجينوم». ويكشف كتاب «الكل يكذب: البيانات الضخمة والبيانات الحديثة وقدرة الإنترنت على اكتشاف الخفايا» لمؤلفه سيث ستيفنز – دافيدوتس عن أن البحث عن موضوع ما في غوغل يمكن للنتائج أن توجه الشخص وتحدد خياراته دون وعي منه، وأن خوارزميات البحث كان لها تأثير في تحديد فوز الرئيس الأميركي في الانتخابات أيضًا.
لقد دخلت التقنية في كل شيء فعليًّا، وصار يصنع من كل شيء تقليدي نسخة ذكية منه، وظهرت مدن ذكية، ومنازل وأبراج ذكية، وكذلك نسخ ذكية من الجوال والسيارة والنظارة والسرير والمكتب إلى ما لا نهاية له. وأصبحت مؤسسات الخدمات كالطب والتعليم والتجارة والتنمية وغيرها تنجز مهامها بالتقنية، والتقنية تعني تقليل تدخل الإنسان وتوسيع نطاق عمل التقنية، فهي التي تجري العمليات الجراحية، ومن خلالها تقوم الحروب.
ومن ثم فنحن أمام مستقبل جديد من الجرائم الذكية والانحراف الذكي والإرهاب الذكي، ومصفوفة من القيم الاجتماعية الذكية والتفاعل الذكي، سواء بتأثير تطور علوم التواصل الزائفة مثل: البرمجة اللغوية العصبية وعلوم الطاقة الروحية، أو بتغير التفاعل الاجتماعي الحتمي استجابة للأشياء الرقمية من حولنا.
وعلى الرغم من حتمية التقنية والعصر الرقمي، فإن هناك مفاصل رئيسة نشأت لتبقى وتنمو وتتوسع في مهامها وتتغول في الحياة العامة، وتعيد تشكيل كثير من المفاهيم الأمنية والاجتماعية، ومن أبرزها طائرات الدرونز؛ حيث تؤكد الدراسات أنها باتت تدخل في كل شيء تقريبًا، وأنتج منها أجيال صغيرة الحجم، وتجاوزت أدوار التوصيل وتحميل البضائع أو المتفجرات أو كاميرات التصوير، وصارت بأحجام العصفور، وربما ستكون بحجم الذباب قريبًا، وهي مزودة بكاميرات صغيرة، ومرتبطة بنظارة، ويمكن توجيهها إلى مناطق واسعة والتجول واختراق خصوصيات المباني والمنازل والأشخاص بخفية تامة، أو إلحاق الأذى بالأشخاص والمباني.
وتقنية الهولوغرام، التي تتطور بشكل سريع وتنتج أجسامًا وأشخاصًا طائرة أو تمشي أو تفعل أمورًا كثيرة، وما هي إلا خدع بصرية عالية المستوى وتحاكي الواقع.
والذكاء الاصطناعي الذي ينتج برامج وصناعات تتصرف بعقلانية كما يتصرف البشر، إلا أنها بإمكانيات هائلة وطاقة تفوق طاقة الإنسان.
إضافة إلى تطورات إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد بشكل يجعل الإنسان يتوهم أن جودة حياته تتحسن، وهي فعليًّا تتحسن، إلا أنها تنطوي أيضًا على مخاطر أمنية مهددة لوجوده، وهو ما يتطلب طرح مسألة أخلاقيات استخدام التقنية على مستويات الأفراد والشركات والتخصصات والدول والمنظمات الدولية.
الخيال الأمني
ينطوي ما يمكن أن أسميه «الخيال الأمني» من مبدأين رئيسين هما: الأول أن الأمن ينبغي أن يتقدم إلى الواجهة الاجتماعية، ويشارك الثقافة الأمنية للناس العاديين، ويسهم في تبديد المخاوف لديهم، ويخاطب المجتمع بوصفه مؤسسة اجتماعية. وهذا يعني بالضرورة التخلي عن السياسات القديمة القائمة على العمل الأمني الميداني ونظريات القبض والضبط؛ إذ صارت الثقافة الأمنية مطلبًا مُلِحًّا، وتشهد المجتمعات العربية عجزًا كبيرًا فيها، وهو ما جعل الشعوب العربية سوقًا ضخمة لعمليات النصب والاحتيال التقنية، وتتطلب سياسات الثقافة الأمنية توسيع مجالات الدورات التدريبية للناس العاديين وأهالي الأحياء والمدارس وعمال المتاجر ومن في حكمهم، ودعم تأليف الكتب وترجمة الكتب الأجنبية، ودمج المعلومات الأمنية والخيال الأمني في مناهج التعليم وفي وسائل الإعلام والمنتديات الثقافية والفلسفية.
والمبدأ الثاني يؤكد أن التطورات التقنية والرقمية تعني بالضرورة أن التقنيات الخطرة التي كانت محتكرة لأجهزة الاستخبارات أو تقع تحت هيمنة الدول ستكون منتشرة وفي متناول الجميع، ومن ثم قد يزدهر جيل من المجرمين والقتلة للإيجار، بل قد يتحول كثير من الجرائم إلى وجهات نظر، وقد يحظى كثير من الانحرافات الأخلاقية بدعم منظمات دولية وإصدار تشريعات تجيزها وتدافع عنها، وقد تظهر مؤسسات للتتبع وجمع المعلومات وتحديد المواقع وتقديم خدمات لا يسمح القانون ولا الأخلاق بتقديمها، وقد ينظر إلى كثرة القتلى مثلًا على أنها تشكل نوعًا من التوازن البيئي. وقد يبسّط التواصل بين سكان الأرض إلى مستويات متقاربة زمانيًّا ومكانيًّا، وقد يفقد الإنسان الشعور بأهمية الدين ودوره في حياته، وهو ما يعزز طغيان الحياة المادية، وهذا «الخيال الأمني» نابع من معطيات واقعية، ولها مؤشرات تدل على سلوكها المستقبلي.
ومن أهم الملفات التي طورتها التقنية وكشفت أسرارها، وحسنت من إنتاجها، إلا أنها لا تزال تحمل معها مهددات وجودية: المحاصيل الزراعية المعدلة وراثيًّا، والجينوم البشري الذي يمكن له أن يصنع إنسانًا حسب الطلب، وإمكانية الولادة خارج الرحم، وقد أثيرت هذه المسألة الأخلاقية بعد الإعلان عن استنساخ النعجة دوللي عام 1996م، التي تعد أول حيوان يُستنسَخ من خلايا حيوان آخر، ثم أصيبت بشيخوخة مبكرة، وأنهيت حياتها عام 2003م، وثار بسببها مسألة أخلاقيات الاستنساخ الجيني وإمكانية تطويرها وتطبيقها على البشر، والسؤال عن مستقبل الأمراض الجديدة الناتجة من التقدم التقني الجيني.
والقدرة البشرية على إثارة الأعاصير في البر والبحر، وتدمير الشعوب بظواهر تبدو كأنها تغيرات طبيعية، ويتحدث الخبراء الآن عن إمكانية صناعة تسونامي جديد أمام الشواطئ، أو إغراق الشعوب بالأغبرة وزيادة معدلات رياح البوارح ورياح الخماسين التي تهب سنويًّا على البلدان العربية.
أخلاقيات استخدام التقنية
يمثل تسارع نمو شركات التقنية والمعلومات العالمي مؤشرًا واضحًا على هيمنة الشركات على الدول؛ حيث لا تستطيع الدول اليوم أن تصنع قراراتها من دون الحصول على معلومات والاستعانة بشركات التقنية بشكل كبير، بل إن سياسات الدول صارت تحت رقابة شركات التقنية وتطبيقات التواصل، وهو ما جعل مستقبل فكرة الدولة محلّ تساؤل أمام تغول شركات التقنية في العالم.
عندما صدر كتاب «عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبلنا البشري» The Age of AI and Our Human Future (نوفمبر 2021م) من تأليف ثلاثة من أهم العقول وهم: هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الشهير في السبعينيات، وإريك شميت، المدير التنفيذي في غوغل، ودانييل هتنلوكر، الباحث التقني في معهد MIT، كانت قضية الكتاب الرئيسة تكمن في أخلاقيات استخدام التقنية، والدعوة لمعاهدة دولية تضمن التزام الأخلاق في الحروب وفي البيولوجيا وفي الطب والفضاء، والكتاب فلسفي أكثر مما هو تقني؛ حيث يطرح تساؤلات عن مستقبل البشر تحت تأثير التقنية، ويتساءل ماذا يعني أن نكون بشرًا إذا كانت التقنية تمكنت من فك أسرار الجينوم البشري وتمكنت من تعديل جينات الإنسان قبل ولادته؟ والكتاب لا يجيب عن أي تساؤل بل يرفض أي إجابات ممكن أن تصدر لوصف عالم لم يتشكل بعد ولا يزال يتغير بسرعة مفرطة على جميع المستويات وفي كل الاتجاهات.
ما أحوجنا إلى تكثيف الدراسات الأخلاقية والفلسفية والثقافية نحو التقنية والعصر الرقمي، أكثر من الانبهار بنتائجها، وإيضاح مستقبل الأخلاق والثقافة والهوية والقيم الاجتماعية، وما أحوجنا إلى تلمس الأمن في البيولوجيا والطب والخصوصيات، كما نرصده في الاقتصاد والجريمة، ودعم التشريعات والمعاهدات الأخلاقية والقانونية للحد من سوء استخدام التقنية.