المقدس في مواجهة تقلبات العالم.. طاغور الشاعر والإنسان
ينبغي الإشادة بالعمل التحريري الهائل الذي أنجزه الباحث فابيان شارتييه والمترجمة الهندية ساراجو جيتا بانيرجي، وكذلك دار غاليمار على احتفائها المميز بالأعمال المتعددة الاتجاهات لشاعر الهند والإنسانية رابندرانات طاغور (وُلد في السابع من مايو 1861م، وتُوُفّي في السابع من أغسطس 1941م). يدعونا هذا المجلد السميك (1632 صفحة) إلى إعادة اكتشاف كتابات مبدع جَرَّب «كل الأشكال الممكنة للإبداع الأدبي: القصائد والأغاني والقصص القصيرة والروايات والمسرحيات والمقالات والمراسلات». هكذا كتب فابيان شارتييه. لا يدعي صاحبا المشروع ترجمة أعمال طاغور الكاملة، التي كما نعلم تتكون من نحو ثلاثين مجلدًا، بل اكتفيا بتقديم ودراسة أكبر قدر ممكن من إنتاجه الأدبي الغزير من خلال ترجمة معظمها مباشرة من اللغة البنغالية، وبعضها من اللغة الإنجليزية.
يتضمن المجلد آلية نقدية دقيقة تسهل اكتشاف أو إعادة اكتشاف هذا المبدع المتعدد والغزير الإنتاج. أضيفت إلى نصوص طاغور مقدمة وقعتها سراجو جيتا بانيرجي وفابيان شارتييه، وهي عبارة عن تسلسل زمني مفصل لحياة الشاعر الزاخرة بالإبداع. يتضمن الملف وثائق تشهد على الانطباعات التي أحدثتها شخصيته في العالم الأدبي لأوربا ما بين الحربين، إضافة إلى ملحق بالصور عن حياة طاغور وعلاقاته الشخصية والإنسانية، ثم مسرد للمصطلحات البنغالية العصية على الترجمة. في وسط المجلد، يوجد دفتر ملحوظات ملون يعرض عشرين لوحة لطاغور الرسام، وهي «امتداد» «لإنتاجه الشعري الغنائي»، الشاهد الأكيد على موهبته الفطرية.
يمكن للقارئ وهو محاط بهذه الإرشادات النقدية والسيَر الذاتية، أن يخوض بحُرّية في عوالم كتابات طاغور، المعروضة أمامه بترتيب زمني؛ إذ قسمت إلى ثلاثة أجزاء، وهي: «نافذة على العالم، 1861-1912م»، و«حول كونية الإنسان، 1912-1929م»، و«المقدس ضد تقلبات العالم، 1930-1941م». انتظمت الأجزاء الثلاثة حسب النوع الأدبي: الشعر أولًا، يليه المسرح، ثم الروايات والقصص القصيرة، وأخيرًا المقالات.
من البنغالية إلى العالم
في الواقع اشتهر رابندرانات طاغور في أوربا وغيرها من بقاع العالم بإنتاجه الشعري، على الرغم من تميزه ونبوغه في الأنواع الأدبية كلها. سواء كانت غنائية، أو قصائده المشبعة بالإشارات الهندوسية المترعة بالرغبة، وحزن الفقدان، والمساحات المفتوحة للاستكشاف الروحي. إن الترجمة، والشروح، وأيضًا عمل اللغة نفسها، يسمح لهذه الكلمات، مهما كانت راسخة في بيئة ثقافية محددة، أن تجد صدى لدى القارئ المعاصر، وبمختلف اللغات وبخاصة تلك التي ترجمت لطاغور عن لغته البنغالية الأصلية. مثل هذا المقطع المأخوذ من قصيدته «العابر»: «لا تسألني أين الخلاص، وما أدراني/ أنا لست زاهدًا ولا معلمًا مفكرًا/ أنا شاعر قاطن/ قريب جدًّا من الأرض/ على رصيف هذا الشاطئ/ أمام مد وجزر الحياة/ التي تجرف إلى الأبد الظلال والأضواء، الشر والخير. تسحب كل هذا اللامسمى، الذي يبتعد عن مساره، المبالغ المنسية من المكاسب والخسائر، الدموع والضحك/ […] لا أريد أن أمنع أي شيء/ ولا أريد أن ألتزم بالأشياء، أنا أريد فقط/ أن يأخذني المجرى/ لأسحب خيط الغيابات والالتئامات، وأمد شراعي فوق الرياح الهائجة».
يعرض القسم الأول، «نافذة على العالم»، كتابات طاغور القديمة، تلك القصائد التي كتبها في شبابه أي تلك التي سبقت تسلمه جائزة نوبل. بلا شك ستجعل النصوص المضمومة هنا، القارئ على دراية بشعره واتجاهاته وموضوعاته، خصوصًا أن ترجمة سراجو جيتا بانيرجي في منتهى الفرادة.
في الجزء الثاني «حول كونية الإنسان»، الذي يغطي المدة من 1912م إلى 1929م، وهي مدة واسعة تمثل ذروة مسيرة الفنان الأدبية وشعبيته في أوربا خاصة، وهو ما أتاح له نيل جائزة نوبل للآداب في نوفمبر 1913م متوجًا بذلك إشعاعه الأدبي العالمي. يوجد في هذا القسم الأعمال التي من المحتمل أن تكون الأكثر شهرة بين القراء الناطقين بالفرنسية. كانت ترجمة الشاعر إلى الفرنسية، تمثل حدثًا أدبيًّا حقيقيًّا. نُشرت القصائد الأولى، في أغسطس 1913م عن دار ميركور، وتُرجمت القصائد من الإنجليزية وليس من البنغالية بواسطة هنري د. دافراي. ومع ذلك، وبمساعدة سان جون بيرس تصدى أندريه جيد أخيرًا لترجمته، ونُشرت المجموعة في ديسمبر 1913م. وتلتها أعمال أخرى. في هذا الجزء نعثر أيضًا على العديد من الروايات والقصص القصيرة، يمكن القول: إن «البيت والعالم» الصادر عام (1915م) هو أحد أعمال طاغور الأكثر رمزية.
تنحو رواية طاغور منحى كلاسيكيًّا، وهي عن عشاق تعارضهم طبقتهم الاجتماعية الغنية، يتخذ طاغور من روايته ذريعة لمعالجة بعض مشكلات المجتمع الهندي المعاصر وتوتراته التي تعبر عن الحركات المناضلة من أجل استقلال الهند، وهي أيضًا فرصة جديدة لكي ينتقد القومية التي نزعت إلى تفكيك الهند.
من الذات إلى الإنسان
أخيرًا، يقدم الجزء الثالث «المقدس في مواجهة تقلبات العالم، 1930-1941م» مجموعة مختارة من النصوص الأخيرة لطاغور، أقل شموليةً، وأكثر ذاتية وإنسانية. يشهد هذا القسم على التحول التدريجي للشاعر نحو الرسم، وكذلك تباطؤ نشاطه الإبداعي بسبب تدهور صحته. كان الكاتب مرهقًا من الرحلات المتكررة بحثًا عن الدعم المالي من أجل مدرسته «فيسفا- باهارتي» التي تأسست في سانتينيكيتان. وإذا كان طاغور قد توقف عن كتابة الروايات، فإنه استمر في كتابة القصائد، وهي تلك المعروضة في هذا القسم ويتضمن ديوان «القارب الذهبي» و«مختارات» نشرتها إصدارات غاليمار وحررتها سراجو جيتا بانيرجي. النصوص ذاتية لكن العمق الفلسفي والإنساني حاضر بقوة، مع بقاء بعض الخيوط المشتركة لفكر طاغور عن أصول التربية، والالتزام باستقلال الهند أو الانقسام الطبقي وتعدد الديانات في المجتمع الهندي.
يقدم هذا المجلد ترجمتين لنصين غير منشورين؛ أحدهما خطاب حصوله على نوبل، والآخر« إكليل الدم»، وهي مسرحية تعود إلى عام 1923م. يعطي بالطبع هذا العمل جانبًا مركبًا عن أدب طاغور، ولكنه يشكل أيضًا شهادة على التاريخ الأدبي والتلقي المعقد لأعماله، في فرنسا وإنجلترا على وجه الخصوص. وفق صفات العصر، فإن تصور أوربا لأعمال طاغور يميل إلى اعتبارها «شرقية» و«صوفية»، وهذا مردّه في البداية إلى انبهار عارم لبعض الشعراء والكتاب مثل ييتس، وعزرا باوند، وأندريه جيد، وسان جون بيرس، وكذلك رومان رولان ومارغريت يورسنار. شهدت الثلاثينيات من القرن الماضي توقفًا عن ترجمة أعماله، ونتيجة لذلك توقف في تداول النصوص، وإن استمر صداها على وجه الخصوص لدى شعراء معينين في البلدان المستعمرة، مثل جان جوزيف رابيريفيلو. إن الملف المتضمن في الكتاب بوثائقه وصوره، يسلط الضوء على دينامية ترجمة طاغور في فرنسا ومراحلها ونجاحاتها وإخفاقاتها. وهي بذلك تشكل مرجعًا أساسيًّا يعكس اهتمام الأدباء الفرنسيين بأدب طاغور وتأثرهم به. وفي الأخير يمكن القول: إن هذا المجلد الباذخ تحفة أدبية ومجهود جبار لإعادة اكتشاف طاغور الشاعر والإنسان.
الحقوق محفوظة للمترجم بالاتفاق مع إدارة مجلة «في انتظار نادو الفرنسية».
RABINDRANATH TAGORE: Œuvres.Trad. de l’anglais et du bengali par un collectif de traducteurs. Édition de Fabien Chartier. Préface de Saraju Gita Banerjee et Fabien Chartier. Collection Quarto, Gallimard-2020.