حرب الحوثيين ضد الموسيقا
حتى وقت قريب، كانت صنعاء تحظى بمقهى يمكن للشباب أن يغنوا فيه، في الهواء الطلق بمصاحبة آلاتهم. وقبل أن يبلغ ديسمبر الفائت نهايته وقف نادل وسط شباب بدؤوا يلعبون بأوتار العود والطبلة، وخاطبهم أن الإدارة منعت الغناء. ومن المؤكد أن هذا القرار جاء بناءً على إنذار مباشر من سُلطات الحوثي. وهكذا ختموا عامًا صعدوا فيه حربهم ضد الموسيقا، بضجيج أقل وحيز أصغر.
لكن قصة الحوثيين مع الموسيقا تمتد إلى جذور تكوينهم الراديكالي. فمنذ سيطروا على صعدة عام 2011م، أصبحت الموسيقا مُحرمة حتى في المنازل. عدا من يمكنه فعل ذلك من دون أن يثير الانتباه. واحتل الزامل، المُروِّج لأفكار الجماعة وحروبهم، الحيز الذي كانت تملؤه الموسيقا.
خارج صعدة، اتخذ الحوثيون مسارًا تدريجيًّا لقمع الموسيقا، صُبِغَ بالتخفي وراء ما عُدَّ «تصرفات فردية». وفي العام الماضي صعّدوا مواجهتهم للموسيقا بحملة امتدت إلى مدينة صنعاء. وكانت النتيجة حظر غناء الأعراس في ثلاث محافظات هي؛ عمران وحجة والمحويت. يدرك الحوثيون أن قمع الموسيقا في العاصمة ليس كما هو في المناطق القبلية والأقل تمدنًا. لكن هل ستستمر مقاومتها؟
ظهرت وثيقة أصدرها محافظ صنعاء المُعين من الحوثيين عبدالباسط الهادي، يوم 21 يونيو 2021م، تطالب مديري مديريات المجالس المحلية بمنع الفنانين من الغناء في الأعراس. ونتج عنها حظر الغناء على نطاق واسع في ريف صنعاء. وأكدت معلومات أن الوثيقة صدرت بالفعل عن محافظ صنعاء، رغم أن نائب وزير الثقافة وصفها بالمزورة. وكان التصعيد ضد الموسيقا قد بدأ على قدم وساق.
التهديد من الخفية إلى العلن
في السابق، سلك الحوثيون طرقًا خفية لإيصال رسائل يتضمن بعضها تهديدًا. كشف الفنان شرف القاعدي، رئيس نادي المطربين اليمنيين في مايو الفائت، ما يتعرض له هو وزملاؤه من مضايقات، لافتًا إلى أن ما كان يُقال عنها «تصرفات فردية» هي عمل ممنهج ضدهم. وأكد في منشور على صفحته في الفيس بوك أنه تعرض لتهديد بالقتل من مجهول.
بعد ذلك، تعرض الفنان الشاب شهاب الشعراني لمحاولة اغتيال أمام منزله من شاب، طلبه زاعمًا أنه يرغب في التقاط صورة معه، وباغته بطعنات على عنقه مستخدمًا مشرطًا. ونجا الفنان من موت محقق بعد تدخل الجيران. ومع ادعاء الفاعل أنه يعاني حالةً نفسيةً، أنهت إحدى محاكم صنعاء القضية بالإفراج عنه في 18 يناير الفائت، من دون حتى إخضاعه لعلاج نفسي. ومن خارج اليمن لم يخفِ الشعراني على صفحته في الفيس بوك، صدمته وإحباطه الشديد جراء تبرئة من حاول قتله.
صنعاء مدينة مفتوحة
غدت مدينة صنعاء مفتوحة، للمرة الأولى، لعمليات قمع الموسيقا والفنانين؛ إذ اقتاد طقم عسكري الفنان الشاب أصيل أبو بكر إلى المعتقل في الثانية بعد منتصف الليل، 31 أغسطس الماضي، بعد إحيائه حفلة في صالة عُرس. ومع أن الأخبار تداولت وجود قانون يحظر الغناء في الأعراس بعد منتصف الليل، لكن الصالات ظلت تُحيي الغناء حتى الثانية صباحًا. وكان عنوان حلقة ليوتيوبر محسوب على الحوثيين «القبض على المجرم أصيل أبو بكر». فهل الغناء جريمة؟
استمرت الحملة في استهداف فنان كبير يُعد أحد رموز الأغنية الصنعانية واليمنية هو فؤاد الكبسي، في 4 سبتمبر 2021م عند نقطة أمنية في أثناء عودته من الحديدة إلى صنعاء. ولوهلة انتُهك تاريخه الفني بين مسلحين احتجزوا آلاته الموسيقية وأجهزته حتى استعادها بعد ساعات. بعد أربعة أيام تعرض الفنان يوسف البدجي للاعتقال من أمام منزله في صنعاء. وكانت دوافع اعتقاله مختلفة؛ إذ ظهر في برنامج يُقدمه بعنوان «ضيوف الفن» على قناة «يمن شباب»، المُعارضة للحوثيين. وسبق له التعهد للجهات المسؤولة بعدم بيع حلقاته لواحدة من تلك القنوات. غير أنه باع حلقات البرنامج لشركة إنتاج وهي من باعته للقناة، وهكذا أُخلي سبيله بعد اعتقاله ليومين.
تداول أنصار الحوثي على نطاق واسع أن 2021م هو عام النصر، وفي أثناء المعارك التي شنها الحوثيون للسيطرة على مدينة مأرب، كانت الموسيقا جبهة لا تقل أهمية، فكثيرًا ما نعتَ مسلحوهم الفنانين والموسيقا بأنها السبب في تأخير النصر.
الحرب ضد غناء الأعراس
كانت الحملة أشد ضراوة خارج صنعاء، وبصورة أخص في عمران؛ إذ وجد أحد الفنانين المعتقلين نفسه في زنزانة انفرادية، وهناك واجه فصلًا كابوسيًّا ومعذبًا، بينما مسلحان يصفان له نهايته؛ من قتله إلى قطع يديه وقدميه. ولم يصدق نجاته حتى وصل صنعاء مبتعدًا من مسقط رأسه. وسبق للمجلس المحلي في عمران إصدار وثيقة قبلية وقَّع عليها عدد من المشايخ تحت اسم «تيسير الزواج» وعُيِّنت لجنة لمنع المخالفات، بما فيها الغناء في الأعراس. تلك الصيغة تعمل جماعة الحوثي على فرضها على صنعاء، لكن بحسب الفنان إسماعيل ناصر، وهو اسم مُستعار، ما حدث في العاصمة أثار عليهم حملة واسعة بخلاف المناطق الأخرى. ومن وجهة نظره، سيعاود الحوثيون محاولاتهم بإجراءات تدريجية لقمع الغناء حتى يُمنع في صنعاء.
ولا يخفي فنانون معاناتهم النفسية جراء ذلك، وما تنتجه من آثار سلبية في إنتاجهم الفني، ملحنين أو مغنين. وفي وقت يحاول جيل شاب أن يضع بصمة مختلفة على الموسيقا اليمنية، تواجه آلاتهم وأصواتهم شبح مقاصل تتوعد بالقضاء على أحلامهم. ليست أحلامهم فقط، إنما حياتهم المعيشية، حيث يعتمدون وأسرهم على مهنة الموسيقا والغناء، وليس بمقدورهم العمل في مهنة أخرى. يُضاف إلى ذلك، أن الفن هو حياتهم.
سبق لنائب وزير الثقافة التصريح بأن وزارته بصدد إصدار لوائح وضوابط تنظم غناء الأعراس، فهل ستكون هذه الوسيلة الناعمة لاختراق يفضي إلى تقييد الموسيقا والغناء؟
رُخصة غناء
في لقاء مع عدد من الفنانين، حاول نائب وزير الثقافة تطمينهم بأن وزارته ستعمل على إصدار تراخيص لمغني الأعراس، بالتنسيق مع وزارة الداخلية. لافتًا إلى أن تلك التراخيص ستسمح للفنانين بالتنقل والسفر بآلاتهم الموسيقية من دون التعرض للإيقاف من جانب النقاط الأمنية. فهل يعني ذلك، أنه من دون الترخيص سيكون حامل الآلة الموسيقية مُخالفًا، أو أن آلته ستكون عُرضة للإيقاف كما حدث مع فنانين؟! وعلى الرغم من أن تلك التساؤلات تستبق إجراءات غير واضحة الملامح حتى الآن، فإن العدوانية التي يُضمرها الحوثيون للموسيقا تثير أكثر التوقعات تشاؤمًا، فما أن توجد الذرائع يغدو قمع الموسيقا هو الطريق الأسهل.
هذا الاقتراح أثار جدلًا بين الفنانين، ففي حين نال استحسان بعضهم، لم يخف آخرون مخاوف أصبحت السمة الغالبة على الوسط الغنائي. ولا يبدو واضحًا متى ستبدأ أجهزة الحوثي بإعلان تلك الضوابط بما فيها إصدار التراخيص. وما إن كان ذلك سيتضمن حظرًا للغناء في ساعات متأخرة.
هناك قلق لدى الفنانين حول طبيعة التراخيص، وما سيتبعها من رسوم ستبدأ رمزية، لكنها سرعان ما ستتضاعف. لكن القلق الأكبر هو فرض رسوم ضريبية على دخل الفنانين، حيث يسعى الحوثيون لتنمية مواردهم عبر أشكال عدة مثل الضرائب والزكاة والتأمينات. وثمة مخاوف أخرى حول ما إن كانت التراخيص وسيلة مستقبلية لإجبار الفنانين على إملاءات معينة في أشكال من الغناء الذي يخدم أجندة الحوثيين.
لماذا لا تغنون للوطن؟
في إحدى جلسات التحقيق مع فنان اعتُقِلَ في صنعاء، وَجَّه المُحقق له حديثًا بصيغة عتاب: «أنتم الفنانون لا تشاركون في المسيرات والقوافل». وبينما كان الفنان المُعتقل يشعر بالضغط، شدد المُحقق على عتابه «أنتم لا تغنون للوطن». وحاول الفنان امتصاص الضغط متذرعًا بالمشاغل وضغوط العمل. تلك النبرة الناعمة اختفت في حديث نائب وزير الثقافة في أثناء لقائه فنانين، وهو يوجه خطابًا لاذعًا لهم: «لم نسمع أحدًا منكم يغني للوطن أو يقف في صفه، لماذا لا تغنون للوطن؟» وكانت تلك بمنزلة إدانة تلت أحداث القمع التي تعرض لها عدد من الفنانين.
وفقًا لتعبير الفنان إسماعيل ناصر: يدرك الحوثيون أن الفن عنصرًا مؤثرًا في الجماهير، وهم يسعون لتوظيفه. وأضاف أنه مثل آخرين، طُلب منه مرات عدة المشاركة في أعمال غنائية ينتجها الحوثيون، وهي تلك الأعمال التي يدرجونها تحت شعار «الغناء للوطن». لكنه ظل يعتذر متحججًا إما بانشغاله أو أنه لا يريد أن يكون محسوبًا على طرف سياسي؛ لأن ذلك سيضره في أثناء سفره للخارج. وعلى هذا المنوال تهرب آخرون، من رغبة يشحذها الحوثيون لتوظيفهم في أشكال غنائية تخدم أهداف الجماعة. فهل ستكون التراخيص وسيلة ضغط عليهم؟
طبقية الزامل
لن يكتفي الحوثيون بذلك، فبالنسبة لفنان شارك في أوبريتات أنتجها الحوثيون لقنواتهم، سأله آخر: لماذا لا تغني زامل؟ والزامل هو الأسلوب التقليدي لغناء القبائل، ولا يقتصر على الحرب بل على قضايا اجتماعية من الصُّلح إلى الترحيب والأعراس وغيرها من الوقائع. ويُنشد بشكل جماعي، لكنّ الحوثيين جعلوا منه إعلام حرب وتحشيدًا للمقاتلين، ونجحوا في ذلك إلى حد كبير.
في هذا السياق، أُنتِجَ شكل غنائي طبقي، فالزامل يحظى بمكانة أعلى بالنسبة للحوثيين. ولم يخفِ فنان من أنهم شوّهوا هذا الموروث القبلي العريق في الغناء اليمني. وفي الأعراس ذات الطابع القبلي الذي يُسمح فيه بالغناء، يجلس المُزمل مبتعدًا من المُغني. ولا يخفي نحوه نظرة احتقار. واعترف فنان بأن أكثر لحظة مؤلمة بالنسبة له حين يُطلب منه التوقف وسط الغناء، حتى يُنشد الزامل ترحيبًا بالضيوف.
وكادت حادثة أن تحول صالة عُرس في منطقة السواد جنوب صنعاء العام الماضي، إلى بركة دم. فعندما رفض المُغني التوقف في منتصف الأغنية، ليرحب الزامل بالضيوف، نعته أحد المسلحين بصيغة تحقير وازدراء فما كان منه إلا أن رد بشتيمة. وهكذا تقاسم مرافقي الضيف وأصدقاء الفنان توجيه الأسلحة وسط القاعة. لكن ها هي ثقافة الزامل التي كرسها الحوثيون تتخذ بعدًا طبقيًّا على حساب الموسيقا المقموعة والمنتهكة.
هوية أحادية
تعمل جماعة الحوثي على إعادة تشكيل ثقافة مجتمعية تتوافق مع تصورهم تحت شعار الهوية الإيمانية. ومثل أي جماعة راديكالية تحاول تشكيل المجتمع وفق تصوراتها الأحادية فيجري تجريف الموسيقا وقيمها الجمالية، ونبذ التعدد الثقافي في مسحة شعاراتية صارخة يعززها الحوثيون في مناسباتهم.
فعلى صعيد الغناء، فرض الحوثيون قيود على حفلات التخرج الجامعية، بحيث لا يمكن إقامة حفل من دون ترخيص رسمي. ومُنِعَت أشكال كانت شائعة في كثير من تلك الحفلات، مثل رقصات الراب والبوب التي اعتاد بعض الطلاب أداءها في منصات الحفل أو في أي مكان من القاعة. إضافة إلى منع أداء الـ Beat Box، وهو أداء إيقاعي على الفم. واعتبروا ذلك متعارضًا مع الهوية الإيمانية.
وبحسب أحد الفنانين، أصبحت المحذورات تُخيم على طبيعة الغناء والموسيقا خوفًا من تسببها في مشكلات؛ حتى إن بعض الأغاني أصبحت مُستبعدة في حفلات الأعراس لما فيها من معانٍ غزلية. وما زال بعضهم ينظر بقلق نحو الخطوة التالية التي سيتخذها الحوثيون ضد الموسيقا، فجبهة الموسيقا في هدنة، لكن من يضمن أن الحوثيين لن يعلنوا عليها الحرب مجددًا.