«أقفاص فارغة» لفاطمة قنديل.. لعبة الاعتراف والمكاشفة
وفقًا للفرنسي فيليب لوجون (1983م)، الذي يُعد المرجع الأول في التنظير لكتابة السيرة الذاتية وكل أشكال الكتابة حول الذات والأدب البيوغرافي، فإن حد تعريف السيرة الذاتية كالآتي: «حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته، بصفة خاصة».
وفقًا لهذا التعريف، الذي وضعه لوجون في كتابه «السيرة الذاتية في فرنسا»، الذي عاد لتطويره والإضافة إليه في كتابه «الميثاق الأوتوبيوغرافي» فإنه بوسعنا، بقليل من الجهد، أن نضع رواية «أقفاص فارغة.. ما لم تروه فاطمة قنديل» -الصادرة من الكتب خان في عام 2021م- تحت ظلال تعريف لوجون للكتابة السيرية التي تتسع لتشمل: «السيرة، السيرة الذاتية، اليوميات، أدب الرحلة، السيرة الروائية، قصيدة النثر الذاتية، المذكرات والاعترافات، ومقالة الرسم الذاتي… إلخ»، على الرغم من وجود بعض الحيل التي عمدت الكاتبة لاستخدامها؛ دفعًا لنصها بعيدًا من السيرة الذاتية بشكلها الكلاسيكي، أو ربما لتجاوز وتخطي بعض الإزعاج الذي قد يخلقه تطابق بعض الشخصيات الحاضرة في «أقفاص فارقة» مع أسماء شخصيات واقعية.
وبعيدًا من ذلك، فإن السؤال الخاص بالتصنيف يتصاغر أمام النص، الذي يتخطى بسهولة هذه العتبة متجهًا إلى جودة الحكاية، عن طريق مقدرة كبيرة على رسم الشخصيات، التي تأخذ في النمو والاكتمال أمام القارئ، بفضل عملية الانتقاء التي قامت بها قنديل والتفتيش في الذاكرة والتنقيب عن أنسب المواقف الحياتية لتغزلها في لُحمة النص، حتى إن كانت الذكريات الأليمة، الحادة، وتلك الأحداث الجليلة التي ترسم مصايرنا، والمنعطفات الصغيرة التي نحتكّ بجوانبها بشكل يومي، فنكتشف بعد سنوات أنها ساهمت في تحديد مساراتنا واختياراتنا في الحياة.
تبدأ الشخصية الرئيسة، التي تتولى السرد بضمير المتكلم، في التكوّن والاكتمال قبل الشخصيات الأخرى: الأب والأم والأخوين. تقول الراوية: «كل ما كتبته على هذه الأوراق، كان مؤلمًا، لكنني كنت أتعافى منه في اليوم التالي، أشعر أنني تحررت من ذاكرة، وأحاول أن أتذكرها مرة أخرى فتتلاشى، كأنها تبخرت فور أن أكتبها». وفي سياق الحكي الاستعادي هذا، تبرز لغة فاطمة قنديل، التي تجنح في غالبيتها إلى التخفف من المجازات، لصالح الحكي والحكاية. لغة عارية كما وصفتها الراوية: «أسوأ ما يمكن أن يحدث لي بعد موتي هو أن يأخذ الآخرون أقوالًا مأثورة مما أكتب الآن، أن تصير حياتي قولًا مأثورًا، وهو ما يصيبني بالغثيان، أن تصير درسًا، أو عبرة، هو الجحيم ذاته، أحاول أن أتجنب هذا المصير وأنا أكتب، بلغة عارية تمامًا، لا ترتدي ما يستر عورتها من المجازات؛ لأن الحياة تصير أكثر شبقًا بعدما نموت، كذئب مسعور، لا يروي ظمأه إلا الحكايا».
«الكشط» من ذكريات الطبقة الوسطى
تنهل فاطمة قنديل من معين ذكرياتها، وتكتب نصًّا متكئًا على الذات، إلا أن رهانها الأبرز كان على نوعية تلك الحكاية، أو الحكايات المتشعبة، التي انتزعتها انتزاعًا من لحمها الحي، في عملية تعري فني ذكي، لا للراوية فحسب، بل لحقبة زمنية كاملة. يسرد النص مسار فتاة/ عائلة من الطبقة الوسطى، نستطيع رصدها منذ خمسينيات القرن الماضي وصولًا إلى 2019م، وهو رصد للمكان أيضًا، للقاهرة بحيها الشمالي المعروف باسم «مصر الجديدة» ومحيطه من أحياء مجاورة مثل مدينة نصر والألف مسكن.
لكن على الرغم من ذلك، لا تغفل قنديل الإمساك باللقطات الإنسانية، تلك التي يمكن للقارئ أن يرى نفسه فيها، ويسقط نفسه داخلها كبديل للمحكي عنه. تفعل ذلك باحتراف «شاعر» يستطيع رصد كل ما يمس «الشعور»، ثم تغزلها في فقرات قصيرة، تبدو كلسعات السياط، لسعات كثيرة متعاقبة على فصول أربعة هي «علبة شوكولاتة.. صدأت للأسف»، «البداية.. حب، وشجن وأوتار كمان»، «غرباء.. يلعبون معًا البنج بونج»، وأخيرًا «الغائب يعود في موعده.. قبل بدء العرض».
ترسم الفصول الأربعة في منقضاها سيرة راوية «أقفاص فارغة». تأتي الراوية بشكل جليّ في صدارة اللوحة، وحولها يظهر أفراد أسرتها: الأب الذي يتحمل مسؤولياته حينًا ويغوص في إدمانه للخمر في حين آخر، قبل أن يموت في مرحلة مبكرة، والأم التي تحملت الكثير لصالح أسرتها، والأخوان: رمزي الذي تبدأ الحكاية به وهو المقرب لأخته «الراوية»، ثم تقدم له فاطمة قنديل «قوسًا عاطفيًّا» مدهشًا في أثناء رحلة تحوله من فتى وسيم وشجاع إلى طبيب يكاد يكون متجردًا من الإنسانية لصالح عملية جمع وكنز ثروة من المال. والأخ الآخر «راجي» الذي يختفي في بداية الرواية، بعد هجرته إلى ألمانيا، ويتحول بالنسبة لأسرته إلى مشروع «أخ ميت» بسبب اختفائه لثلاثين سنة، قبل أن يعود بشكل مفاجئ في الفصل الأخير، لكنه يعود كغريب، أخ مفلس ومختفٍ وعجوز بشكل لا يسمح له بـ«بداية جديدة» في مصر بعد عقود من الاغتراب. بين هذه الشخصيات كثير من التفاعلات، لحظات الامتنان، ولحظات الخذلان، والدعم، والنذالة والتنصل، والحب أيضًا، خصوصًا تلك العلاقة الرائقة التي تجمع بين الراوية وأمها والصداقة الممتدة بينهما منذ الطفولة حتى وفاة الأم.
لحظات شائنة
إلى جانب الحكي السلس المتدفق، واللغة المُحكمة، فإن جانبًا كبيرًا من قيمة «أقفاص فارغة» مصدره هو هذا التعري الممتد من بداية الكتاب إلى نهايته. لم تخجل فاطمة قنديل من مد يدها إلى النقاط واللحظات الشائنة في حياة تلك الأسرة ومن ثم عرضها على الملأ، من خلال الأب الذي انتهى به الحال مدمنًا للخمر. حتى بعد إفلاسه وانحدار حال الأسرة تأتيه فرصة للعمل كمدرس في الجزائر، إلا أنه يذهب لاختبار مقابلة العمل مخمورًا فيهدر فرصته وفرصة أسرته للعودة مرة أخرى لمستوى معيشي لائق.
أما الأخوان، الكبير (راجي) فبدا حضوره الطيفي على امتداد الرواية كلغز، «كارت آس» تخبئه الراوية في كم قميصها لتشهره في آخر الكتاب كورقة رابحة. إلا أن ذلك لم يمنعها من تقديمه كشخص مضطرب، وبخاصة خلال الإجازة الصيفية التي قضتها أخته (الراوية) عنده في ألمانيا، لتكشف مزاعمه بتحقيق النجاح وليتضح أنه مقيم غير شرعي وأنه يعمل متنقلًا بين المهن البسيطة. هذا بخلاف إساءته معاملة أخته الصغيرة خلال تلك الإجازة. حتى بعد عودته للوطن يدخل في صدامات مع أخته، ثم ينتهي به الحال منسيًّا في دار للمسنين.
الأمر ذاته يسري على الأخ الأوسط (رمزي)، فهو لم يفعل كفعلة أخيه بالاختفاء من الأسرة، بل ظل على تواصل معها لسنوات طويلة، إلا أن الزمن جرفه هو الآخر إلى شاطئ الجحود والنكران، حتى إنه يرفض أن يتكفل بتكلفة العلاج الكيماوي الذي تحتاجه الأم بعد إصابتها بالسرطان، ويمتد الأمر في النهايات إلى قطيعة بينه وبين أخته الوحيدة. حتى الراوية نفسها لم تعفِ نفسها من سرد المواقف التي بادرت هي فيها بتصرفات فيها نزق، مثل زواجها الثاني من فنان بوهيمي تلبية لنداءات جسدها، من دون أن تتعظ من زيجتها الأولى، أو تنازلها عن وظيفتها كمضيفة طيران للحفاظ على زوجها الأول. حتى عدم تفهمها لأخيها العائد من سنوات اغتراب طويلة ودخولها معه في صدامات عدة أسفرت عن إخراجها له من بيتها. هكذا، استوفت «أقفاص فارغة» أحد أصعب متطلبات السيرة الحقيقية، الجادة، وهي فضيلة الاعتراف، والتعري، والمكاشفة؛ لتكتمل بهذه الخلطة المبهرة، الرواية الأولى لفاطمة قنديل، بعد دواوين شعرية عديدة.