«الجريمة والعقاب» كإسقاط سيكولوجي اجتماعي.. الأدب البوليسي نموذجًا
نجحت عرابة الأدب البوليسي «أجاثا كريستي»، من خلال حبكة درامية بسيطة مغلفة بقالب من التشويق والتحدي الفكري، بمخاطبة الملايين في جميع أرجاء العالم، لتؤثث ذاكرة خاصة للقراء، قائمة على احترام القيمة الأخلاقية للإنسان. في المقابل، حاول كُتاب كثيرون صب رؤيتهم الوجودية في قالب «الجريمة والعقاب» الذي أرساه «دوستويفسكي» كنمط سيكولوجي يلتقط الإيقاع الخفي لصيرورة المجتمع، ويدينه وفق قانوني العدالة والقصاص.
وفي نماذج النصوص المختارة تتواتر هواجس المبدعين لتتزامن مع أحد وجهي «الجريمة والعقاب»، اللذين طرحهما «دوستويفسكي» من خلال شخصية «راسكولينكوف»؛ الجانب الاجتماعي الذي استقام بانتصار الإنسانية داخل سليل «المذلين والمهانين» وبلغ ذروته العاطفية بموقف «سونيا» المضيء نحوه، والمنحى النفسي الأخلاقي الذي عكسه صراع القاتل مع ذاته، حول أحقية تمتع الفرد المأزوم بالثروة التي يكتنزها الآخرون.
«جثة في قرية تائهة»
مثلما كان غياب الماء وانعدام النظافة الشخصية عاملًا مساعدًا في حفاظ «غرونوي» بطل رواية «العطر» لـ«باتريك زوسكند» على حاسة شمه، وبالتالي بناء أسطورته وحشًا متألهًا، كذلك صاغ غياب الماء في رواية «جثة في قرية تائهة» للأرجنتيني «ماريانو كيروس» معالم التوحش وإعادة الإنسان نحو حالة البدائية الأولى التي رافقت مخلوقات الطين حينما سكنت الكهوف.
ومثلما كانت جثة «إيفيتا بيرون» تساوي تاريخ الأرجنتين في رواية «سانتا إيفيتا» لـ«مارتنيث»، كذلك تعيد جثة مومس في قرية تائهة استنساخ هذا التاريخ برؤية سريالية ذات قالب بوليسي ساخر، وهو ما يجعل الرواية أقرب إلى لعبة ممسرحة فوق أرض جففها القحط ويباب النفوس الميتة؛ ليثير أبطالها في النفس مزيجًا من الرثاء والشفقة والازدراء.
تدور الأحداث في قرية تجسد مكانًا ضائعًا ضمن الجغرافيا الأرجنتينية، فتكتسب مشروعية الوجود مع وصول صحفي مأزوم من العاصمة، مكلف بتقصي أسباب اختفاء ناشطين بيئيين. وفي أثناء وجوده في القرية تقع جريمة قتل بحق مومس، ويترك الإشراف على المشهد الدامي لابن العمدة المنحرف «بيبو». ويتخذ الطابع الهزلي للجريمة والتحقيقات الدائرة حولها رمزيته في صياح الببغاوات الفاحش؛ لأن الفاعل الحقيقي لا تطوله الشبهات، إذ تشير أصابع الاتهام إلى الانقسام الطبقي في المجتمع الأرجنتيني.
«ثلاثة أيام وحياة»
يستنسخ «لوميتر» أجواء القلق والرعب التي طوقت «راسكولينكوف» بطل «الجريمة والعقاب»، ليدين عصرًا يتهيأ لتعليب الإنسان. ويختار بطله من الشريحة الاجتماعية الحرجة التي تنتمي إلى الطفولة، بقدر ما تخطو خطواتها الأولى نحو غموض البلوغ وقلقه. وتصبح المواجهة بين مراهق في الثانية عشرة من عمره يدعى «أنطوان» وطفل صغير في السادسة من عمره يدعى «ريمي»، بمنزلة محاكاة بسيطة لزوال حقبة التسعينيات، التي ترتبط بنهاية عهد البراءة الطفولية ممثلة في «ريمي» وشغفه بحب المغامرة وتقليد الأولاد الأكبر سنًّا منه في ألعابهم الصبيانية. لتبدأ حقبة الاستهلاك المتزامنة مع دخول أول لعبة بلاي ستيشن إلى البلدة الفرنسية، فتقصي دور اللعب الجماعي بين الفتيان، وأهميته في بناء شخصية الإنسان. فتحل الألعاب الإلكترونية التي تغذي التنافسية الضارية في النفوس الغضة، بديلًا من التشارك الجماعي السابق في اللعب، الذي كان يؤدي دورًا مزدوجًا في حياة الفتية؛ إذ يصرف طاقتهم الحركية، وفي الوقت نفسه، يعودهم على القيمة الأخلاقية للتعاون.
تمهد حادثة بسيطة لفعل القسوة العفوي الصادر عن «أنطوان»، الذي يفضي إلى الجريمة، حيث يصدم سائق أرعن كلب جيران عائلة «أنطوان». فيطلق رب الأسرة عليه رصاصة الرحمة، ثم يلقي جثته في كيس أسود، يركنه إلى جانب قمامة المنزل، فيختل التوازن الداخلي للفتى، بسبب تعلقه المفرط بالكلب، الذي مرده إلى معاناة ألم الوحدة. وكرد فعل على القسوة المرتكبة بحق جثة الكلب، وتحت وطأة الانفعال العنيف ينهال «أنطوان» على رأس ابنهم «ريمي» بعصا، فيرديه قتيلًا، ليجد نفسه بفعل الخوف مضطرًّا لإخفاء جثته في أحراش الغابة.
وخلال ثلاثة أيام تترسخ الجريمة، وتنطبع في الوعي الجمعي للبلدة، فيسود إصرار جماعي على اكتشاف مكان «ريمي»، وينتشر في الجو سُعار عنيف محتقن في نفوس قاطني البلدة، يصفه «لوميتر» بـ«شيء من الغزو والانتقام». ويعزوه إلى آفة البطالة المتزايدة، وتراكم الضغائن المتأتية عن مراقبة الناس لبعضهم الآخر، والتي تتقولب وفقها الحيوات وتتخذ بناء عليها المواقف والأحكام الأخلاقية، ليتولد عنها نوع من العلاقة النفعية مع الدين. ومن خلال هذه العلاقة يتطرق «لوميتر» إلى مفهوم العقاب أو الكفارة الإلهية، معتبرًا على لسان القس، الألم أعظم جنود الله؛ لأنه يقرب الإنسان من كماله. إذ يفتح أمام العاصي أبواب طلب الغفران، وتطهير الشر الكامن فيه، وهو ما يتضح لاحقًا في قبول «أنطوان» مبدأ التكفير عبر الخدمة الإنسانية غير المشروطة.
تمثل العقاب المخصص لـ«أنطوان» في قبول كل شيء كان قد نفر منه سابقًا، لتثمر مكافأته البسيطة والوحيدة في الحياة بلعب الشطرنج مع الآنسة المُقعدة التي مات والدها في أثناء العاصفة، ففقدت معيلها وصلتها الوحيدة مع البشر. وبالتالي، يستدير النص نحو البداية، التي غاصت في التهديدات الناجمة عن فقدان الإحساس بخاصية المؤازرة الإنسانية المكتسبة بفعل اللعب الجماعي إبان مرحلة الطفولة، لتجسد الشابة على الكرسي المتحرك عودة إلى النمط الطفولي الخالي من أنانية ومكر البالغين.
«لن ننسى أبدًا»
في أحد أوجه لعبة الاحتمالات، يسوغ جنون متحلل من الضوابط الأخلاقية استنساخ حياة فتاة تدعى «مورغان أفريل»، فيعاد إنتاج مصيرها، بتفاصيل حياتها وموتها، لتسقط حياة الشاب المغربي «جمال سلاوي» في هوة الفراغ. وترتسم محاكاة ساخرة لحكاية «الجميلة والوحش»، لكن برواية قاطني الضواحي الباريسية.
فـ«جمال» كان يملك كل مواصفات النموذج المثالي للمجرم، فهو العربي المعوق الأعزب، الذي يعمل في مشفى المجانين. وبالتالي يشكل كبش الفداء المثالي لرجال الشرطة الذين عجزوا طوال عشرة أعوام عن إيجاد قاتل الفتاة. وحين تكتمل المؤامرة البوليسية مع نضوج هوس الانتقام عند ذوي الضحية مورغان، يصبح «جمال» المجرم الذي يحتاجون إليه. تأطرت طموحات «جمال» بخمسة أهداف، تعادل رؤوس النجمة الخماسية اللامعة، التي ترمز للعدالة على صدر الشرطي. لكن نجمة «جمال» كانت من النحاس الذي تشتريه الأمهات لأطفالهن، كي تغذين فيهم الطموح للتحلي بالشجاعة والقوة والتماهي بالعدالة. ومع أن نجمته انتهت مسحوقة تحت عجلات سيارة، فإن أهدافه تحققت رغمًا عن المؤامرة العنصرية التي أقصته إلى الهامش؛ فأحب امرأة وأنجب طفلًا وانتثر رماده فوق قمة جبال ثلجية كمتسلق معوق، وجعل امرأة تبكيه عقب وفاته، وسدد دين الحياة قبل مماته.
بعد تأمل التفصيل الأخير تصبح شخصية «جمال» معادلة لشخصية المراهقة الفرنسية «أوفيليا» التي تعرضت للاغتصاب، وأُودِعَتْ مشفى الأمراض النفسية. وهناك اختلقت عالمًا بديلًا أكثر تسامحًا مع طفولتها المنتهكة، مثلما صاغ حلم «جمال» بتحقيق أهدافه الخمسة عالمًا بديلًا له. وبالتالي، لم يجد طفل الضواحي المُدان مسبقًا أي صعوبة في مساعدة «أوفيليا» على ترميم ذاتها، ليدفع، تشكيك «جمال» في ذاكرته عبر المؤامرة البوليسية، ثم مقتله، «أوفيليا» نحو تسديد دين الحياة، الذي تمثل في تبرئة «جمال» والكشف عن القاتل الحقيقي. وبالتالي تتحول المؤازرة الروحية بين كائنين مقصين إلى الهامش إلى رد على اللوثة العنصرية التي تجعل الاختلاف العرقي مسوغًا للإدانة.
«امرأة في حقيبة»
إذا اعتبرنا تشييء الإنسان معادلًا للجريمة، فإن العلاقة التنافسية بين الرجال والنساء يمكن أن تصبح مدخلًا لمعاينة عنف الإلغاء القائم على رفض التعددية، والإصرار على الارتهان للخيار الأوحد في الحياة. ويتجسد هذا الجمود في الرواية بشخصية طالب الطب «تيو». وبينما يتماهى الشاب بحياته الرتيبة المملة والخالية من لحظات السعادة والحزن، تعيش طالبة الفنون «كلاريسا» طبيعتها الثنائية، وتعكسها في سيناريو مفتوح على شتى الاحتمالات، وهو ما يفتن «تيو» كثيرًا، فيشتعل التصادم بين طالبي العلم والفن عبر استلهام حكاية «فلة والأقزام السبعة».
يلتقي الاثنان في أثناء حفلة شواء فتتغير طبيعة الوقت الذي اعتاد «تيو» تَشارُكَه مع جيرترود في المشرحة. لكن رفض الفتاة الكلي له يؤجج عدوانيته، فيضربها على رأسها بكتاب أحضره لها هديةً. ثم يستعين بالمخدر لشل حركتها ووضعها في حقيبة تمهيدًا لأخذها في رحلة التعرف إلى شكل السعادة المتاحة بوجود شريك إنساني.
يستقر «تيو» مع أسيرته في كوخ مطلّ على البحر، يدعى sleepy، أي النائم، تعود ملكيته إلى الأقزام. لتطل شخصية فلة المحتجزة من جديد، ولكن بعد استبدال طبيعة الانتظار، فتتغير من شوق الأنثى الحبيسة للتحرر من قفص الغيرة والحقد المتأتي عن زوجة الأب في النمط الكلاسيكي للحكاية، لتصطبغ بتوق التخلص من عبء التفكير المقصور على الأمير السعيد «تيو». فبعد أن يعزلها عن الواقع بإبر المهدئات كي يجبرها على التفكير فيه فقط، يدفعها لتدوين انطباعاتها ضمن سياق إكمال كتابة السيناريو، ليمضيا الوقت باستكشاف الخيال، وإعادة بناء واقع خاص بهما، قوامه تبادل ثنائية الجلاد الضحية!
وبفضل تلك التركيبة المعقدة يصبح «تيو» إنسانًا، بعد أن اختبر مع «كلاريسا» العاطفة والتشارك في الكتمان والإثم والندم والحب والكره.. ولأن علاقته المشوهة بالحياة ابتدأت بالاسم جيرترود، انتهت إليه أيضًا، فحملت «كلاريسا» التي شل «تيو» عمودها الفقري، بطفلة، وسمتها جيرترود، ليتجسد العقاب من صلب الجريمة.
«مَن صاحبة الاسم السري؟»
يعادل مفهوم الدخيل للقاتل في هذا النص المتقن من حيث تكامل عنصري التشويق والمتعة الفكرية، ويتداخل عنصرا الجريمة والعقاب معًا، في إطار البحث عن التفرد والشهرة السهلة. فتطرح «أندروز» جملة أسئلة على لسان بطلتيها «فلورنيس» و«هيلين»، لمناقشة الكيفية التي تسمح للمرء أن يستبدل بشخصيته أخرى مختلفة.
تدفع أزمة البحث عن الهوية «فلورنيس» للانسياق وراء غواية الكتابة، دونما موهبة تنظم أفكارها أو خيال يشطح بها نحو رحابة عالم أكثر اتساعًا، وهو الأمر الذي يجعل منها دخيلة على ملكوت الإبداع. لتتشارك هذه الصفة مع كاتبة غامضة، تدعى مود ديكسون، ألّفَتْ رواية حققت مبيعات عالية؛ لأن الجريمة شكلت سبب الرواية وغايتها، وخلفت لدى القراء شعورًا بضرورة إقدام القاتل على جريمته، فيما عززت طريقة التعبير الحاد والوحشي فكرة القتل. ولاستنساخ هذا الزخم مجددًا، يبرز القتل كفرصة للحصول على هوية جديدة، تدعم العظمة المتخلقة حول حياة الكاتب، التي شكلت إيمان «فلورينس»، فـ«هناك قوة حقيقية في أن يكون المرء دخيلًا».
تتجسد الذهنية الفكرية للجريمة لدى «هيلين»، والمتأتية عن الغيرة المفرطة التي تتفرغ في قالب القتل، من خلال مصطلح «التسطيح». فتنتقد «هيلين» ثغرة العدالة في بنية الديمقراطية الغربية، التي تحكم على الجميع بالمساواة أمام القانون، وبالتالي تجعلهم قابلين للاستبدال. في المقابل، تعدُّ البحث عن ثلاثية الجمال والتفوق والفن معادلًا للحياة الحقيقية، التي تكتسب عندئذ قيمة المكافأة.
وكي تحظى بمكافأتها، تقتل «هيلين» رجلًا مهووسًا بصديقتها جيني، ثم تؤلف رواية، وتتخفى خلف اسم مود ديكسون. وحين تعوزها المخيلة لاستنساخ جزء ثانٍ لها تخطط لقتل «فلورينس»، لتسطو على هويتها، من خلال خدعة توظيفها كمحررة لديها. لكن الضحية تتبادل الأدوار مع القاتلة، فتملأ «فلورينس» بسرعة قياسية الفراغ الذي تخلفه «هيلين» وراءها، وتشعر أنها هي نفسها، أكثر من أي وقت مضى، المرأة التي شكت بوجودها في مكان ما بداخلها. وبالتالي تصبح الجريمة مدخلًا لمعايرة الخواء الداخلي، بينما يغدو العقاب معادلًا لاستنساخ نشوة القتل.
«القارئ المخلص»
تتلبس الجريمة بالدفاع المشروع عن النفس، لكنها تقترن، في الوقت نفسه، بمتوالية جرائم غامضة تضع المحققة «جيسكا» في مواجهة الذات. لذلك تختتم عبارة «أنا أنظر إلى المرآة» رواية طويلة تضم بين دفتيها سلسلة من المخاوف والتهديدات، تتلبس أشكالًا بشرية، وتتخذ سياق جرائم وتحقيقات واختلاطات نفسية متداخلة. فينفس كاتب عن غضبه عن طريق كتابة صور مفصلة للعنف، فيما يدون آخر مخاوفه، وبين النمطين تطل محاكم التفتيش التي أقصت النساء تحت مسمى الساحرات. لتتخذ ساحرة في إهاب محققة جنائية طريقها نحو معرفة ذاتها.
والساحرة هنا تعني الأنثى التي تكتشف العالم من خلال الجنس، بحسب مقولة «كويلهو» في روايته «بريدا»؛ لذلك تجوب «جيسكا» في بداية شبابها العالم بحثًا عن المتعة والإثارة، فتصطدم بالوجه السادي لعازف إيطالي، يحطم ثقتها في نفسها، ويعيد إليها صدمة الطفولة المضطربة، فتقتله دفاعًا عن نفسها. وهذه التجربة تكتسي بعد عقد من الزمن بحبكة بوليسية عن قاتل متسلسل يلاحق الساحرات، ويتخفى وراء رمز بافوميت الذي يمثل النزعة الشيطانية، أي الجانب الحيواني من الإنسان، ويجسد المتعة التي سعت الكنيسة طوال قرون عدة لمحاربتها.
عند النظر في المرآة تواجه «جيسكا» ذاتها، وتدرك المتاهة الذهنية التي ابتكرتها لتتغلب على تجربة الإذلال التي عاشتها بذريعة توفير المتعة للموسيقي السادي. وتخلص إلى أن كل إنسان يكتب حياته، ويملك جمهورًا يتفاعل معه، ليغدو القارئ المخلص جمهورًا نخبويًّا يحررها من عقدة الاضطهاد.
«جلسة قهوة»
يتماهى العقاب على جريمة تشييء الإنسان بالانتقام، الذي يعدّ شرابًا يقدم ساخنًا في اليابان، فيتحول مشروع التنمية الذاتية في إكثار النسل إلى نسيج انتقام يعنون الجريمة الكاملة. فيتسبب رجل الأعمال «أشيتاكا» في انتحار امرأة عاجزة عن الإنجاب، حين يعدُّها زائدة عن الحاجة، وينفصل عنها بمنتهى اللامبالاة، بعد عام من الزواج، ليقترن بصديقتها المقربة «أياني»، الأستاذة في علم الفسيفساء النسيجية. وحين تصبح طالبتها المفضلة المرشحة الجديدة لإنجاب الذرية، تنفذ انتقامها الذي نسجته بدقة ليلة زواجها، حين تلقت هدية صديقتها المنتحرة، والمتمثلة في علبة تحوي الكمية المتبقية من الزرنيخ.
في المقابل، يفتتن المحقق الشاب «كوساناغي» -صاحب الوجه المطمئن الذي يوحي بالغباء- بالمتهمة المبدعة، ويغشاه التوتر كلما وقعت عيناه عليها، وكأن ثمة من يضغط على حنجرته بسكين. وهو ما يعطيه انطباعًا بأنها تريد أن تحيا كل لحظة بعمق، كما لو كانت مستسلمة، فيبلبله ذلك ويسحره، ويغمره قلق يشعره بالاختناق؛ لذلك يتهشم قلبه حين تتحطم أيقونة الجريمة الكاملة؛ لأن «أياني» تبقى ثابتة الجأش، ترنو إليه بثقة، من دون تأنيب ضمير أو شفقة.
«تفاني المشتبه به X»
تصطبغ الجريمة بالتنمر الذي يمارسه المجتمع الياباني القائم على الانضباط على شريحة العلماء والمفكرين، فلا يسمح الناس لأمثالهم بالعيش وفق قواعدهم الخاصة. ويحدد سؤال يطرحه رجل الفيزياء «يوكاوا» المستوى الذي تدور ضمن أبعاده الرواية: «ما هو الأصعب؟ أن نضع تصورًا لمشكلة لا حل لها، على غرار المعادلة المستحيلة P ≠PN أم أن نحلّ هذه المشكلة؟». وبالتالي، يعالج المؤلف قضايا الواجب والحب والإيثار، وفق منظور رجل الرياضيات «أشيغامي» الذي ينتمي بمشاعره إلى زمن مجرد من إحداثيات المادة.
يعدُّ «أشيغامي» أن وضع تصور لمشكلة هو الأصعب، في المقابل يتحتم على الشخص المطالب بإيجاد حل لها عدم التغاضي عن احترام واضع التصور؛ لأن الإخلال بهذا الاحترام يمس الكبرياء الذي هو القيمة المضافة إلى شرف الساموراي الياباني. وهو هنا يعادل رجل الرياضيات النابغة.
كان لرجلي الرياضيات والفيزياء الشغف نفسه في بناء العالم عن طريق المنطق. لكن «أشيغامي» اعتمد على الحساب بينما استعان «يوكاوا» بالملاحظة لحل الألغاز. فارتسمت معضلة الأول لغزًا يتحدى ذكاء الثاني، فيما تخبط رجال الشرطة في الفخ الذي قادهم «أشيغامي» نحوه، فجسدوا العقلية التقليدية التي تنجرف خلف الأفكار المسبقة.
كان «أشيغامي» مزمعًا على الانتحار حين طرقت جارته وابنتها بابه، فانتبه إلى أن الجمال يعادل في طبيعته روعة مسألة رياضية وجد لها حلًّا، وأدرك اتصاله بما يعده سعادة مطلقة. وقدر أن أي محاولة لإقامة علاقة معلنة معهما ستكون من قبيل المس بكرامتهما. وبدا له أن تقديم العون لهما للتخلص من جثة الرجل الذي تحرش بالابنة فقتلته دفاعًا عن نفسها، أمرًا مفرغًا منه لشعوره بأنه مدين لهما بحياته. فلم يشعر بأنه يضحي من أجلهما، إنما يرد بطيبته على طيبتهما، حتى لو عنى ذلك قتل إنسان بريء وبناء متاهة متكاملة من الأدلة الوهمية لإبعاد الشبهات عن الأم وابنتها.
«فتاة القطار»
تعرف «هوكينز» شخصيتها الأساسية «ميغان» بأنها سيدة إعادة اختراع الذات، فهي تلعب بالحياة الحقيقية بدلًا من أن تعيش. وهو الأمر الذي يجرّ معه نوبات من الذعر والأرق الليلي، فتعمد إلى الهروب لتغيير واقعها بآخر مختلف، لتنتهي قتيلة على يد أحد عشاقها ويدعى «توم». في المقابل، تتعرض «ريتشيل» إلى التعنيف الجسدي والنفسي على يد زوجها «توم»، لتتحول إلى مدمنة كحول مطلقة، تحمل فجوة في ذاكرتها. وبالتالي يمكن للشخصيتين أن تلعبا دورَ وجهَيِ العملة الواحدة، نظرًا لتعرضهما للاستغلال الجنسي على يد الشخص نفسه. لذلك حين تُقتل «ميغان» تتحول «ريتشيل» إلى هاربة من نوع فريد، إذ تواظب يوميًّا على ركوب القطار المتجه نحو لندن؛ كي تراقب من النافذة الشغف الذي يبديه جارها «سكوت» نحو زوجته «ميغان».
ومثلما تعاقبت لحظات السعادة الوهمية المستعرضة أمام الأعين الفضولية لـ«ريتشيل»، لتثبت بؤس الحياة المتكئة على الوهم والتظاهر، كذلك أيضًا تتواتر متواليات «الجريمة والعقاب» لتثبت ارتهان المشاعر الإنسانية للنسبية. وبالتالي تتحول الرواسب المتأتية عن العنف والتنمر بوجهيه الاجتماعي والأسري إلى عقد نفسية تحرف مسار المنحنيات البيانية للسلوك الإنساني عن المعايير الأفلاطونية المثالية، ليغدو استدراك هذا التشوه معادلًا للجهاد الأعظم في الحياة؛ جهاد النفس.
الهوامش:
(١) «جثة في قرية تائهة»، الروائي الأرجنتيني «ماريانو كيروس»، ترجمة: عبدالسلام باشا. دار ضفاف 2016م.
(٢) «ثلاثة أيام وحياة»، الروائي الفرنسي «بيير لوميتر» ترجمة الدكتور غسان لطفي. دار كلمات 2017م.
(٣) «لن ننسى أبدًا»، الروائي الفرنسي «ميشيل بوسي»، ترجمة: عبدالمجيد سباطة. المركز الثقافي العربي 2020م.
(٤) «امرأة في حقيبة»، الروائي البرازيلي «رفاييل مونتيز»، إصدار العربي للنشر والتوزيع، القاهرة 2019م.
(٥) «القارئ المخلص»، الروائي الفنلندي «ماكس سييك»، الدار العربية للعلوم، 2020م.
(٦) «من هي صاحبة الاسم السري؟»، الروائية «ألكسندرا أندروز» الدار العربية للعلوم، 2021م.
(٧) «جلسة قهوة»، الروائي الياباني «كيغو هيغاشينو»، المركز الثقافي العربي، 2021م.
(٨) «تفاني المشتبه به X»، «كيغو هيغاشينو»، المركز الثقافي العربي 2019م.
(٩) «فتاة القطار»، الروائية البريطانية «باولا هوكينز»، ترجمة: الحارث النبهان، منشورات الرمل، مصر، 2015م.