ظهور جماعة العهد ونهايتهم بالمدينة المنورة إبان القرن الثاني عشر الهجري
لعل أخبار المدينة المنورة في النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري ما هي إلا أخبار للذعر الشديد الذي كثيرًا ما يصاب به أهل المدينة المنورة علاوة على نفوس الناس المليئة بالغضب والألم، فالعدوان على بيوت الناس وأموالهم صار عاديًّا، كما أن العدوان المريع على حرمة المسجد النبوي صار واقعًا.
إزاء هذه الأحوال المضطربة في المدينة المنورة، وصراعات مراكز القوى المختلفة ومعظمها أصلًا من خارج المدينة، مثل الفرق العسكرية الأربع: (القلعجية والنوبتجانية والإسباهية والإنكشارية)، وشيخ الحرم ونائب الأمير أو وزيره، أحسّ عدد من أهل المدينة بالضيق الشديد وقرروا أن يفعلوا شيئًا يجنبون به أهل المدينة آثار الصراعات وضعف الإدارة، فتداعوا إلى الاجتماع ومناقشة الأمور، واجتمعوا في بيت واحد من أعيان المدينة، واتفقوا على أن يكونوا يدًا واحدة ضد الانحراف والفساد، وأن ينصروا الحق بأيديهم وأموالهم وسيوفهم، وتعاهدوا على ذلك، واختاروا واحدًا منهم ليكون رئيسًا للمجموعة هو السيد محمد بن علي بن أبي العزم العادلي، وتعاهدوا على الالتزام بما اتفقوا عليه، وقد سمي هؤلاء بجماعة العهد(١)، وكان فيهم رجال ينتمون إلى عدد من عائلات المدينة البارزة، وفيهم من عمل في الفرق العسكرية.
ويمثل هذا التجمع ردَّ فعلٍ طبيعيًّا لتردي الأحوال، والفساد الإداري، وضعف الدولة أمام مراكز النفوذ المتعددة. كما أنه يمثل درجة عالية من الوعي في أهل المدينة والإحساس بضرورة تدخلهم في الأحوال التي يصنعها الآخرون ولا يجنون منها إلا القلق. وكان من الممكن أن تتحول هذه الجماعة إلى قوة مراقبة وتصحيح تحجم نفوذ القوى الأخرى أو تستوعبها وتفرض نفسها حتى على الدولة العثمانية؛ لأن الدولة العثمانية كانت تأخذ في كثير من الأحيان بمنطق الأمر الواقع، وتقر الذين يتغلبون بالقوة في المراكز التي استولوا عليها، وكان من الممكن أن تغير هذه الجماعة صفحات كثيرة في تاريخ الدولة، لولا أن أجهضت في أول مواجهة لها مع الأحداث، وكان من سوء حظها أن تكون تلك المواجهة في فتنة الأغوات فيبتلعها تيار الصراعات والدسائس.
صراع القوى وفتنة الأغوات
على الرغم من وجود نائب عن أمير الحجاز في المدينة المنورة يحمل لقب وزير، فإن الإدارة فيها كانت ضعيفة أدت إلى ظهور قوى أخرى تصنع الأحداث والفتن، وتؤثر في حياة أهل المدينة في ذلك الوقت. وكانت أول قوة تظهر هي قوة الفرق العسكرية التي قدمت بعد دخول الحجاز في سلطة الدولة العثمانية. وقد ازداد نفوذ هذه الفرق تدريجيًّا، وأدى إلى صراعات بينها وبين نائب الأمير أحيانًا، وبينها وبين بعضها أحيانًا أخرى. وما لبث أن برز نفوذ آخر لأصحاب الوظائف الكبرى؛ شيخ الحرم والقاضي والمفتي. وهؤلاء يعينون من جانب دار الخلافة مباشرة، ويعدّ شيخ الحرم أقوى هؤلاء نفوذًا، يُؤخَذ برأيه، وتنفذ طلباته في كثير من الحالات.
ويتبع شيخ الحرم جميع العاملين في الحرم وفي مقدمتهم الأغوات. والأغوات هم خدام المسجد النبوي والقائمون على شؤونه، ولهم نظام دقيق وتاريخ طويل يرجع إلى أيام نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي. وقد تطور وضع الأغوات بعد دخول الحجاز في سلطة الدولة العثمانية، وصار شيخهم يعين من جانب الدولة العثمانية مباشرة. وبلغ عددهم ثمانين شخصًا منقسمين إلى قسمين: أغوات أصلاء وعددهم أربعون، وأغوات احتياطيون يحلون محل من يتوفى من الأصلاء وعددهم أربعون أيضًا. وكان الناس في المدينة يجلونهم لقيامهم على شؤون المسجد النبوي ولاستغراقهم في العبادة وسلوكهم الحسن. غير أن تدخل الدولة العثمانية في تعيين بعض الأغوات وما تفعله الوساطات والرشوة قد أدخل إلى صفوف الأغوات بعض الأفراد الذين ليسوا على المستوى المطلوب لهذا العمل، فظهرت بعض الانحرافات والتصرفات السيئة.
ذكر عبدالباسط بدر في التاريخ الشامل أنه في عام 1118هـ سرق ثلاثة من الأغوات تحفة ثمينة من التحف المهداة إلى الحجرة النبوية، وهي كرة ذهبية على شكل شمامة مرصعة بالجواهر ومحشوة بالعنبر؛ أهداها أحد سلاطين العجم للمسجد النبوي كي توضع في الحجرة النبوية، وقد كسروها وبدؤوا يبيعون أجزاءها الذهبية، فكُشف أمرهم وعوقبوا وعزل شيخ الحرم(٢).
وتطور وضع الأغوات سلبيًّا في هذا القرن بسبب ضعف الإدارة، واضطراب الأمور في المدينة المنورة، ودخول بعض من لا تتوافر فيهم الشروط اللازمة في سلك الأغوات، فخرج بعضهم عن مهمتهم الأصلية، وأخذوا يتدخلون في الشؤون العامة في المدينة المنورة، وصار لهم أتباع ووساطات ومداخلات. وقد أحدث تدخلهم في الشؤون العامة امتعاضًا عند كثير من أهل المدينة، فصورة الأغوات ترتبط في النفوس بالزهد والتقوى والعبادة وسدانة المسجد النبوي، وأدى هذا الشعور إلى وقوف معظم أهل المدينة ضدهم عندما اصطدموا مع عسكر القلعة عام 1134هـ، وحدث ما سُمّي فيما بعد فتنة الأغوات.
بداية الفتنة ونهاية الجماعة
تتلخص أحداث فتنة الأغوات في أن رجلًا من أتباع الأغوات يدعى «علي قنا» كان يعمل في حامية القلعة، ففُصل من عمله بسبب بعض تصرفاته، وحاول بعض الأغوات التوسط له وإعادته إلى عمله، فرفض قائد حامية القلعة إعادته بحجة أن نظام الحامية يمنع إعادة المفصولين من الخدمة. فغضب الأغوات وعدوا رفض قائد الحامية إهانة لهم واستهتارًا بقيمتهم الاجتماعية، وأغلظوا القول له، فاشتد الخلاف بين الأغوات وعسكر القلعة، وتحول إلى خصومة جماعية. وأخذ الأغوات يؤلبون الناس على حامية القلعة، فرَدَّ قائد الحامية وعساكره على تصرفات الأغوات بالمثل، فتحدثوا عن أخطاء الأغوات وتدخلاتهم في الشؤون العامة. وبدأت الفتنة تتسع وتتعدى العسكر والأغوات إلى مناصريهما، وأراد قاضي المدينة أن يتوسط للصلح بين الطرفين، فأرسل إليهما للحضور عنده في مجلس القضاء، فرفض الأغوات حضور المجلس لأنه لا توجد دعوى ضدهم ولا يرون أنفسهم مخطئين، وكرر القاضي دعوتهم فخافوا أن يقبض عليهم أو يتطاول عليهم العسكر، فعدهم القاضي عصاة خارجين على الشرع، وتحصن الأغوات بالمسجد النبوي وأغلقوا أبوابه وصعدوا إلى مناراته، واستعدوا بالأسلحة لمواجهة من يهاجمهم.
وهنا برز جماعة العهد، فقد رأوا في تصرفات الأغوات خطأ فاحشًا؛ لأنهم امتنعوا عن الامتثال لأمر القاضي، وعطلوا الصلاة بالمسجد النبوي، ورأوا أن واجبهم أن يصححوا الخطأ ويتصدوا للمخطئين، وازدادت حماستهم لذلك عندما أصدر القاضي أمرًا بإنهاء اعتصامهم في المسجد النبوي وإخراجهم منه ولو أدى الأمر إلى قتالهم فيه، فذهبوا مع جماعة من العسكر وحاصروا الأغوات بالمسجد، وتبادل الفريقان إطلاق النار بالبنادق، وحصلت مصادمات بينهم وبين أتباع الأغوات وأنصارهم في أماكن متفرقة من المدينة. وسقط بعض القتلى والجرحى، وقُتِلَ رجلٌ من جماعة العهد اسمه أحمد بن سفر بن أمين. قَتَله أنصار الأغوات عند جبل سلع(٣) وظل التراشق والقتال إلى مساء ذلك اليوم. وأدرك الأغوات أن الدائرة ستدور عليهم فطلبوا الأمان مقابل إنهاء اعتصامهم، فأبى محاصروهم إعطاءهم الأمان إلا إذا قبلوا المثول للمحاكمة، واتفقوا أخيرًا على أن تكون المحاكمة عند الشريف مبارك بن أحمد أمير مكة والحجاز، وتقدم ستة من الأغوات نيابة عن بقية الأغوات وسلموا أنفسهم للحامية، وكانوا هم رؤساءهم ومحرضيهم على الاعتصام.
وسافر قائد الحامية ومجموعة من ضباطه وجنوده وقاضي المدينة والمفتي وأفراد من جماعة العهد وستة الأغوات المعتقلين إلى مكة، وعقد الشريف مبارك بن أحمد جلسة للقضاء حضرها قاضي مكة ومفتيها وعدد من الشرفاء والأعيان، وأدلى كل فريق من المتخاصمين بأقواله، فأدان المجلس جماعة الأغوات وحكم بعزل رؤساء الفتنة وسجن بعضهم ونفي بعضهم الآخر، وأمر الشريف مبارك بإنفاذ الحكم، فنُفّذ من فوره، وأُرسِل محضر بذلك إلى دار الخلافة.
موقف الأغوات من ذلك القرار
في الواقع لم تنتهِ فصول فتنة الأغوات. ذهب المنفيون إلى دار الخلافة، وتبعهم بعض الأغوات الذين لهم صلات وصداقات في الأستانة، واتصلوا بكبار المسؤولين، وطرحوا القضية من وجهة نظرهم. وصب الأغوات جام غضبهم على جماعة العهد، وعدُّوهم المسؤولين الرئيسين عما أصابهم من إهانات. واستطاعوا أن يقنعوا المسؤولين بالأستانة بخطورة هذه الجماعة. ومن الطبيعي أن يتحسس المسؤولون في الأستانة من قيام أي تنظيم يشكل قوة تنافس أو توازي قوة السلطة، غير أن هؤلاء المسؤولين تصرفوا كما كانوا يتصرفون في كثير من أمور الولايات البعيدة. تقبلوا أقوال الأغوات ووسطائهم على أنها حقائق مسلمة، ولم يكلفوا أنفسهم التحقيق في الأمر، وعلى الرغم من وجود رسالة الشريف مبارك بن أحمد بالقضية، فإنهم اقتنعوا آخر الأمر بوجهة نظر الأغوات وأصدروا أوامر قاسية ضد جماعة العهد؛ منها قتْل النشيطين فيهم: رئيسهم محمد العادلي، وعبدالكريم البرزنجي وابنه حسن، ومحمد بن أحمد الدلال، ونفْي عدد آخر منهم: عبدالكريم حيدر، ومحمد تقي البكري، ومحمود أحمد السندي، وإلغاء الأحكام الصادرة في حق الأغوات الستة وإعادتهم إلى مناصبهم.
وقد استغرقت جهود الأغوات شهورًا عدة حتى استصدروا هذه المراسيم، فوصلت الأوامر إلى شريف مكة ثم نائبه في المدينة في أوائل عام 1136هـ. فقُبض على عبدالكريم البرزنجي وعبدالكريم حيدر، وهرب كل من محمد الدلال ومحمود أحمد السندي وحسن بن عبدالكريم البرزنجي، وسبق قدر محمد العادلي، رئيس جماعة العهد، المراسيم فستره الله عز وجل بالموت، وأرسل عبدالكريم حيدر إلى الأستانة وسِيقَ عبدالكريم البرزنجي إلى جدة حيث سجنه القائد العسكري التركي باكير باشا مدة من الوقت، ثم أخرجه ليُشنَق قرب سوق جدة، وتطرح جثته إلى آخر النهار.
وقد روع أهل جدة بهذا العمل القاسي، وكانت قد انتشرت بينهم أخبار القضية كلها، فذهب بعض أهل جدة إلى باكير باشا ورجوه أن يأذن بدفن الجثة فأذن لهم، وكانت مشاعر أهل جدة متعاطفة معه إلى أبعد حد، فسُمّي الحي الذي شُنِق فيه: حارة المظلوم، وما زال يحمل هذا الاسم حتى اليوم. وانتهت جماعة العهد من الوجود، وصارت خبرًا يروى… مثل غيرها من الأخبار الكثيرة.
هوامش:
(١) خبر جماعة العهد بالتفصيل موجود في المصادر الآتية: جعفر بن هاشم الحسيني ت 1242هـ، الأخبار الغريبة بذكر ما وقع بطَيْبة الحبيبة، مخطوط بمكتبة الحرم المكي برقم 2755 تاريخ ص 23-25، ص 55، ولعله أقرب المصادر للواقعة؛ أحمد زيني دحلان، خلاصة الكلام، ص175-176؛ تحفة المحبين، ص 91، 107، 237، 284، 358، 449؛ تاريخ مكة 416– 417؛ عبدالباسط بدر، التاريخ الشامل، ج2 ص382 وما بعدها. جارشلي، أمراء مكة في العهد العثماني، ترجمة خليل مراد، ص149.
(٢) الهاشمي: الأخبار الغريبة ورقة 23؛ ونقله عنه عبدالباسط بدر: التاريخ الشامل للمدينة ج2 ص382.
(٣) عبدالباسط بدر، التاريخ الشامل، ج2 ص383.