مخاطر وجودية تحيط باللغة العربية المعاصرة
عندما أطلقت اليونسكو منذ نحو ربع قرن تحذيرات قوية لأبناء بعض اللغات الحية الكبرى بمناسبة انتهاء القرن العشرين وميلاد القرن الحادي والعشرين، لم يأخذ أبناء هذه اللغات، ومنهم اللغة العربية، هذه التحذيرات، بالجدية التي تليق بها.
كان جوهر هذه التحذيرات يقوم على رصد واقع علمي آلت إليه اللغات الضعيفة التي لم يحافظ عليها أهلها طوال القرن العشرين، فقد رصدت اليونسكو موت ثلاث مئة لغة في ذلك القرن، التهمتها لغات أخرى أكثر حيوية، وأخرجتها من مجال التوظيف الحيّ في التعليم والتواصل الإقليمي والدولي، والإبداع الفكري والعلمي، وتركتها لغة فلكلورية أو طقوسية تنسب إلى دور العبادة، وتترك وظائفها الحيوية لتقوم بها اللغات الحية التي نافستها في مواطنها وأضاف تقرير اليونسكو إلى هذا الرصد الواقعي، رصدًا آخر لحال اللغات «المريضة» التي فقدت بعض وظائفها على أراضيها، وتخلت عنها للغات أخرى كَرْهًا أو طواعية، ولكنها لا تزال تمارس وظائف أخرى، وتلك اللغات في رأي اليونسكو مهددة بالموت، إذا لم تتدارك نفسها، في القرن الحادي والعشرين ومن بين هذه اللغات –لا قدر الله – اللغة العربية.
إن أي نظرة سريعة على لغة التعليم في العالم العربي، بدءًا من أولى درجات سلمه في مدارس رياض الأطفال، حتى نهاية التعليم الجامعي والدراسات العليا، لا يمكن أن تساعد على القول مطمئنين: إن اللغة العربية هي لغة التعليم الأولى في الأمة العربية، كما هو شأن الأمم الأخرى مع لغاتها الحية مثل الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية والفارسية والعبرية، ولكن اللغة العربية تتنازل مجبرة عن صفة لغة العلم عند أهلها وتتركها للغات الأخرى.
وإذا كان موقع اللغة من أداء وظيفة «التعليم» في العالم العربي ولأبناء العرب في مهاجرهم، يحيط بها هذا اللون من القصور بالقياس إلى حالة نظيراتها في اللغات الحية الكبرى، في مجال امتدادهم الطبيعي أو المكتسب، فإن المجال الثاني من المجالات الحيوية التي تصح بها اللغات وتمرض، وتحيا أو تموت، وهو مجال «الإعلام» يتعرض أيضًا في حالة اللغة العربية المعاصرة لكثير من التساؤلات من حيث دوره في إضعاف اللغة القومية أو تقويتها، وتأثيره في إطالة حياتها أو تقريب لحظة خروجها من المجال الحيوي.
وإذا كانت حيوية اللغة في مجال التعليم يضعف منها خلطها الكلي أو الجزئي العشوائي باللغات الأجنبية أو اللهجات المحلية مع أهمية كل عنصر منها على حدة. فإن حيوية اللغة العربية في مجال الإعلام تختلف درجات تأثير هذين العنصرين سلبًا فيها، تبعًا لنوع الإعلام المقروء أو المسموع أو المرئي، ولكنها في كل الحالات يشكل شيوعها علامات خطر وإضعاف لكيان لغة من أقدم اللغات الحية وأطولها عمرًا. أما العنصر الثالث الذي أعدّه تقرير اليونسكو عن حالة اللغات الكبرى صحة أو مرضًا، حياة أو موتها، فهو عنصر التواصل المحلي والإقليمي والعالمي، وتنشيط أبناء لغة ما للغتهم القومية في تحقيق هذا التواصل فتنتعش وتقوى، أو إهمالهم لها واستعارة لغة أخرى لتحل محل لغتهم في أداء هذه المهمة، فتذبل اللغة القومية وتضعف في عداد المرضى.
واقع التواصل اللغوي
وكلنا يلمس واقع التواصل اللغوي الحي في العالم العربي، بداية من التواصل المحلي، حين تكتب أسماء المحلات والمطاعم وقوائم الطعام وفواتير الهاتف والكهرباء ومنشورات المدارس والمؤسسات بل مخالفات الشرطة أحيانًا، والردود الإلكترونية المسجلة على الهواتف وغيرها في كثير من الأحيان بغير اللغة العربية، بحجة تسهيل التعامل مع الزوار الأجانب!!
ولا تقل سلبيات التواصل على المستوى الدولي اللغوي، فعلى الرغم من أن اللغة العربية، قد اعتُرف بها سنة 1973م، واحدة من اللغات الدولية الست التي يجري التعامل بها في الأمم المتحدة وهي لغات الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن (الإنجليزية – الفرنسية – الروسية – الصينية) يضاف إليها الإسبانية لغة أميركا اللاتينية والعربية لغة العالم العربي، وهي ميزة لم تستطع دول قوية في العالم أن تحصل عليها للغاتها، مثل الألمانية والإيطالية واليابانية والفارسية، ومع أن هذه الميزة تمنح للمندوبين العرب إلقاء كلماتهم باللغة العربية في جلسات الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها، فإن الواقع الغريب يثبت أن معظم المتحدثين العرب لا يستثمرون هذه الميزة. ويتحدثون بالفرنسية أو الإنجليزية. على حين يلجأ قليل جدًّا من الشخصيات الأجنبية إلى التحدث باللغة العربية، ربما من باب الطرافة!!
إن التوصيف الواقعي لمدى صلة اللغة العربية المعاصرة، بالوظائف الحيوية التي تناط باللغات الحية وتنهض بها وتضمن لها التطور والازدهار، توصيف يبعث على القلق ويقدم مؤشرات خطر واضحة وجودية على اللغة العربية واستمرار قيامها بدورها الحضاري، وهو تهديد قد يمس الأمة العربية ذاتها، تصديقًا للمبدأ المعروف في المجال الحضاري «لا حياة لأمة بدون لغة» وهو مبدأ كان قد تمسك به الفيلسوف وعالم اللغات اليهودي اليعازر بن يهودا في القرن التاسع عشر خلال التفكير في إقامة وطن قومي لليهود بفلسطين. ووُضِعَ موضوع التنفيذ وإحياء اللغة العبرية من الشظايا المتناثرة في الشتات والمنافي وإقامة حياة سياسية واجتماعية وعلمية بها، حتى أصبحت تدرس بها كل التخصصات العلمية في الجامعات ومراكز الأبحاث.
ترميم جدران اللغة
إن علينا أن ننتبه للمخاطر ونحاول ترميم جدران اللغة قبل أن تنهار، ونواجه العصر الإلكتروني وتطوراته ونطوع لغتنا العربية لمقتضيات التعامل معه، من دون تفريط في أسسها وهيكلها وروحها وطريقة كتابتها وحروفها المتميزة التي تهاجم الآن من خلال استخدام رموز هجينة من الأرقام والحروف في صياغة الرسائل القصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، حفظ الله لغتنا العربية الشريفة العريقة وجعلنا أهلًا للانتماء إليها والمحافظة عليها.
إن الاستخفاف وعدم السلامة لوحدة صغيرة من وحدات اللغة مثل وحدة الحرف يشكل تخريبًا وهدمًا لوحدة الجدار الذي يقوم عليه البناء اللغوي كله نطقًا وكتابة، وهذا الجدار الذي بُنِيَ وشُيِّدَ على مدى مدة زمنية طويلة استمرت أكثر من خمسة عشر قرنًا من الزمن، هو الذي ضمن للغة العربية مزايا تاريخية عدة، فقد أصبحت من بين اللغات القديمة الكبرى، أكثر اللغات التي خرجت من موطنها وانتشرت خارج مهدها الأصلي في سرعة زمنية لم يعرف التاريخ لها مثيلًا لدرجة أنها استطاعت في أقل من قرن من الزمان، أن تبسط سلطانها على معظم أرجاء الأرض المعمورة حينئذٍ، لكن هذا الانتشار السريع صاحبه استقرار ودوام في الأرض التي غمرتها، على عكس ما حدث مع لغات أخرى مثل اليونانية والفارسية، انتشرت مع جيوش الغزو، ثم لم تلبث أن انحسرت عن المناطق التي حلت بها أو عن معظمها.
وتولدت ظاهرة تاريخية للحرف العربي خلال مرحلة انتشار اللغة العربية، فقد استمر هذا الحرف في كثير من اللغات العالمية حتى بعد انحسار الوجود العربي عنها كما هو الشأن مع اللغة الفارسية واللغة التركية، واللغات الآسيوية والإفريقية في المناطق التي اعتنقت الإسلام.
ولقد بلغ عدد اللغات التي كانت تكتب بالحروف العربية نحو سبعين لغة حتى وقوع الحرب العالمية الأولى في العقد الثاني من القرن العشرين. ولم تبدأ موجة انحسار هذه الحروف عن بعض هذه اللغات إلا مع إعلان تركيا في أعقاب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وإلغاء الخلافة العثمانية التحول للحروف اللاتينية بدلًا من الحروف العربية وتبعتها الدول الآسيوية الإسلامية التي وقعت تحت النفوذ الروسي والصيني وبعض الدول الإفريقية التي كانت تكتب كلماتها بحروف عربية، وتحت حملات التبشير والاستعمار.
إن الحروف العربية حارس قوي من حراس اللغة وهو يمهد لها في أوقات ازدهارها توفير ما يمكن أن يطلق عليه الحدائق الخلفية للمهد اللغوي القومي، وهي في لحظات الضعف تتعرض للانتكاس والتآكل. هذه أخطار جادة أمام لغتنا تحتاج للمواجهة والمعالجة.